رواية انسحاب الفصل الثامن عشر 18بقلم حكاوي مسائية

 


رواية انسحاب 

الفصل الثامن عشر 18

بقلم حكاوي مسائية


دخل الصالون الصغير بمطعم صديقه الذي جاء مرحبا 

-اهلا مراد ،غبت يا صاحبي!

-ملفات بالشركة تراكمت وانتظرت عودتي.

-جميل أن تعود لعملك ،الانشغال بالعمل ومشاكله ،ينسيك مشاكلك الخاصة،احسن ما فعلت والله.

-لم آكل شيئا منذ امس ،هات غذاء يفتح شهيتي.

-وانا سأبهرك.

ضحك سعيدا بحب صديقه

-كعادتك يا مجدي.

بعد وقت يسير ،كان يضع امامه إطباقا شهية دون أن يغفل حالته الصحية وحميته،وجلس يأكل معه.

صب له ماء معدنيا

-لا تقل هات النبيذ ،تعلم أنه يضرك ،وقد غيرت نظام مطاعمي وحذفت منها الخمور.

-كيف وكثير من زبائنك إما أجانب و إما يشربون النبيذ مع الأكل.

-أما عن الأجانب فيطلبون أطباقنا الأصيلة التي لا تحتاج نبيذا ليحسنها، أما غيرهم ،فالأمر لا يتعدى تقليدا ليظهروا بمظهر متحضر كاذب.

-ستفقد منهم الكثير .

-الله الغني،بعد أن رأيت أمنية ،وصديقتيها والتزامهن رغم البيئة المحيطة بهن ،فكرت في نفسي ،وتذكرت كم حاول أبي أن ارافقه الى المسجد ،وكم دعت لي أمي بالهداية ،فانتبهت أنني أسير بطريق لن يفيدني مادام لا يرضي الله.

ابتسم له

-هل تسعى الى رضا الله أم تتغير لأجل أمنية .

رفع اصبعيه

-الاثنين معا،لو رضي عني ربي ،سهل لي طريق قلب أمنية.

-المهم يا صديقي هو أن يكون تغيرك عن اقتناع،لأمرين يجب ألا تنساهما ،الأول انك مهما خسرت في عملك ،و هجر مطاعمك زبائن مما يقلل الربح إن لم يتسبب في خسارة ،مهما يكن ،تبقى على رأيك ولا تقدم الخمور أبدا، والأمر الثاني ،أنك لو كنت ستلتزم بالدين لأجل أمنية فتأكد انك لو أصبحت زوجتك وببيتك ستركن لوجودها وتعود لطبيعتك الأولى ،ولو رفضتك ستعود أيضا ،لأن السبب زال ،فهمتني؟

-اطمئن،أمنية او غير أمنية ،انا قررت الزواج والاستقرار ،وإنجاب أكثر من طفل ،ولن اطعمهم مالا حراما.

-قلت لي ...ممم ...أمنية او غير أمنية. 

-لا أقصد ما فهمته ،طبعا أريد الزواج ،ولكن من أمنية، ما كنت اظنني سأغرم بفتاة يوما ،ولكن عشق أمنية تملك قلبي، أن تكون زوجتي فذاك غاية الأمل، ولكن ،لو لم يقدر الله أن تكون لي ،فالزواج أمر لابد منه ،والأولاد سيكونون غايته ،والمال الحرام لن يدخل على أولادي. 

-وانا سعيد بك ولأجلك. 

-ماذا لو رافقتني في طريقي ؟

-سبقتك ،أقلعت عن الشرب ،وحتى السجائر رغم صعوبة التخلي عنها انا أحاول ،و التزمت بالصلاة ،منذ وجدت سجادة كاميليا ،بدأت الصلاة ،ولكنني لم اواظب عليها بسبب الشرب ،أما اليوم فالحمد لله.

-هذا هو الخبر السعيد ،وكيف حال الألم معك؟

-لا يفارقني إلا بالمسكن ،الحمد لله.

احك لي ،هل ردت عليك أمنية؟ 

-مازلت انتظر ،ولكنني علمت أن صديقتها سافرت مع زوجها ،ربما تنتظر عودتها لتسألها عني أو تأخذ رأيها.

-لو سألت كاميليا عنك ،تأكد انها لن تقول الا الخير، وفي ألعن الحالات ستقول انها لا تعرفك.

-لا يا عزيزي ادع لي بالأولى. 


عادت مساء بعد يوم عمل شاق ،فهي المسؤولة عن الشركة بتوصية من يوسف،ويجب أن تكون اهلا لثقته، دخلت غرفتها ،تستريح قبل العشاء ،وعادت إليها كلمات كاميليا تحثها أن تقبل على الحياة ،وتفتح قلبها لحب جديد قد يشفي جرح القديم.

-آآآه يا كامي ،لو لم تكوني انت من عرض علي الأمر لجريت إليك استشيرك ،ولكنني احس أنني وحدي ،وعلى أن آخذ القرار وحدي.

لماذا لا اكلم ماما ؟

نعم يجب أن اخبر ماما ،ليس في الدنيا من سيهتم لي وينصحني مثلها .

سمعت نداء والدتها للعشاء ،فابتسمت ،نزلت مسرعة ،وضحكت لأمها

-دقي الأرض برجلك ،طال عمرك.

-لماذا ؟ من كان يتكلم عني؟

-انا ونفسي ،كنت افكر فيك لما ناديتني.

-هيا اجلسي لنأكل ،ثم أخبريني. 

-سأخبرك ونحن نأكل ،لأنني لا أريد شايا يطرد النوم عني ،وانا أكاد أسقط عياء.

كاميليا ،جاءتني بعريس.

-دعيني اخمن ،يوسف اخوها.

-صحيح،وهي شجعتني لأقبل، ما رأيك؟

-أولا الرأي رأيك انت ،ولكن دعينا نفكر معا .يوسف رجل ناجح،نزيه ،و متصالح مع نفسه.

-ناجح ،والأمر معروف ،إنما كيف قررت أنه نزيه ومتصالح مع نفسه.

-كاميليا ،لو كان غير نزيه لما بحث عنها ،وحتى لو وجدها وعرف من تكون ،ما كان ليخبرها انها اخته ،ولو حصل أن بحثت هي فقد يعرقل وصولها إليه او يرفضها. 

أما حبه لها ،وإصراره لتعرف الحقيقة بل وتذهب لتقابل أهلها، فهذا دليل تصالحه مع نفسه ،لا يحسد ولا يغار ،ولا يخاف أن تأخذ من مكانته ولا حب عائلته له.

-فعلا،عرفت كيف تقنعيني بنظرتك له.

وماذا عن الزواج؟

-لو أردت أن تغلقي دفتر الماضي...

قاطعتها

-اطمئني لقد احرقته.

-فلتفتحي معه دفترا آخر ،سطري عليه حكاية سعيدة ،افتحي له قلبك ،وتقبلي حبه لك ،أيام العمر لا تتكرر ،ليس كمثل سنك أنسب للحب والزواج.

-أنسب! لا تبالغي يا سعدية ،سأتم الثلاثين الشهر المقبل 

-والزين يحلى فالثلاثين،احسن عمر ،رزانة عقل ،ونضج مشاعر ،واكتمال جسد.

-وأمٌّ تراك بدرا .

-لست وحدي ،والدليل يوسف،ماذا لو رأى شلال العسل  المنساب على ظهرك !

-يا سعدية ،يا سعدية ،سأغتر وارفضه 

-لا ،لا تغتري، يوسف ليس أقل وسامة ،ولا رجولة .

-رجل والرجال قليل.هههههه

-انت تضحكين ،ما رأيك أن كلامك حقيقة ،انظري حولك ،ماذا فعل اخوك ،يوسف يبحث عن اخته واخوك نصب واحتيال ثم طردنا من البيت،مراد ،رغم حب كاميليا ماذا فعل ،عذب واهان، زوج أمنية، جعلها جسرا يوصله الى ثروة جده ،زوج حليمة وابنها ،عاشا عالة عليها هي وكاميليا ،وليتهما يذكرانها بخير.

قالت شاردة

-ياااااه يا سعدية !!!كأنه الواحد من عشرة !أيعقل ،أيعقل أن تنتشر الخسة والنذالة وتقل الرجولة والمروءة!!!!

-واحد من عشرة ،واحبك انت ،لا ترفضي حبه ،بل افتحي له قلبك ،هذا رأيي وقد قلته. 


مازالت تحاول أن تنفي عنها تهمة العشيقة المتسببة في طلاق وانفصال مهندسين ناجحين ،تتابع مايكتب عنها على مواقع التواصل ،من المعجبين قلة قليلة ماتزال تدافع عنها ،و جعلت لنفسها أكثر من حساب ،تجادل فيه منتقديها، ويبقى السؤال الذي لم تجد له جوابا 

-لماذا لم يتزوج مراد فايز من لينا عشيقته الى الآن ،إلا إذا كان يحب طليقته ومافكر يوما أن يتزوج لينا.

تقرير ينتقل عبر الشبكة ويجعلها بمظهر الساحرة الشريرة ،ومازاد غضبها تخلي مديرة أعمالها عنها ،و سحب ترشيحها لأدوار عديدة .

كاميليا أصبحت بعيدة المنال ،ونار الانتقام تأكلها ،يجب أن تخرج قبل أن تحرق صدرها، والسبب في كل هذا هي سارة .

وجهت كيدها نحو حليفتها السابقة ،اخذت هاتفها وركبت رقما ما.

-الو ،ابراهيم ،كيف حالك؟

-اهلا بنجمتنا ، اي ريح طيبة ذكرتك بي.

-سارة .

-ارجوك لينا ،لا أريد اي شيء يذكرني بها.

-لا تكن جبانا ،ابراهيم ،سارة رفضتك لأنك كنت ببداية مسيرتك ،أما اليوم فأنت ماشاء الله ،نجم تأسر قلوب الفتيات.

احس بالغرور ،فهذه ليست أية فتاة ،إنها لينا المخضرمة التي تمدحه ،أخذ الطعم بسهولة

-هل كلمتك عني؟

-كل يوم ،تتابع اخبارك، وتتمنى لو تقف يوما أمامك امام الكاميرا.

-هي تريدني قنطرة إذن؟

-ابراهيم ،هل مازلت تريدها زوجة؟

-هههه،لا يا لينا ،لن اتزوج واحدة سيرتها على كل لسان.

-إذن، خذ وهات ،هل أوضح أكثر؟ 

-ههههههه،لا،لا ،شرح الواضحات من المفضحات. 

-إذن اتصل بها ،واقض وقتا ممتعا ورشحها لدور صغير معك.

-سأفعل،ولكنني لن الح عليها ،قبلت ،قبلت ،رفضت مع السلامة .

أسرعت تتصل بها

-سارة ،حبيبتي ،لتعرفي أنني مهما يكن احبك ،ابراهيم اخبرني  أنه يبحث عن وجه جديد ليكون معه في مسلسل ،فرجوته أن يعطيك فرصة.

-ابراهيم ،ابراهيم !؟

-نعم هو ،انتظري مكالمته ،وكوني لينة مرنة ،فهمتني طبعا.

-أشكرك لينا ،لن أنسى لك معروفك .

اغلقت معها 

-غبية ،لن أنسى لك معروفك،هههههه. 

اتصلت بمصور فضائح 

-اسمع ،ليكون لك السبق ،سارة فايز ،تحاول أن تأخذ دورا في مسلسل ابراهيم الجديد ،راقبها وستحصل على الصورة .

ابراهيم احب سارة ،او هكذا تخيل ،شاب من عائلة متوسطة، يرى فتاة جميلة أنيقة،ترافق لينا،وتبحث عن مكان في عالم السينما ،أعجب بتحررها،إصرارها رغم مؤهلاتها الضعيفة،وحاول أن يتقرب منها،كشخصين في أول الطريق ،ولكنها صدته بتكبر،ولما أعرب عن إعجابه وحبه لها ،سخرت منه.

كلما دكرها غنى لسان حاله

(وقلت له انا كانبغيك ،شاف فيا شوفة العدو ،وقال لي بزاف عليك.

وشوف انا فين وانت فين يبان لك الفرق يا مسكين.)

طافت بعقله ذكرياته التي عاش فيها قهر الرفض بسبب الفرق الاجتماعي والمادي، فابتسم بانتصار محدثا نفسه-(ها أنا نجحت ،وأصبحت نجما وغنيا ،وهاهي تبحث عني ،لا بأس ،اتصل بها ،ونرى )

اتصل ،ولم ينتظر طويلا  كأنها كانت في الانتظار ،الشيء الذي زاد ابتسامته اتساعا.

-الو ،آنسة سارة ،انا ابراهيم.

-آنسة ؟ هل بيننا هذا يا ابراهيم ؟

-سارة ،هل يمكن أن نتقابل.

-طبعا ،متى واين؟

ماذا ؟بهذه السهولة؟ هههههههه

اخبرها بالزمان والمكان وهو مايزال يضحك ساخرا .

توالت اللقاءات بوعد دور لن يأتي ،وتوالت الصور المرسلة الى لينا ،ومازالت غير راضية وتنتظر الصورة السلاح. 


خلال هذه الأيام كانت كاميليا تعيش عوض سنين الحرمان وسط اهلها،يغدقون عليها الحب والحنان ،عرفت أن طه يدرس الصيدلة بينما توجه زكرياء نحو دراسة الأدب الانجليزي 

-لعلك تريد امتهان التدريس .

-أبدا ،التدريس مهنة طويلي البال ،وانا لا طولة بال لدي ،بعد الإجازة قد أتوجه نحو دراسة القانون الدولي باللغة الإنجليزية.

ضحكت ياسمين .

-من الأدب الى القانون ؟ كيف هذا؟

-اللغة ستيسر لي دراسة القانون ،وقد اغير الى دراسة أخرى

-هذا هو زكرياء ،ستبقى حائرا بين اروقة الجامعة .

-ليتني أستطيع أن أبقى طالبا متنقلا من تخصص الى آخر .

-وما الذي يمنعك ؟ سألت كاميليا.

-نظرة الآخرين ،ومتطلبات الحياة ،يجب أن أعمل في تخصص ما ،لأعول نفسي و بعد ذلك ،أتوجه نحو شغفي.

-والذي هو؟

-الدراسات ،كلما اخذت شهادة بتخصص ما سأبدأ تخصصا آخر ،الأدب، السياحة والبيئة ،التاريخ ،كل هذه دراسات أود أن اتعمق بها.

-المهم هو ألا تتوه بين اروقة الجامعة كما قالت ياسمين وتنسى أن تعيش حياتك.

-لا تقلقي عليه يا ابنة خالي ،أؤكد لك أن حياته بين الكتب ،هي شغفه الوحيد لا ينافسها إلا حبه للسفر .

طمأنها طه.

جاء يوسف 

-كاميليا ،تعالي،أمي تريدك.

اخذ يدها وسط كفه وسار بها نحو أمه التي تنتظرها بحديقة البيت.

-اهلا ماما ،ما رأيتك أمس.

-لم أستطع المجيء ،امس،عمك عمر كان محموما، أظنه اخذ ضربة شمس وهو عائد من سفره.

-لابأس عليه ،وكيف هو الآن احسن؟

-الحمد لله ،اراد أن يأتي ليراك ،ولكنني قلت له انك ستقضين معنا يوم غد ،سأخبر جدك وحنة، يجب أن تتعرفي على إخوة يوسف لأنهم إخوتك أيضا، أليسوا كذلك؟

-بدون شك ،ولي الشرف والسعادة بإخوتي.

-اتركنا الآن يا يوسف ،سنتجول انا وكامي قليلا بين الأشجار.

حك رأسه

-آااه،حديث النساء.

-مادمت نبيها هكذا فاذهب من هنا.

ابتسمت له كاميليا بحب وهو يتظاهر بالحزن مغادرا.

امسكت يدها 

-تعالي ،عندي لك أمانة من أبيك.لا تتعجبي هكذا ،لم يكن ليأمن لأحد غيري ،وقد مكثت جواره طيلة أيامه الأخيرة .

-كم بقي هنا قبل ...

-أقل من شهر ،مالا يعرفه الباقين، أن امك جميلة يرحمها الله ،جاءت به إلي ،كانت خائفة من جدك ،ولكنها حبا في أبيك ،لبت رغبته الأخيرة ،وحتى يرحمها من الحيرة قال لها أنهما سيأتيان عندي ،وجاءا صباح يوم ماطر ،سافرت به طيلة ليلة كاملة ،كانت تسوق ببطء لأنه كان يتألم مع كل اهتزاز ،طرقت الباب متخوفة ،وقدمت نفسها للبواب انها صديقة ،ولما خرجت لم أعرفها فأنا لم أرها من قبل ،وحتى الرجل بالسيارة لم اعرفه ،لقد تغير كثيرا وهزل حتى غابت ملامحه.

-اهلا بك سيدتي ،كيف اساعدك .

-انا جميلة ،زوجة ابن عمك.

ألقيت نظرة الى حيث تستقر نظراتها ،وامعنت النظر قبل أن اعرفه ،دموعها التي لا تتوقف ،أخبرتني كل شيء .أسندته معها حتى ادخلناه، حكت لي عن مرضه ،ويأس الأطباء من شفاءه ،واخبرني انها كانت تراه مشتاقا لحضن أهله ومغفرة أبيه ،ومن غير المحب يفهم ما يختلج بصدر حبيبه.

رحب بهما عمر ،واقترح أن يبقيا معنا ،حتى يمكنها أن تبقى معه ،ولكنها اجابت

-أشكرك سيد عمر ،ولكنه يريد أن يكون ببيت أبيه وحضن أمه، وإلا ماكنت لأفرط في دقيقة معه .

كان يوسف لم يتم الرابعة بعد ،و لم يكن معي 

-وهو يريد أن يرى ابنه ويضمه اليه،لو كان بيدي ماتركته والله .

لا يمكنني أن أقول كم مرة ودعته ،وبعد أن تصل الى الباب تعود إليه مهرولة باكية ،تعانقه كأنه الحياة ،وتقبله كأنها تنهل من سلسبيل من الجنة ،تبكي بحرقة كما لم أر أحدا يبكي قط .

وأخيرا اخذناه انا وعمر بسيارتنا، ولكنها تبعتنا ،وأمام البوابة نزلت وجاءت ترتمي بحضنه ،يمكنني أن أجزم انها ذاك اليوم تركت روحها معه وسافرت جسدا من غير روح.

لم يكن أقل منها حزنا ولا بكاء ،ولكنه أشفق عليها من قسوة عمي او كلمة جارحة من أبي،وأشفقت عليه من جرح تسببه له إهانة لها أمامه.

كنت ابيت ببيتي ،ولا افطر إلا هنا ،كنت حاملا بابنتي الأولى ،لما رأيت امك وجمال امك تمنيت أن تكون ابنتي تشبهها،كانت فاتنة ،وليس لأجل ذلك أحبها ابوك ،لقد كانت طيبة خلوقه وفوق كل ذلك كانت تعشقه .

كان يحكي لي عنها ،وعن سعادته معها ،وكان يضم يوسف ويخبره كم يحبه ،وأخبره أن له اخ أو أخت، يوصيني عليه ،وكم اوصاني بأمك.

-لو استطعت يا ابنة عمي ،كلمي امي وابي عن جميلة ،اجعليهم هنا يسامحونها ويرحبون بها ،اعتني بها وبالمولود، لو عرفوها سيحبونها، ألم تحبيها يا ابنة عمي؟

-بلى ،أحببتها، وهي جميلة وتحب ،اطمئن ستكون بخير.

ولكنني لم أستطع إقناع عمي ،لما علم أنها حامل تقصى أخبارها وعرف بولادتك، تتبع اخبارك حتى دخلت الجامعة ،والباقي تعرفينه.

خذي ،هاهو الخطاب ،تعالي ،سأدلك على قبر أبيك ،اقرأيه هناك ،ثم عودي إلى البيت.

-وهل المدافن قريبة من هنا ؟ ظننتها بعيدة ولذلك خجلت أن أسأل .

-المدافن بعيدة فعلا ،ولكن جدك اخذ تصريحا بجعل مدافن العائلة على ارضنا.

سارتا عبر طريق ضيقة متربة، حتى وصلتا سياجا من خشب ،وعلى يمين الداخل شجرة زيزفون كبيرة ،سارت خلف ام يوسف ،مرت على ثلاثة قبور قبل أن تصل الرابع والأخير.

تحيطه احجار رخامية ،وعلى شاهد كتب اسم الفقيد وآيات قرآنية .

-هذا هو .

قرأت له الفاتحة ودعت له بالرحمة ،وهمت لتغادر .

-هل يمكن أن أسألك ماما ؟ السؤال جريء ويمكنك ألا تجيبي.

-اسألي ،لأعرف هل يمكنني أن أجيب ام لا .

-هل كنت تحبين بابا؟

-نعم ،أحببته، فقد نموت على كلمة أسمعها منذ فهمت الكلام ،أننا لبعض ،رغم سفره لسنوات الدراسة ،كنت انتظره ،ولكنه لما عاد ،وقرر عمي أن يزوجنا ،رفض ،كنا كلنا نعيش في البيت الكبير ،ويشاء القدر أن اسمعه وهو يرفضني، كان يعتبرني كفاطمة ،ولم يفكر بي أبدا كزوجة ،حفاظا على كرامتي رفضته أيضا، غير أن ابي وعمي لم يهتما لرفضنا او قبولنا، وتم الزواج.

 كما اخبرني ،لما عشنا بعيدا عن الأسرة، لقد حاول أن يحبني ،حاول أن يراني بعين الزوج لا ابن العم ،و حاول أن ينمي الألفة والتعود لعلها تصبح حبا ،وكان يطلب مني السماح ،كان طيبا حنونا، ولكن الحزن بعينيه لم يغب عني ،ثم التقى بأمك ،زاد حزنه وزادت حيرته، أحسست بتغيره وسألته أن يحكي لي والا يكذب علي ،وما كان ليكذب، فاخبرني بحبه لها ،كانت عيناه وهو يتكلم عنها تلمعان بذاك البريق الذي طالما تمنيت أن أراه بهما ،وابتسامة حالمة لا تفارق شفتيه، شجعته أن يكلمها ،ويتقدم لها ،ولكنه رفض ،رفض أن يجرحني او يتخلى عني ،فأكدت له أنني مثله مجبرة على العيش معه ،وأن خلاصي وراحتي في البعد ،لم أكذب في أن راحتي في البعد ،لأن العذاب أن تعيش مع حبيب لا يحبك  صحيح انه يحترمني،لطيف معي ،ولكن ،حب ،لا.

وأبديت له رغبتي في الطلاق، وأنني تعبت وأفضل الانفصال .

-ضحيت بحبك وسعادتك لأجله.

-بحبي نعم ،أما بسعادتي ،فلا ،لأنني لم أكن سعيدة ،المرأة تريد زوجا يحبها بل يعشقها ،لأن مع العشق يأتي الحنان ،والاحترام والرحمة والمودة ،أما من غيره ،حياة باردة ،مع الزمن تصبح رفقة طريق او مشاركة سكن .

-انسحبت ببساطة .

-وعوضني الله ،عمر أحبني، كما تمنيت ،وحبه طغى على حبي لابيك حتى بهت وانزوى بعيدا ،ربما حبي لابيك لم يكن كافيا ،لأن حب عمر لي كان كافيا لنا معا ،وشيئا فشيئا أحببته، وانساني حبي لابيك.

اقرأي خطابه ،ولا تتأخري.

جلست وفتحت الظرف ،كتب على ورقة بيضاء كلماته لمولود لم يكن يعلم جنسه ولكنه بثه حبه دون أن يغفل وصاياه

-لا اعرف إن كنت ولدا ام بنتا ،ولكن مهما كنت فأنت ثمرة حب عاش بقلبي وروحي.

أعلم او اعلمي ،أنني احببتك وملكت الدنيا يوم علمت بحمل امك بك،ولكنني علمت أنني قد لا أراك ،فضاعت فرحتي،لو أراد الله وحصلت المعجزة ،فسأبذل عمري لأجل سعادتك ،ولو مت فحب امك جميلة كفيل أن يعوضك .

تركت لك خطابي مع ابنة عمي ،وأم أخيك يوسف ،كما أوصيتها أن تخبره عنك ،ووعدتني أن تربيه على حبك ،غير أني أخشى أن يزرع فيه جدك غير ذلك ،ولكنني أثق فيها وفي أمي،التي أوصيتها عنك،لو تسلمت خطابي بعيدا عن بيت جدك ،فحاول أن تأتي إليه، أبي رغم قناع القسوة حنون ،وربما الان موتي قلبه لك،لو جئت ،ابق ،لا تغادر ، احضر امك وعش وسط أهلك،ولا تسني بالدعاء.

ابوك الذي يحبك.

لم يقل كلاما كثيرا ،ولكن وصيته بالبقاء وسط الاهل جعلتها في حيرة ،كيف تنفذ وصيته و عالمها في مكان آخر؟

عادت مساء ،استقبلتها حنة 

-زرت قبر والدك؟

-نعم ،عليه رحمة الله.أين يوسف؟

بغرفته ،قال أنكما ستغادران صباحا.

-سأذهب لأستعد إذن.

كانت تهرب منها ،كأنها تخشى أن تعلم بوصية والدها فتطلب منها البقاء ،الحياة وسط الاهل منعمة بالحب والاهتمام جميلة ،ولكنها حياة ليست كاملة ،عالمها به أناس آخرون ،وعمل وإنجازات تفتخر بها.

ربما خاف أبوها عليها الوحدة مع أمها دون سند ،اراد للمولود ولو كان رجلا ،أن يستند الى جذوره ،ولكنها قوية وحدها، ونعم،  زادت قوة بهم.


        الفصل التاسع عشر من هنا 

        لقراءة باقي الفصول من هنا 


تعليقات