رواية انسحاب
الفصل السادس والعشرون 26
بقلم حكاوي مسائية
كانت تنزل السلم فتوجهت إليها عيون الجالسين على مائدة الفطور
-السلام عليكم ،صباح الخير جدي ،صباح الخير عمي صباح الخير يوسف.
كانت كلما وصلت الى أحدهم قبلت رأسه مع تحية الصباح التي ردوها لها بكل حب.
-يوسف ،قررت أن أسافر.
عم الصمت دقائق قبل أن يقطعه الجد
-هل فكرت جيدا؟ ألن تندمي؟
-نعم يا جدي ،فكرت ،لن أندم .
-حسن سأذهب قبلك الى الشركة ،أعد لك ماستحتاجينه واحجز لك لتسافري غدا صباحا.
-انتظر سأذهب معك.
-لا ،ابقي انا أريدك.
قال العم ،بينما وقف الجد .
-خذني معك يا يوسف ،أرى الشركة ،ونمر أولا لنعود مراد .
اعترتها الدهشة ،لماذا يريد الجد أن يعود مراد ،فهم ما يجول برأسها الصغيرة
-أما وقد عرفته وعرفت انه مريض فعيادته واجبة .
هزت رأسها آليا دون تفكير .
-هل تحبين الشاي ام القهوة؟
-افضل القهوة ،منذ أيام الجامعة .
-اعدي لنا فنجانين وتعالي الى الحديقة ،هواء الصباح جميل،الى اللقاء أخي، الى اللقاء يوسف.
اخذ رشفة من فنجانه
-مممم ،انت فعلا تحبين القهوة ،لأنها من يدك غاية(غاية ،تعبير مغربي يعني هائلة او جميل جدا )
-بالصحة عمي.
شردت كأنها تكلم نفسها
-هي الشيء الوحيد الذي كان يحبه من يدي.
-وكيف عرفت انها الشيء الوحيد الذي كان يحبه من يدك؟
-لم يطلب مني غير القهوة .
ضحك ملء فيه.
-هههههه،ألم تطبخي له يوما؟
-بلى ،وبعد مرضه أول مرة لم يأكل إلا في البيت، وجباته الثلاث في البيت ، يأكل وجبة العشاء قبل أن يخرج ليسهر مع أصدقاءه او مع لينا.
-من تكون لينا هذه؟
-ممثلة ،متحررة شيئا ما ،كانت تصاحبه.
احمرت خجلا وهي تقول جملتها الأخيرة .
-اصدقيني القول ،هل بات يوما خارج بيته؟
-أبدا، يعود متأخرا ،ولكنه لا ينام خارج البيت.
-هل تحبينه؟
-أحببته، غير أنني الآن اكرهه.
-ههههههه،قلبت العملة على سطح الطاولة ،الوجه الظاهر هو الكراهية ،ولكن الحب كامن تحتها،صدقيني.
-غير صحيح،انا فعلا أكرهه.
-حين تكفين عن حبه ستكفين عن كراهيته،سيصبح كأنه لم يكن ،غريب ولو قابلته كل يوم لن تحسي شيئا اتجاهه ،ولكنني متأكد ان هذا القلب الصغير ماتزال نبضاته تتسارع لرؤيته ،وكرامتك وجرحك يذكرانك أنه لا يستحق ،ولهذا تكرهينه.
-كدت أنسى لولا عودتي الى المغرب.
-الأفضل أن تنسيه وانت قربه ،نسيان البعد ستارة تغطي الماضي ،ما إن تري منه مكانا مألوفا او وجها قريبا ستتذكرين ،نسيان القرب ذكريات جديدة تصنعينها بنفس الأماكن ،مع نفس الأشخاص ،تغطي الماضي بمره وعذابه.
عندما تجتمعين معه في نفس المكان ،وتكلمينه ولا تحسين برعشة بيدك ولا خفقان بقلبك تأكدي انك شفيت من حبه.
-كيف وانا لم أشف من بشاعة ما مررت به معه؟
-حاجتان بهما الشفاء ،البعد وطول الزمن ،او الغفران.
-لا أستطيع يا عمي ،حاولت أن اغفر ولم استطع.
-اول البعد عذاب ،خصوصا وقد فتح الجرح من جديد ،ستذعبين قلبك الصغير قبل أن تبرد نارك ،لن تنسي فقط ستقع الستارة مع الزمن .
-ماكان علي أن أضعف واكلمه ،ماكان علي أن أسمع وسام.
-ألم تتساءلي لماذا أنا من يكلمك وليس يوسف او جدك؟ لأنني مثلك ،اكتفويت بنار الهوى ،أي نعم هي بين يدي ربها الآن ،ولكنني رأيت منها صنوف العذاب ،قبل أن تبادلني حبا بحب ،هل نسيتها ؟ أبدا ،توهمت يوما أنني كرهتها ،ولكن القرب مرة أخرى علمني أن من يحب لا يكره ،وأن الأرواح تتآلف ،رغم تمردها ،رغم قسوتها إلا أنها احبتني،وفي ذات صبيحة غلبها قلبها فجاءت إلي ،لأن روحها لم ترتح إلا بحضني.
-أنت يا عمي؟
-هههههه،هل أخبروك عني أنني من جماد ،أنا يا ابنتي،أنا احببت مثل كل الناس ،وقبل أيام كنت أقول لجدك أن عرقنا عاشق بطبعه ،حبيب لحبيب واحد ،مهما فعل فينا نبقى على حبه.وانت منا ،شبيهة بنا ،وذات يوم سأحكي لك حكايتي مع زوجتي يرحمها الله.
-هل تزوجتها؟
-بعد طول عذاب ،نعم ،وهي جدة يوسف وحنة طه وزكريا والبنتين.
-فكيف قسوتم على أبي وانتم اهل عشق وهوى.
-بسبب الحب،حبي لابنتي احزنني ،كنت متأكدا من حبها له ،وغضبت لأنه لم يبادلها الحب ،وأخي حزن لحزني ،وندم أن أجبره أن يتزوجها ،أحب أن يعاقبه لعل مشاعره تتغير ،ولكن الحب ليس بالأمر والقلوب ليس
عليها سلطان .
-يعني أن جدي كان يجاملك بقسوته على أبي.
-نعم ،ولما تزوجت ام يوسف ،احتوى عمر حزنها ،جعلها تحبه ،ربما ليس كحبها الأول ،ولكنها سعيدة معه ،ضمد الجرح فالتأم مع الايام والعشرة .
دعينا من الماضي،جدك عرف مرارة الندم ،ومازالت يتجرعها منذ وفاة أبيك ،يتمنى لو انه ضمه إليه هو وامك ،ويخشى عليك أن تحسي مثله مرارة الندم بعد فوات الأوان.
-انا فعلا ندمت ،ندمت أن صبرت عليه ثلاث سنوات .
-لو مات ستندمين العمر كله
-يموت؟ وما الذي سيميته؟
-المرض ،هو نفس مرض أبيك يرحمه الله ،سرطان الجهاز الهضمي صعب ،ويتفشى بسرعة،الأعمار بيد الله ،ولكن إن مات ولم تعطيه فرصة ،كيف ستشعرين؟
-لم يقل وسام هذا ،قال ساعديني ليقبل الجراحة وقد فعلت،وبعدها حصص من العلاج الكيماوي ويصبح بخير.
-ومتى قال الطبيب أن الحالة ميؤوس منها ؟ ليس قبل أيام من الوفاة ،الطبيب محارب،لا يستسلم وينقل أمله في الشفاء لمريضه ولمن حوله ،ولكننا لا نيأس من رحمة الله.
صامتة ،لا تعرف بم تفكر ولا ماذا ستقول
-حالته النفسية لها عامل في شفاءه،ولهذا ارادك الدكتور أن تساعديه،حكى ليوسف أنه ذاق العذاب في بعدك ،اعترف بحبه لك و...
-كاذب ،وهل اعجزه البحث عني ؟
-لم يبحث ،لأن اختفاء زوج خالتك جعله يظن أنه باعك لثري آخر.
-عذر أقبح من ذنب.
-وماذا كان سيفعل لو كان فعلا زوجك لرجل آخر ؟ رضي بأن بعدك عقاب على مافعله بك.
انسكبت دموعها.
-بشع وقاسي ما فعله بي يا عمي .
-لا تطرديه من بالك ،ولا تحاولي نسيانه ،جابهي وقومي ألم الذكرى ،حتى لا يتضخم حجمها وتكتم نفَس الحياة بقلبك.ذكري نفسك انك تغلبت على قسوته وخرجت من بين براثنه قوية ،وأنه هو من خرج ضعيفا لأنه بخنجر قسوته عليك طعن قلبه.
-هل سأقدر ؟
-صعب ولكنه ممكن،وانت قوية ،لن تدمر عزيمتَك ذكرى سيئة.
-كيف؟ دلني عمي
ابتسم واحاط كتفيها بذراعه يضمها إليه.
-اغفري ،سامحيه، وانظري الى ضعفه ،كوني احسن منه .إن أحببته يوما ارحميه من عذاب المرض في البعد .
-تدافع عنه يا عمي!!!
-بل أحميك من نفسك ،من لوم قلبك ،من عذاب ضميرك.
وقف ومد إليها يده
-تعالي لنزوره معا ،احب أن أرى هذا الذي احبته ابنتي ،ولان له قلب أخي.
دخل إليها المكتب بعد أن سمحت له.
-تفضل سيد مجدي.
-اهلا أستاذة، كيف حال جاد ؟
-بخير شكرا .
-هل فكرت في عرضي؟
-اسمعني سيد مجدي ،جاد ابني هو كل حياتي ،سنه الحرجة تفرض علي أن افكر في مصلحته قبل أي شيء.
-إنه مجرد طفل ،لن يؤثر عليه شيء.
ابتسمت
-بالعكس ،شخصيته تتكون الآن،فكيف أقدم له رجلا آخر يعيش معه ليذهب إلى ابيه نهاية الأسبوع.
طبعا ستريد اولادا من صلبك ،أين سيكون ولدي أنا حينئذ. والدك ووالدتك كيف سينظران إليه وكيف سيعاملانه.
أسئلة كثيرة ،أجوبتها ليس كلاما او وعودا ،اجوبتها أفعال، أفعال ستؤثر على جاد ،وانا لن أغامر به وبنفسيته لأتزوج.
-أهذا ظنك بي؟ أنني قد أسيء إليه!
-ليس انت،كلنا ،انا وانت وابوه ،وأشخاص سيدخلون حياته،لست أجزم أنه سيتأثر سلبا، قد يصبح أكثر سعادة ولكنه لن يكون متوازنا، سيبقى بداخله نقصان يكبر معه ،وسؤال يلازمه:لماذا هو ليس كباقي أصحابه؟ لماذا لأبيه أسرة ولأمه أسرة وهو كالكرة بينهما؟
حركت رأسها الى الجانبين
-اعتذر سيد مجدي،لست انت السبب ،ولكنني افضل جاد ،أفضل ابني.
كانت أمه قد كلمته ليذهب إليها ،اراد أن يأخذ موافقة أمنية قبل أن يواجهها،ركن السيارة قرب الباب ودخل إليها، كانت كأنها على الجمر متأهبة لتنفجر بوجهه
-مطلقة يا مجدي ؟ مطلقة ولها ولد؟ ضاقت بك الدنيا ولم تجد غيرها؟
تهالك على الاريكة أمامها ،وضع وجهه بكفيه يحجب دموعا تغالبه
-اجبني مجدي!والله لو ...
رفع إليها عينين بحمرة الدم ولمعة الدمع.
-لا تقسمي أمي ،لا تقسمي ،انتهى الموضوع.
قام متوجها إلى الباب.
-مجدي ،توقف وكلمني.
-لاشيء لاتكلم عنه ،أنا ذاهب لأزور مراد بالمستشفى.
جلست تقلب كلامه بعقلها.
-كيف انتهى الموضوع ولاشيء لاتكلم عنه،وأبوه الذي قضى اليوم يقنعني،ماهذا الجنون؟ ثم مابه حزين تغلبه الدموع ،هل رفضته هي ؟ أيعقل أن ترفضه ،من تكون لترفضه؟ آآه لو اعرف من تكون!!!!
دخل عليه غرفته مبتسما
-كيف انت اليوم يا صاحبي؟
-الحمد لله ،احسن.
يعلم أن وسام مايزال يضيف المسكن للمحلول.
-الحمد لله،أين وسام ؟
-خرج قبل قليل ،كان هنا مع يوسف وجده.
-جاء جده لرؤيتك؟!!
-للمرة الثانية تخيل!
-لعلها بشرى خير.
-يارب! قل لي ماذا فعلت بشأن أمنية؟
-انسحبت، أمنية رفضتني.
-واستسلمت بسهولة !ما عهدتك انهزاميا يا صاحبي .
-لست انهزاميا ،ولكن غريمي أقوى مني ،يتربع على عرش قلبها ،يبهت كل الرجال أمامه.
-هل أخبرتك هي ؟ وهل عرفت من يكون؟
-ابنها ،رفضتني لأجل ابنها.
طرق على الباب جعل مجدي ينتبه للزائر، دخل رجل غريب ،تتبعه كاميليا
-أهلا بك سيدي ،لابد أنك جد مدام كاميليا.
-تقريبا،انا اخوه ،اهلابك.
-انا مجدي صديق مراد ،مرحبا مدام كاميليا
-اهلا سيد مجدي. كيف حالك مراد
يحاول أن يعتدل
-الحمد لله بخير.
-لا تتحرك يا ولدي ابق مستلقيا أفضل لجرحك.
-يوسف وجدي كانا هنا قبل قليل ،هل أخبرك يا كاميليا؟
تعجبت من قوله جدي ،متى أصبح جده؟
-نعم ،أعلم ،عمي رافقني لما عرف أنني سأزورك.
-مرحبا عمي ،سعيد بمعرفتك.
-حسن ،سأذهب انا.
-لا سيد مجدي ،ابق انت ،هيا عمي ،لقد اطمأننا على سيد مراد ،Bon rétablissement monsieur Morad.
-أشكرك.
استولى عليه الحزن ،لماذا لم تمكث أكثر ؟ لماذا تكلمه برسميه؟ ألم تقل انها ستحكي له وتسمع منه؟
-مابك مراد؟ هل تحس ألما ؟
-لا ،هلاَّ تركتني !أفضل أن أبقى وحدي.
احس به ،الجرح هو هو ،بقلبه كما بقلب صاحبه ،الأمل الضائع وخيبة الرجاء.
توجها الى مكتب الدكتور وسام الذي رحب بهما.
-كيف حال مراد بعد العملية.
-الأمل في الشفاء أصبح أكبر ،دكتور الأورام فضل أن يبدأ العلاج الكيماوي بداية الأسبوع المقبل.
-إذن فنسبة شفاءه كبيرة .
-تسعة أشهر ،لن نتنفس قبل تسعة أشهر، الثلاثة الأولى منها ستكون في العلاج الكيماوي وبعده العلاج بالأشعة ،و نرى النتيجة ،لو اختفى السرطان ،نتابع حربنا عليه بأدوية أخرى أقل قوة ،قبل فترة نقاهة طويلة ،مع حمية وراحة.
-لو مرت الاشهر التسعة بسلام؟
-يمكن أن نقول أننا انتصرنا ،وكتب له عمر جديد .
هل تسمحين سيدة كاميليا؟
نظرت إليه متسائلة
-مراد جمع شجاعته وتقدم لك صباحا ،صارح جدك ويوسف .
-لاااا! لن يجرؤ!!!!
-وبم أجابه الحاج؟
-قال أن الأمر بيدها هي .هذا أعطاه املأ اكبر ،خصوصا بعد كلامك معه قبل العملية .
-أنا لم اعده بشيء ،نظرت الى عمها ،أراد أن يتكلم في الماضي ،فقلت له بعد العملية سأسمعك وتسمعني.
-وهذا في عرف العاشقين وعد.
-عمي!!!!
-لا تتوتري كامي،كلميه يا ابنتي .اسمعي منه ،وفاء بوعدك ،ثم قرري.
-مراد تغير ،تغير كثيرا ،بسببك او لأجلك ،لا يهم ،المهم هو أنه تغير ،أؤكد لك أنه منذ تزوجك لم يعرف غيرك ،لم نكن نعرف السبب ،ظننا أن إسرافه في الشرب السبب ،ولكن بعد عودتك زاد شربه للخمر ،وفي ليلة اعترف انه احبك ،وأنه يكره نفسه على مافعله بك ،ساعدناه انا ومجدي ما استطعنا، ثم علمنا أنه عاد الى الله أخيرا. التفاصيل والأسباب وحده يعرفها ،وربما هذا ما يريدك أن تعرفيه.
-وبعد أن نتكلم ،انت قلت أن مدة استشفاءه لن تقل عن تسعة أشهر ،هل سأرهن نفسي بجانبه تسعة أشهر اسمع قصة حياته؟
-مدام كاميليا ،حدة كلامك تبين أنك راغبة عنه،وفي هذه الحالة وجودك لن يفيده ،قد يشعر بنفورك الذي ظهر لي الآن ،وهو لن يقبل قربك منه شفقة ،ولهذا انسي ما قلته لك.
-سنذهب الآن لنودعه، طاب يومك دكتور .
ختم اللقاء وقام ممسكا بيدها لتقوم معه.
-لقد ودعناه يا عمي ،لن نذهب إليه مرة أخرى.
يده على ظهرها تدفعها بالرواق نحو غرفة مراد.
-تعالي معي ،انا اريد ان اودعه لأنني وجدك سنسافر غدا.
قبل أن يدخل سمعاه
-أنا أسامحك يا أمي ،كما أرجو انا المغفرة اغفر لك ،ليتها تغفر لي ليتها تسامحني.
-سأكلمها واترجاها، سأذهب أليها ،انتبه انت لنفسك وصحتك فقط ،كاميليا تحبك ،ومن يحب يسامح.
-قتلت حبي بقلبها يا أمي ،ليتني أطعت قلبي،قلبي الذي أحبها وكل صباح يلومني فأخرسه بالخمر ،ضميري الذي أسكته بكلامك وكلام سارة ولينا.
-سامحني يا ولدي ،والله مهما طلبت سألبيه لها لتعود إليك .
أرادت أن تبتعد ولكن العم أمسك يدها ووضع سبابته على فمه.
-تعلمين يا أمي ،أمنية صديقتها ،رفضت مجدي حبا في ابنها ،تصوري لو كان لي من كاميليا ولد ،مثلها من تعيش لابنها مستغنية به عن الدنيا،هي من أريد أن تكون أما لأولادي أمي .
سحبت يدها من يد عمها وركضت مبتعدة تكتم بكاءها
-الآن تريدني أما لأولادك ؟ أين كان قلبك وانا أرجوك ذليله لتبقي على طفلي ؟ أين كان ضميرك وأنت تفَحُّ في وجهي أنني أحقر من أن أكون أما لأولادك؟
لا يا مراد ،بشاعة جرحك فاقت السماح.
انسحب العم قبل أن يحس به أحد ،آسفا على من ضيع نفسه وغيره.
كان يجلس بمكتبه بعد أن غادر جده ،ينظر إلى الأوراق أمامه لا يرى منها شيئا.
دخلت عليه ،تنظر إليه وهولا يشعر بها .بعد أن تأكدت انه لم يحس بدخولها
-يوسف ،مابك؟
-كاميليا ومراد .
-ماذا بهما؟
-الغبي أدرك متأخرا انها حب حياته،وهي ترفض أن تسامحه.
-لقد أذاها كثيرا يا يوسف ،اعذروها، هو من أحرق الجسور بينه وبينها.
نبنيها من جديد ،او نركب زورق الفرصة الأخيرة .
-هل تريدها أن تسامحه؟
-لأجلها ،لأنها مازالت تحبه،جدي رأى حبه بعينيها هي تعاقب نفسها على صبرها عليه وعلى إذلاله لها.
-وتعاقبه على ما فعله بها .
-ستجرح نفسها فنصل الانتقام ذو حدين.
-أعلم أنها ماتزال تحبه، ولكنني لا أعلم بشأنه، هل يحبها حقا،أم يستغل مرضه لتعود إليه مثل أي شيء كان له ويرفض أن يكون لغيره.
-رأيت حبه لها في غيرته عليها ،لما كان يظن انها زوجتي،رأينا كلنا حبه يوم الحفل بعد أن أعادت عليه اخته كلامها فجاءها لا يهتم أن يسمعه ضيوفه وهو يصرخ أنه مستعد أن يحرق الحضن الذي شاكها، رأيت حبه لها اليوم وهو يطلب يدها من جدي ،لو كان قادرا لنزل على قدميه يقبلهما ليقبله، حتى أشفق عليه جدي.
-انتم لم تعيشوا ما عاشته هي معه،انتم ترنوه العاشق النادم، وهي كلما نظرت إليه ستراه يأخذها غصبا الى الطبيب ليجهضها، ستسمع صوته محتقرا مشمئزا، كيف تريدونها أن تنسى كل هذا؟
غامت عيناها وانسابت دموعها.
اقترب منها يمسك يديها الصغيرتين بين كفيه
-حبيبتي، اهدأي، أعرف أنك عشت معها كل آلامها.
-للأسف لم افعل،لم أكن بجانبها ،منعها أن تخرج،مكالماتنا الهاتفية لم تكن لتواسيها، لم تجد حضنا يريحها ،كانت وحيدة امام جبروته، إلى أن اكتفت فخرجت لألا تعود.
-انت لم تتخلي عنها،كنت لها نعم الصديقة ،ثم ألا يكفيها أنك ضحيت بنفسك لأجلها وقبلت أخاها زوجا.
مازحها ليبعد الحزن عنها
-أنا لا أضحي ،أنا أحبك يوسف.
هتف بسعادة طفل
-صحيح ؟تحبينني؟كيف ؟متى،؟
ضحكت
-صحيح،أحبك ،أما كيف ومتى ،فلا أدري .
هزت كتفيها
-هكذا ،وجدت نفسي أحبك،احب وجودك بحياتي،اشتاق لك ،اسعد لقربك يبدو أنني موعودة بحب هذه الأسرة.
-والأسرة كلها تحبك ،وانا أعشقك ،لن يذهب جدي وعمي قبل أن أعقد عليك ،يجب أن أعقد عليك حتى يمكنني أن احضنك ،أن اضمك الى قلبي الذي يريد أن يخرج إليك الآن.
-متى سيسافر جدي؟
-كان سيفعل غدا ،غير أنه سيبقى ليحضر عقد قراننا.
-إذن دعني أذهب لأخبر ماما ونستعد لغد.وانت اتصل بالمحامي ليأخذ إذن القاضي،ويجهز الأوراق.
ضرب جبينه بكفه.
-نسيت أمر إذن قاضي الأسرة ،والأوراق والكشف الطبي.
-إذن أجّل الى ما بعد غد .حتى نستعد.
أعدت زوجة ابنه مائدة العشاء ونادت عليهم ،جلس على يمينه ابنه وعلى يساره حفيده عامر ،ثم كريم ،بينما جلست كنته جوار زوجها ،حديث مألوف عن عمل اليوم ،والمقرر غدا ،انتهوا لينتقلوا الى الصالون يكملون حديثهم ،تمنت لهم ليلة سعيدة قبل أن تصعد رفقة كريم نحو غرفتها.قام عامر يهم هو أيضا بالتوجه نحو غرفته حين أوقفه جده
-انتظر يا عامر.
مد يده نحو ملف على الطاولة ،اخرج منه عدة أوراق.
-كلمتني أمنية واصرت أن ألغي الوصية التي باسم جاد ،وقد فعلت ،ولكنني تجنبا لأي صراع بينكم بعدي قد كتبت لكل فرد نصيبه ،تفضل هذه مبايعة بنصيبك من الأرض والعقار ،يبقى نصيبك من المال في البنك ،ستأخذه بعد مماتي.
-أطال الله عمرك يا جدي .
التفت الى ابنه يمد له أوراقه
-هذا نصيبك ،وانت حر في توزيعه على ابنيك.
ثم أعاد نظره إلى عامر .
-الأملاك التي كنت تخاف أن تضيع عليك قد ضمنتها وصارت لك ،نصيبك من الأرض محدد وفي جهة واحدة إن أردت أن تستقل به ،شرطي الوحيد أن تنسى رجوع أمنية لك ،ما عادت لك حجة الآن ،فابتعد عنها.
-تظن أنني أريدها من أجل هذا؟!
لم تصدق أنني احببتها،اتهمتني أولا أنني أريدها لأجل جاد ،واليوم تتهمني بالطمع في أرضك ومالك؟!
خذ كل شيء ،لا أريد منك شيئا ولا حتى أمنية .إن كنت لن أستطيع أن أقنعها بحبي لها ،ولا أن أكسب ثقتها وقلبها ،فلا أريدها ،لا أريد شيئا.
ترك الأوراق كما هي على الطاولة ،وخرج من الفيلا يأكله الحزن والغضب.
توجه نحو بيته الذي سكنه مدة زواجه من لطيفة ،دخل غرفتها واستلقى على سريرها ،فتعالى صوته باكيا
-سامحك الله يا أمي ،سامحك الله.
الآن عرف أن أمه بنت بينه وبين أهله سورا عاليا،فكيف يتسلقه ويتجاوزه لينعم بقربهم وثقتهم.
بعد أن صلى الفجر ،أعد حقيبة سفر وتوجه نحو فيلا جده.
كان هو وعمه بالصالون يرتشفون القهوة ،يبدوان كأنهما لم يغدرا مكانهما منذ الأمس ،لولا ملابسهما البيتية ،مازالت الأوراق مكانها على الطاولة.
-بكَّرت اليوم يا عامر ،رقية لم تعد الفطور بعد .
-ما جئت لأفطر عمي.
-تعال اشرب معنا فنجان قهوة قبل أن نذهب إلى أشغالنا.
-جئت اودعكم يا عمي.
-الى اين؟
-لا أعلم ،سأبتعد لعلني أجد نفسي.
يراقبه صامتا،رأى الحزن بعينيه وأثر البكاء عليهما،انحناءة انكسار بكتفيه، أشفق عليه،على ابن فقيده الغالي.
-وهل تذهب هكذا دون تخطيط، ستضيع منك سنوات أخرى هباء
-عمري كله ضاع هباء جدي.
-من قال هذا؟انت مكان أبيك ،ذراعي الذي لا أستغني عنه.
-عامل، عامل مثل أي عامل.
-وهل اعطي لعامل نصف أرضي؟
-لتبعدني عنك ،لأستقل بها وابتعد، سأريحكم وابتعد ،لا أريد أرضا ولا مالا،يكفيني ما ادخرت من أجرتي عن عملي معك ،سأبدأ به حياتي بعيدا عنكم.
سمعته وهي قادمة بصينية الفطور
-كأنك فعلا مسافر ،ماهذه الحقيبة؟
-سأذهب يا أمي ،وجودي هنا لا اراحني ولا أراحكم.
-من قال اننا لسنا مرتاحين لوجودك ،لا تعلم سعادتي بنداءك لي أمي.
سالت دمعة من عينه
-وأنا والله احسها بقلبي ،انت الأم التي طالما تمنيتها، ولكنني أحس كأنني نبات يضر الزرع،يجب أن ابتعد.
-وجاد ،هل تتركه؟
اجهش باكيا وجلس قرب جده يمسك رأسه بيديه.
-ومن غير جاد يحبني انا عامر ؟ انا لا اريد أرضا ولا مالا انا أريدكم انتم ،أريد حبكم ،اريد أن تساعدوني لأعيش حياتي دون أفكار دستها أمي بعقلي ولا احقاد زرعتها بصدري.
عدت إليكم فاتحا صدري ،وماذا ظننتم بي ؟ أنني طامع ،كنت وما عدت ،موت لطيفة ازاح الغشاوة عن عيني،ذكرني أنني سأموت فمن سيبكيني او سيذكرني. عدت إليكم هاربا من وحدتي مختبئا من نفسي مستقويا بكم على مخاوفي وهواجسي، فإذا هي نفس مخاوفكم وهواجسكم.
-عامر يا بني،أنا أجهل ماحدث بغيابي،ولكنني أرجوك أن تفكر،أنا أريدك ابنا ثالثا، أخا لكريم أطمئن عليه معك بعدي.
-اعذريني يا أمي،لا أستطيع ،بعد ما قاله جدي ،الأفضل أن أغادر .
حمل حقيبته وهم أن يخرج حين اوقفه صوت جده
-توقف يا عامر ،لآخر مرة سأقولها لك ،أنا خارج علاقتك بأمنية ،انت حفيدي كما هي حفيدتي،انت أسأت إليها لما وضعتها بين يديك أمانة ،ولهذا قلت لك أبوها وأمها أولى بأمرها ،ما اجتهدت فيه هو قسمة الأملاك تجنبا لأي صراع بينك وبين عمك
-وانا لا أريد شيئا،حتى لو مت بعد عمر طويل ،لا أريد نصيب والدي ،اريد أن أبقى تحت كنف عمي بعدك ،ولو عشت بعده لي نصيب ابنه هو ،وسط أمنية وكريم.
-ولكن هذا ظلم لك.
-ألم تظلمني وانت تحكم علي أن ابتعد عن أمنية ،بأي حق تنكر علي حبي لها ؟ أليس لي قلب كما لكم قلوب؟ دونها لا أريد شيئا ،حتى جاد لا أريده.
أسرع الخطى نحو الباب فاستوقفه عمه
-ابق إذن وحارب لأجل حبك، أم انك جبان؟
-من سأحارب؟ جدي؟
-وما شأن جدك ؟ حارب مخاوفك ومخاوفها، اثبت لها أنك جدير بثقتها،برهن لها على حبك .تخل عن جمودك وخشونة الفلاح فيك لما تكون معها، لن أعلمك انا.
ابتسم الجد خفية .
-هل تسمح لي يا عمي ؟
-إذا كنت أنا من يقول لك ما تفعل.
-وانت يا أمي؟
-سبق وقلت لك ،لو كنت فعلا تحبها فأنا معك.
أسرع نحو جده
-تبقى انت يا جدي،ارجوك وافق يا جدي .
-قلت لك أمرها بيدها
انحنى على يده يقبلها
-أشكرك يا جدي ،لن أخذلك اقسم.
ومد يده الى أوراق المبايعة يمزقها.