رواية الاطلاق المعتوه الفصل لاول1والثانى2بقلم دينا ابراهيم

رواية ألا طلاق المعتوه

بقلم دينا ابرهيم

الفصل الأول : والثاني 


فتح طارق البوابة الخارجية لمبنى العائلة ودخل في بطء كأنه رجل عجوز    يجر ساقيه وليس شاب في السابعة والعشرين من العمر، تنهد وكأن هموم العالم تستقر فوق كاهله.


 مر على الطابق الأرضي دون اهتمام فهو لا يفتح إلا عند وجود زوار أو في حالة حضور شقيقته وزوجها للبيات وهذا       نادرًا ما يحدث مع زوجها الغارق في أعماله طيلة الليل والنهار، فتنتهي شقيقته ببقائها مع والدته طوال اليوم حتى يأتي زوجها مَسَاءَا


 كي يأخذها ويتوجهان للبيت، صعد للطابق الأول علوي حيث تقطن والدته    وتوقف لحظة ينظر للدرج بتمني وشوق كبير، يود لو يستطيع الصعود إلى الطابق الثاني والأخير في      المبنى حيث تقبع حياته السابقة بمليكته التعسة ملكة الجفاء، زفر في حدة


 كارهًا هذا الشعور بالضيق وعدم الانتماء الذي يعتري صدره في غيابه عنها، عض شفتيه وهو يحارب غضبه كي يضع المفتاح في مكانه       الصحيح، لا يصدق أنه يحرم عليه الصعود إليها منذ ما يقرب الثمانية أشهر، ثمانية أشهر يلتقيان     فيها صدفة كالغرباء.



 انعقد حاجبيه في ترقب أثناء فتحه الباب وقد سمع صوت ضحكات طفولية    ، دخل على عجلة ليقابل "أنس" الصغير ذو الخمسة أعوام الراكض نحوه مهللًا:


-بابا، بابا وحشتني!


التقفه طارق المبتسم بين ذراعيه في حنو بالغ متجاهلًا نبضاته المرتفعة     والمترقبة للمح طرفها في أي لحظة، قبل رأس    الصغير ذو الابتسامة المشرقة ثم تنهد وهو يتشمم رائحة والدته


 اللذيذة من خلاله، قاطعهما خروج والدة طارق الحاملة لطفلته "أيتن" وباليد الأخرى تضع طبق ممتلئ بالأطعمة لحفيدها آمره:


-سيب بابا وبلاش حجج وأقعد خلص أكلك كله قبل ماما ما تيجي!


تحطمت أماله في رؤيتها وتعكر مزاجه من جديد لكنه تخطى الأمر سريعًا متعجبًا     من عدم وجودها فسأل والدته التي تضع صغيرته بين العابها في نبرة متيقظة:


-أمه فين ؟


تحركت "سهيلة" نحو   حفيدها تحمله من أحضان والده مجيبة وهي تضعه أمام طعامه:


-مجتش لسه من الشغل.


أغمض "طارق" جفونه واهتزت شفتيه في شبه ابتسامه لكنها ما لبث أن      اختفت قبل أن ترتسم بينما يهز رأسه يحاول ابتلاع اعتراضه في سكون.


 فلا فائدة من إحراق ما يتبقى من عقله الآن، فعملها أصبح أمر واقع يصفعه     في كل خطوة يخطوها، طرقع أصابعه في غيظ وهو يتابع تنقل والدته في اعتيادية حول المكان متعمدة تجاهله والانشغال بترتيب المنزل، لكنه قطع مسرحيتها متسائلًا في نبرة هادئة:


-شغلها خلص من ساعة يا امي، يبقى ازاي في الشغل؟


-علمي علمك وأنا هعرف منين!


قالت وهي تحرك يدها في الهواء وتميل بشفتيها للشمال في تعجب مقصود، متعمدة عدم الإمساك بأنظاره، فأسبل طارق جفنيه ثم     نظر إلى ساعه يده مستشعرًا ارتفاع مؤشرات غضبه، قبل أن يهز رأسه في استسلام مكتفيًا من استفزازها المتعمد متحركًا نحو الشرفة.



 أتاه صوت بكاء طفلته ذات العامين وصوت توبيخ والدته لأنس الصغير متهمة

 إياه بأنه شقي مشاغب كوالده متسائلة أي شيطان قد يشاغب شقيقته ويسبب في بكاءها ووالدتها ليس في المنزل، زفر "طارق"    في حدة متعمدًا الوقوف في انتظارها وهو يتوعد لها:


-وماله يا خديجة، أنتي اللي جبتيه لنفسك، أنا ماسك نفسي عنك بالعافية.


همس في وعيد وهو ينظر إلى ساعته من جديد، مرت دقائق طويلة تنقلت فيه

 عينيه بين الطريق والساعة يكاد يجن فيها من القلق وشعوره المرير بالغيرة، 

متسائلًا لما بحق السماء ستتأخر كل هذا الوقت ومع من؟!



جز على أسنانه موبخًا ذاته، كان ينبغي عليه التمسك بجنونه العارم وقت    إعلانها بدء العمل منذ ثلاثة أشهر ماضية بل  كان عليه ضرب اتفاقهم التافه وتعنتها السخيف في وجهها


 وإجبارها على البقاء في منزله ولو بحبسها فتبقى زوجة له وأم لأولاده   فقط رغم أنفها، فهو لم يرتكب خطأ لا يغتفر يستحق عليه هذا العقاب المرير.


-لا كده كتير!


رفع هاتفه يحادثها فتفاجأ انها تضعه على لائحة الرفض، انفرط صبره ودخل نحو والدته قائلًا في لهجة عنيفة مستهجنة:


-اتصلي بيها حالًا واعرفي هي فين!


اتسعت أعين والدته وحاولت المحافظة على ثباتها وإخفاء حقيقة أنها    قد هاتفتها تخبرها عن تأخرها بسبب غياب زميلتها لكنها 

 سعيدة بتحرك ولدها الأحمق الذي يفسد فرصته معها


 دون وعي فمنذ حصلت على العمل وهو يتعامل معها كأنها هواء بل أسوأ هو يتعامل بتعنت كبير كأنه لم يكن السبب فيما وصلا إليه، رمشت مستغفره الله قبل ان توبخه في خفه:


-ما تعليش صوتك عليا وأنت بتتكلم.


-أمي أرجوكي متلعبيش     بأعصابي اكتر من كده، اتصلي بيها وشوفيها اتأخرت ليه!


زفرت "سهيلة" وهي تربع ذراعيها تجيبه في تعالي:


-انت قلقان ليه كده؟

خديجة مش صغيرة والصراحة بقى أنا سيباها براحتها مش عايزة اخنقها ولا أنت مش هترتاح غير لما تاخد أحفادي وتمشي من هنا!


قرص "طارق" طرف أنفه يحاول الهدوء والسيطرة على فيضان مشاعره ثم سأل:


-يعني أنتي بردو شايفة ان انا اللي غلطان مش هي ؟!


حركت والدتها كفيها في خيبة أمل قبل أن تخبره في صدق:


-أنتوا الاتنين زفت، وبعدين تعالى هنا أنت مش كنت راكب دماغك بقالك تلات شهور ومش معبرها ووقفت هنا بعلو الصوت تقول    لو اشتغلت يبقى ما تلزمكش وانك رميت طوبتها! .... هاه ... راجع عايز أيه دلوقتي، تتأخر ولا متتأخرش أنت مالك؟


-هو أيه اللي مالي، أنتم فايتكم حاجة صغيرة تقريبًا مش واخدين بالكم منها، بس هي لسه مراتي وعلى ذمتي!


رد "طارق" وهو يشير إلى رأسه يحاول فهم طبيعة المنطق المسيطر على     عقولهم، لكنه وزفر في اختناق عندما خرج من والدته صوت استنكاري أثناء ضربها بكفها فوق الأخر ساخرة:


-لحد دلوقتي على ذمتك،

 يا عالم بكره يحصل أيه!


-يعني مش هتتصلي بيها؟!


قذف "طارق" كلماته في حده قاطعًا مجرى خيالات والدته التي تتعمد اضطهاده،     فأجابته في عناد مماثل لعناده:


-لا وروح شوف وراك أيه، عايزة ألعب مع أحفادي قبل امهم ما تيجي وتاخدهم!


حرك "طارق" رأسه في صمت متجهًا في خطوات ثائرة نحو الشرفة يكاد    يرطم رأسه في الباب الخشبي لها من شدة الغيظ   ، لكنه عكف عن ذلك وتسمر في مكانه وهو يرى زوجته تتهادى


 من بعيد في كامل أناقتها وزينتها، تعالت سباباته وهو يتابع خطواتها الواثقة    وتمايلها في تلك التنورة المرسومة فوق جسدها أكثر مما ينبغي ويوافق.


تابعها تدلف إلى البناية ولم يستطع الانتظار أكثر شاعرًا بدمائه تفور، فها      هو يموت قلقًا وينقلب حاله رأسًا على عقب من رؤياها وهي تتمايل وتتبخر دون أي مبالاة للعالم من حولها.



 اندفع في شر إلى الخارج مستهدفًا لقاءها قبل ان تختبئ متجاهلًا نظرات    والدته المتسائلة عن عجلة خطواته الواسعة، أغلق الباب خلفه وما هي إلا لحظات حتى ظهرت أمامه،    فهتف من بين اسنانه دون أي مقدمات:


-أنتي كنتي فين؟


توقفت "خديجة" لحظه بفم مفتوح من هجومه المفاجئ، وجذبت     أنفاس متتالية تصطنع نفاذ الصبر ولكنها في الحقيقة تجاهد من اجل السيطرة على خفقات قلبها المتعالية، لكنها


 استجمعت قوتها ورمقته مرة في لا مبالاة ثم أبعدت أنظارها عنه في برود  مخالف تمامًا لتوقها ورغبتها الكبيرة في النظر أليه وابتلاع ملامحه داخل مقلتيها، قبل أن تجيب على مضض:


-كنت في الشغل!


-كدابة، الشغل بيخلص من ساعتين، كنتي فين؟!


صرح في نبرة جامدة حادة بينما يعقد ساعديه يمنع تخطيها له، فخرجت     منها ضحكة منذهلة من وقاحته قبل أن تحاول استكمال     صعودها مردفه في لهجة مقطرة بالسخرية:


-عُرف المطلقين ولا نسيت؟


-بقولك أيه، أنا على أخري بلاش لعب العيال ده معايا!


تقف قبالته في تحدي، ثم تمادت في اخباره من بين شفتيها المنفرجة محافظة على    ثبات حاجبها الأيسر المرفوع في سخرية:


-لعب عيال!

اه صح نسيت، أنت متعود على لعب الكبار.


رفع كفه الكبير يعتصر به    ذراعها متعمدًا ألامها بعض الشيء، مزمجرًا في لهجة تفوح بالغضب:


-قولي اللي انتي عايزاه،

لكن انا وانتي عارفين كويس    اني مغلطش يا خديجة وأن الموضوع جه مصلحة، سلم عشان اهداف معاليكي!


أجبرت ضحكة متهكمة من بين  شفتيها قبل أن تضغط فوق كفه مجبرة إياه في عنف على ترك ذراعها، مستكملة:


-طبعًا هو في راجل بيغلط، أكيد أنا اللي غلطانة وأنا اللي وصلتنا لكده!


-متغيريش الموضوع يا خديجة أنا عايز اعرف حالًا سبب تأخيرك؟


طأطأت بغنج زائد وهي تحرك أصبعها لليمين واليسار في رفض أمام وجهه قائلة في نبرة نجحت في استفزازه:


-وبعدين قولنا عرف المطلقين!


-أنتي صدقتي نفسك ولا ايه؟

أنتي لسه على ذمتي يا هانم، وأن كنت سايبك سايقة فيها العوج فده بمزاجي،

يعني واحسن لك تفوقي لنفسك قبل ما أطربقها على دماغك!


انهي جملته وهو يدفعها نحو الحائط يمنعها من تخطيها للمرة العاشرة وكعادة كل مرة يمنعها فيها تستقر عيناه فوق شفتاها الوردية     فيشتعل غضبه اكثر وأكثر، أما هي فقد أشتدت اعتراضاتها وقد انتبهت كل حواسها له فما كان منها إلا أن تدفعه عنها هاتفة:


-متلمسنيش، وبعدين لو مش عجبك طلقني!


كاد يمطرها بكلمات لا ترضيها ولكن والدته سبقته فاتحة باب المنزل، مقاطعة إياهم في نبرة حازمة:


-على الأقل راعوا ان في أطفال جوا مش عايزين طول الوقت يشوفوا خناقات ابوهم وامهم،

عيب اكبروا واعقلوا!


تركها "طارق" قبل أن يزيحها عنه في قسوة أشد من اللازم ثم زفر في قوة منسحبًا مقررًا المغادرة.


وضعت "خديجة" كفيها فوق وجهها وقد انزاح قناع القوة باختفائه عن الأنظار، تنهدت تحاول اخفاء حزنها الحقيقي واهتزازها     الفعلي بسبب أفعاله وطريقته الفجة معها، شعرت بسهيلة تربت على كتفها قبل ان تهمس في حنان بالغ:


-أنتي عارفة انه بيحبك وان اللي هو فيه ده قله حيله مش أكتر.


ابتسمت "خديجة" في حزن مشفقة على قلبها الساذج الذي يرفض التخلي عن معذبه، مؤكدة في نبرة ضعيفة:


-لا يا ماما ابنك مبقاش بيحبني، ابنك عايز يكسرني عشان ارجعله وده مش حب!


لم تجادلها والدته وامسك كفها تجذبها للداخل مغيرة الحديث:


-تعالي اتغدي وشوفي العيال، انتي وحشتيهم أوي انهارده.


-لا ماليش نفس ربنا يخليكي، أنا هطلع فوق عشان لو هو رجع.


-مش هيرجع دلوقتي، أمانه عليكي تعالي البت مرام نايمة جوا ومش راضيه تتغدى غير لما تيجي!


ابتسمت "خديجة" سعيدة بوجود شقيقة زوجها ورفيقتها الوحيدة التي تزوجت منذ سبعة أشهر، فهزت رأسها في موافقة ممازحة:


-النفع الوحيد من شغل جوزها اللي ما بيخلصش اننا مش حاسين انها اتجوزت اصلًا.


ضحكت كلتاهن وتحركت خديجة معها في صمت للداخل على أمل تغيير     المزاج المكتئب، وكل امنياتها تتمثل في عدم ظهور "طارق" اليوم مرة أخرى فقلبها الهالك بحبه لن يتحمل أكثر.


*****


علت ضحكات النساء الثلاثة بينما "أنس" يلعب بدراجته حول طاولة الطعام  وشقيقته تحاول اللحاق به.


-كان لازم تشوفي وش كريم لما شاف العروسة ولقاها شبه اسماعيل يس في الآنسة حنفي!


انهت مرام جملتها بضحكة عالية وهي تصف رد فعل شقيق زوجها ورئيس "   خديجة" في العمل عندما اخذه شقيقه لرؤية عروس مقترحة.


-يالهوي عليكي أنتي وجوزك هتجيبوا صدمة نفسيه للراجل، عشان كده الراجل    مكنش قادر ياكل معانا في البريك!


قالت " خديجة" بين ضحكاتها بينما تمد منتصف جسدها لالتقاط     طفلتها من أمام دراجة شقيقها

 المبتهج الغير واعي لخطورة الموقف أن تقابلت دراجته مع وجه شقيقته، فاستطردت "مرام" في مرح:


-جمال كان هيموت من الضحك وهو بيوصفلي صدمته وطلع من هناك    حلف ميه يمين ما حد يجبله عروسه وانه هيلاقي عروسه لنفسه.


-يخيبكم، طيب لما أنتي عايزة عروسة مقولتيش ليه ما هي ليلى بنت طنطك سلوى موجودة.


انضمت "سهيلة" في اعتيادية  لهم، بينما ترفع ساقها المتعبة فوق مقعد مجاور لها، فعقدت "مرام" حاجبيها في ذهول متسائلة:


-ليلى متجوزة يا ماما، أنتي ناسية؟


-يوه هو انا مقولتلكيش، مش اتطلقت من جوزها بعد ما اتجوز عليها!


ضربت "مرام" فوق صدرها هاتفة في صدمة:


-اتجوز عليها ازاي ده كان بيموت فيها!


استدارت "خديجة" لهما تتابع حديثهما عن كثب فاستمرت "سهيلة" في حديثها المتعمد بينما تثبت أنظارها فوق ابنتها:


-أمها بتقول اتخانقوا والمسكينه راحت غضبت في بيت اهلها شهر، قام رجعت لقته متجوز عليها وطلقها، 

ما انتي عارفة يا مرام الرجالة ملهمش خلق في البعاد ودلع الحريم.


سعلت "خديجة" في خفة وأسبلت جفونها قبل أن تلعق شفتيها الجافة في توتر مفكرة بمنحنى علاقتها

 مع زوجها، فهما منفصلان شفاهيًا منذ ما يقرب الثمانية أشهر ترى هل سيكون هذا مصيرها؟



 لن تنكر ان هذ الأمر أحد المخاوف التي تعتريها لكن تلك المنطقة     السوداء داخلها ترغب في التمادي واختبار مدى تحمله، الأنثى داخلها أصبحت قاسية مجنونة تشعر بأنها مهددة، غارقة في انعدام ثقة كان هو سببً له.


أغمضت جفونها والتهت عن حديث ذويه، بذكرياتها الخاصة.

***


قبل ثمانية أشهر، تنفست "خديجة" الصعداء أخيرًا وهي توصد باب غرفتهم لا تصدق أن طفليها خلدا للنوم أخيرًا، نظرت نحو زوجها الغارق      في حاسوبه بين تصاميمه، ثم خلعت رباطة شعرها

 ترميها جوارها بإهمال منغمسة في إعادة ترتيب خصلاتها كادت تخلع الروب المنزلي لكنها تراجعت في أخر


 لحظة تشعر بالتوتر من وزنها الزائد كيلوجرامات قليلة منذ ميلاد طفلتها لكنها تراها بوضوح، نفضت مخاوفها واتجهت نحوه تحتضنه وتقبل رأسه مهنئة:


-كل سنة وأنت طيب يا أغلى ما ليا.


اتسعت ابتسامة "طارق" تاركًا حاسوبه، ملتفتًا نحوها كي يضمها ويقربها منه هامسًا في محبة حقيقية:


-وأنتي طيبة يا حياتي كلها...


قبل باطن كفها في رقة بالغة قبل أن يستطرد كلماته داعيًا:


-ربنا ما يحرمني منك يا غالية.


-يالهوي عليا لو بجد يتحبني كده!


همست حالمة من بين ابتسامتها المشرقة، فصدحت ضحكاته داخل الغرفة     وهو يستقيم كي يعيد ضمها بين ذراعيه في قوة مخبرًا إياها في نبرة مشاكسة:


-يا سلام، والهانم عندها شك ولا أيه؟


تمايلت بين ذراعيه في دلال مدعية التفكير وهي تخبط سبابتها جانب فمها، قائلة:


-والله على حسب، عامل حسابك تأكد ولا لا.


التوى فمه في نصف ابتسامة مشاغبة قبل أن يقرب فمه من فمها مداعبًا بتلاتها الوردية بأنفاسه قائلًا:


-طيب نبدأ التأكيد ولا نتلكع لحد ما عيالك يصحوا!


لم يعطها فرصة للإجابة ومال يغلق فمها قبل أن تكتمل ابتسامتها    الراضية، تعلقت به في شوق سامحة له باستباحة وجدانها والشروع في نقش أبجدية عشقهما.



أبعد شفتيه عنها يحاول التقاط انفاسه لكنها اقتربت منه دون وعي اعتراضًا على تفريقهما غير منتبهه لصوت الرنين الذي كان سبب في قطع وصالهما.


-ثواني هشوف مين بيتصل.


زفرت في حنق متمتمه في استنكار:


-مين البايخ اللي بيتصل بحد بعد نص الليل.


راقبت ملامحه تتغير للارتباك ثم الجمود وهو يشير بأصبعه فوق فمه مطالبًا إياها بالصمت، ليجيب في نبرة جدية مهنية:


-مساء الخير يا مدام ميري.


صمت قبل أن يسرع في الاجابة على رئيسته في العمل وصاحبة مكتب الأعمال الهندسية الذي يعمل فيه كمصمم داخلي.


-طبعا، خلصته وقدمته لمحمود، متأسف جدًا يا مدام ميري الصبح هيكون على مكتبك.


اقتربت منه "خديجة" في انزعاج صريح، ورفعت حاجبها متعجبة من حالة التأهب الذي أصبح فيها زوجها أثناء حديثه مع المدعوة "     ميريهان" أو "مدام ميري" كما تجبر الجميع على ندائها، تلك "الشمطاء المتصابية" فكرت في غيره أنثوية وهي تتذكر ملابسها الفاخرة والشبة فاضحة والتي تخجل هي ذات الثالثة والعشرين عام من ارتداءها.



زفرت في حنق تكره الاعتراف بحسن جسدها الرفيع الممشوق رغم وجود     بضع علامات التقدم في العمر التي لم تستطع الشمطاء إخفائها لكنها ترفض الاعتراف بها متحدية الطبيعة.



تأففت وهي تجلس على طرف الفراش منتظرة انتهاءهم من الحديث ولعنت فضولها الذي يجعلها دومًا تتصفح حساب التواصل      الاجتماعي الخاص بالمكتب الهندسي، فقط لتركز عدستيها فوق السيدة المحتفظة بجمالها المشرق المناقض لسنها.

مطت شفتيها في غيظ عندما أنهى المكالمة وتسارعت قائلة في اتهام:


-ممكن أفهم الست دي ازاي تتصل في وقت زي ده بيك؟

والعشم ده كله جايباه منين!


انعقد حاجبي طارق في ملل معيدًا أسطوانته الدائمة:


-عشم أيه يا خديجة اللي الست هتستناه مني، 

دي بتقبضني ضعفين مرتبي القديم واللي كنت بشتغل فيه شغلانتين!


عقدت ذراعيها أمام صدرها في استهجان، مستنكرة دفاعة عنها:


-وهي اشتريتك بفلوسها، المفروض وقت الشغل للشغل ووقت البيت للبيت!


تنهد طارق أثناء جلوسه جوارها مجبرًا إياها على العودة للاستقرار فوق صدره مؤكدًا كي يمحض شكوكها:


-صدقيني دي طبيعة شغلها وهي مش بتخصني أنا لوحدي بالمكالمات دي، 

هي بتتعامل مع كل الموظفين كده.


سندت رأسها على صدره تحاول تصديقه والتخلي عن شكوكها ولكن ذلك لم يوقفها من التمتمة في حنق:


-ورسايل الواتساب بردو تبع شغلكم؟


-لا بالله عليكي مش عايز مناهدة،

بعيدًا عن كونه عيد ميلادي بس العيال نايمه ودي لحظة تاريخي ومش هتتكرر!


مطت شفتيها في استسلام متناسيه أفكارها المنغصة، تاركة إياه يحارب من أجل خلع الروب عن جسدها، فطالبته في نبرة مشاكسه:


-طفي النور الأول!


-لا بعينك، ويا أنا يا الهواجس اللي في دماغك دي انهارده.


اخبرها في جدية تامة وهو يدفعها نحو الفراش بينما تحارب هي لإخفاء بعض التفاصيل الممتلئة في جسدها معترضة في خجل على كلماته:


-دي مش هواجس أنا لسه وزني زايد مش عايز ينزل من ساعة ما خلفت أيتن.


-طبعًا، طبعًا !


دفعها متعمد إخلال توازنها كي تستقر فوق الفراش، ثم اتبعها بابتسامه      عريضة بينما يكبل جسدها من الجانبين بجسده، متلذذًا في استمتاع وهو يراقب الغيظ المرتسم على وجهها لكنه مال نحوها عازمًا على تشتيتها وكسب استسلامها.


***


-خديجة!


استفاقت من شرودها على صوت "مرام" المتذمرة:


-وأنتي سرحانه في ايه يا عنيه؟


رمشت خديجة عدة مرات وهي تتنقل ببصرها بين "مرام" المتوجسة      و "سهيلة" المنتظرة اجابتها ورغمًا عنها شعرت بالخجل يتملكها وباللون الأحمر يكسو وجهها فتحدثت متلعثمة:


-كنت ...آآ....أقصد كنت شايلة نص لمونه في التلاجة و....


-نص لمونة!،

خديجة أنتي كويسة؟


تساءلت مرام في ذهول فارتبكت خديجة وانتفضت تجذب أطفالها تحاول    إخفاء خجلها فماذا ستخبرها كنت تائهة في لحظاتي الحميمية مع شقيقك!، فقالت في عجلة:


-أنا شكلي مهنجة من قلة النوم أنا هطلع ارتاح شوية، تصبحوا على خير!


-وأنتي من أهل الخير!


نظرت "سهيلة" إلى ابنتها ما أن أغلقت "خديجة" الباب خلفها هامسة في غيظ:


-أخوكي هيطفشها بعناده، وهي سايقه فيها،

 وانهارده اتاخرت واخوكي وقفها على السلم يتخانق معاها عشان اتأخرت في الشغل.


مالت "مرام" عليها لتخبرها في ابتسامه واسعة:


-عز طلب يا ست الكل، 

أنا متاكدة ان فكرة شغلها هتجيب نتيجة وابقي خلي عنادهم ينفعهم بقى!


لمعت عيون "مرام" منغمسة في التفكير سعيدة بأنها استطاعت توفير عمل     لخديجة في مكتب المحاماة الخاص بشقيق زوجها، بينما رفعت "سهيلة" كفيها للسماء تناشد الله في تمنى كبير بانتهاء الوضع الراهن وعودة الأمور لما كانت عليه بين أبنها


 وزوجته، فهي تشعر بالحزن الذي ينبثق من عيون ولدها وزوجته، وتتحسر على حاله متمنية له زوال الهم وراحة البال.




رواية ألا طلاق المعتوه

بقلم دينا ابرهيم

الفصل الثاني:


في اليوم التالي رفع "طارق" أصابعه يدلك عنقه المتألمة بسبب عكوفه منذ الصباح فوق حاسوبه وانغماسه في رسم التصميم الداخلي لأحد    المطاعم والتي يجب عليه تسليمها الليلة إلى "سامر" صديقه الذي يملك أحد المواقع الإلكترونية الخاصة بالتصاميم الهندسية، وإلا سيفقد "طارق" صوابه يكفي ان


 الفترة التي يخصصها للعمل في الليل كمصمم مستقل أو ما يعرف ب     (فيري لانسر) يتم اللجوء إليه في حالة الضغط الشديد في تسليم الأعمال، قد استغرقها في التفكير في خديجة والتلوي بنار الغيرة.

 فرك خصلاته في توتر وهو ينظر للعمل المتراكم عليه مفكرًا في العواقب،    فقد نجح صديقه في إثبات

 مصداقيه كبيرة وبناء اسم هام في هذا المجال وكان من حسن حظ "طارق" أن يعمل

 بشكل حر معه خاصة بعد تركه لعمله السابق ولا يريد أن يكون سببًا في تسويد    وجه المسكين كما انه لا يريد ان يفقد عملًا سلسًا ومربحًا للغاية يستطيع القيام به من المنزل.


طرق بأصابعه فوق الطاولة يحاول تحديد الوقت الذي سيستغرقه المخطط    في عقله كي ينتهي منه قبل الذهاب للعمل، فاليوم هو يوم حافل في معرض الأثاث الذي يعمل فيه ولا يريد التكاسل كي لا يخسر وظيفة الرئيسية.


-سبحان الله.


تمتم بينما يغلق الحاسوب فمن كان يتوقع ان يحصل على هذا العمل بعمولاته     الغير طبيعية ما أن يترك وظيفته القديمة بل من كان يصدق أن الفرصة ستأتيه سريعًا عندما يحادثه أحد


 العملاء صدفة فتفاجئ بأنه ترك العمل في مكتب "ميري" ويتمسك به للعمل    في أحد معارضة مؤكدًا على أنه يملك قدرة إقناعيه رهيبة تمنى استغلالها منذ تعامل معه.


-شكرًا على ثقتك الغالية!


همس ساخرًا من نفسه فهو قادر على إقناع مشتري ثري بدفع مئات الآلاف في     غرف خشبية ولكن لا يقدر على إقناع زوجته بالرجوع إليه!!


-بتكلمني يا طارق؟


انتفض على صوت شقيقته المنشغلة في هاتفها بينما تحمل طفلته "أيتن" وتشاغلها    بلعبة صغيرة فرد في غيظ:


-لا بكلم نفسي عندك مانع!


اتسعت مقلتاها قبل أن   تحرك بؤبؤي عيناها لليسار واليمين في ريبة مفكرة بأن شقيقها قد جن أخيرًا لكنها همست قائلة:


-أممم لو حبيت تتكلم أنا جوا بكلم جمال على التلفون.


حرك أصابعه يبعدها عنه وهو يعيد أبصاره نحو حاسوبه حاقدًا دون قصد    على شقيقته الصغرى التي نجحت بجدارة في ترتيب حياتها العاطفية افضل منه.


-حبوا بعض وبلاش احنا!


 أغمض جفونه مفكرًا في حياته ولأول مرة منذ ثمانية أشهر يعترف لذاته    بأنه كان عليه ترك عمله القديم منذ البداية ولكنه كان يعاند متمسكًا بأسباب الحياة خوفًا من مشقتها، غمغم في


 حقد ببعض السباب مقصود به خديجة وعنادها فها هو يسير في نجاح نحو     الاستقرار ويمارس عمل احلامه ولكنه لا يستمتع بأيً من ذلك في غيابها!


أعاد فتح حاسوبه فأتته خبطات الأواني في المطبخ دون توقف فهتف متعجبًا:


-انتوا بتعملوا أيه جوا بالظبط، مش عارف أركز!


صدح صوت والدته الموبخ    قبل ان تخرج له "مرام" رأسها من المطبخ مجيبة:


-مفيش ايتن بتلعب لعبة المطبخ وكنا بندور على حله أصل ماما عزماني على الأكل أنا وجمال.


-وتعزمك ليه ما انتي عايشة معانا، هو أنتي بتروحي بيتك غير مع جوزك بليل!


-ايه ده، ايه ده أنت مش عاجبك ولا أيه!


أردفت "مرام" مدافعه عن حقها في وجودها بمنزل العائلة وهي تتقدم منه في    تذمر متخصره أمامه، فضحك طارق مؤكدًا في سخرية:


-لا يا ستي عاجبني، أنا بقولك بس عشان ماتعشيش الدور.


اخبرها منازحًا مستمتعًا بإزعاجها فهتفت من بين أسنانها:


-رخم!


-سخيفة!


ردد طارق في تلقائية معيدًا مشاكساتهما الصبيانية القديمة ولكن قاطعهم صوت والدته الموبخ:


-عيب عليكوا والله، اتفضلي يا عاقلة تعالي ساعديني في المطبخ،

وأنت يا أبو العيال لو مش عايز دوشه اتفضل اشتغل في البلكونة لحد ابنك ما يجي بالباص انزل خده.


غمغم الأخوين دون توقف بينما يلملم "طارق" أغراضه متجهًا للشرفة، ففي  كلا الأحوال كان سيقبع فيها مع اقتراب موعد مجيء زوجته المجنونة من العمل، تنهد في شوق يؤلم قلبه


 فهي تتعمد عدم البقاء أمام عينيه وتحرمه من النظر إليها والتواجد معه، فيجد

 نفسه جريحًا مشتاقًا يقف في الشرفة كالمعتوه يراقب تمايلها عند الذهاب والمجيء.


*****


بعد مرور ساعتين، أغلق حاسوبه متنهدً في راحة بعد أن أنهى التصاميم   

 وأرسلها، نظر إلى ساعته متوقعًا حضورها بأي لحظة فقطع تركيزه صوت شقيقته المتحدثة على الهاتف:


-والله العظيم يا خديجة لو طلعتي وما اتغديتي معانا لماما تزعل منك!


انتفض واقفًا في ترقب ثم اقترب نحو شقيقته دون أن يلفت انتباهها لتلصصه على المكالمة، فسمعها تخبرها ضاحكة:


-تدفعي كام وأقولك، 

خلاص متزقيش بهزر، أنس يا ستي دخل ينام وأيتن بتلعب مع ماما في المطبخ.


جلست "مرام" تعبث بأزرار التلفاز بينما تستمع لكلمات خديجة قبل أن تتأفف منزعجة:


-رجيم أيه يا خديجة أتلمي مفيش مفر، مستنيينك.


أغلقت الهاتف فتحرك "طارق" يجلس جوارها في لهفة متسائلًا:


-أنتي كنتي بتكلمي مين؟


رمقته بطرف عينيها في لا مبالاة صريحة قبل ان تخبره:


-خديجة.


حرك رأسه في تعجب قبل أن يتساءل بحاجب مرفوع مغتاظً:


-وبتعمل رجيم ليه ولمين ان شاء الله؟


اتسعت ابتسامه "مرام" وهي تعتدل في مكانها متعمدة استفزازه في حماسة:


-عشان تحافظ على رشاقتها وحسن مظهرها، دول أهم الشروط لأي عمل!


ضاقت عيناه في غيظ قبل أن يدفعها من جواره أمرًا:


-آآه...رشاقتها وحسن مظهرها،

قومي يا بت اعمليلي كوباية شاي، أنا مش طايق نفسي!!


-طيب ما تزوقش، ده ايه القرف!

خديجة عندها حق أنت الحياة معاك لا تطاق!


-غوري.


هتف في غضب وهو يرمي بجهاز التحكم نحو شقيقته الراكضة قبل أن يغمغم في توعد:


-ماشي يا أم رجيم خلي الرشاقة تنفعك يا أم عمل!


اتجه نحو الشرفة يرمي جسده فوق مقعده يحاول تمالك غضبه وترتيب افكاره قبل حضورها، وما هي إلا دقائق حتى تفاجئ بوصول    سيارة "كريم" البغيض الشقيق الأصغر لزوج شقيقته، انتفض مستقيمًا بأعين متسعة مراقبًا خديجة ترتجل من السيارة وأول ما خطف نظراته هو ثوبها الوردي المنقوش بفراشات كحلية اللون.


ارتفع بصره نحو وجهها المشرق بابتسامتها الرائعة وشعر بأنفاسه تضيق وهو يتفحص الزينة الخفيفة على وجهها التي بالتأكيد لا تضعها من أجله.



تابعهم يتحركون في بطء للدخل دون انتباه لوجوده منغمسين في حديثهم    ، ففرك عيناه يحاول استعادة رشده وهدوءه لا يريد التسرع في الكشف عن كروته أمامها فتظن نفسها منتصرة لأنه لا يزال مقيدًا بحبها وتعتبره ذليلً لها.


حاول التمسك بالموقف الذي تنباه ضدها منذ مدة بعد أن تلوى في خصامها خمسة اشهر معترضًا على رغبتها في استمرار التخاصم ورفضها كل محاولاته للتقارب، متمادية في طريقتها



 الفظه دون مبرر يذكر من وجهه نظره بالإضافة إلى اتهامها بأنها تتعمد الخصام للوصول إلى أهداف خاصة في باطنها، تنفس محاولًا استعادة نصائح صديقه التعس الذي منذ سمع له وهو لم يتقدم خطوه للأمام، لعن وسب بينما يتذكر كلماته:


"لازم تتمسك بموقفك انت معملتش جناية والأفضل انك تظهر عدم اهتمامك     بيها ومتدهاش حجم كبير عشان لو حست انك لسه شريها هتركبك ومش هتقدر تسيطر عليها ابدًا، صدقني أنا عارف صنف الستات ده كويس"


-الله يحرق اليوم اللي شوفتك فيه يا حسام الكلب.


تمتم في غضب فقد تعمد التعامل بجفاء معها ولؤم منذ بدأت في وظيفتها الجديدة على أمل الوصول لغايته واجبارها على تركه ولكن     كل ما يحدث انه همش ذاته وجعلها أكثر اصرارًا على العمل وتحقيق أهداف لا يفهمها حتى لكنها بالتأكيد خالية من وجوده فيها.


-كريم وصل مع خديجة يا ماما.


اتاه صوت شقيقته التي ظهرت جواره فجأة تطل على الطريق ثم اختفت    في الثانية الأخرى إلى الداخل، حرك أصابعه فوق خصلاته يحاول تمالك غيظه من تصرفات شقيقته وابتلاع


 وجود هذا الكريم في منزله، فمنذ عرض عليها العمل معه في مكتب المحاماة وهو يبغض حتى حروف أسمه الأربعة وصار لا يطيق رؤيته معتبرًا إياه عدوه اللدود، رفع نظره للسماء داعيًا:


-يارب عدي اليوم ده على خير!


******


حول مائدة الطعام جلس "طارق" وسط الجميع، يعبث بطعامه يأكله في    صمت محاولًا تجاهلهم، خاصة والدته وشقيقته اللتان صارا يلعبان على اوتار صبره بأفعالهما، وكأنهما يستمتعان بانفصاله عن زوجته بدلًا من محاولة إصلاح الوضع بينهما.


-تسلم إيدك يا حاجة الأكل يجنن.


-الله يسلمك يا حبيبي، ده أنت مكلتش حتى.


ضحك كريم وهو يطالع خديجة ممازحًا:


-بتقولك مكلتش يا خديجة قوللها على أكلتي بتبقى عاملة ازاي عشان تعرف اني اتقتلت أكل.


حرك "طارق" رأسه ناقلًا نظراته بينهما راسمًا ابتسامه صفراء تصرخ     "استخفاف" بمنحنى الحديث و "انزعاج" واضح من قائلها، استقرت نظراته فوق "خديجة" التي ابتسمت تخبر والدته بتهذيب:


-لا يا ماما هو فعلا كده بياكل في المكتب مدوخنا.


لم يستطع طارق تمالك أعصابه فقال في سماجه وهو يتكأ بأريحيه فوق مقعده راسمًا ابتسامه ساخرة:


-وانت بتدوخها ليه يا كريم؟

مش تبقى شاطر وتاكل اكلك كله ولا أنت كده رخم من صغرك ومدوخ ماما في الأكل!


لم يجيبه كريم مكتفي بابتسامه مُجبرة متعجب من شعور النفور المنبثق    من طارق نحوه والتفت يطالع "جمال" شقيقه في سؤال صامت فشل في الإجابة عنه.


 التفت الجميع نحو، بينما نظرت تبادل مرام وزوجها نظرة خاصة، فسعلت "مرام" في حرج من كلمات شقيقها قائلة في محاولة لتغيير الحديث:


-وخديجة عاملة أيه معاك في الشغل؟


اتسعت ابتسامة صادقة على وجه "كريم" ثم  نظر إلى خديجة مؤكدًا:


-ما شاء الله عليها رغم انها بقالها مدة بسيطة في المكتب لكن نبيهه ويعتمد عليها.


ابتسمت "خديجة" في خجل وفخر، وقد احمر وجهها بسبب مديحة لها، قائلة في نبرة خجولة:


-مش للدرجة دي، أنا يا دوبك برتب الملفات واظبط المواعيد ونهال الصراحة شايلة اكتر من نص الشغل.


-كخ يا ماما...


قطع طارق حديثها فالتفت الجميع نحوه في استنكار يرمقونه شزرًا لكنه استطرد سريعًا في براءة ممسكًا بكف ابنته:


-قولت مية مرة بؤك للأكل مش للهري.


 انهى جملته بنظرة مخطوفة نحو زوجته، استقرت في أعماق "خديجة" المشتعلة بالغضب من تصرفاته الصبيانية ومحاولته في التقليل      من شأنها، بينما حرك "كريم" رأسه في حركة استهجان قبل ان يرمق "مرام" و"جمال" نظرة ذات مغزى مستطردً حديثه وكأن شيء لم يكن:


-ده غير انها صبورة وست محاربة وقوية رغم الظروف اللي هي فيها.


-فعلًا خديجة حد محترم.


قال "جمال" مندمجًا في الحديث أخيرًا، إلا إن ذلك لم يوقف "طارق" الذي رفع حاجباه في تهكم  مستشعرًا ما لا يعجبه من نبرة "كريم" فسأل في نبرة مباشرة:


-وأيه هي الظروف اللي بتمر بيها يا أستاذ كريم؟


-انفصالكم مثلًا، عمرك سمعت عن ست عايشه في نفس البيت مع شريكها السابق.


أخبره "كريم" في جمود ووقاحه متخطي الحدود بينما يلقيه بنظراته الحادة الموازية لنظرات "طارق" القاتلة.


 وقعت كلماته كالجمرات على مسامع "طارق" الذي ظهر الغضب والامتعاض بشكل جلي على وجهه قبل أن يرمق زوجته في اتهام لا يصدق أنها أخبرته بانفصالهما الوهمي.




ارتبكت "خديجة" وهي تنظر إلى كريم منذهلة من معرفته بوضعها الخاص ولكنها نظرت إلى "مرام" في حدة متوعدة لأنها بالتأكيد      من اخبرته، ساد الصمت واصبح الموقف محتدم ينبئ بالانفجار، فسعلت في خفة تشعر كمن على وشك الانهيار هامسة في لهجة هادئة:


-عن اذنكم هجيب ماية.


انسحبت في عجلة إلى المطبخ ثم وقفت أمام المجلى تحرك كفها فوق وجهها تتطلب بعد الهواء، وقلبها يخبرها أن أفعاله السخيفة الغير مقبولة منبعها غيرته عليها إلا أن عقلها ينافس لوضع آراءه بأنه فقط يسعى لتحطيمها.



 انفاسها انحسرت في صدرها عندما احست بحرارة جسده من خلفها بشكل مفاجئ، ارتجفت لحظة ما بين الخوف والرغبة في الالتفاف     وصفعة لكنها دفعته للخلف مبتعدة خطوتين وهي تخصه بنظرات غاضبة فابتسم في تعجب واهي من عنف حركتها مردفًا:


-بجيب كوباية مش أكتر.


لم تجيبه وظلت تناظره في حقد، فاتسعت ابتسامته يخفي خلفها الكثير قبل أن يطالعها بنظرة من أسفلها إلى اعلاها ساخرًا:


-فيكي حاجة غريبة؟


مالت برأسها لليمين بعدم اهتمام رغم أن حديثة قد أثار فضول الأنثى داخلها، ثم علت دقاتها في توجس واتسعت عيناها عندما اقترب منها يضيق المساحة وهو يمرر عيناه فوق جسدها في وقاحه.


بللت شفتيها تناشد ثباتها وقد شعرت بساقاها تتخدر من قربه خاصة     عندما لامست أنفاسه الحارقة وجهها ولكنه هدم انسجامها في جنون عشقه بكلماته المستفزة:


-أنتي تخنتي ليه كده؟

ولا الهدوم هي اللي مش لايقه عليكي!


شهقت في صدمة وشعرت بغصة تتملكها لكنها ابتلعتها في صمت ثم رمقته في اشمئزاز متعمد، مجيبة من بين أسنانها:


-خليك في حالك.


تحركت في خطوات غاضبة سريعة للخارج وأغمضت جفونها كي تسيطر على انفعالاتها عندما وصلها صوت ضحكته العالية، جلست    تزدرد لعابها تحاول جاهدة منع نفسها من البكاء ولعنت غباءها الذي يجعلها أسيرة في حب هذا الأرعن قاسي القلب.


 فبينما هو يخطط لصب سمومه وغضبه عليها كانت كل حواسها الانثوية منشغله بوجوده وتستشعر قربه منها.

حمقاء !

لعنت غباءها اكثر عندما عاد إلى المائدة وتجاهلها بكل هدوء وكأنه لم يمزق كبرياءها منذ قليل، نظرت إلى "كريم" الذي يحاول     إرسال ابتسامه مساندة نحوها وتمنت لو كان يملك طارق نصف سماحته وتفهمه.



 أعادت بصرها نحو "طارق" في غضب متعجبة من نفسها لأنه وبرغم كل الصفات الحميدة في كريم إلا أن قلبها وجام انتباهها متعلق    بمتحجر القلب ذاك لدرجة انها تعطي لذاتها مبررات واهيه للبقاء في بيته تحت مسمى الانفصال والعقاب .... ولكنها لا تعاقب سوى نفسها!



استقامت في تروي غير قادرة على تحمل تواجدها معه في نغس الغرفة فقالت معتذرة:


-معلش يا جماعة أنا تعبانه شوية من الشغل انهارده وهطلع ارتاح!


-ماشي يا حبيبتي اطلعي وانا كمان شويه هطلعلك العيال.


-شكرًا يا ماما.


قالت "خديجة" وهي تجبر ابتسامه صغيرة نحو والدته ثم أخفضت بصرها وهي تبتعد عنهم كي لا تلتقى بعيونه ولو صدفةً.

راقبها في هدوء حتى أغلقت الباب خلفها سعيدًا بأنه نجح في مخططه بإبعادها من جوار كريم وقد طفح به الكيل من رؤية انسجامهما معًا.

وما أن أعاد نظرة نحو الجالسين حتى وجد رؤوس الجميع متجهه نحوه في اتهام صريح فسأل في تعجب وبراءة:


-أيه، بتبصولي ليه، وأنا مالي؟!


سعل "كريم" بخفة قبل ان يستأذن مغادرًا هو الآخر متحججًا بالعمل فشاركه "جمال" رغبته متحججًا بتأخره على العمل هو الأخر، أغلقت      "مرام" الباب خلفهما قبل ان تلتفت إلى شقيقها عاقدة ذراعيها في اتهام:


-ينفع تبقى قليل الذوق مع الراجل كده؟


-وهو ينفع تاخدوا قرار في حاجة تخصني، من دماغكم كده؟


ردها لها طارق في نبرة منخفضة تنذر بالشر فتدخلت والدته متذمرة:


-واحنا عملنا أيه ان شاء الله؟!


-انتي عارفة ان خديجة كانن جاية مع كريم ولا لا؟


سأل رفم انه يعلم الإجابة مسبقًا، فأكدتها له شقيقته سريعًا:


-اه طبعا عارفين، اصلًا ماما اللي قالتله يجيب خديجة معاه.


-ومحدش فيكم فكر ان دي مراتي وان المفروض تاخدوا اذني؟


صرح من بين أسنانه وعينيه الغاضبة ترفض الابتعاد عن شقيقته التي تنتهج الاعتيادية واللامبالاة، فأجابته في رتابة وكأنه غليظ الفهم:


-في أيه يا طارق انت ناسي انها بتشتغل معاه في المكتب يعني طبيعي يجوا مع بعض!


حرك رأسه بدون تصديق ليخبرها في حنق بينما يستقيم من مجلسه:


-يعني أنا ماليش رأي، صح كده؟


-لا مالكش وبعدين أنت متضايق ليه، ما كلنا عارفين انكم هتطلقوا فبلاش الدور ده مش لايق عليك!


خرج منه لفظ بذئ اعتراضي على تجاوزها واستفزازها له بشكل متعمد، فاندفعت والدته توبخه في غصب مستنكرة:


-ولد أنت اتجننت!


-ايوة اتجننت واحسن لكم محدش يتدخل لا بخير ولا بشر، لما ابقى أطلقها وقتها اعملوا اللي عايزينه،

 لكن وهي على ذمتي محدش ياخد قرار إلا بأذني.


صرخ طارق يخرج مكنوناته المحترقة الغاضبة من تصرفات ذويه وتجاوزاتهم قبل أن ينهي الحوار بابتعاده إلى غرفته مغلقًا الباب في قوة خلفه.


*****


اندفعت خديجة إلي داخل المنزل ثم ألقت بمفتاحها في اهمال هاتفة:


-الواطي الجبان.


اتجهت تلقائيًا إلي غرفتها تخلع ثيابها وكأنها مشتعلة بالنيران ولسانها لا    يتوقف عن لعن اليوم الذي تزوجته فيه، وقعت عيناها على انعكاسها في المرأة ورغمًا عنها أحذت تتفحص في جسدها وكأن ما خرج من فمه تحقق بطريقةً ما.


مطت شفتيها في غيظ وقهر فقد نجحت في الآونة الأخيرة أن تخسر معظم وزنها الزائد ليأتي هذا البغيض ويحاول بعثرة ثقتها المستعادة.


عادت إلى أذهانها صورة "ميري" مديرته السابقة ولكنها هزت رأسه في     حدة ترفض وضع نفسها واعادتها إلى تلك الخانة رافضة وضع نفسها في مقارنات لا فائدة منه.



بدلت ملابسها وبدلًا من أن تستريح وجدت نفسها تلملم سجاد المنزل كله تعد نفسها لتنظيف المنزل دون توقف أمله في إخراج جام طاقتها السلبية فيه.


*****


كان "طارق" يتنقل بين الملابس في خزانته يعبث داخلها محاولًا      العثور على ما يريد وقد تأخر على عمله المسائي، رن هاتفه يقطع استعداداته فتوجه نحوه يجيب في ملل "حسام" صاحب النصائح الذهبية الأخرق:


-عايز أيه يا بوز الأخص!


-أيه ده ولا لم نفسك!

أنا غلطان اني بتصل اسأل عليك واعرف ايه الأخبار!


توجه إلى شرفته بحثًا عن ارسال أقوى بينما يخبره في حنق:


-الاخبار زفت والحمدلله، منك لله يا حسام!


قال قبل أن يزمجر في خضة متناسيًا صديقه على الهاتف ما أن  تفاجأ بما يشبه الصفعة فوق رأسه، رفع عيناه مذهولًا ليجد زوجته     المصون تدلدل سجاد المنزل المتسخ فوق رأسه، حتى إن إحداها لامسته بالفعل، ليعلو صوته موبخًا:


-مش تاخدي بالك!


-بنضف، أيه ما انضفش!!


قالت ساخرة تلقيه بابتسامه واسعة قبل أن تبتعد عن انظاره، زفر طارق     في حده يحاول السيطرة على انفعالاته قبل أن ينتبه لصوت صديقه المنادي:


-أيه اللي حصل، روحت فين!


-لا مفيش دي نتايج نصايحك مش اكتر.


-يا دي نصايحي ما ده كان قرارك أصلًا أنا بس كنت بساعد،

أيه ده استنى لكون بلبخ الدنيا هي مراتك جانبك؟


-لا في البلكونه فوق وعقبال عندك بتنفض السجاد فوق دماغي!


حاول صديقه كبت ضحكة عالية ولكنه صمت تمامًا عندما وصلته تهديدات "طارق" المتوعدة ثم قال في ثقة:


-يا عبيط بتغيظك، انت كمان غيظها واتلحلح.


-اغيظها أعمل ايه يعني اطلع انفض عليها السجاد من السطح!


رد عليه "طارق" ساخرًا وهو ينفض خصلاته دون توقف مستهدفًا بقايا الاتربة، فقال "حسام" في ثقة:


-اعمل نفسك بتكلم ست دلوقتي!


خطف "طارق" نظرة للأعلى فلم يلمح طيفها فعاد يهمس إليه قائلًا:


-بس هي دخلت خلاص!


-غبي مفيش ست هتشوف جوزها بيتكلم ف التلفون وهتبعد، 

اسمع الكلام بقولك وكلمني على اني ست.


-اه ...أيوة .. طبعا طبعا وحشتيني،

آآ... وانتي اخبارك أيه؟


تمادى "طارق" في تلعثم يشعر بالغباء وهو يلقى بنظراته نحو الأعلى على أمل رؤيتها، فاخبره صديقه في ملل:


-علي صوتك يا بني ادم، اقولك أضحك وقولي يا شقية!


-أقولك يا شقية ليه؟

 ولااا أنا بدأت اتوغوش منك والدنيا مش أمان الفترة دي!


تمتم طارق في نبرة ساخرة منخفضة فأتته لهجة "حسام" المستهجنة:


-هأقفل في وشك وشوف مين هيساعدك!


علت ضحكات طارق رغمًا عنه قبل يصله خبطات قدمها الصغيرة من الأعلى ليتأكد من وجودها فعلًا!


 فقرر الاستمرار في مخططه منهي ضحكاته مستكملًا في بحتة الرجولية المميزة:


-أنتي شكلك شقية وهتتعبيني!


علت شهقت "خديجة" من الأعلى واتسعت عيناها في صدمة لا تصدق انه     يتجرأ على محادثة نساء غيرها، تركت جردل الماء من يدها وتحركت تقترب من السور كي تستمع إليه أكتر.


-تدفعي كام وابعتلك صورة تقطع الأنفاس؟


وصلها صوته المشاعب من الأسفل فزمجرت في خفة متوعدة من تحت انفاسها:


-يا سافل يا حقير، ده أنا اللي هقطع أنفاسك!


أما في الأسفل، فقد اتسعت ابتسامه طارق وقد وصلته شهقتها منذ قليل بوضوح مستمتعًا بانه لا يزال يستطيع التأثير فيها، ولكنه لم      يستمتع بلذة الانتصار كثيرًا إذ خرجت منه شهقة عنيفة في ذهول شاعرًا بصقيع الماء البارد يصطدم به من أعلاه لأسفله.



-في ايه يا طارق؟!


سأله "حسام" ولكنه أغلق الهاتف في وجهه لا يزال في حالة ذهول ولا يصدق انها قذفته بالماء من الأعلى، مسح وجهه ثم رفع رأسه     ينظر لها بعيون متوحشة فقابلتها هي بابتسامه ساخرة وهي تعدل الجردل جوارها وتخبره في دلال زائد:


-اوبس، الماية دي كانت شقية أوي، قولت اما أربيها.


ارتفع جانب وجهه فيما يشبه الابتسامة ولكنها خرجت سوداء دبت الذعر في    قلبها قبل أن يحذرها في نبرة باردة:


-أخفي من وشي وأقفلي البلكونه عشان أنا اللي هطلع أربيكي وارميكي من فوق... أدخلي!


انهى جملته في صرخة آمره جعلتها تنتفض وتهرع للداخل، لكنها لم تستطع كبح ضحكات الانتصار مستمتعة بما فعلته به للتو، فلا شيء اروع من طعم  

          

                     الفصل الثالث من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا


تعليقات