رواية والتقينا
الفصل الثامن عشر18
بقلم ندي ممدوح
18_زواج
أبَى القلب إلا أن يراها قريبة
كأن رضاها مُزنةٌ تتحدر
(محمود شاكر)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل قراءة الفصل في قارئة عزيزة على قلبي لها ابن عمة مريض أدعوا له بالشفاء لعل منكم من هو أقرب إلى الله منا ودثروه فيها (اللهم إني اسألك إني اشهد إنك أنت الله الشافي الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تشفيه وتعفو عنه وتجعل كل ألم مغفرة لكل ذنب، ورفعة في الدرجات ومحبة وقربة، اللهم إنك اقرب إليه منا تعلم ألمه ولا نعلم فخفف عنه وأتمم شفاؤه يا ذا الجلال والأكرام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينال المرء دومًا حصاد ما يجنيه، سواء كان خيرًا أم شَر، ورب العالمين ليس بظالم للعبيد، لكل منا يوم يجد فيه بذور ما ذرعه.
(لا بقا أنت ناوي على موتك الليلة دي!)
صرخ بها شابٌ نحيل البدن، بائن الطول، وسط زنزانة السجن على وجنتيه تكمُّن ندوبٌ عميقة وخدوش توحي إلى أنه (بلطجي) يبحث عن المتاعب ويتوغل فيها غير عابىءٍ بنفسه، التي لم تعد إلا حبيسة بين قبضان من الحديد، وجدران ميتة، فآثر الشغب عله يجد فيها ما يجعله يشعر إنه لا يزل حيًا والفرق بينه وبين الميت هو نفسٌ يتردد في صدره الذي يضيق به.
وتراجع هشام البسيوني مرتعشًا، مرتجفًا، واجف القلب، وبفمٍ ينتفض ردد في ذعر:
_موتي، أنت عايز تموتني يا فرج؟!
وصرخ بصوتٍ مرتفع وهو يهرول تجاه باب الزنزانة الحديدي ويدُق عليه بقبضتيه:
_يا شاويش أنتوا ياللي هنا حد يلحقني.
تناهى إليه ضحكة فرج الهادئة، فأستدار إليه ودب الرعب في قلبه وهو يجده يقترب منه، والتصق بالباب وهو يحدق فيه في ارتياع، بينما الآخر يجذبه من ملابسه، زاجرًا:
_بقولك إيه بلا مخرج بلا يحزنوه، أنت هنا واحد ملهوش لا أصل ولا فصل زيك زينا فـ يلا يا حبيبي هات الأتاوة اللي عليك وإلا تبات على الأرض انهاردة.
ودفعه بقسوة على الأرض، فسقط هشام على وجهه، ورفع رأسه إلى الشاب وقد شحب وجهه، وقال في ضعف:
_أنا معيش اتاوة، بس، بس عندي أكل أكل يلا جاي خده.. خده كله.
ارتسمت على وجه الشاب بسمة شرسة ماكرة، وهو يلتقط حقيبة الطعام ويجلس على طرف الفراش، فوق رأس هشام، وفض الطعام وأخذ يأكل، وهو يقول:
_طيب، من انهاردة كل لبسي أنت اللي هتغسله، والسرير تنضفه كل يوم لأ كل يوم إيه؟! كل ما اقعد عليه واقوم.
وصمت مبتلعًا ما بفمه، ووضع قطعة أخرى من لحم الدجاج راح يلكها في تلذذ، ويقول:
_اممم، إلا صحيح يا هشام أنت على كده عندك فلوس كتير؟!
أجابه هشام وهو يقوم من سقوطه، ويقلب كفيه:
_متعدش. معايا كتير ومستعد اديك اللي أنت عايزه.
تبسم الشاب وهو يقف قبالته وقد ترك الطعام من يده، وقال وهو يطوق كتفه ويسير به داخل الزنزانة:
_كده تبقى حبيبي يا أبو الهشاشيم.
ردد هشام في ازدراء:
_أبو الهشاشيم؟!
ضرب الشاب على كتفه مقهقهًا، وقال:
_بدلعك يا جدع إيه مدلعكش دا إحنا هنبقى حبايب.
ودفعه من قفاه نحو فراشه، وهو يقول:
_يلا بقا يا حبيبي نضف ليّ السرير عايز أريح جددتي حبتين.
ودار هشام رأسه الساقط على الفراش إلى الشاب الذي أطلت من عينيه شبح الشقى..
وأيام العذاب..
وما جناه..
والثائر على كل جرائمه..
وما اقترفه يمينه..
وعن ظلمه وتجبره..
الأيام دارت وباتت عليه وليست له..
كان يتجبر ويظلم ويقسو كيفما يشاء وها هو ذا يُسقى مما اقترف.
يظنُّ الظالم إن في إمهاله نجاة وقد نسى إن الله عدلٌ يحبُ العدل، فيتناسى إن الله مطلع عليه ويغمض عينا القلب ويتجبر كما يحلو له، ويكون في امهاله تدبر وحكمة عظيمة من الله عز وجل فإن الله يمهل ولا يهمل.
🌺ربي اغفر ليّ 🌺
طوبي لمن تمر عليه سعادة القلب، ويخطف من السماءِ نجمة تظل تضيء عتمت الفؤاد، وينسى من خلالها كل مُر خامر الأعماق، ويا حسرتاه على من بقى حبيس الذكرى فيتعذب بنارٍ لا تنطفيء.
غمرتها الفرحة دون أن تشوبها أيُّ شائبة، فنست كل لحظة حزن زارت أعماقها، نست..
من هي..
ومن كانت تكون..
كأنما وُلدت من جديد، بعمرٍ جديد، وروحٍ جديدة، مع من أحبته فصار منها كما الوتين، أو مهجة القلب، كأنها فراشة ذات عمرٍ قصير أختزنت لذاتها فرحة وأكتفت بما جنت.
كانت تقف إسراء أمام المرآة في حجرتها، تتمايل بفستانٍ أبيض اللون ذا حزام ذهبي عند الخصر، وخمار بلون الزهر، وتتمتم في توتر:
_يا ندى، حاسة إن في حاجة غلط.
فشوحت ندى بكفها في ضجر، وهي تقول:
_ما بس بقا يا بنتي إيه الغلط والله قمر، حطي بقا مكياج.
فـ استدارت إسراء في حِدة، هاتفة في حَنَق واستنكار:
_مكياج؟! مكياج إيه اللي احطه لأ طبعًا هكون على طبيعتي انهارده.
فزفرت ندى بعصبية، قائلة:
_اللي أنتِ عايزه بقا اعمليه.. هخرج أشوف كل حاجة برا تمام ولا في حاجة ناقصة.
أجابتها إسراء بإماءة من رأسها، فخرجت ندى مغلقة الباب وراءها، ورُسمت بسمة عذبة على ثغر إسراء، وهي تجلس أمام المرآة في شرود في جل ما مرت به، ومر أمام عينيها يوم جلسة النطق بالحكم، وأغروقت عينيها بالدموع من تلك الذكرى الأليمة، واسترجعت عندما حاول والدها قتل هشام البسيوني ولقد كان يفلح لولا وجود بلال الذي لحق به في اللحظة الأخيرة وقبض على يده الممسكة بالسلاح وأعاده في غمده وسحبه بعيدًا..
يا الله كم تحبه؟!
بلال ليس مجرد اسم او شخص في حياتها..
أنه نور انبثق فجأة في ليلة من ليالي الدادي فـ أضاء سماء قلبها بنور الأيمان..
نعم، نوره لم يكن مجرد نور، لقد جاء بنور الإيمان الذي أعاد تشكيل حياتها من جديد..
ليتها تستطيع إعادة قطار الحياة، فتنزل في كل محطة مرة أخرى وتطمس كل حياتها بممحاة تزيل كل أثر أصبح عالق كالحنظل في كل خطوة تخطوها في الطريق إلى الله، هي لست ملاك ولن تكون لكنها ستجاهد كي تفقه في الدين، حتى تكون من الصالحات، القانتات، ورغم إنها لا تزل لا تعي شيئًا في امور دينها إلا إنها ألتزمت بأحكام الخِطبة، فلم تحادثه، ولم تجلس معه بمفردها، وها هي الآن ستُقرن له، سيُعقد قرائنهما وستنتمي إليه، يا لهف قلبها
ما أجمل أن ينال المرء ما يتمنى
ما كان يبغيه
ويرجوه
خرجت من غرفتها عندما أخبرتها ندى إن المأذون قد أتىٰ، خفق قلبها، وتراقص بين ضلوعها في سعادة ولهفة ما أن وقعت عينيها على بلال، وجلست بجانب والدها في حياء، بعدما رحبت بوالدته وقبلت رأسها، لم يلبث خجلها أن تلاشى والمأذون يعلنهما زوجٌ وزوجة، واستقبلت وابل التهاني بسرورٍ ظهر جليًا على ملامحها، وشعت بها عينيها المتوهجتين.
انفض عنها المهنئيين، ورأت بلال يقترب منها في رصانة، فزين ثغرها ببسمة خجلة، وأسبلت الأجفان، وخفق قلبها في عنفٍ حتى أحست إنه سيغادر قفصها الصدري ويترك مكانه ليس خاليًا، بل مليئًا بحب ذاك الذي وقف قبالتها مادًا كفه بمصافحه ودودة، ولسانه يهمس في خفوت:
_مُبارك.
فتصافحا..
وكانت أول لمسة في الحلال..
وأول عناق للأصابع..
وأول ضمة للعينين..
وأول خفقة تمتزج بالراحة بقرب المحبوب..
تعلق بصر كل منهما بالأخر فصمت، ولا تزل راحته تضم كفها الرقيق في حنان، وتسللت أصابعه تتحسس أناملها في حنوٍ.
(لا، لا متسرحوش كده عشان مش هسيبكم تتهنو لوحدكم في يوم زي ده.)
قالت هذه العبارة أميرة، وهي تضم كلا منهما بذراعيها ضاحكة، فنفض بلال ذراعها عنه وهو يقول في حنق:
_إوعي يا بت كده.
فعبست أميرة وهي تلتفت إلى إسراء مغمغمة في حزنٍ مصتنع:
_أنتِ هتسيبيه يقولي بنت كده عادي؟! هو أنا مليش اسم؟.
ضحكت إسراء في رقة وعذوبة، بينما بلال يقول:
_مضايقة إني بقولك يا بت؟! ليه شايفة نفسك واد ولا حاجة؟!
زمَّت أميرة شفتيها وهي تلكزه بمرفقها وقد جهمت المحيا، وحوَّلت بصرها إلى سهير، صائحة:
_عاجبك كده؟! هسكت بس عشان انهارده كتب كتابه والمسامح كريم.
فغمغم بلال:
_على أساس البنت كريمة أوي يعني.
ورمق إسراء بنظرة سريعة وهو يضيف:
_أنا هاخد إسراء ونخرج؛ فيلا عشان أوصلكم.
ولكن ومع إصرار محمد الشهاوي على البقاء حتى تناول العشاء أُذعن بلال وترك أفراد عائلته ليوصلها سعيد، واستأذن ليأخذ إسراء ويخرجا، ووافق أبيها دون أدنى اعتراض.
(ها حابة تروحي فين؟)
تساءل بلال وهو يقود السيارة، فدارت إسراء رأسها إليه قائلة دون تفكير:
_على الكورنيش!
قطب بلال حاجبيه وسألها متعجبًا في استنكار:
_الكورنيش؟
فـ أومأت إسراء برأسها، وقالت متبسمة في رقة:
_آه عايزة أروح هناك.
وأتبعت تقول في حياء وهي مطرقة الرأس:
_من يوم ما عرفتك ونفسي أوي أروح معاك هناك.
تبسَّم بلال ولم ينبس ببنتِ شَفة، وغشاهما الصمت طول الطريق، حتى أوقف سيارته في المكان المنشود، وترجل في هدوء ودار حولها فاتحًا الباب لـ إسراء التي غادرتها بدورها في توتر ملحوظ، وسارت بجانبه في صمت، لم يكن أيًا منهما يدرِ ما يقول!
وإن قال، فكيف يبدأ؟
ورافقهما الصمت طول المسير بمحازة سور (النهر) إلا من تحركات بلال حولها فإذ مر شاب من جوارها لف حولها ليسير من جهته، أو احاطها بذراعه وهذه الحركات البسيطة كانت كفيلة بجعلها تغرد كعصور تحرر من قفصه..
بجعلها تشعر إنه تميمة تحاوط أحبتها..
أو كوكبًا يدور حول أفلاكه..
وصلت إلى انفها رائحة الذرة المشوية، فألتفتت إليه، قائلة:
_بلال، عايزة أكل ذرة.
رفع بلال إحدى حاجبيه مندهشًا، وردد:
_ذرة! بس كده؟
اومات في صمت، فذهب ليبتاع لهما كوزين من الذرة ويعود إليها، جالسًا على حافة السور، بينما ظلت هي واقفة، وشردت ببصرها وفكرها على صفحة المياه الراكدة، وألتمعت الدموع بغتة في عينيها، وقالت بنبرة كأنما تخرج من أعماق تائهة دفينة:
_تعرف يا بلال...
نظر إليها بلال في انتباه وهو يأخذ قضمة من حبيبات الذرة ويلوكها في فمه مضيقًا عينيه في تساؤل، فـ أردفت في هدوء وهي تقلب كوز الذرة دون وعي:
_دلوقتي بس حسيت إني عايشة فعلاً، صدقني الفلوس الكتير والعُرى دا مكنش ولا حاجة قصاد سعادتي دلوقتي وراحتي..
قاطعها بلال قائلًا في إنفعال:
_مش عاوز اسمع اي حاجة عن حياتك اللي فاتت كله ماضي وتنسى فبلاش تتكلمي فـ اللي فات أحسن.
هزت إسراء رأسها وتقابلت عيناها الدامعتين بعيناه وهي تهمس في صوتٍ شبه باكٍ:
_الماضي عشان يتنسى لازم ذكريات تمحيه، وعشان اعمل ذكريات جديدة لازم اتكلم، لازم اطلع اللي جوايا.
أشاح بلال بصره عنها، وأصغ سمعه، وهي تضيف:
_الكل بيحسدني على كل اللي كنت فيه من مال وشهرة ونجومية، مفكريني كنت عايشة فعلاً..
صمتت تهز رأسها بضعفٍ وهي تستأنف:
_أنا فعلاً كنت عايشاها عارف شعور إن تكون نجم كاميرات حواليك في كل مكان، الناس متحلمش إنها تشوفك إلا في التلفزيون، الكل محتاج موعد ومعجزة عشان يقابلك؟! دا شعور بيخلي الإنسان بيحس بالكِبر والزهو.
ولت ظهرها للبحر واسندت ظهرها على السور، وهي تدفن وجهها بين كفيها متابعة:
_إنك بتلبس أغلى لبس وأحسن لبس وافضل خامات وأسوء أقمشة وكله عادي اللبس المكشوف عادي، الشعر المكشوف عادي، خروجات إلى أغلى وافخم الأمكان، سفر لأي حتة عادي ما هي فلوس، كله كان بيحسدني على ده، بيقولوا يا بختها عايشة حياتها ومعاها فلوس كتير تقدر تعمل اللي هي عايزه، كله بيحسدني إني بضحك ومبسوطة مفكرين من قلبي بس لأ..
شهقت فجأة لكنها لم تسكت، بل أكملت في حرقة:
_لو يعرفوا شعور الراحة والسعادة اللي أنا حاسهم دلوقتي مكنش حد حسدني على اللي عشته زمان، لو يعرفوا معنى لذة السجود كانوا حسدوني عليها، لو يعرفوا معنى الحب الحقيقي مكنش حد أهتم بجمع الفلوس وفضل طمعه عاميه، أنا معاك عرفت يعني إيه حياة؟! يعني إيه أمان وحب واحتواء؟! يعني إيه حد يخاف عليَّ ويقولي ده صح وده غلط حد يوعيني..
كتمت شهقاتها وكلماتها عندما وجدت قبضته الحانية تجذبها من ذراعيها ويضمها إلى صدره في حنان، ثم أبعدها ملثمًا جبهتها بعاطفة، وضم وجهها بين راحتيه، وهو يهمس:
_أنسي إسراء الممثلة، أنتِ دلوقتي واحدة تانية، إسراء اللي زيها زي اي حد من حقها تحب وتتحب من غير ما حد يكون مراقب خطوتها، من غير ما تصحى كل يوم وتلاقي الجرايد والصحف والمجلاّت بتكتب عنها، أنتِ دلوقتي مراتي وبس.
لم تكن واعية لما يقوله كانت مذهولة من قربه، وبينما هي مطرقة الرأس، قالت وهي تسبل جفنيها وتضم كفيه براحتيها:
_أنا خلاص نسيتها ومش هفتكرها تاني، هفتكر بس إني إسراء مرات بلال أنا.. أنا معاك بتعامل بتلقائية غريبة لدرجة اوقات ببقى مستغربة نفسي ممكن عشان بحبك.
تبسَّم بلال من تصريحها، ثم راعه إنها ابتعدت في عنف، تفرَّ منه باحثةً بعينيها عن شيء لم يعرف كنهة لثوانٍ حتى قالت:
_هي الدرة بتاعتي فين؟!
فتعالت ضحكاته في مرحٍ، وهو يناوله لها، قائلًا:
_اهو محدش خده، لما تحبي تهربي مني مرة تانية أبقي دوري على حاجة تقنع..
وضحك مجددًا بضحكاتٍ امتزجت بضحكاتها الخجلة، خيم عليهما الصمت مليًا، بددته إسراء وهي تقول في تذكر عابس:
_بلال، أنت ليه كنت بتقول عليَّ إني بلوة..
وتذكرت يوم إن قال لها (لإنك بلاء مش بيسيب صاحبه) فرددتها على مسامعه وهي تغمغم في حَنَق:
_أنا بلاء بالنسبة لك يا بلال؟!
أستدار لها بلال برأسه فلانت ملامحها العابسة مع نظراته الثاقبة المتمعنة، وقال وهو يلتقط كفيها في راحتيه بحنوٍ:
_إن كان لكل ابتلاء عوض زيك فيا مرحبًا بكل الابتلاءات.
🌺أستغفر الله العظيم وأتوب إليه 🌺
استندت عايدة على يد أميرة وهي تغادر بيت الشهاوي، ولحقت بهمن سهير وهي تبحث عن عماد الذي لم تجد له أثرًا في أيُّ مكان، وشيعهما محمد وندى إلى أسفل البناية، تلفتت سهير حولها في المكان حتى لمحته يقف مع مدحت قريب إسراء ورب عمل زوجها، فتقدمت منهما وقبل أن تصل تناهى لها قول مدحت في حِدة غاضبة:
_دا آخِر كلام عندي يا عماد، فلوسي اللي سرقتها ترجع ليّ والنهاردة قبل بكرة واحمد ربنا إني مبلغتش عنك، ولا فضحتك قدام اهل مراتك احترامًا لـ إسراء بس واهل بلال اللي مشفناش منهم إلا كل خير ... كان ممكن اديلك اللي أنت عايزه واكتر..
وصرخ وهو يتميز غضبًا:
_لكن تسرق فلوسي اللي أمانتك عليها لأ، أنا ممكن أسامح في أي حاجة إلا السرقة، وبعدين دا انا مكبرك ومخليك دراعي اليمين وعليتك وسط العمال وخليت ليك كلمة وأديتك راتب يفوق راتبك الحقيقي وفي الاخر ده جزاتي؟!
شحب وجه عماد، وظل متسمرًا لا يقو حتى على التفوه بحرفٍ واحد، وشهقت سهير وهي تكتم فمها، وهمست لنفسها بصدمة، وقد سال دمعها على وجهها في غزارة:
_سرقة؟! كان بيسرق كان بيأكلني من فلوس حرام؟! كلتِ من فلوس حرام يا سهير، دا انتِ اخوكِ كان بيشتغل ويقد ويشقى ليل نهار عشان يأكلك لقمة حلال في الآخر تدوقي مال حرام.
وادركت خطأها
كان يجب أن تستمع لرفض اخيها..
ليتها لم توافق على تلك الزيجة..
ليتها لم تعود له...
هذا جزاء تشبثها بمن لا يستحق..
ولم تصدق إنها تناولت طعامٌ من مالٍ مسروق، وإن امعاءها تتلظى على نار الندم والحسرة، ليتها تستطيع تقيؤ كل ما دخل في جوفها.
أحست بالدنيا تميدُ بها، وإن ظلامٌ حالك قد أكتنفها من رأسها حتى أخمص قدميها، وإن الحياة بكل اتساعها لم تعد تسع لها، ولا تريدها، كأنما نبذتها، هذا هو قرارها قرار الخوف من الناس، قرار كلمة عنوسة، قرار اودى بحياتها إلى الجحيم.. جحيم عماد.. جحيم الزل، والمال الحرام.
ما أقسى أن يبكي قلب المرء، فهو بكاء لا يُرى ولا يمحى كبكاء العينين..
ما اسوء أن يندم المرء على عمرٍ أنقضى وهو لا يزل صريع القرار، هاويًا من جرفٍ هار فانهار به في مكب الآلام.
ليت الندوب تندمل..
ليتها تُطمس ولا يكن لها أثرًا كالثقب الفارغ في سويداء الفؤاد.
عادت إلى منزلها وقد سقط في يدها، شاردة الفكر والبصر كتمثال يحركه أحد كيفما يشاء، وبلغها نحنحت عماد التي بدت لها كبركانٍ مخيف عجزت عن النجاة منه، فطالها ناره، ثم سمعته يقول بصوته البغيض المتهدج:
_أ.. اومال مالك يا سهير حاسك مش فرحانة، فيكِ إيه؟!
فأستدارت له وعلى ثغرها شبح بسمة متهكمة، وقالت في سخرية:
_فيَّ إيه؟! أنت بتسأل!؟ أنا إزاي كنت غبية كده ورضيت اعيش مع واحد زيك..
بتر عماد حديثها عندما قبض على مرفقها في قسوة وهم أن تنفرجا شفتيه عن عبارةٍ ما، لكنها لم تتح له الفرصة، وهي تُفلت ذراعها منه متقهقرة للخلف، وهتفت في ثورة من الغضب:
_إياك إياك تتكلم أو تفتح بقك مبقتش أطيق سماع صوتك خالص، بقيت بكرهك وبكره صوتك وبكره اليوم اللي وافقت فيه عليك.
ربتت على قلبها كأنها تواسي نفسها، تطبطب عليه كي يقف عن البكاء، أن تزول عنه الحسرة، وتابعت في مرارة:
_كانت غلطتي أنا اللي وقفت في وش اخويا وأصريت على واحد زيك، انا استاهل أنا اللي وحشة وفكرته مش عايز يفرح بيا طلع كان اكتر واحد خايف عليَّ حتى اكتر من نفسي.
اقترب عماد منها مذهولًا، لكنها أوقفته بإشارة من كفها، وصرخت:
_متقربش، متقربـــــــــــش، بتسرق بتاكلني حرام طيب أنت رديت على نفسك تاكل حرام ومخوفتش من ربنا أنا ذنبي إيه؟! ذنب ابنك اللي في بطني إيه!؟ أنت بتحط راسك على المخدة وتنام هادي البال إزاي؟! طب ضميرك إيه مبيعذبكش؟! معندكش قلب؟! طيب أنت اكيد كنت خايف حد يشوفك ويعرف كنت خايف صح..
صمتت مسبلة جفنيها فسكبت عينيها دموعًا كالأنهار الجارية، وهزت رأسها وهي تجيب نفسها في مرارة:
_اكيد كنت خايف...
وراحت تعد على أصابعها في عصبية مفرطة:
_كنت خايف من صاحب الشغل، خايف حد من الشغاليين معاك يعرفوا، خايف من كلام الناس أنت مكسوف لناس تعرف؟! طيب مش مكسوف من ربنا؟! استخبيت وداريت سرقتك عن الناس كلها طب وربنا خبيت عليه إزاي؟! وهو شايفك وعارف أنت بتعمل إيه دا بصير يا شيخ مخوفتش من الحساب؟! مخوفتش النار.
تائه، ضائع، ذائغ العينين، شاحب الوجه هكذا كان عماد وهو يقف أمامها ممتقع الوجه، وانفجارها كان عظيم الأثر في نفسه، فراح يصرخ وهو يسد أذنيه:
_اسكتـــــــــــــــي اسكتي متتكلميش.
ثم دفعها دون وعي بذراعيه في الحائط، فسقطت سهير أسفل قدميه كجثة ميتة، ورأى بقعة من الدم تتشكل أسفلها، فردد باسمها في همس خافت وهو يتراجع نحو باب الشقة مصعوقًا، مصدومًا، ثم ولى مسرعًا وغادر الشقة ركضًا، تاركًا إياها.