أخر الاخبار

رواية صرخات انثى الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم ايه محمد رفعت

         

رواية صرخات انثى

الفصل الثالث والاربعون 43 

 بقلم ايه محمد رفعت



جاب الطرقة ذهابًا وإيابًا وهو يطرق كفًا بالأخر، الغضب والغيظ يكاد يفجر أورداته، فزفر "يوسف" الجالس على الدرج جوار "علي" هاتفًا بسخطٍ: 

_ما تترزع في أي مكان يا عُمران خيلتنا يا أخي! 


اتجه للدرج الجانبي حيث مكان جلوسهما وهدر بانفعالٍ:

_انتوا جايبن الهدوء الغبي ده منين، بقالنا ساعتين قاعدين القعدة دي، ومفيش أي جديد، لا موبيل آدهم بيجمع ولا عارفين نوصل لأي خبر عن أيوب!! 


أجابه علي وهو يحيط قدميه بيديه بتعبٍ من تلك الجلسة الغير مريحة: 

_يعني في ايدينا أيه نعمله يا بشمهندس!! 


ربع يديه بمنتصف خصره وشمل أخيه بنظرةٍ متفحصة: 

_علي هو إنت جايب برودة الاعصاب دي ازاي! 


ابتسم وهو يجيبه بغموضٍ: 

_جاتني من وقت ما آدهم نزل من عربيته يكلم الشخص اللي وقف بنص الطريق، ولو عرفت مين هو هتطمن وهتكون على ثقة إن أيوب راجع. 


إتجه إليه مسرعًا بلهفة تتلألأ داخل رماديته: 

_مين هو؟ 


اتجهت نظرات يوسف وعُمران المهتمة إليه، فأرضى فضولهما قائلًا: 

_الاسطورة رحيم زيدان، أخو مراد زيدان الاتنين دول ظباط تقال في المخابرات وبالذات رحيم. 


وتعمق بالتطلع لأخيه قائلًا: 

_هو اللي أنقذ فطيمة من اللي اتعرضتله. 


سكنت ملامح عُمران باطمئنان، أما يوسف فكان حديث علي يعد كاللغز من أمامه، ما علاقة زوجته برجلٍ كهذا وما الذي تعرضت له بالتحديد؟ 


لم يعينه الأمر كثيرًا ولكن تضاعفت آماله بعودة آيوب، الثقة البادية على "علي" جعلت خوفه يهدأ تدريجيًا، جلس ثلاثتهم على الدرج الجانبي، حتى إلتقطت آذانهم صوت المصعد ومن بعده خرج "أيوب" و"آديرا" التي تتمسك بيده وآثار الذعر يستحوذ عليها. 


_آيـــــــــــوب! 


تحرر نداء عُمران بلهفة جذبت انتباهه، فالتفت ليتفاجئ بهم يجلسون على الدرج قبالة شقته، ترك يدها وهرع إليهم، فضمه عُمران بقوةٍ ألمت جسده المحتفظ بأثر اللكمات التي نالها، ولكنه احتملها بسعادة، واستمع له يهتف بفرحةٍ: 

_الحمد لله إنك كويس وبخير، أنا كنت هتجنن لما عرفت باللي حصل.. كنت خايف من اليوم ده والحمد لله إنه عدى ورجعت بالسلامة. 


أغلق عينيه يستشعر حنان ضمته وحديثه الحنون، فوجد يد يوسف تمتد لتنتشله من بين ذراعيه هادرًا بمزحٍ: 

_ما توسع خلينا نطمن على البشمهندس اللي موقع قلوبنا من صبحية ربنا. 


وضمه يوسف بحبٍ مربتًا على ظهره: 

_حمدلله على سلامتك يا بطل... لينا قعدة تفهمنا فيها اللي حصل. 


أجابه وهو يبتعد عنه بفزعٍ ولهفة: 

_سيف كويس!!   بعتولي رسالة من موبيله وصلوا ليه ازاي؟ 


لم يكن يريد أن يداهمه بما يشغله بتلك اللحظة، فأسرع علي بالتداخل وهو يستقبله بابتسامة جذابة: 

_حمدلله على سلامتك يا أيوب. 


منحه ابتسامة واسعة ممتنة: 

_الله يسلم حضرتك يا دكتور علي. 


لف عُمران ذراعيه حول كتف أيوب وقال: 

_هنقضيها كلام على السلم ولا أيه ما تفتح الباب بدل رميتنا بره بالساعات بسببك يابن الشيخ مهران. 


أخرج من جيب بنطاله المفتاح واتجه للباب يفتحه بترحابٍ: 

_لا ازاي طبعًا... انا متأسف أوي على القلق اللي عيشتوه بسببي. 


رد عليه علي بلباقة: 

_فداك المهم انك رجعت بخير! 


أشار لهم بالدخول قائلًا: 

_اتفضلوا. 


ولجوا جميعًا وكاد بتتبعهم ولكن عقله أرشده لشيءٍ مبهم، أين آديرا؟ 


راقب الطرقة بنظراتٍ متفحصة، وبحث جوار المصعد، التفت ليكمل بحثه فوجد عمران يقابله مستفهمًا: 

_بتدور على أيه؟ 


أجابه بصدمة من عدم رؤيتها: 

_آديرا! 


ارتفع بصر عُمران تلقائيًا على الدرج العلوي، فتطلع إليه أيوب، فتفاجئ بها تختبئ خلف درابزين الدرج وتراقب عُمران بنظرةٍ مرتعبة، كأنها ترى وحشًا مخيفًا يهرب من أسطورة مظلمة تكاد تبتلعها. 


وزع أيوب نظراته الحائرة بينهما، فوجد عمران يسحب نظراته الحادة عنها ويدلف للشقة بصمتٍ قاتل، فصعد للأعلى يناديها وهو يصيح بتهكمٍ: 

_بربك يا فتاة ما الذي تفعلينه هنا؟! 


ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، فحملت طرف فستانها الممزق واستقامت بوقفتها قبالته، تهمس له ونظراتها المرتعبة تراقب باب الشقة: 

_أأخبرت صديقك الشرس هذا بأنني نعتك بالإرهابي اليوم؟   صدقني لم أكن أقصد ذلك، حتى حينما تعلقت بك فعلتها لإنني أثق بأنك لن تترك عمي يقتلني... آآ... أنا أثق بك أيوب!! 


كلماتها المرتبكة الاخيرة جعلته يبتسم وهو يردد: 

_وهذا ما أريده سدن! 


رمشت بعدم استيعاب وهتفت في محاولةٍ لنطق العربية: 

_سداان!!  ماذا!! 


فرك أنفه بارتباكٍ فمازال على عهده بعدم الضغط عليها لاستمالته لاعتناق الدين اجبارًا، سيجعلها تخطو لعودتها رويدًا رويدًا، فتنحنح بخشونة: 

_هيا.. تعالي! 


هزت رأسها نافية بذعرٍ: 

_سأنتظر هنا لحين مغادرة ذلك المتوحش... أنت لا ترى نظراته لي وكأنه سيقتلني بأي لحظة!  


وتابعت وهي تلعق شفتيها الجافة: 

_أتعلم أنا أخشاه أكثر من عمي اللعين! 


ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وبعد محاولة من استعادة ثباته قال: 

_ألم تخبريني منذ قليلٍ بأنكِ تثقين بي؟ 


هزت رأسها تؤكد له، فمد كفه يطرحه لها: 

_حسنًا... أنا هنا.. لا بأس!! 


تعلق كفها بكفه، وهبطت خلفه للأسفل بحذرٍ، ولجت آديرا للداخل وما أن خطت قدميها الشقة حتى سحبت كفها منه وهرولت للداخل وصفقت الباب بعنفٍ جعل يوسف يضحك: 

_منك لله يا عمران مربي للبنت الرعب! 


لم يعنيه أمرها من الأساس، فتابع أيوب الذي أغلق باب الشقة وإتجه إليهم، وسأله بلهفة: 

_احكيلنا اللي حصل يا أيوب، وفين آدهم؟ 


رد عليه بحيرةٍ ظاهرة: 

_اللي حصل كان غريب ومش مفهوم... آدهم تحت مع الشخص الغامض اللي انقذنا. 


واستطرد بحماسٍ كالطفل الصغير: 

_القائد بتاعه اللي خرجنا من جوه ده باين عليه إنه تقيل أوي، نظراته وشكله وهدوئه مخيف، طول ما احنا في العربية مفتحش بوقه بكلمة واحدة وفي لحظة خروجه من المكان اللي كنا محبوسين فيه المكان اتنسف في لحظتها وهو خارج ثابت ومرمش حتى!!!!  


وتابع بضحكة ساخرة وهو يجاهد لوصف الموقف: 

_عارفين أبطال الأفلام الهندي الأوفر، لما تلاقي البطل خارج ببرود من وسط الانفجار!! 


ضحك يوسف بقوةٍ بينما ابتسم علي، أما عُمران فلم يستطيع السيطرة على غيظه القابع بداخله، فنهض عن الأريكة يجذب أيوب من تلباب قميصه بعصبية اتبعت نبرته المرتفعة: 

_بقى أنا قاعد هموت من القلق عليك وعلى أعصابي من ساعتها وإنت راجع تحكيلنا عن بطولات الظابط اللي أنقذك، بروح أمك مش حاسس بالحالة اللي أنا فيها!! 


منع ضحكة كادت بالانفلات منه فرفع رأسه فوق يده المنكمشة على عنق قميصه وقال: 

_طيب نقعد وهحكيلك طيب، أبو اللي يعصبك يا جدع! 


ضحك يوسف مؤكدًا له: 

_حذرتك قبل كده ألف مرة يا أيوب، متحاولش تخرجلنا الطاووس الوقح من مكانه، سيبنا نتعامل مع البشمهندس عُمران الراقي على قد ما تقدر. 


دفعه عمران بغضب وعاد يحتل مكانه، ومازال الغيظ يأجج أعصابه، يود أن يقتص من ذلك الحقير الذي اعتدى مرتين على أصدقائه، مرة نالها سيف والأخر أيوب الذي تضرر وجهه بشكلٍ ملحوظ. 


ولج "آدهم" للداخل باستخدام مفتاحه الخاص، فانضم إليهم يهتف مازحًا: 

_مساء الخير، أتمنى مكنش جيت متأخر! 


أشار له أيوب بحماسٍ مضحك: 

_تعالى يا آدهم احكيلهم على القائد اللي كان معاك ده محدش راضي يصدقني! 


وضع مفاتيحه على الأريكة وجلس قبالتهم يقول بملامح جادة: 

_أيوب إنت لازم ترجع مصر إنت وآديرا في أقرب فرصة، وجودك هنا الفترة دي مش في صالحك لحد ما الموضوع يتنسى. 


اعتدل بجلسته بدهشةٍ، وصاح إليه:

_ازاي وامتحاناتي بعد شهرين ونص يا آدهم؟ 


رد عليه بهدوءٍ وحكمة: 

_الباشا اللي طلب كده، متنساش إن الموضوع هيتحقق فيه بعناية والله أعلم إذا كان حد غيره عارف بموضوعك فيخدوها حجة ويلبسوك التهمة، انزل مصر وارجع تاني على امتحاناتك أسلم من كل ده... أنا هحجزلك معايا على نفس الطيارة اللي نازلة مصر. 


ساد الصمت بينهم حتى قال علي برزانة: 

_آدهم بيتكلم صح يا أيوب وجودك هنا بالتوقيت ده خطر عليك وعليها. 


تسلل الحزن لملامح عمران، فتنحنح بارتباكٍ: 

_يعني مفيش حل تاني غير إنه يرجع مصر، خليه هنا وانا هحاول أمن ليه مكان كويس. 


ابتسم آدهم وهو يقرأ تعابيره الحزينة لمعرفته بسفر أيوب المحتمل، وأجابه بثبات: 

_ونضمن منين إن اللي حصل ده ميتكررش تاني؟  ده أمن حل صدقني، وبعدين دي فترة مؤقتة وهيرجع تاني. 


واستكمل يوضح لهم خطورة الموقف: 

_احنا خايفين من الكام ساعة اللي هيقضيهم أيوب هنا لحد ما يركب الطيارة فما بالك لو قعد!!  


وانتقلت نظراته لزوايا الشقة: 

_الشقة دي معتش أمان بعد ما اتعرف مكانها. 


أسرع عُمران بالحديث: 

_خلاص لحد معاد الطيارة أيوب هيجي عندي في الملحق اللي جنب القصر، عمي أحمد لسه مكلمني من شوية وبلغني بأن الحرس اللي طلبهم وصلوا ومحاوطين البيت فكده هيكون في أمان لحد معاد سفره. 


أجاد آدهم فكرته مناسبة فقال: 

_خلاص يبقى أيوب يفضل عندك لحد ما نرتب للسفر. 


رفع عينيه الدامعة إليهم وقال بصوتٍ محتقن: 

_بس أنا مش عايز أسافر، أنا عايز أقعد هنا... مش هقدر أبعد عن سيف وعُمران. 


واستدار برأسه تجاه الأخير يخبره على استحياء: 

_ولا عنك يا آدهم... أنا مش هسافر! 


استولى الصمت على المجلس، والحزن يصل لدرجة لا تطاق، مزقه يوسف حينما قال بعقلانية: 

_ده لمصلحتك يا أيوب.. وإن كان عليهم فآدهم نازل معاك مصر على نفس الطيارة يعني مش هيبعد عنك يا عم، وعمران وسيف محلولة المكالمات الفيديو مفيش أكتر منها، كلمهم طول النهار والليل لحد ما ترجع تاني. 


أزاح دمعة خائنة كادت بأن تفضحه، وهز رأسه بهدوء رغم تمزق قلبه من لوعة الفراق بينه وبين اصدقائه، فحطم علي حزنهم ذلك حينما قال بسخرية تامة: 

_بعيدًا عن الجو الشاعري اللطيف ده بينكم بس انتوا نسيتوا حاجة مهمة. 


اتجهت أعين الثلاثة إليه بترقب، فاستكمل حديثه ببسمة واسعة: 

_آديرا هترجع مصر مع أيوب ازاي؟  أو بالمعنى الأدق هتظهر قدام الشيخ مهران بأي صلة؟ 


لوى عُمران شفتيه ساخطـًا: 

_هيأخده بالاحضان وهيقوله يا فرحة أمك بيك!! 


ارتبكت معالمه وهو يتابعهم بنظرات صامته، وردد بعد فترة طويلة من السكون: 

_لو اضطريت هكشفله الحقيقة. 


رد عليه الطاووس الوقح ساخرًا: 

_وأيه هي الحقيقة يا ابن الشيخ مهران!!  انك اتجوزت آديرا اليهوديه؟ 


هز رأسه ينفي مقصده المبطن وردد مصححًا: 

_اتجوزت سدن المسلمة يا عمران!! 


جحظت أعينهم من صدمة ما تفوه به، فلم يستطيع أحدٌ ربط ما يقول، فسبقهم علي وسأله: 

_تقصد أيه؟  إنت مخبي أيه تاتي يا أيوب؟ 

                                *******

وضعت أمامها أصنافًا عديدة من الجبنٍ، وأخذت تبحث بين محتوياته بحيرةٍ، فتابعت تلك التي تقبع أمام شعلة النيران تنتظر ما ستحضره فنادتها بيأسٍ: 

_شمس! 


استدارت إليها تشير بيدها: 

_هااا... يالا اديني الجبنه!


أشارت لها فاطمة بتذمرٍ: 

_في أنواع كتيرة قدامي عايزة أنهي نوع؟! 


اتسعت بسمتها الخبيثة، وأردفت: 

_هاتيهم كلهم يا فاطيما... هعمل صوص جبن مشكل للمكرونة هيبقى تحفة. 


وأشارت على البراد قائلة: 

_طلعي انتي الاستربس واعمليه لحد ما أخلص. 


ربعت يديها أمام صدرها وتابعت بدهشةٍ ساخرة: 

_شمس الساعة داخلة على ١١ وانتي واقفة تعملي مكرونة وفراخ!!  


وضعت الملعقة بفمها تستطعم مكونات الحليب الممزوج بالطحين، وفور أن استمعت لصوتها الساخر هرولت إليها تصيح: 

_وطي صوتك فريدة هانم هتسمعنا دي ممكن تحرمني من الأكل اسبوع جاي عشان أخس الكام كيلو اللي هيزيدهم بعد الواجبة دي، وبعدين يا فطوم فيها أيه لما نقوم نص الليل نضرب مكرونة واستربس وبانيه؟ 


جحظت عينيها صدمة: 

_كمان بانيه!!  انتِ الجواز فتح نفسك على الأكل ولا أيه؟! 


جذبت عُلبة الجبن واتجهت لتضع بالبشمل المخفوق هادرة بسخرية: 

_هو فين ده... حبيبتي أنا اتجوزت واحد عامل زي العفريت بيختفي فجأة وبيظهر فجأة.. أنا من ساعة الحفلة وأنا معرفش عنه حاجة!! 


وزادت من وضع الجبن الكيري قائلة بسخط: 

_مفكرش يكلمني مرة.. أنا خايفة أسافر معاه مصر ليسبني ويختفي!!  


وتابعت وهي تضع الملح: 

_اللي مطمني إن علي هيكون معايا. 


تجهمت ملامح وجهها بحزنٍ، لا تعلم كيف ستظل تلك المدةٍ دونه، "علي" ليس زوجها فحسب، حسنًا هي تعشقه حد الجنون، سيطر على عاطفتها لدرجة جعلتها ترغب به! 


لم يكن بأوسع مخيلاتها أن تمارس حياتها الطبيعية برفقته، وقد نجح هو بجعلها ترضخ له ولمشاعرها، ولكنه لا يعي بأنه بالنسبة لها كالهواء الذي يصعب على الإنسان العيش دونه، كيف تخبره بأنها حينما تلوث الهواء من حولها بفعل ما ارتكبه هؤلاء الجناة كان هو قناعها الذي مدها بالأكسجين النقي حتى تفادت كل تلك الغازات السامة! 


تخيلها لفراقه عنها شعرت وكأنها تقف وسط وابل من الأمطار الباردة وللغرابة شعرت بأنها ترتجف دون ارادة منها، فرفعت ذراعيها تضم ذراعيها بخفةٍ. 


أفاقت على شمس التي تخبرها بدهشة: 

_الباب اتفتح... شكل علي أو عُمران رجعوا! 


أزاحت مريول المطبخ واتجهت للرخام المجوف لتتمكن من رؤية القادم، فانزوى حاجبيها وهتفت بذهولٍ: 

_مايا كنتِ فين انتي وزينب لحد دلوقتي!! 


انكمشت تعابيرها صدمة من وجود شمس وفاطمة بالمطبخ بهذا الوقت، فقد عادت للقصر برفقة زينب ويوسف الذي أصر أن يُوصلهما ولكن زينب كانت تشعر بضيق أنفاسها فور أن استقرت السيارة أمام القصر، فطالبتها أن تتجه بهما لمكانٍ منعش، فرضخت لها مايسان حينما وجدتها بحالة نفسية سيئة. 


ارتبكت زينب حينما وجدت شقيقتها تقترب منهما وتتساءل باستغراب: 

_كنتي فين يا زينب؟ 


ابتلعت ريقها بارتباكٍ قاتل، وتطلعت تجاه مايا كأنها تطالبها بأن تنجدها، فطرقت حقيبتها على الطاولة القريبة وأسرعت لفاطمة تخبرها بتوتر: 

_أنا كنت مخنوقة شوية يا فاطمة لاني اتخنقت مع عُمران النهاردة.. فقولت أنزل أتمشى شوية بالعربية وأخدت زينب معايا. 


تعلقت عين فاطمة بأصابع الكف البادية على وجه زينب والتورم الملحوظ، انتفض جسدها فجأة وتراجعت للخلف تضم قبضة يدها تستمد القوة لمواجهة كل ما يعتريها من بعض مشاهد الاعتداء عليها المتفرقة، فاستمدت قوة ومجاهدة كبيرة لنطقها المرتبك: 

_أيه اللي في وشك ده يا زينب... قوليلي الحقيقة انتي كنتي فين؟ 


تمعنت بملامحها المتوترة والمنفعلة، كطبيبة علمت بأن شقيقتها على وشك التعرض لنوبة قاتلة، انعكاس تعابير وجهها حركات أصابع يدها المتشنجة، حدة أنفاسها، لم تكن تعلم بأنها متضررة لتلك الدرجة، لذا استجمعت قوتها لتجيبها بهدوءٍ: 

_مفيش يا فاطمة اتخانقت مع بنت في الجامعة وزي ما انتي شايفة ضربتني بالقلم بس الحمد لله مايا اتدخلت وحلت الموضوع وصممت تخرجني عشان أنسى اللي حصل. 


واستدارت لمايا تحذرها بنظرة ثابتة: 

_مفيش داعي انك تخبي عليها لإن الموضوع خلاص اتحل. 


تنحنحت مايا وهي تدعي شعورها بالحرج ليمر الأمر، على فاطمة: 

_أنا مكنتش عايزة أقلقها مش أكتر. 


صاحت شمس بانفعالٍ وهي تندفع لتراقب اصابة زينب عن قرب: 

_ودي مين المتوحشة دي... لازم تقدمي شكوة فيها للادارة يا زينب. 


أكدت لها مايا بحزم: 

_عملنا كده فعلًا والبنت اعتذرت.. الموضوع اتحل الحمد لله. 


بخطواتٍ متوترة اقتربت فاطمة من زينب، تراقب اصابة وجهها وأصابعها موضوعة بفمها تضغط عليها ببكاءٍ، وما أن اقتربت منها حتى ضمتها إليهل بحركة مرتبكة وبكت وهي تتساءل بصوتٍ مزق قلب مايا وشمس: 

_بتوجعك؟ 


تعلقت بها زينب وهي تجاهد أن لا تسقط دموعها، فرددت: 

_لا خالص.. أنا كويسة والله. 


كانت تحمل بداخلها ألمًا نازفًا لما حدث إليها، وما أن رأت حالة فاطمة شعرت بأنها تكتسب قوة يحيطها الخوف من أن تنتكس حالة شقيقتها، شددت زينب من ضمها فهي لا تمتلك سواها، فقدت أبيها ولم يكن لدي شقيقها الأكبر ولا الأصغر حنان تجاهها، لم تعد تمتلك سواها وبالطبع لن تسمح أن تعود لظلمتها القاتلة، إن كانت تعرضت لجرحٍ بعنق السكين شقيقتها انغرس بداخلها السكين بأكمله! 


أدمعت أعين شمس ومايا تأثرًا بهما، فقالت مايا بصوتٍ باكي: 

_خلاص يا أوفر إنتِ وهي! 


أزاحت شمس دموعها بأصابعها وقالت بشهقاتٍ طفلة باكية: 

_بطلوا عياط بقى الله.. وأنا اللي سهرانه أعمل مكرونة وبانيه ومزاجي كان رايق قلبتوهالي نكد. 


جذبت مايا قبعة البيجامة للأعلى هاتفة بحنقٍ: 

_آه يا حقيرة مكرونة وبانيه من ورايا!! 


أجابتها سريعًا وهي تحاول تخليص ملابسها: 

_عملت حسابك معانا يا طفسة بس آآ.. 


وسحبت نفسًا مطولًا من أنفها وهي تعيد كلماتها:

_أيه الريحة دي!! 


ابتعدت فاطمة عن زينب واجابتها بضحكة صاخبة: 

_المكرونة والبانيه اتحرقوا يا عروسة!! 


هرولت للمطبخ وهي تصرخ بصدمة: 

_مكرونتي.. فراخي... صوص الجبن المكس... أووووه لاااااا. 


انفجرت الفتيات من الضحك، فأشمرت مايسان عن ساعديها وأشارت بمزح: 

_بينا ننقذ ما يمكن إنقاذه أو نعمل غيرهم أنا بصراحة جعانه جدًا! 


وصاحت وهي تهرول للمطبخ: 

_هيا بنا يا فتيات! 

                               ********

اختلج السكون بينهم، ما قاله ليس هينًا بالمرةٍ، الجميع يجلس بصمتٍ قاتل، النظرات تحيل بهم وتجتمع لآيوب المتحفز لاي سؤالًا قد يُطرح، فكان عُمران أول من تحدث: 

_يعني البنت دي المفروض إنها مسلمة؟ 


هز رأسه يؤكد له، مال يوسف يستند على ساعديه: 

_ازاي الأخ يقتل أخوه بالشكل البشع ده،  وبعد ما أخد أولاده وكبرهم جاله قلب يقتل أخوها ويحاول يقتلها!


أجابه عمران ببسمة ساخرة:

_  مستغرب ليه يا دكتور دول ولاد **** معندهمش ملة ولا ضمير. 


تنهد علي بحزنٍ، وأخفض ساقيه عن طرف الاريكة ليعتدل بجلسته متسائلًا بحيرة: 

_طيب ليه مش عايز تديها الدفتر اللي سابه أخوها يمكن لما تعرف الحقيقة الموضوع يفرق معاها وتأسلم! 


رد عليه آيوب بعقلانية ورزانة: 

_لآني ببساطة مش عايزها تحس إنها مجبورة إنها تأسلم، عايزها تختار ده بارادتها ووقتها هسبها تعرف الحقيقة. 


وتابع بابتسامة جذابة: 

_وبالمناسبة ده قرب يحصل لإنها واحنا مخطوفين قالتلي إنها عايزة تعرف أكتر عن ديني فده معناه إني قربت أوصل للي أنا عايزه. 


ابتسم آدهم وأشار له باعجابٍ: 

_مطلعتش سهل يابن الشيخ مهران! 


تعالت ضحكاته الرجولية مرددًا بمشاكسةٍ: 

_عيب عليك يا سيادة الرائد. 


تعالت بينهم الضحكات الرجولية، ومن بينهم انطلق رنين هاتف يوسف فحمله وتطلع للمتصل وهو يقول بضيق: 

_يا خبر أنا نسيت جمال خالص... أنا دبسته مع سيف في المستشفى كل ده. 


برق آيوب بصدمة، وتساءل بقلقٍ: 

_سيف في المستشفى بيعمل أيه؟  


سيطر عليهم الوجوم، فانتفض بجلسته يردد بذعر: 

_سيف حصله أيه يا دكتور يوسف؟   


أخفض عينيه أرضًا بحزنٍ، فصاح منفعلًا: 

_بسببي صح!!   أنا السبب!! 


وقف قبالته عُمران يمسك ذراعيه: 

_اهدى سيف كويس وبخير. 


غصته تزداد كلما تيقن بأنه السبب فيما أصابه، بالطبع تمكنوا منه ليحصلوا على الهاتف، انتفض بين ذراع عمران وهمس له باكيًا: 

_عايز أشوفه يا عُمران! 


ربت على ظهره بحنان وحزن يغترفه: 

_هاخدك ليه بس اهدى.


وأبعده عنه مشيرًا له: 

_هتوصلها الأول للملحق وبعدين هنطلع على المستشفى. 


وتابع وهو يخرج برفقة الشباب: 

_هاتها وانزل. 


                         ******

ولج أيوب للغرفة فوجدها تغفو على الفراش بانهاكٍ وبنفس ثيابها، حركها برفقٍ وهو يناديها: 

_آديرا.. انهضي سنترك هذا المنزل. 


نهضت بتعبٍ يهاجمها ورددت:

_إلى أين سنذهب؟ 


اتجه يجذب أغراضها بالحقيبة الموضوعة جانبًا، فخشى أن يخبرها بأنه من سيرحل برفقته هو نفسه صديقه الشرس الذي تهابه، فابتسم يجيب بخبث: 

_سنذهب برفقة أحد أصدقائي، فالمكان لم يعد أمانًا. 


هزت رأسها بخفوتٍ، ونهضت تحتضن كتفيها المصاب بتعبٍ تسلل لصوتها الهامس: 

_أشعر وكأن هناك سكينًا يمزق كتفي. 


استدار إليها يتفحص موضع الألم، وقال: 

_لنغادر الآن وحينما نصل تقومين بتغير الضماد. 


نهضت عن الفراش فاحتدت أنفاسها فور أن شعرت بالأرض تتراقص بها، وتلقائيًا استندت على ذراعه هامسة له: 

_أنا لست بخير أيوب.. أشعر وكأن حوائط المنزل تدور من حولي! 


أدمى شفتيه السفلية بضيق ومع ذلك ساندها حتى ولجوا للمصعد. 


هبط بها أيوب للأسفل حيث تصطف سيارة يوسف وعُمران، فما أن رأته آديرا حتى تركت ذراع أيوب الذي يعد عكازها بعد يومًا متعب رأت به الموت أكثر من مرة. 


كبت علي ضحكته بصعوبة، وأشار لأخيه: 

_روح إركب مع آدهم وأنا هسوق أنا بدل ما البنت يجيلها سكتة قلبية قبل ما نوصل. 


أومأ له باستسلامٍ غريب، وتركهما وغادر لسيارة آدهم فتحرك به على الفور. 


عاد أيوب يساندها حتى استقرت بالمقعد الخلفي واستقر هو جوار علي، اتجهت السيارتين للقصر، ففتح علي الملحق لهما، وولج عُمران للداخل ليبلغ الخدم بوجود ضيوف بالخارج ليمدهم بما يحتاجوه. 

                              *****

ولج عمران المطبخ من الباب الخلفي، فوجد شقيقته تجلس برفقة زوجة أخيه وزينب يتناولون الطعام بجو من المزح والضحك، فابتسم وغض بصره مستكملًا طريقه لغرف الخدم الجانبية للمطبخ، فتفاجئ بزوجته تهدأ النيران وتراقب القدح. 


جذبت مايسان الملعقة ورفعتها لفمها وهي تحرك شعرها للخلف حتى لا يسقط بالملعقة، تناولت ما تحمله وهي تهمس بإعجابٍ: 

_أممم البشاميل بتاعي أحلى من بتاع شمس بكتير. 


تمردت خصلة من شعرها للأمام فرفعته بضيقٍ، وهي تعود لتقليب المحتويات، شعرت بيدٍ تجمع خصلاتها وتضعها برباطًا انسدل طرفه على وجهها فتمكنت من شم رائحة البرفيوم العالقة به باجتيازٍ، أغلقت عينيها بقوةٍ ولسانها يردد دون ارادة منها: 

_عُمران! 


مال على كتفها يضمها إليه وهمسه المغري يصل لمسمعها: 

_جنبك وقريب منك يا حبيب قلبي! 


طمستها مشاعرها وقربه الخطر يقتحم أسوارها، تناست كل شيءٍ، حتى وقوفها أمام نار الموقود، مالت إليه تستجيب لحبه المطالب بقربها بعد يومًا قضاه وهو يجاهد السيطرة على اعصابه المشدودة، استكانت على صدره وصوت اندفاع دقات قلبه لقربها يرضي طبلة أذنيها، فابتسم وهو يهمس لها بمكرٍ:

_الطبخة اللي اجتهدتي وبتتباهي بيها هتولع مع شرارة الحب يا بيبي!  


رددت بعدم فهم: 

_طبخة أيه! 


مال بها يغلق الزر الألكتروني وهو يردد من بين ضحكاته: 

_طيب خليني أنقذها لما تفوقي من سحر قربي!


برقت بصدمة وهي تستعيد ادراكها تدريجيًا، فدفعته للخلف وهي تراقب الجانب الخاص بطاولة الفتيات: 

_عُمرااان أنت بتعمل أيه يا مجنون، أختك ومرات أخوك بره!!! 


منحه نظرة جريئة غير مبالية بما ذكر، وقال ويده تمتد لتعدل من جرفاته الذي يحتضن خصلاتها بتملك: 

_كده عندك ليا اتنين جرفات، واحد اتخليت عنه عشان حبيب قلب جوزه يعرف يأكل من غير ما يتضايق والتاني أخدتيه مني يوم فرح علي. 


وانحنى تجاهها يهتف بخبث: 

_فاكرة اليوم ده يا مايا؟ 


ارتبكت وعينيها تتسع صدمة من تلميحاته الوقحة، فرفعت الملعقة تهدده بها: 

_امشي يا عُمران.. إمشي بدل ما أبهدلك بالبشاميل!!! 


جذب الملعقة منها وتناول المعكرونة التي صنعتها ببطءٍ متعمدًا أن يهتف دون مبالاة بتعصبها: 

_أمممم.. لذيذة أوي.


وغمز لها بمشاكسة وهو يتابع طريقه: 

_شيلي ليا طبق لحد ما أرجع.. مش هتأخر عليكِ يا بيبي. 


رفعت يدها تتحسس نبض قلبها المرتجف بحسرةٍ: 

_هيموتني في مرة من أفعاله وجرائته دي!! 


وزفرت بغيظٍ وهي تلقي الملعقة من يدها، تنهدت بقلة حيلة وهي تجذب أحد الاطباق لتسكب لها، فعاد لها حديثه يتكرر بمخيلاتها فهتفت  بدهشة: 

_هو رايح فين تاني!! 

                               ******

تجمعوا مرة أخرى قبالة باب القصر، فصعد عُمران بسيارة آدهم جوار أيوب بالخلف، بعد أن أقنع علي بالبقاء والاسترخاء بعد يومه المجهد هذا، فولج للداخل وغادرت سيارة آدهم للمشفى ومن خلفها سيارة يوسف. 


اتجه للدرج ليصعد للأعلى ولكنه توقف فور سماعه صوت ضحكات قادمة من المطبخ، اتجه للداخل باستنكارٍ من استيقاظ أحدٌ بوقتٍ هكذا، فابتسم وهو يردد بسخرية: 

_دي العيلة كلها هنا وأنا مش واخد بالي! 


صاحت شمس بحماسٍ: 

_علي... تعالـــى اقعد عما أجبلك طبق. 


جذب المقعد المجاور لفاطمة التي تزيح بقايا الطعام على فمها بحرجٍ، فراقب الموضوع على الطاولة قائلًا بصدمة: 

_حد يأكل مكرونة والساعة داخلة على ١٢!!  شمس إنتي مش هتبطلي تعملي مصايب بليل دي. 


اجابته بمزحٍ وهي تضع أحد الاطباق أمامه: 

_الجوع كافر يا دكتور علي! 


وتابعت بحنقٍ: 

_وبعدين انت متضايق أوي ليه ما مراتك منسجمة معايا وعجبها الوضع. 


ارتشفت فاطمة من كوب المياه بحرجٍ، فابتسم علي وسحب شوكته يلتهم الطعام وهو يردد بحب: 

_اللي يعجبها يعجبني بالإجبار... ومستعد أنزل كل يوم بليل أطبخلها أنا بنفسي. 


مالت شمس على الطاولة تستند على ذراعيها، ونظراتها تمر بينهما بمشاكسة: 

_يا الله على الرومانسية والحب... أنا لو سمعت الكلام والحركات دي من عُمران مش هتفاجئ لكن دكتور علي أخويا الهادئ الخجول مش قادرة!!! 


وتابعت وهي تغلق عينيها بتنهيدة: 

_صحيح الحب بيصنع المعجزات! 


أفاقت على ضربة خافتة أصابت أعلى رأسها وقولًا حازمًا: 

_فوقي من أحلام العصر اللي انتي عايشاها دي وروحي هاتيلي مايونيز! 


استقامت بوقفتها وهي تُتمتم بضيق: 

_ماشي يا علي!! 


ضحكت فاطمة بصوتها كله، فمال عليها يسألها باهتمامٍ: 

_زينب فين؟ 


ردت عليه وهي تراقب طبقها حتى تهرب من نظراته الحنونة: 

_أكلت معانا ولسه طالعه من شوية  . 


وحينما تذكرت ما حدث لها قابلته بنظرة حزينة: 

_كانت راجعه من برة وشها وارم وقالتلي إن ليها زميلة في الجامعة اتخنقت معاها ومايا راحتلها وحلت الموضوع، كنت عايزاك يا علي تروحلها الجامعة وتشوف البنت دي لتضايقها تاني أو تعملها حاجة. 


وتمردت دموعها وهي تخبره: 

_أنا ماليش غيرها يا علي.


سحبها بأحضانه وربت على رأسها بحنانٍ وقلق من معرفتها الحقيقة، فقال:

_متخافيش يا حبيبتي أنا هروح معاها بكره بنفسي وهشوف الموضوع ده، المهم متزعليش نفسك. 


رفعت رأسها إليه ومازالت قريبة منه: 

_علي أنا حاسة إن زينب فيها حاجة، بتحاول تخبي عني ومش راضية تقولي مالها بس أنا حاسة بيها والله. 


وتابعت بانهيارٍ هزمه: 

_نفسي أخدها في حضني وأحتويها بس مش عارفة يا علي... أنا أول ما شوفت وشها كده اتخشبت وافتكرت اللي حصلي وآآ... وخوفت أوي يكون اتعرضت للي أنا اتعرضت ليه... آآ.. أنت مش فاهمني أنا أي عنف بشوفه بيفكرني باللي أنا شوفته. 


خشى أن يتصاعد أمرها لنوبة قد تعيقه عن طريق تقدمه بما أحرزه، فربت على حجابها بحنانٍ وحب: 

_اهدي يا فطيمة.. كل ده من خيالك إنتي، مفيش حاجة من دي صح. 


نفت ذلك باشارة متعصبة: 

_لأ يا علي.. صدقني أختي فيها حاجة بس هي خايفة تتكلم وتقولي علشان حالتي، إنت مشوفتنيش من شوية لما شوفتها حالتي كانت عاملة ازاي لدرجة انها خافت عليا ومكنتش حابة إني أشوفها بالوضع ده! 


ضمها إليه بكل قوته وانحنى يقبل جبهتها، وهو يعمق نبرة صوته الرخيمة: 

_خوفك عليها وخوفها عليكي ده شيء طبيعي يا فاطمة... مش معناه إنها بتحرص علشان تعبك، ثم إن مين اللي قالك إنك مريضة؟!!   انتي بقيتي زي الفل ومبقتيش محتاجاني معاكي خلاص!  


تعمقت بالتطلع إليه بنظرة متلهفة، فضم ذقنها بأبهامه وهو يستكمل بذكاءٍ: 

_تفتكري لو بخدعك كنت هسيبك وانتِ تعبانه وهسافر مصر؟ 


أضاء الأمر بمُقلتيها، فقال بابتسامة جذابة: 

_فاطمة انتي بقيتي كويسة من اللحظة اللي أخدتي فيها القرار إنك تكوني زوجة ليا. 


اقتمع وجهها من فرط الخجل، فنهض وهو يقدم يده لها: 

_الوقت إتاخر يالا نطلع. 


أشارت تجاه المطبخ باستغراب: 

_والمايونيز اللي طلبته! 


جذبها بقوةٍ جعلتها تستند على صدره: 

_مش عايز غير حضنك! 


واتجه بها للأعلى تاركًا شمس تراقبه بنظراتٍ مغتاظة، فعادت إلى  طبقها تلتهمه وهي تهدر بانفعال: 

_أخوات أخر زمن الواد بيطرقني!!!  

                                   *****

زفر جمال بغضب وهو يراقب هاتفه: 

_أخوك مبيردش لييه، أنا غُلبت معاك ومفيش أي فايدة!! 


ضم يديه معًا أعلى صدره وهو يخبره ببسمة مستفزة: 

_ولو جبتلي أبويا نفسه مش هأخد حقن بردو، فاستسلم بقى يا جيمي وفكك من الممرضات اللي هيخلونا نخسر بعض دول. 


وزع نظراته المغتاظة بينه وبين فريق التمريض المنصدمين من ذلك المريض الملقب بالطبيب، فردد بحرج: 

_أعتذر منكن صديقي الأبله لا يرغب بتناول الأبرة دون وجود أخيه، لقد هاتفته وعلى الأرجح هو على الطريق  . 


ضحك سيف وصاح وهو ينحني باحترام مضحك: 

_حبيبي يا جيمي. 


بالخارج. 


وقف الشباب يتابعون الممرضات التي تخرج من الغرفة تباعًا بدهشةٍ، وما أن ولجوا للداخل حتى صاح جمال: 

_يوسف إنت لبستني أخوك ومشيت!!  الدكتور المحترم مفرج علينا المستشفى من ساعتها، مش راضي يأخد لا حقن ولا محاليل أمال جايبنه هنا يهبب أيه!! 


ربت آدهم على كتفه بشفقةٍ: 

_اهدى يا بشمهندس مش كده. 


اتجه عُمران لفراشه يردد بسخرية: 

_بقى كل المزز دي تعدي عليك ومفيش واحدة قدرت تغريك للحقنه!! 


هز رأسه بتأكيدٍ: 

_بخاف من الحقن يا عُمران. 


_سيــف!! 


نطقها أيوب الذي وقف يراقب اصابات جسد سيف بصدمة، فانتبه له الاخير وصاح بلهفة: 

_أيوب!!  آه يا ندل المستشفى بتتملى وبتتفرغ عليا من ساعتها وإنت لسه فاكر تآآ.... 


ابتلع باقي جملته حينما اقترب أيوب منه فلاحظ الكدمات الزرقاء التي تملئ وجهه، فتساءل بفزعٍ: 

_مين اللي عمل فيك كده؟ 


ووزع نظراته بينهم بشكٍ: 

_الصبح أنا ودلوقتي أيوب!!   


وعاد يتمعن به هاتفًا بعدم تصديق: 

_عمها وصلك!!  عشان كده أخدوا تليفوني!! 


مال عليه أيوب يحتضنه بقوة ألمته، واستمع له يقول بحزن: 

_أنا السبب في اللي حصلك... قولتلك قبل كده إن الأذى هيطولك معايا. 


ضمه إليه وقال بألمٍ يعتصر رأسه: 

_ولو فيها موتة أنا راضي.. بس المهم أنك متتأذاش يا أيوب. 


جلس عُمران يضع ساقًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ: 

_لو خلصتم حلقة العشق الممنوع ده اترزع مكانك يا عم أيوب... مش ناقصين تقطيع في القلب والشرايين بكفايا اللي عملته فينا! 


ابتعد عنه واتجه يجلس جوار آدهم بالاريكة المقابلة لعمران، فتساءل سيف بفضول: 

_أيوه يعني أيه اللي حصل، دخلت وحضنت ومحكتليش عمل فيك أيه ؟! 


مرر عُمران يده على جبينه بتعبٍ، فلكزه بساقه الممتدة إليه: 

_بكره يبقى يحكيلك واتكن يا سيف عشان وربي أطلق اللي في رأسي عليك. 


تساءل أيوب ببعض الخوف: 

_هو أيه اللي في رأسك يا عُمران؟ 


كبت آدهم ضحكاته ومال عليه يهمس له: 

_كلاب صعرانه تقريبًا سمعته بيقولها تلاتين مرة! 


ابتلع ريقه بارتباكٍ ومال على آدهم يخبره بصوت منخفض: 

_عُمران بيبقى مخيف أوي لما بيتعصب، كويس إنك جيت هناك لوحدك، لو كان جيه وقفشها مقربة مني كده كان هيضيع مستقبلي!!! 


تعالت ضحكات آدهم بصوتٍ ملحوظ، فاعتدل رأس عمران المسترخي على المقعد ليمنحه نظرة جعلته يتنحنح مستعيدًا ثبات تعابيره، ومازالت أذنيه ملتصقة بفم أيوب الذي يعيد قول: 

_عارف لو آديرا عرفت آنها في بيت عُمران مش بعيد تسلم نفسها وتقر على الجريمة اللي حصلت، هي في اعتقادها إنه بيت علي وخدمنا الدكتور علي لما هو اللي فتحلنا البيت وفضل معانا، عن صدمتها لما تعرف إنهم اخوات وانهم في بيت واحد!!!  


ابتسم آدهم بينما يسترسل ايوب حديثه الهامس مستغلًا انغلاق أعين عمران واسترخائه على المقعد، بينما مازال جمال ويوسف يقفان بالخارج برفقة احد الاطباء للاطمئنان على صحة سيف:

_تعرف أنا نفسي بترعب منه بس بحبه أوي والله!  إنت مصدقني صح؟ 


استدار إليه يجيبه بضحكة ساخرة: 

_مصدقك طبعًا يا ايوب ده أنت ناقص تدخل جوه ودني وتقولي الكلام فده اداني تأكيد أنك ميت في جلدك منه مش مرعوب بس!!!! 


ضحك أيوب وأشار مؤكدًا له، ثم قال ببسمة هادئة: 

_أنا صحيح زعلان اني نازل مصر بكره بس فرحان إنك هتكون معايا..


وبارتباكٍ سأله: 

_آدهم هو أنا ينفع أفضل على تواصل معاك لما ننزل مصر؟ 


تبددت ابتسامته وأجابه بضيق:

_ إنت كنت هتقطع علاقتك بيا يابن الشيخ مهران!!!   


وبسخرية قال وهو يقلد نبرته: 

_أمال أيه أنا بحس باحساس غريب من نحيتك وبشم فيك ريحة أبويا كنت بتتسلى بيا!! 


اتسعت ابتسامته وقال: 

_خلاص هكلمك ونتقابل دايمًا. 


ابتسم آدهم وأخبره بحب: 

_مش بمزاجك يا أيوب هتقابلني غصب عنك وخصوصًا إني خلاص وصلت لمكان ابن عمك وهفتح القضية من تاني. 


انتفض بلهفة: 

_بجد؟ 


هز رأسه يؤكد له فكاد بأن يستفسر عما يقصده فناداه سيف بوجع: 

_أيـــــــوب... تعالى هنا يا حيوان أنا مش ملاحق ألمك من جنب الخلق!!  جاي تزوني وتخفف وجعي ولا تحب وتضرب صحوبية مع سيادة الرائد!! 


انفجر آدهم ضاحكًا وهو يضرب كفًا بالأخر، بينما أسرع أيوب للمقعد القريب منه يخبره بضيق مصطنع: 

_مالك بيا يا سيف مش شايفني متشلفط قدامك!! 


منحه نظرة ساخرة اتبعها قوله: 

_وأنا قدامك أيه حاطط مكياج!!  انا اتدشملت بسببك مش واخد بالك ولا اللكمة اللي اخدتها ضيعت النظر!! 


ضحك رغمًا عنه وانحنى يربت على صدره كالطفل الصغير: 

_معلش يا سيڤو علقة تفوت وإن شاء الله متتكررش تاني. 


رفع أحد حاجبيه باستنكار: 

_معناه أيه الكلام ده... هتعقل وتبطل تحشر مناخيرك مع اليهود!! 


هز رأسه وأجاب:

_عقلت وتوبت بعد المرمطة اللي اتمرمطتها. 


وانحنى يهمس له بصوتٍ يدعي البكاء الساخر: 

_صاحبك اتمرمط واتحط عليه بالجامد من عمها ابن الأ... شووفت كنت هشتم في ابتلاء أبشع من كده. 


ضحك سيف ساخرًا: 

_لا ده مش ابتلاء عمها ده من صحوبيتك مع عُمران الوقح. 


_ماله عُمران يا دكتور؟!  مش هتلم لسانك ده بروح أمك النهاردة!!!


 لفظ بها ذاك الغاضب بعدما اعتدل بمقعده، ونهض يشير للاخر: 

_هتيجي معايا ولا مشرف مع أبو لسان طويل!! 


_معاك يا باشا بس اهدى كده وروق!! 

قالها أيوب وهو يراقب ملامحه بتوترٍ، فولج جمال للداخل يشير لعمران:

_تعالى بره عايزك. 


تركهم وخرج لجمال أمام الغرفة، فقال: 

_عُمران أنا عارف إن الوقت مش مناسب للكلام ده بس اللي حصل النهاردة لازم تعرفه. 


فرك رأسه المتعب وقال: 

_اتكلم يا جمال أنا مش هسحب من على لسانك الكلام! 


سحب نفسًا مطولًا وألقى قنبلته الموقتة: 

_خالك جاني المستشفى النهاردة بحجة إنه بيزور والدتي وبصريح العبارة كده هددني إني انسحب من مشروع المول التجاري لإنه عايز يدخل معاك فيه. 


احتد الغضب برماديته بشكلٍ سافر، وصاح بعنفوانٍ: 

_مشروع أيه ده اللي عايزني أدخله معايا شريك فيه، اتجن ده بروح أمه!!!  وبيهددك إنت ليه خايف يواجهني بطمعه وجشعه مش جديد عليا!!! 


راقب جمال الوجوه من حوله وصاح: 

_احنا في المستشفى يا عمران ميصحش كده. 


هدأت انفاسه المنفعلة تدريجيًا، وأضاف بعزمٍ: 

_ماشي يا نعمان أنا وراك لما اجيب أخرك .... وعلى رأي المثل العيلة اللي مفهاش صايع حقها ضايع!!!! 


ارتعب جمال من رؤية ابتسامته المخيفة وسأله بارتباك: 

_ناوي على أيه يا عُمران؟ 


اتسعت ابتسامته وأجابه بفحيحٍ مخيفٍ: 

_كل خير يا جيمي ده الخال بردو!! 

                               *******

بالداخل. 

بذل يوسف مجهودًا مضاعفًا حتى تقبل سيف أن يوضع بيده أبرة المحلول، فاضطر الأطباء أن يضعوا بالمحلول الآبر، فجأتهم ليلى حينما ولجت تحمل عمود معدني من الطعام، وضعته على الكومود وسحبت أحد الاطباق ومن ثم سكبت له قائلة: 

_عملتلك شوربة خضار وبإيدي عشان تعرف معزتك يا دكتور سيف. 


ابتسم وهو يشير ليوسف: 

_سندني يا يوسف الريحة تجوع لوحدها وأنا واقع من الجوع. 

 

عاونه يوسف حينما رفع السرير بريموت متحكم، فقدمت له ليلى الطبق وقالت ببسمة رقيقة:

_ألف هنا. 


اشار لها يوسف وهو يضع الصينيه أمامه: 

_أعملي طبق لأيوب يا دكتورة ليلى، وشوفيله مضاد للالتهابات للاصابات اللي في وشه. 


تنحنح أيوب بحرج لتقززه من تناول تلك الشوربة: 

_انا كويس يا دكتور يوسف.


ضحك باستهزاءٍ وأعاد ما قال: 

_اديله طبق وشوفيله الدوا يا دكتورة. 


هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت إليه تناوله الطبق:

_اتفضل يا بشمهندس... هروح أجبلك من الدوا وراجعه. 


تناوله منها مرددًا باحترام:

_شكرًا. 


غادرت ليلى الغرفة وانشغل يوسف باطعام سيف، بينما ظل أيوب يراقب طبق الشوربة بأعينٍ منفرة، وحينما رفع رأسه لمن يجاوره وجده يحدجه بنظرة مهتمة وقال: 

_كل... مستني أيه؟ 


ابتلع ريقه بصوت مسموع وكأنه سيتناول شيئًا سام وقال: 

_بقرف منها يا آدهم! 


ابتسم ومال عليه يهمس له: 

_ما انت عملتهالي قبل كده واجبرتني أكلها! 


راقب الطبق لقليل من الوقت وقال: 

_لازم أكل الدكتورة ممكن تفكرني قرفان من أكلها بس أنا والله مش بحبها. 


اتسعت ابتسامة آدهم وقال كأنه يعامل طفلًا صغيرًا: 

_جدع.. كل وخلص طبقك بسرعة قبل ما ترجع. 


ابتلع سخريته وبدأ بنزع حبات البازلاء الخضراء(البسلة)  ، ووضعها على أحراف الطبق، ثم بدأ بتناولها، فقد كانت شهية للغاية. 


تابعه آدهم باستغراب، وكأن نسخته تعيد ما يفعله، انتشرت طرقات باب الغرفة ومن بعدها ولجت ليلى واقتربت من أيوب لتقدم له الدواء، فحاول سحب البازلاء عن سطح الطبق سريعًا قبل أن تراه، ففجأه آدهم حينما جذبها ووضعها بفمه سريعًا يتناولها وملامحه تشمئز وهو يلوكها بنفورٍ. 


تمعن به أيوب بصدمة وتناسى يد ليلى التي تقدمها له بالدواء، فنادته لتجذب انتباهه: 

_الدوا يا بشمهندس. 


انتبه لها فتناول الحبوب والمياه منها وشكرها بامتنان وما ان غادرت حتى جذب منه آدهم زجاجة المياه يتجرعها مرة واحدة ليقابله بنظرة ساخرة: 

_شوفت عشان بحبك بلعت أيه؟  


هز رأسه بابتسامة واسعة: 

_مش متخيل أساسًا إنك أكلتها، إنت كنت بتشيلها يوم ما حطتهالك في الشوربة!! 


جذب المنديل يمسح فمه وأردف بتسلية: 

_عد الجمايل يابن الشيخ مهران. 


قاطعهما صوت الطاووس الوقح: 

_هتبات هنا ولا أيه يا عم أيوب!! 


ودع آدهم وهرول سريعًا للخارج يصيح: 

_أوعى تتعصب أنا في ديلك!! 


منحه نظرة ساخرة واتجه للمصعد فولج خلفه وهو يلوح لآدهم بيده فابتسم وهو يلوح له هو الاخر قبل ان ينغلق المصعد ويختفي بهما. 


                             *******

تراجعت بعيدًا عن الرخام الأسود المحيط لحوض الاغتسال بصدمة، يديها مضمومة على فمها، ولسانها ينطق دون توقف: 

_مش ممكن!!   لأ مستحيل! 


تراجعت فريدة حتى جلست على غطاء الحمام ومازالت نظراتها تحيط اختبار الحمل الايجابي الموضوع جوار حوض الاغتسال. 


اعادت خصلات شعرها للخلف ومازالت تحت تأثير الصدمة: 

_لأ!!!  ازاي ده حصل!!  


وتابعت ودموعها تلألأت بحدقتيها:

_هقول أيه للأولاد!!  وشمس!!  شمس فرحها بعد كام يوم لا مستحيل!!! 


اعتلت الصدمة ملامحها لدرجة جعلتها تعيد الاختبار لأكثر من ثلاث مرات، وأكثر ما يهزمها بتلك اللحظة الندم والصدمة، نعم مازالت صغيرة تتمتع بجسدٍ ممشق، من يرآها لا يجزم بأنها قد أنجبت يومًا بفعل حفاظها على وزنها والرياضة المنتظمة ولكن كيف ستفعلها وأولادها بات كلًا منهما رجلًا على وشك استقبال خبر حمل زوجاتهما، وابنتها على بعد أيامًا من زواجها!  


ضمت فمها ومازالت تحاول الاستيعاب وبعصبية صاحت وهي تلقي الاختبار بسلة القازورات: 

_ازاي مأخدتش بالي!!! 

                             ********

وصل آيوب برفقة عُمران للقصر، فولج للملحق الخارجي واتجه لغرفة فارغة وغفى بها بتعبٍ، بينما صعد عُمران للأعلى واتجه لحمامه الخاص، انتعش بحمامٍ دافئ واتجه لفراشه بعد أن ضبط المنبه على وقت الفجر مثلما يعتاد. 


مضت ثلاث ساعات حتى استيقظ، خرج للشرفة الخارجية يتفحص السماء ببسمة خافتة، ومن ثم عاد لجناحه يجذب سجادته الخاصة وحامل المصحف الخاص بمصحفه الكبير، وهبط للحديقة. 


فرد سجادته ووضع حاملة المصحف جواره، أدى صلاته بخشوعٍ تام وحينما انتهى وقف يتمعن بالحديقة مستمتعًا بتلك الأجواء المحببة إليه. 


جلس على سجادته يرتشف المياه وما أن استكان وسحب حاملة مصحفه الشريف وبدأ بالتلاوة بصوتٍ عذبٍ خاشع،  فردد آية استحضرته بكل ذرة داخله

بسم الله الرحمن الرحيم. 

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا»  (سورة المائدة). 

صدق الله العظيم.. 


وتابع قراءته بصوته الخاشع إلى أن انتهى من وارده بشكلٍ متقن، حتى اتحنى يغلق مصحفه وقال بصرامةٍ دون أن بتطلع خلفه: 

_هل ستمضين اليوم بأكمله وأنتِ تراقبيني؟! 


 انتفضت تلك المختئبة بين فروع الشجر العملاق، وكادت بالعودة وهي تلعن فضولها الأبله بالتنزه بتلك الحديقة الرائعة، فأسقطها قدرها بوجهة ذلك الشرس، فتعجبت حينما رأته يصلي مثلما يفعل أيوب. 


ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، وكادت بأن تفر راكضًا ولكنها وجدته يردد ومازال يلملم أشيائه الخاصة: 

_كنت فظًا معكِ طوال تلك الفترة أعتذر عن ذلك.. 


أسبلت بعدم تصديق وخرجت من بين الأشجار تراقبه بنظرات مشككة، فوجدته يتطلع أرضًا أسفل قدميها مثلما يفعل زوجها، فقالت بتيهةٍ: 

_أنت تبغضني كثيرًا فلماذا تعتذر لي فجأة؟! 


ابتسم بخبث، فبعد ما استمع له بالأمس من أيوب اكتشف أنه شابًا ذكيًا يستدرجها لقيم دينه دون اجبارًا منه، ربما كان يمقتها كثيرًا لإنه يكره جنسية هؤلاء الذين يتسببون بما يحدث بأرض فلسطيــن، ولكن ما هون عنه سماعه لقصتها فأشفق عليها.. 


تنحنح عن صمته يخبرها وهو يتجه للمقعد المجاور للمسبح الضخم: 

_ليس لسببٍ معين، أخطأت وإعتذرت وانتهى الأمر! 


فركت أصابعها بارتباكٍ وهي لا تعلم أتثق به أم تركض عائدة لآيوب مصدر أمانها، ولكن فضولها كان قاتلٍ، فاقتربت تبعد المقعد المجاور لطاولته لتكون على بعدٍ كبير منه، حتى تلوذ بالفرار الآمن إن تطلب الأمر. 


منع ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه وانشغل بترقب المياه الصافية من أمامه ليعلم ما الذي تريده باقترابها هذا، فاتته تتساءل بفضول: 

_رأيتك وأنت تصلي مثلما يفعل أيوب فاندهشت قليلًا. 


رفع احد حاجبيه بذهولٍ: 

_لماذا؟ 


أجابته بتلقائية مضحكة: 

_أيوب يفعلها لذا هو خلوق للغاية وأنا أثق به كثيرًا وأنت تصلي مثله ولكنك لست مثله، أنت مخيفًا... آآ.. أعني أنت سيئًا آآ.... أنت آآآ... 


واستطردت وهي تقبض على طرف المقعد: 

_أعتذر ولكنك تخيفني للغاية. 


تنهد واستند على ظهر المقعد: 

_لا عليكِ... أنا أعلم ذلك. 


عبست بحدقتيها صدمة: 

_هل أنت على ما يرام سيدي؟ 


كبت ضحكته بصعوبة وقال بجدية مصطنعه:

_هل لي بسؤالك ما الذي تفعلينه خلف الشجرة؟ 


ردت تجيبه: 

_رأيتك تصلي فتعحبت لذلك، أيوب يخبرني أن الصالحين لا يتركون صلواتهم وأنت شريرًا فاسقًا يا سيدي! 


برق بغضب جعلها تتأهب لما هو قادم، ومع ذلك سيطر على غضبه وقال: 

_وما الذي يدفعك للظن بأنني شرير فاسق يا امرأة؟


بتلقائية تتدعي البراءة اجابته: 

_لانك كلما تراني تبرق بوجههي وكأنك ستتحول لأفعى سامة تعتصرني! 


همس بسخط: 

_يا ريت كنت اتحولت ولسعتك وخلصنا من خلقة أمك!!  


عاد ينظم أنفاسه ويستعيد قوته المهدورة، واعترف لذاته ان آيوب يبذل مجهودًا مع تلك الحمقاء يستحق كاسًا ذهبيًا اجلالاً له، وقال: 

_ولكني لم أفعلها أليس كذلك؟ 


هزت رأسها تؤكد له صدق حديثه، فتابع ببسمة زائفة: 

_اطمئني ديني لا يسمح لي بقتل أي نفس، الله عز وجل حرم علينا ذلك ومن يفعلها مصيره جهنم وبئس المصير، أنتِ رأيتي بعينيكِ أنني أودي صلاتي لأتقرب من  الله عز وجل فلما عساني أرتكب ذنبًا عظيمًا كذلك. 


رمشت تستوعب ما قال، وسألته باهتمام: 

_هل يعني ذلك بأن الله سيحاسب عمي عما ارتكبه بحقي وبحق أخي؟ 


أكد لها: 

_بالطبع كلنا سنحاسب عن أفعالنا... وعن المعاصي التي ارتكباها بالدنيا. 


_ألم ترتكب معاصي يومًا؟ 

ابتسم ساخرًا وقد تقاذف إليه كل السييء الذي فعله بحياته: 

_بلى، فعلت كل شيء تقريبًا.. ولكني تراجعت عن ذلك حينما كشف الله عز وجل عن بصيرتي. 


تابعته باهتمامٍ وتساءلت بلهفة: 

_ومتي سيُكشف عن بصيرتي؟ 


التفت تجاهها وقد لمس ما بداخلها، فقال يطمنها: 

_لا أعلم، ولكني أشعر بأنه سيحدث قريبًا... قريبًا جدًا. 


اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ وكأن الحياة فتحت ذراعيها وتلقفتها داخلها، فاعتدلت بجلستها وقالت بتحفزٍ: 

_فلتخبرني إذًا كيف أعتنق دينك؟ 


وتابعت باستفهامٍ مهتم: 

_هل يجب أن أذهب لمكانٍ محدد أو مقابلة أحدًا لفعل ذلك؟ 


كاد أن يجيبها حتى أستوقفهما صوتًا ذكوريًا يهتف بفزعٍ من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه السريع: 

_آديـــــرا أنتِ هنا!!   لم أترك مكانًا الا وبحثت عنكِ فيه. 


وانحنى "أيوب" يستند على ركبته ليواجه موجة سعالها من فرط مجهوده، ومن ثم انتصب قبالتهما، يوزع نظراته بينهما بصدمة قد احاطته لحظة أدراكه فردد وعينيه تجوبهما باستنكارٍ: 

_ما الذي يحدث هنا؟؟!!


نهضت آديرا واتجهت إليه تخبره بحماسٍ: 

_ذلك المتوحش ليس سيئًا بالمرة أيوب... لقد كان لطيفًا للغاية. 


بالطبع لم ترى تلك الأعين الملتهبة من خلفها، فكانت نصب أعين أيوب، وما زاد صدمته حينما اتجهت لعمران مجددًا تسأله بحماسٍ صدم أيوب وأصابه في مقتلٍ:

_فلتخبرني الآن كيف أصبح مسلمة مثلكم! 


          الفصل الرابع والاربعون من هنا

قراءة باقي الفصول من هنا

   

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close