رواية انسحاب
الفصل الثلاثون 30
بقلم حكاوي مسائية
صباح اليوم الأحد ،القليل من يستيقظ باكرا ،إلا من اعتاد او أصابه أرق،لأن اليوم عطلة ،(كما يوم الجمعة عند المشارقة ).
تعب ليلة أمس، وسهر الأكثرية حتى صلوا الفجر ،جعل البيت هادئا،حركة بسيطة بالمطبخ ،ورائحة قهوة شهية ،قادت العم نحو مصدرها.
-خبيرة القهوة ،كنت أعلم أنك لن تتأخري في النوم.
-موعد فنجان القهوة الصباحي مقدس.
-لا ترافقه أغاني الصباح؟
-لا ،غيرتها الى سور من القرآن ،منذ بداية أزمتي، الأغاني ترش الملح على الجرح،أما القرآن ،يمنح السكينة والاطمئنان.
-ألا بذكر الله تطمئن القلوب .وفيه شفاء للناس.
-صدق الله العظيم ،هو أعظم شفاء للنفس،ساعدني كثيرا ،واعطاني القوة للاستمرار.
-الحمد لله.
-أشم رائحة قهوة لا أروع منها.
-تعالي ياحنة ،خذي فنجانا معنا.
-هاتي،بدون سكر .
-أعلم،رغم انك تتجنبيه بسبب السكري ،ولكن القهوة بدون سكر أطعم.
-دون اغاني الصباح؟
-هههه،نفس سؤالي لها ،ابدلتها بالأهم والأفيَد ،القرآن الكريم.
وضعت السماعة بأذن جدتها ،وضغطت على زر صغير لينطلق صوت مقرئ يرتل سورة يوسف.
بعد عدد من الآيات ،نزعت الجدة السماعة من اذنها
-افضل أن اسمعه من بعيد ،هذه تؤذي اذني .
-ههههههه ،ولكنها سهلت علينا الاستماع أين ما نكون.
-هل ستزورين زوجك اليوم؟
كلمة زوجك فاجأتها
-أليس زوجك ؟ هل نسيت حفل الأمس؟
ضحك العم .
-رويدك يا زوجة أخي،أفزعت البنت.
-تفزع من ذكر زوجها !أي زواج هذا؟
-لم افزع حنة،ولكنني كما قلت ،نسيت.
-عذر أقبح من ذنب ،كيف تنسين انك تزوجت امس؟ لابد أن صديقتك تكلم يوسف الآن،الأيام الأولى أجمل أيام الزواج،لا تضيعيها عليك.
ضحكة تهكم صغيرة خرجت من حلقها غصبا عنها.
(هل ستكون له ايام غير أيامه الأولى)
هربت الى سؤال جدتها الأول
-نعم سأزوره بعد قليل ،انتظر أن يستيقظ ويراه الطبيب .
-نذهب معا،أصبح منا الآن وعيادته واجبة .
-لكن يا حنة ...
رفعت يدها تسكتها.
-سأذهب ،جهزي نفسك بينما البس جلبابي.
(كنت تنوين استشارتها! هاهي ستذهب معك ،لو كلمتها الآن ستظن انك خشيت أن تعلم منه فأخبرتها ،يا إلهي!)
استيقظ ليجد نفسه في حضن أبيه.
-بابا ،بابا.
-ممممم
-نمت معنا يا بابا؟!
-قل صباح الخير أولا.
-صباح الخير بابا ،نمت معنا؟!
-هههههههه، نعم ،كما ترى ،نمت في حضنك حبيبي.هيا قم ،لقد ضيعت علي صلاة الفجر .
-سأذهب لأكمل نومي مع ماما .
-أمازلت تنام مع ماما وانت رجل ؟!
-لا ،انا انام بغرفتي ،ولا اخاف،ولكنني كل صباح اكمل نومي مع ماما ،لما تستيقظ وتراني تظن أنني قضيت الليل كله معها فلا تخاف .
- وهل ماما تخاف ليلا .
-نعم فهي بنت(يقصد انثى)والبنات تخاف في الليل.
-هيا أذهب قبل أن تفزع امك وهي وحدها.
هرول الصبي ،بينما علت ضحكة أبيه.
-رجل يا ولدي.
دخل عليها الغرفة بهدوء كعادته فادعت النوم كعادتها ،لم تفتها صلاة الفجر ،فقد تعودت السهر ،وتعودت التظاهر بالنوم إرضاء لغرور طفلها ،لأنها تعلم اعتقاده البريء.
بعد أن هدأت أنفاسه وانتظمت، علمت أنه غفا فانسحبت من الفراش بهدوء ،نظرت إليه بحب ورضا قبل أن تخرج لتعد الفطور .
كانت أمها قد سبقتها الى المطبخ ،أعطت الأمر للصالحة بإعداد المسمن(فطير مخبوز بسمن)،وحساء سميد الشعير بالحليب،(وجبة الفطور المغربي الفلاحي ،حساء السميد ، بيض مسلوق ،فطير مدهون بعسل مع الشاي ،وبعده فنجان القهوة )
-صباح الخير ماما ،الله، رائحة المسمن أعادتني الى بيتنا.
-ما عرفت انك تحبين الفطور الثقيل وإلا كنت أعددت لك كل يوم نوعا.
اجابتها الصالحة .
-لالة الحاجة ،كثيرا ما تكتفي بالقهوة وتخرج مسرعة الى مكتبها.
-هاقد عرفت الآن ،أعدي لها فطور كاملا وارغميها على تناوله .
-بعد هكذا وجبة قد اغفو في المكتب.
-وما دور القهوة ؟! ثم إنك تغفلين وجبة الغذاء وانت بين جلسات المحكمة ،أفطري جيدا لتجدي الطاقة طول النهار.
-حاضر ،سأفعل .
-صباح الخير.
-صباح الخير أبي ،جدي ما يزال نائما ؟
-لا ،يعطي تعليماته للرباع لعمل اليوم.
-صباح الخير عمي ،صباح الخير أمي.
قبل رأسيهما قبل أن يقف امام أمنية.
-صباح النور ابنة عمي.
-صباح الخير .اجلس لتفطر .
-وانا ؟!ألم تريني لتطلبي مني الجلوس لأفطر.
-يا عمي معك زوجتك تهتم بفطورك، أم تحسد الأقرع على حواجبه.
-لا حسد ولا شيء بني ،إنما ينبه زوجته لتهتم به.
قال الجد.
-صباح الخير جدي .
قبل يده كما فعلت أمنية وبعدها أمها وابيها .
-هكذا يا عمي ،ينبهني ؟كأنني لا أهتم به .
-بل غار على ابنته يا أمي .
اجابها عامر.
-قلت لك لا حسد ولا غيرة ،بل ضرب البردعة ليفيق الحمار .
مثلت الغضب :
-انا حمار يا عمي ؟! افطر انت وابنك.وضعت المنديل من يدها بغيظ.
والله لن آكل معكم مضغة .
ضحك زوجها
-لأنك أكلت قبلنا .
ضحكوا جميعا،عادت تجالسهم ضاحكة .
-الجو صحو اليوم ،مارأيكم أن نقضي اليوم على الشاطئ ،ونطلب الغذاء هناك ؟
اقترح عامر وهو ينظر إلى امنيته.
-فكرة ،ما رأيك أمنية، تغيير لجاد قد يفرحه .
ساعدته زوجة عمه.
-أنا معكم ،اتفقوا وقرروا وانا موافقة .
-وانا مع رأي عامر ،مرت شهور لم أر فيها البحر .
-مادام جدي قد وافق ،اختاروا المكان.
بعد أخذ ورد ،اتفقوا على مكان معين ،قريب من المطاعم ،وأغلبهم موافق لمساعدة عامر على التقرب من أمنية.
-دعيني أنام يا ماما ،غدا اول يوم في الأسبوع ويكون متعبا أكثر.
-تعالي لتفطري معي وعودي لتنامي ،أعلم أنك نمت بعد الصلاة ،لقد سمعتك .
هبت جالسة على فراشها.
-ماذا سمعت؟
-هههههه همهمات العشاق على الهاتف،يا بنتي اتركي شيئا لما بعد الزفاف.
احمرت وجنتاها خجلا .
-كلامنا كان عن العمل وكاميليا يا ماما .
-صدقتك انا ،هيا قومي لتفطري قبل أن يحتاجك لكلام عن العمل وكاميليا .
خرجت ضاحكة بينما اخفت عائشة وجهها بكفيها .
-لن أجيبه مرة أخرى وسأدعي النوم.
(ونحن نعلم أنه مجرد كلام ).
في المستشفى ،تجلس الجدة وكاميليا قرب سرير مراد الذي علق له المحلول ،مجهود امس أنهكه،ابتسامته تخرج من قلبه لتظهر بعينيه قبل شفتيه ،أحس بحنان هذه الحنة (حنة هي الجدة من الاب وجاء لقبها من الحنان)،تمسك يده منذ دخلت ،تحدثه كأنه كان منها منذ الأزل ،حديث يجر آخر ،بعيدا عن المرض وجو المستشفى .
-ستأتي عندنا وترى بعينك ،أحواض يعتني بها جدك بنفسه ،حوض الياسمين ،وحوض النرجس ،وحوض الكاميليا ،تغار أريج وتسأله لم لم يسميها باسم زهرة ما ويجعل لها حوضا فيضمها ويقول ،إنما اعتني بها كلها لتعطيني الأريج ،انت افضل ما فيهن.
-يضحك عليها إذن ؟
-جدي يقول ما يحس به ،اريج أصغر حفيداته ،وهو من سماها، فلابد أنه احس انها الأحب إليه وإلا سهل الأمر عليه باسم زهرة ما وجعل لها حوضا مثلنا.
دخل وسام سعيدا بالزائرتين سعادة صديقه ،فارتفاع معنوياته سيساعده على تحمل جرعته الأولى .
-أهلا بك سيدتي ،اهلا مدام كاميليا .نحن جاهزون كما اتفقنا .
نظرت إليها جدتها متسائلة ،حيرتها وخوفها الذي ظهر على محياها جعل مراد يجيبها .اعتدل على فراشه وقال
-حنة ،مرضي وعلاجه قد يجعلني عقيما لمدة ،حبيبتي كاميليا وافقت على حقن مجهري اتمنى أن ينتج عنه حمل .
-حقن مجهري أليس حراما؟
ابتسم وسام وجلس ليصبح بمستوى نظرها.
-ليس حراما، لأنه من زوجها .
-تعالي يا حنة لأشرح لك .
اخذتها من يدها وخرجتا من الغرفة .
-أرجو أن تستطيع إقناعها ،ما سمع عن أطفال الأنابيب كثير ،طغى عن جواز الحقن المجهري بين الزوجين .
-لماذا لا يكون الحمل كما نعرف وأمر الله؟ اخذت يدها بين كفيها ونظرت إلى عينيها .
-سأخبرك بكل شيء ،مراد قد لا يعيش طويلا .
-الأعمار بيد الله.
-ونعم بالله،ولكن الطب يقول أنه قد يتعدى تسعة أشهر بقليل إذا لم يفلح معه العلاج ،أما لو انتصر بقدرة الله ومشيئته على المرض ،فالعلاج الكيماوي سم ،الغرض منه قتل الخلايا السرطانية ،ولكنه قد يقتل غيرها ،هي حرب يموت فيها العدو كما يموت فيها الصديق ،والأكيد أنه يؤثر على قدرة المريض على الإنجاب ،لو تعافى مراد وعاش ،قد ننتظر طويلا ،مع الأدوية، قبل أن يكون لنا طفل .
-وإن لم يعش ،تعيشين انت مرهونة بابنه او ابنته؟
-حنة ،انا تجاوزت الثلاثين ،عرفت مراد ولم أتجاوز الثالثة والعشرين ،أحببته واختزلت كل الرجال فيه ،رغم ما كان منه ،ورغم انفصالنا ما اهتممت لرجل غيره ،اتظنين أنني بعده ،وبعد أن بثني حبه وعشقه ،قد أكون لغيره !
صمتت الجدة .
-أرأيت ؟انا من شجرة المنصوري ،قلوب لا تعشق غير حبيب واحد .
-ومالأم يوسف أحبت غير ابيك؟
-ما نسيته ولا عشقت غيره ،أم يوسف حكت لي ،لأجله تزوجت غيره ،حتى يراها جدي سعيدة راضية فيرضى عنه .الا ترينها اورثتني حبه في قلبها ؟!
-هذا يعني أنك ،لو لاقدر الله مات زوجك ،لن تتزوجي بعده ؟
هزت رأسها نافية.
-ولكنك ماتزالين صغيرة ،حاجتك للرجل فطرة من الله.
-فارقته أكثر من ثلاث سنوات ،ظننت أنني كرهته ومات بقلبي ، وقابلت رجالا غيره ،وكثير منهم خطب ودي،فهل تظرت لأحدهم او فكرت فيه ؟! أبدا، عذري كان خوفي من تكرار التجربة ،ولكنني لأجله تخليت عن خوفي،التمست له الأعذار في حديث جدي وعمي ويوسف ،احتميت من هجوم كرامتي وعقلي وراء مرضه وادعيت أنني اشفق عليه ،وسأبقى معه مسيرة علاجه ثم أغادر ،ولكنني أعلم أنني أكذب على نفسي ،واجد المبرر لأبقى معه ، وسأجد مبررا آخر بعد أن يتعافى،فواجهت نفسي ،نعم انا مازلت احبه ،ونعم أنا أريد منه طفلا ،إن عاش ربيناه معا وسعينا ليكون له اخ ،وإن مات يكفيني هو ويغنيني عن العالم بعد أبيه.
انسابت دموعها فتجاوبت معها دموع جدتها ،حوار بين قلبين ،الأول يشكو والثاني يواسيه ويشد ازره.
-وكيف ستحملين منه وهو مريض ،لا أظنه...
قاطعتها بضحكة خفيفة
-لا لن يستطيع ،رأيت ما فعل به مجهود امس ،سيأخذ منه الطبيب ما احتاجه ،لهذا سمي التلقيح المجهري .
-وينمو خارج رحمك ؟
-لا يا حنة،من ساعته الأولى سيكون بداخلي ،حمل عادي جدا ،إنما احتاج دعاءك أن ينجح.
-سأدعو لك بالتأكيد ،وماذا عن جدك هل يعلم؟
-اترك لك مهمة إخباره وإقناعه حنة .
-ليس قبل أن تخبريني أن التلقيح نجح وثبت.
-اتفقنا ،تعالي لندخل إليه لابد ان القلق تسرب إليه.
مرت ثلاثة أشهر ،كانت مع زوجها ببيت جدها ،هناك يستعدون لعرس عائشة ويوسف ،فرحة جمعت كل الاحباب ،جد أمنية والذي تصاحب على جد كاميليا منذ عقد القران ،رحب بدعوة صديقه،كلف الرباع(وقد شرحت عمله من قبل ولا مانع أن اعيد ،الرباع فلاح ،يعيش بالمزرعة ،ينتبه لها بأجرة شهرية زيادة على كل معيشته فهي مجانا من خير المزرعة ،وإن أضاف بها نشاطا ما ،كتربية الماشية ،او زراعة محصول سنوي لم يكن قبله ،فله الربع منه ،ولهذا سمي الرباع ،ولو اتفق على الخمس يسمى الخماس)
جد أمنية كلف الرباع بالمزرعة والأرض، والخدم بالبيت ،أما مكتب التسويق فعامر يتابع مع مساعده عبر الهاتف.وامنية اعتبرت هذه الأيام عطلة ،وكلفت زميلا لها بالملفات المهمة وقد سهل الهاتف التواصل للتشاور.
أما عن أخ عائشة فقد تلقى الدعوة وقرر الا يحضر قبل يوم الحفل.
كثرة الخدم بالبيت ،ومتابعة نساءه لسير الاستعدادات الى جانب ام عائشة وأم أمنية، أعطى البنات حرية وراحة .
تجلس بالحديقة مع صديقتيها ،سعيدتين بحملها
-أظنه ولد ،فقد أصبحت جميلة .
مازحتها عائشة فضربت كتفها
-انا دائما جميلة ،أجمل منك .
-هههههههه قولي زادها جمالا .ثم ما هذا السونار الذي بعينيك ،وهل تنقص البنت جمال أمها .
-هكذا سمعت،الولد يزيد جمال أمه ،وبطنه تكون أصغر ،والبنت تنقص جمال أمها وبطنها اكبر كأنها تتربع داخله .
-ههههههه،تحليل رائع ،ولكنني أظنه يستند الى واقع حب الزوج للولد الذكر ،فلو تنبأت الأم أنه ولد لسبب ما من الأسباب التقليدية ،فرحتها وفخرها يزيدان إشراقتها فتزيد جمالا ،والعكس.
-ما لاحظتُ علي تغييرات في حمل جاد .
-ومن اهتم لجنسه أيام حملك ،كل همنا كان إخفاءه والهروب به
-هههههه مجهود ذهب أدراج الرياح .
سخرت منهما عائشة.
-بالعكس ،لو عرف به عامر وأمه ما كنت لأهنأ به ،أما وقد عرفه بعد أن كشف خبث أمه فالأمر اختلف.
كعادتها ،شاكستها عائشة .
-هاه احكي لنا وجه الاختلاف ،أرى لمعة بعينيك وانت تذكرين عامر .
-ألا تتغيرين يا عائشة ،تخلي عن تفاهتك فأنت عروس مقبلة على تأسيس بيت وأسرة
-تفاهتي هي ما يعشق يوسف ،احكي ولا تتهربي،حيل المحامين لا تخيل علينا.
-صحيح ،يا أمنية ،كيف قبلت خطوبة عامر .
-بعد أن رفض نصيبة من أملاك جدي ،و طلب منهم أن يثقوا به وبحبه لي ،اعطوه فرصة ليقنعني
-وهل اقتنعت ؟
-ليس تماما ،رغم كل ما يفعل ويبدي من مشاعر جميلة ،مازلت متخوفة ،ولهذا اشترطت مدة خطوبة ،أعطي لنفسي بها وقتا لأفهم مشاعري نحوه.
ربعت عائشة رجليها ،ووضعت على ركبتها مرفقها لسند رأسها على كفها ،نظرت الى أمنية بخبث
-هاه ،وفهمت مشاعرك ؟
-رغم خبث نظرتك سأجيبك ،نعم ،أشعر بميل نحوه ،أعجبني اهتمامه بي ،أشياء صغيرة ولكنها التفاتات جميلة ،لا يزورني إلا بباقة بيديه ،هدايا صغيرة بدون مناسبة ،مرة أحضر لي شوكولا ،كأنني مراهقة صغيرة ،الغريب أنني فرحت بها ،انظري ،الخلخال بكاحلي هو من أهداه لي .
-جميل ،وزاد جمال ساقك .
-زاد اهتمامه بنفسه وهندامه، ويسألني عن رأيي كلما أراد أن يقوم بأمر يخصه .
-ومازلت لا تأمنينه؟
-يقال :أفلح إن صدق .
إن كان تغيره صادق فلن أجد خيرا منه زوجا ورفيقا ،ولكنني متوجسة .
-نجعله يوقع ضمانا بجودة المنتوج لو تغير نعيده مع استرجاع ثمنه وتعويضا إضافيا.
-ألم أقل انك تافهة ؟
-بل أنت الغبية ،متى أخذنا ضمانا أن الرجل سيبقى كما عرفناه أيام الخطوبة،بل أي ضمانات نعطيه لهم ونحن أول من يتغير ،نتخلى عن الاهتمام بنفسنا بحجة البيت والأولاد، وهي ساعة ،ساعة واحدة صباحا ،تأخذين فيها حمامك ،وتعتنين ببشرتك وتختارين ثوب يومك ،وساعة مساء ،حمام سريع ،وزينة بسيطة وعطر أخاذ،وساعة في الأسبوع، رياضة وحمام مغربي .
-وهل وضعت جدولا بهذا لأيامك القادمة ؟
-طبعا ،انظري الى كاميليا ،رغم حملها ،وعنايتها بزوجها المريض ،والعمل عن بعد ،إلا أنها تلتزم بهذا الجدول .
سألت أمنية بحرج :
-اااااا، أعلم أن جرعات العلاج الكيماوي ااااا أعني ....
-نعم ،ولكنه ينام بحضني، وأفضل أن يجده كما يريده .
-احكي لنا كاميليا ،كيف تعيشان معا ؟
-بعد أن استأذنت جدي ،وذهبت لأعيش معه ببيتنا.
-صحيح ،كيف استطعت أن تعيشي هناك ،حيث رأيت أسوأ ايامك.
-ذاك كان رأي مراد ،أحب أن يغيره او نعيش مع والديه ،ولكنني أصررت أن نعود ،ونصنع ذكريات جميلة بكل ركن فيه ،أنا أعيش معه احلام صباي، يأكل من يدي ،نشاهد فيلم او برنامجا معا ،مرة أضع رأسي على صدره ومرات يضع رأسه على فخدي ،يحب أن العب بشعره ،يغمرني بحبه وكلمات عشقه ،يرفض أن ينام بعيدا عن حضني ،كثيرا ما استيقظ على كلامه يحدث الجنين ،فأتظاهر بالنوم وأسمعه، سعيد به ويحبه ،يخاف أن لا يراه ،ويوصيه بي ،وبأن يدعو له .
-هيا بنا من هنا ،رأيتم أهمية تفاهتي، على الأقل لا نبكي في كل حديث.
بجانب آخر كان يجتمع شباب الأسرة وضيوفهم، ضحكاتهم تتعالى لمزاحهم حول الزواج والنساء ،أحس وسطهم كأنه منهم ،وتمنى عامر لو يكون منهم.
طه وزكريا ويوسف ،وحتى غيث الصغير ،بل حتى اخ يوسف من أمه يحيى ،كأنهم من رحم واحد ،يظهر حبهم لبعضهم البعض ،مشاعر عظيمة تظهر في تصرفات بسيطة،مراد أحس بثقل وحدته لما رآى أنسهم ببعضهم،وفهم سبب تشبثه بصديقيه وسام ومجدي،أما عامر فرأى أن كثرتهم كشباب لم تزرع الطمع في نفوسهم ،هاهم ورثة أرض ومزارع مثله ،ولكنهم لم يفكر احد منهم بالاستحواذ على أكثرها ،بل ربما انهم لا يهتمون بها كإرث مستقبلي،لأن كلا منهم يبني نفسه بعيدا عنها .ومرة أخرى أحس بظلم أمه له ،لأنها فرضت رأيها ألا يستمر في الدراسة ويلتزم بجده ليعرف الصغيرة والكبيرة عن الأرض ومردودها.
كما ذهبت ياسمين تدعو كاميليا وصديقتيها للغذاء ،جاء غيث راكضا يدعو الشباب
-جدي يقول لكم تعالوا فالأكل جاهز .
التفت مراد ليوسف
-أخبرتني كامي أن جدي جعل مدافن الأسرة بارضه.
-صحيح،أخذ ترخيص بذلك .
-هل يمكن أن تأخذني إليه ،أحب أن أقرأ لهم الفاتحة وأشكر أباك على هديته لي .
-حاضر ،بعد الغذاء نذهب معا .
دخلت غرفتها مساء ،كان يجلس على كرسي وثير بالشرفة ،أمامه على مد البصر ارض المنصوريين،أشجار سنديان تبدو بعد المغرب كأنها حراس عمالقة ،وعبق الأرض المسقية اختلط بروائح النباتات وأريج الزهور ،ليعطي عطرا مميزا لهذا المكان.
وضعت يدها على كتفه فالتفت يقبلها
-تعالي ،اجلسي بجانبي لتكملي لوحة الجنة .
-ألن تدخل لتنام؟
-أيام النوم كثيرة وطويلة ،دعينا نغنم من العمر لحظات صفاء.تعالي ،اجلسي بجانبي ،اشتقت لك ،مارأيتك اليوم.
-مادامت أيام العرس ،فلن تراني إلا قليلا.
-واحد يعرس ليأخذ حبيبته بحضنه وانا احرم من حبيبتي ،أي عدل هذا !
-ههههه،اصبر بضعة أيام ،يزيد شوقك الي.
-ومتى خبت نار شوقي إليك ،غامت عيناه حزنا،هل يكفيك حضني ليلا يا كامي؟
فهمت قصده وتوجسه، أمسكت يده بين يديها بعد أن قبلتها.
-يكفيني وجودك معي ،فكيف بحضنك ،قل لي ،طيلة سنوات بعدنا ،ألم تكفيك ذكراي لتغنيك عن النساء .
-بلى ،أقسم لك ،وانا بين يدي الله كما تعلمين ،ما لمست امرأة بعدك.
-وما أثار انتباهي رجل غيرك ،حبنا حب الروح للروح ،ليس شهوة جسد ...
قاطعها
-ولكنها فطرة واحتياج.
-احتياج من الحبيب، فلا تشغل بالك بها ،ثم ،لم تتسرع ،دع الشوق يذكي رغبتك ويوم تتعافى نستدرك ما فاتنا.
قبل باطن يدها ،ونظر بعيدا ،نظرته غابت تحت دموع يغالبها ،فضمته إليها تدفن رأسه بصدرها لينتحب كطفل بين ذراعي أمه.
-مراد يا حبيبي ،كن قويا لتعيش لنا انا وابنك
-أتمنى ...اتمنى ...ولا دعاء لي غير أن أعيش لكما ،ما أريد من الدنيا غيرك وابننا، فهل هذا كثير علي .
-ليس كثيرا على الله ،فلا تيأس من روح الله.
-والله ليس يأسا ولكنه الخوف ،أخاف أن احرم منك وقد أضعت أيامي معك ،جحدت فضلا وهبني الله إياه لما جعلك زوجتي ،أخاف أن يعاقبني بحرماني منك .
أبعدته عن صدرها تمسح دموعه.
-وهل حجدت فضل وجودك معي وقد دعوت الله في كل صلاة أن تكون لي ؟ أبدا ،رغم كل شيء أردتك ورضيت بقربك ،فهل فعلت ما أعاقب عليه بحرماني منك ؟
-لا والله،كنت نعم الزوجة لبِئْس الزوج.
-شششششش،اِنس الماضي ،نحن أبناء اليوم ،سأقول لك كلمة قالتها لي حنة ،قالت لي :انسي أنه مريض وعيشي اللحظة ،وهل عمرنا إلا لحظات.
تعال ،تعال لتأخذ حمامك ،واسترح قبل أن نصلي وننام .
-أجمل لحظاتي معك هي أوقات الصلاة.
-كانت من أحلام الصبا ،أن يصلي بي زوجي ،وهاقد حققته،أرأيت أن علاقتنا تعدت علاقة فانية ،غدا سأشهد لك أنك أممتني وتشهد لي أنني صليت وراءك .
-سأشهد لك بالكثير ،غدا تغلبينني لو لم تغفري لي .
-والله ،والله سامحتك ونسيت ،فانس ،ودعنا نعيش حبنا معا.
لم يجد جوابا غير أن يضمها إليه ،يقبلها لعله يطفئ جذوة شوقه إليها.