القائمة_السوداء
-الضحية الثالثة-
بقلم منال محمد سالم
"ميجان"، رأس الأفعى، الشابة اللعوب، ذيل الشيطان، هي مثالٌ حي على شخصية أنانية متعالية لا ترى سوى نفسها، ولا تُشبع سوى أطماعها التي لا تنتهي،
الأخرون لا يرتقون لتطلعاتها، نادرًا ما تجد أحدهم يثير إعجابها إلا إذا رغبت به .. ولِحظه التعس أجبرته في لحظة ضعف منه على خيانة "روزا"، اقتادته للفراش ومارس معها الحب، كان لا يزال مخطوبًا لها،
خان عهده معها، واستمتع بجسدها إلى أن ضجر منها .. ندم "ديف" على ذلك كثيرًا، وحاول بشتى الطرق إخفاء الأمر عن خطيبته ليزيد من إغراقها
بحبه وعواطفه علها لا ترتاب في أمره، واعتقد أنه نجح في ذلك .. لولا الصفحات الأخيرة في مذكراتها والتي كشفت عن معرفتها بخيانته، انهار مجددًا
وتضاعف إحساسه بالذنب نحوها، بصعوبة خرج من دائرة حزنه ليفكر في الانتقام ممن أغرته وأوقعته في حبائلها الخبيثة، وإن كان طرفًا في الخيانة.
بحث عنها ووجدها دون عناءٍ، كانت ذائعة الصيت في مجالها، ورغم جنونها غير التقليدي في عملها إلا أنها كانت ناجحة بشكل يدعو للشكوك، الكل يتهافت على وكالتها لتضع بصمتها المميزة، وفي فترة وجيزة باتت شريكة لأحد أكبر مكاتب التصميم الهندسي مما أثار
المزيد من الريبة حول طبيعة شهرتها الغريبة، لم يحبذ التودد الحميمي إليها، أراد اللجوء لحيلة أخرى بعيدة عن ذلك .. حصل على مبتغاه، التقى بصديقه "جون"، والذي خُدع هو الآخر فيها، ظلت تستنزفه إلى أن تعرفت
على أحدهم أعلى شأنًا منه، نبذته عن عمدٍ من حياتها، وبقيت الكراهية والغل ما يجمعه بها. كان "جون" على علاقة بإحدى الموظفات المقربات من "ميجان"
، أقنعها "ديف" بالتعاون معه مقابل مبلغ مادي معقول، عليها أن تجاريه في خدعته إلى أن ينجح في استدراجها إليه، وقبلت الأخيرة ذلك بناءً على معرفتها السابقة بنواياها اللئيمة.
وكما تم الترتيب بين ثلاثتهم أوكل إليها "ديف" بوضع التصور التخيلي لتصميم شركته الوهمية دون أن يحضر شخصيًا، استأجر أحدهم ليقوم بتلك المهمة عنه ريثما تفرغ الموظفة من عملها ليظهر في المشهد دون أن يثير الشكوك. وفي الميعاد المتفق عليه، ولج "ديف" إلى داخل الوكالة بنظرة منزعجة ووجه عابس، رأته الموظفة واستعدت لتنفيذ الجزء الخاص بها .. وبأناقة لافتة للأنظار، وذقن مهذبة -تعمد أن يستطيلها ليبدو وسيمًا مهيبًا- سار بثبات بين مكاتب الموظفين، ارتسمت نظرة الاستعلاء في عينيه حين وقف قبالة الموظفة، لم يتطلع إليها وبقيت أنظاره على شاشة الحاسوب، ثم استطرد يقول ببرود متأفف:
-ما هذا الهراء؟
نظرت الموظفة في ضجرٍ لترد متسائلة:
-ماذا؟
صاح متذمرًا بنبرة مسموعة للجميع قاصدًا لفت الأنظار إليه:
-أهذا أفضل ما عندك؟
ثم ألقى بالتصاميم الورقية على الأرضية بشكلٍ أظهر نفوره قبل أن يوبخها:
-يبدو أنكِ لا تجيدين التصميم!
احتجت الموظفة على تصرفه، وسألته بغضبٍ متعاظم فيها:
-وما الذي لا يعجبك في عملي سيد "ديف"؟
انقلبت تعبيراته للعبوس وهو يجيبها مسترسلاً:
-إنه بشع.. ناقص.. لا ذوق فيه، ناهيك عن كونه مسروق!
تعمد أن يصل صوته إلى "ميجان" التي توقفت عن السير لتتابع حوارهما، فاض الكيل من أسلوبه المستفز والوقح، وانتفضت مدافعة عن صديقتها حين بلغ الأمر الاتهام بالسرقة:
-لا أسمح لك! ماذا تقصد بمسروق؟
التفت نحوها ليرمقها بنظرة احتقارية، كان واثقًا أنها لن تتعرف إليه في هيئته الجديدة من الوهلة الأولى، أشاح بوجهه بعيدًا عنها ليسألها بجمودٍ وقد أولاها ظهره:
-ومن أنتِ لتسمحي بهذا؟ أنا رأيته في وكالة أخرى..
وزعت "ميجان" نظراتها الحائرة بينه وبين صديقتها، لم يكن صوته غريبًا عنها، كانت واثقة أنه تعرفه جيدًا، لذا اعتصرت ذهنها لتصل إلى الاسم والهوية، بينما تابع "ديف":
-يبدو أني أسأت الاختيار باللجوء لتلك الوكالة .. مجرد لصة تدعي مهارتها في التصميم، بالون فارغ لا يجيد إلا التدليس.
هتفت الموظفة محتجة بشدة لتتقن دورها:
-اسمع يا هذا.. لن أسمح لك بالتقليل من شأني .. إن كان لا يعجبك عملي فلا تقبل به، لكن أن تتهمني بالسرقة، لن أسكت عن حقي.
وجه حديثه لها متوعدًا:
-معي ما يثبت، وسأقاضي وكالتك لغشي.
ثم تركها تغلي في مكانها واتجه باحثًا عن مكتب الشريك الآخر للوكالة .. انحنت الموظفة لتجمع الأوراق الملقاة في قهر، وغمغمت ودموعها الحرقة تنساب من عينيها:
-من هذا الوقح؟ وكيف يتهمني بالسرقة؟
ربتت "ميجان" على ظهرها محاولة تهوين الأمر عليها، وقالت بلطفٍ:
-اهدأي.
تابعت الموظفة تفريغ حنقها فلعنته:
-حقير .. "ديف لوجان"!
انتفضت حواس "ميجان" فور سماعها للاسم الذي نشط في مخيلتها مشاهدها القديمة معه، هتفت تسألها باهتمامٍ مبالغ فيه:
-من قلتِ؟ أأنتِ متأكدة من هذا الاسم؟
هزت رأسها قائلة:
-نعم
تقوس فمها ببسمة مغترة وهي تضيف:
-لا تقلقي أنا أعرفه وستحل مشكلتك.
توسلتها الأخيرة بعينيها الباكيتين:
-أرجوكِ، لن أتحمل خسارة وظيفتي إن أبلغ "ريتشارد".
اعتدلت "ميجان" في وقفتها جاذبة تنورتها للأسفل بعد أن تهدلت قليلاً، سارت بخيلاءٍ واثقة الخطى عبر الردهة، توقفت عن المشي لتسأل أحدهم:
-أين ذهب السيد "لوجان"؟
لم يفهم من تقصد، فأوضحت:
-العميل الغاضب.
أشــار بيده نحو باب إحدى الغرف وهو يجيبها:
-في مكتب "ريتشارد".
انتصبت في وقفتها الشامخة، ورددت بنبرة عازمة:
-سأذهب إليه.
طرقت على الباب طرقتين قبل أن تفتحه وتلج للداخل، بادرت قائلة بلباقةٍ، وكامل أنظارها تتجه لرفيقها القديم:
-أعتذر "ريتشارد" على دخولي هكذا، ولكن يجب أن أتحدث مع صديقي "ديف"!
نظر لها شريكها في حيرة وهو يسألها:
-صديقك؟!
بينما علق "ديف" بتهكمٍ:
-يا للسخافة! أذلك أسلوبك الجديد في حل المشكلات؟
تغاضت عن تطاوله، وقالت متصنعة الابتسام:
-يبدو أن هناك سوء تفاهم غير مقصود..
أشــار لها "ريتشارد" بسبابته قائلاً: ونظراته مرتكزة على هاتفه النقال:
-استريحي "ميجان"..
ثم أمسك بهاتفه، وتابع وهو ينهض من خلف مكتبه:
-لدي مكالمة سأجريها بالخارج، عذرًا.
ردت مجاملة:
-أشكرك "ريتشارد".
ثبتت "ميجان" عينيها على وجه "ديف"، واستأذنته بلطف لا يندمج مع تعبيراتها المنفعلة:
-ما الذي يحدث "ديف"؟ هل أتيت إلى هنا لتختلق المشاكل؟
علق بفتورٍ، وهو يضع ساقه فوق الأخرى:
-لا أرغب في الحديث معك، وسأشكو تلك الموظفة.
كزت على أسنانها ترجوه ببسمة سمجة:
-من فضلك، لا داعي لتصعيد الأمور.
رد بامتعاضٍ:
-اسمحي لي، ذوقها متدني.
علقت عليه بأسلوب لا يقبل المزاح:
-"ديف"، لن أسمح لك بالاستهانة بها! أنت تعلم جيدًا أني ماهرة وأنتقي المهرة للعمل معي، فقط أخبرني كيف تريد حل الأمر؟
مالت نحوه بجسدها لتظهر مفاتنها نصب عينيه، ثم عرضت عليه بجراءة:
-أيًا كانت التسوية التي تريدها، فأنا موافقة.
-حسنًا
قالها وقد تطلع إلى ساعة يده الثمينة، منحها نظرة باردة قبل أن ينهض ليعقب:
-يبدو أني تأخرت على موعدي.
هبت واقفة ترجوه:
-انتظر "ديف" ..
قاطعها بتجهمٍ:
-لا.
توسلته بأسلوبٍ كانت واثقة أنه سيجدي نفعًا معه:
-بحق "روزا".
هدر بعصبيةٍ:
-لا تنطقي باسمها، وإلا آ....
بادرت بمقاطعة جملته لتسأله بمكرٍ:
-وإلا ماذا؟
أطبق على شفتيه كمدًا، رأت الكدر يملأ عينيه، فتابعت الضغط على جرحه:
-لست أنا من خانها وحدي "ديف"، لا داعي لاختلاق المشاكل، أنت أيضًا أحببت الأمر، لا تنكر هذا.
غالب ما يعتريه من مشاعر غاضبة تثور بداخله ليقول ببرودٍ مريب:
-حسنًا "ميجان"، إذا أردتِ ألا أؤذي رفيقتك لنلتقي غدًا في منزلي.
سألته بقلقٍ ظهر في نظراتها إليه:
-لماذا؟
رد والاشمئزاز يغلف نظراته:
-بالطبع ليس لرغبتي بك ..
احتقن وجهها من رده الوقح، وتابع بجمودٍ يسألها:
-أم أنك تخشين رؤيتي؟
نفت دون تفكير:
-بالطبع لا.
تحدث من زاوية فمه متابعًا:
-حسنًا، غدًا سنتحدث.
هزت رأسها موافقة وهي ترد:
-اتفقنا.
هنا عاد "ريتشارد" من الخارج ليجد كلاهما واقفان، تساءل في حيرةٍ:
-ما الأمر سيد "لوجان"؟
بادرت"ميجان" بقول:
-لا شيء "ريتشارد"، الخلاف انتهى، والسيد "ديف" سعيد.
قال في استحسانٍ:
-جيد.
سدد "ديف" نظرة أخيرة لآخر أعدائه قبل أن ينصرف من المكان، وقلبه يضمر شرًا نحوها.
*****
-في موعدك بالضبط.
نطق "ديف" بتلك العبارة المادحة لالتزامها وهو ينظر بعينين تبرقان بلمعانٍ غريب إلى "ميجان" التي جاءت متأنقة في ثوبٍ أسود اللون يلتصق بجلدها، ألقت نظرة سريعة على الحديقة الواسعة التي يجلس بها، والتي تحتل مساحة لا بأس بها من منزله الفخم.. استقامت في وقفتها، ورفعت أنفها للأعلى لتبدو أكثر ترفعًا، لاحقته بأسئلتها المباشرة دفعة واحدة وبشكل آلي:
-لماذا احتقرت عملها "ديف"؟ لماذا أردت التقدم بشكوى ضدنا؟
جلس على المقعد الخشبي، وأشار بيده نحو كأسًا ممتلئ بالخمر قائلاً لها:
-اهدأي وتناولي مشروبك.
نظرت له شزرًا قبل أن ترد:
-لم أحضر لتلك السخافات.
ظنت أنه يمتدحها حين قال:
-مازلتِ كما أنتِ.. جميلة، مغرورة، صعبة المنال ...
تلاشت ابتسامتها على الفور وقد تابع يسألها بإهانة فظة:
-ولكن هل ما زلتِ لعوب؟
هتفت فيه بتشنجٍ:
-"ديف" احذر كلامك!
انفجر فيها ملقيًا في وجهها بعباراتٍ كالسموم كانت مكبوتة فيه:
-وهذا أكثر ما احتقره فيكِ، تلاعبك بمشاعر الآخرين، ازدراءك للحب وتدنيسه، قتل الأبرياء، وفي النهاية ما أنتِ إلا عاهرة وضيعة.
همت لتصفعه اعتراضًا على نعتها بتلك الأوصاف الشنيعة، لكن قبضت يده على رسغها، صرخت فيه "ميجان" وهي تحاول انتزاع يدها من بين أصابعه التي تعترصها:
-اترك يدي "ديف".
نظر لها بعينين حاقدتين، وسألها:
-كيف وقعت في فخك "ميجان" وخسرت "روزا"؟ كيف لم أرَ وجهك الحقيقي أيتها القذرة اللعوب؟
هاجمته بلسانٍ سليط:
-أنت وقح وحقير، لا تختلف عني شيئًا، دعك من المثاليات التي تحاول أن تدعيها، أنت وغد مثلي.
ابتسم معلقًا بتهكم:
-بالطبع، وأنتِ الملاك البريء.
جاهدت لتنتشل يدها وتتحرر منه، شخذت كامل قواها لكنها فشلت، فصرخت في نفاذ صبرٍ:
-دعني أذهب.
تشبث بها جيدًا، وقال بغموضٍ أصاب جسدها بالرجفة الشديدة:
-أسف "ميجان"، مضطر لإبقاءك قسرًا.
سألته والخوف يملأ عينيها:
-ماذا ستفعل؟
اتسعت ابتسامته المتشفية قائلاً:
-ليس أنا .. بل هو!
تلفتت حولها في قلقٍ متزايد حين سمعت صوت "جون" يأتي من خلفها مرحبًا:
-كيف حالك "ميجان"؟
شخصت أبصارها مرددة في ذهول صادم:
-أنت..!
تحولت تعبيراتها للشراسة، وأكملت وهي تتلوى بذراعها لتتملص من قبضة "ديف"
-الآن فهمت اللعبة، كلاكما معًا، صحيح؟
أجاب "جون" ببساطة:
-نعم، وقد جاء دوري معك.
ثم قبض على ذراعها الآخر ولفه خلف ظهرها ليقيد حركتها، في ارتخت أصابع "ديف" عنها، صرخت مستغيثة فاستخدم "جون" قبضته ليكمم فمها وانحبست صرخاتها بداخلها، رفع أنظاره نحو صديقه طالبًا منه:
-يمكنك الذهاب "ديف"، إنها لي.
هز رأسه في تفهم، ولملم ما يخصه من متعلقاتٍ ليترك الاثنين معًا، أرهف السمع لـ "ميجان" وهي تتساءل في خوف بعد أن أزاح "جون" قبضته عنها:
-ماذا ستفعل بي؟
رد مبتسمًا في انتشاءٍ:
-سأذيقك من نفس الكأس عزيزتي.
ثم دس يده في جيبه ليخرج إبرة طبية، سحب غطائها بفمه، ورفعها عاليًا في الهواء، سألته "ميجان" في جزعٍ:
-ما هذا الذي في يدك؟
اتسعت بسمته وهو يجيبها بتلذذٍ:
-إنها إبرة تحوي فيروسًا ليس بلطيف!
هربت الدماء من وجهها، وصرخت فيه:
-ماذا؟
تابع موضحًا نوعية المادة التي سيحقنها بها:
-أتسمعين عن ذاك المرض المسمى بنقص المناعة؟
فهمت مقصده المخيف، وارتجفت كامل أوصالها، انخلع قلبها وتوسلته في ارتعابٍ لا يضاهيه أي رعب عاشته في حياتها:
-إياك "جون"، أرجوك، أنا حقًا أسفة.
نظر لها دون إشفاقٍ، وأضاف بألم ظاهر في صوته ونظراته الاحتقارية لها:
-لقد دمرتِ عملي، ومستقبلي، وحطمتِ كل آمالي.
توسلته بحرقةٍ:
-سأفعل لك أي شيء، فقط لا تحقني بهذا.
رد بنبرة عازمة:
-مضى زمن الغفران "ميجان".
أدركت أنه لا فرصة لها معها، وصرخت بأعلى صوتها:
-ابتعد عني
غرز "جون" الإبرة في جانب عنقها لتنهار بعدها وهي فاقدة للوعي، كان آخر ما التقطته أذناها صوته الشامت:
-تذوقي الآن جريرة أفعالك.
*****