رواية فرط الحب الفصل الثالث والعشرون23 والرابع والعشرون24 بقلم دينا ابراهيم
وضعت ليان يدها فوق وجهها غارقة في بكائها الصامت تشعر بالذنب أكثر مما كانت تفعل مسبقًا ولكنها خير العالمين بأن الوضع سيتطلب منها مجهودات كبيرة قبل أن يستقر فلا يجب عليها التذمر الآن.
لم يتحرك أحمد الواجم من المقعد المقابل لها وقد شهد مكالمتها في تأني يحاول معرفة لماذا تزوجته من الأساس إذا كانت ستواجه الطوفان مع أشقاءها.
تابع حركت معصمها فوق وجهها في اعجاب خفي بأفعالها وهي تحاول مسح عبراتها في اعتراض تناشد القوة داخلها ولوهلة شعر بأنه يحسدها لقوتها واردتها، تلك الصغيرة التي لا تتعدى كتفه تجلس بكل شموخ تلملم ذاتها وتواجه المشكلات في حياتها بإصرار لم يلمحه ولو بالخطأ في قاموسه حتى.
فهو مستمر في عزلته بين خنوع وخضوع بلا حول له ولا قوة فحتى بعد زواجه منها واخباره لوالده وارساله بصور الأوراق الرسمية ليؤكد له زواجه واتمامه لدوره في الاتفاق، لم يستجيب والده لمطالبة بعقود ملكية متجره ومنزله والذي اجبره والده منذ زمن على توثيقهما باسمه.
تذكر أحمد في حقد متأكد من أن والده كان يخطط للسيطرة على شخصه بهذا الوضع فيسلب منه شقاه كما سلب منه نفسه ورجولته من قبل ساحبًا منه في قسوة فرصته للانفلات من براثن رحمته والاستقلال عنه.
وماذا الآن ها هو يجلس كالذليل منتظر اتصال والده الذي تأخر كثيرًا في إرسال تنفيذ دوره من الاتفاقية السوداء بينهما.
زفر في غضب وهو يناظر هاتفه قبل ان يناظر ليان التي تنظر إليه في جمود وخواء، شعر بالشفقة عليها فهي برغم قوة شخصيتها إلا أن ملامحها الحزينة تفصح على مكنوناتها المتأججة وشعر بفضول كبير نحوها.
-معاك سجاير.
حرك جفنيه قليلًا يحاول التأكد من أنه استمع لكلماتها بشكل صحيح، قائلًا بصوت مبحوح نابع من صمته طوال النهار:
-سجاير؟ انتي بتشربي سجاير؟
عقدت حاجبيها في مدافعه وكأنها تتوقع منه الاشمئزاز أو الاعتراض لتخبره في ثقة وكأنها لا تسمح لأحد بان يحاسبها على أفعالها حتى الخاطئة منها:
-كنت بشرب وبطلت بس عايزة سجاره دلوقتي في مشكلة؟
رفضت اخباره بأنها توقفت عن تلك العادة عندما أبرحها نادر ضرًبا وحفزها على الاستمرار عودتها بين اخوتها الذين كانوا سيقتلعون عينيها ان علموا بتدخينها.
حرك كتفيه وشفتيه بلا مبالاة ثم أخرج من جيبه علبته يرميها نحوها في إهمال، سحبت ليان احداها عنوة واشعلتها وهي تنظر لعيونه المعلقة بها في نظرات غامضة وكأنها تتحداه قائلة:
-متشكرة.
-العفو بس متتعوديش على كده مش هديكي تاني.
ارتفع حاجبها في تعجب ولكنها شعرت بشعاع أمل وتمني داخلها بأنه ربما يخشى عليها أو حتى غاضب لانه في اعماقه يعترف بها زوجه له حتى وان كان يظهر لها العكس بإهماله ولا مبالاته نحوها منذ دلفا منزله سويًا كزوج وزوجة.
كادت تضحك بصوت عالي على سخافتها كفاها احلامًا سخيفة بالطبع هو لا يبالي بها ليس وكأن زواجهما زواجًا طبيعيًا لقد كان الزواج مجرد أداة لتحقيق أهداف ولكنها لن تكون ليان قوية الارادة إن قبلت بأقل من امتلاك قلبه وحواسه كليًا.
فليظن ما يظن بها أو بالقادم فهي لن تخرج من حياته ابدًا ليس بعد ما شعرت به من رضا وسعادة لم تتوقعها حين تزوجا رغم خوفها وتوترها مما ستكون شكل الحياة بينهما لأنها بالتأكيد لن تكون سهلة اعتيادية ولكن منذ متى كان الزمن متساهلًا معها...
ارتفع جانب وجهها في تحدي يعطي رونق خاص لعظام فكها البارزة مفكرة بل منذ متى وهي تحب الاعتيادية والرتابة ليقطع خيالها الجامح صوت أحمد المتعجب:
-بتضحكي على أيه؟
حركت كتفيها دون اجابه ثم نظرت لنصف السيجارة بين أصابعها في اشمئزاز لم تتوقع مرارة مذاقها بعد أن كانت لا تطيق الابتعاد عنها لتطفئها في غيظ، تابعها أحمد بحاجب مرفوع يحاول تحليل تلك الجالسة امامة فذكرياته عنها هي الفتاة اللطيفة البريئة التي كانت تهيم به لساعات دون مل وبدون أي محاولة صريحة للاقتراب منه.
ربما لم يعترف وقتها لأنه تعمد عدم الاهتمام بكل ما هو مؤنث إلا أنه كان سعيدًا بزياراتها لريم فقد كانت تتحدث دون توقف تنعش جميع من حولها، لا يزال يتذكر لمعة عيناها الحالمة وهي تتنقل في حكاياتها مع شقيقيها ومع زملاءها في سلاسة ودون فلترة حتى بات يعلم عنها الكثير ولكنها خالفت تحليلاته ورؤيته عنها.
كانت لطيفة مرتبكة ومتخبطة لكنها تضيف راحة نفسية وسرور على المكان وعلى قلبه كلما طلت حتى وان فضل إنكار إعجابه بشخصها مكتفيًا بريم كصديقته وعائلته الوحيدة، ولكنه شعر بصدمة قوية بشكل خيالي حين اخبرته ريم عن فعلتها وانها كانت السبب الرئيسي في طلاق ريم...
ضاقت عيناه يتفحصها بتأني ف ليان تلك لغز او احجية تتطلب الكثير من التركيز والانتباه لحلها، لا يستطيع معرفة دواخلها بشكل واضح أو نواياها لذلك سأل في فضول بينما ينظر لهاتفه للمرة الألف:
-انا عايز أعرف اتجوزتيني ليه وانتي عارفة ان اخواتك مش هيعدوها على خير؟
صمتت ليان تجمع أفكارها قبل ان تقرر أخباره بنصف الحقيقة لا ترى داعي من المداهنة فقالت في نبرة صادقة:
-اتجوزتك لسببين هقولك على واحد منهم.
-والتاني؟
خرج سؤاله ساخرًا فأجابته بابتسامه لم تصل لعيناها بنفس السخرية:
-لا التاني مش دلوقتي، لما يجي وقته هقولك.
-اتفقنا...
أخبرها وهو يتقدم منها ساحبًا علبة سجائره من بين اصابعها ثم عاد يخبئها بين ثنايا ملابسه جالسًا في مكانه وجزء مغمور داخله يخشى أن تسحر بسردها فتلجأ لاحداها فر راحة واهية، لكنها تجاهلت حركته وردت عليه بتلقائية:
-عشان أبعدك عن ريم.
تعجب لصراحتها الفظة وضاقت عيناه في صمت لكن السؤال داخل مقلتيه كان واضحًا فأكملت دون تطويل:
-سبق وقولتلك كل واحد وعنده شياطينه، وأنا شيطاني ذنب كبير مش قادرة أسامح نفسي عليه إلا لو عملت حاجة قوية تقنعني اني كفيت المدة.
-وليه حاسه بالذنب ريم وريان كان هيجي يوم ويتطلقوا انا مش مقتنع ان اخوكي بيحبها.
تجاهلت اتهامه لشقيقها واستكملت حديثها وهي تعتدل في جلستها مؤكدة بحاجب مرفوع بثقة:
-لأني متأكدة ان لولا اللي عملته مع ريان وريم مكنتش هديك الفرصة تدخل ما بينهم من الأساس وان حياتهم كانت هتفضل مستقرة.
-والمفروض أصدقك انك مضحية اوي كده؟
سأل أحمد وهو يرمقها بنظرات غامضة ثابتة لكنها لا تخفي تقليله من شأنها فحافظت على شموخها لتخبره في نبرة قوية:
-لا أنا اقوى من اني ابقي ضحية، أنا طموحة وعندي هدف ومش هرتاح غير لما اوصله.
-وايه هو الهدف ده؟
قال مستغلًا اسهابها في الحديث بينما ينظر إلى شاشة هاتفه لتتأفف ليان متعمدة الهاءه عنها متسائلة في حنق:
-انت مستني مكالمة من حد؟
طالعها بنظرة صامته دون ان يرضي فضولها فاستطردت في ذكاء:
-مستني مكالمة من باباك مش كده.
-ايوة، ارتاحتي.
-طيب طالما انت هتتجنن كده، ما تتصل أنت.
رمش عدة مرات بتفكير لما لا يتصل هو بالفعل لما عليه دومًا انتظار الهجوم لا المهاجمة، طالع عيون ليان المتحفزة وشعر وكأنه يستمد طاقة وقوة خفية من عينيها السوداء فهمس بصوت منخفض دون قصد:
-عنيكي فيها عناد اخوكي.
أسبلت جفنيها في مكر أنثوي قبل ان تضع ساق على الأخرى مؤكدة في جراءة:
-لو ركزت في عيوني أكتر هتلاقي حاجات اكتر من عناد أخويا.
طرفت عيناه مره قبل أن يبلل شفتيه ويسعل بخفة مغيرًا محور الحديث ولكن تلك الإنارة الطفيفة داخل عيونه البنية تؤكد لها بان سقوطه في فخها ليس بعيدًا:
-هكلمه فعلًا.
رفع الهاتف يتصل على والده بقلب يدق في ترقب لديه إحساس كبير بأن تلك المكالمة لن تمر على خير فاتاه صوت والده القاسي الرخيم:
-أحمد ... غريبة مش متعود على اتصالك كل يومين.
انكشفت نبرته الخبيثة وكأنه يعبث على اوتار اعصابه يذكره بضعفه وخضوعه لهيمنته، فابتلع احمد ريقه قبل أن يخبره بصوت خالي من المشاعر:
-حضرتك مبعتش العقود فقولت اطمن.
-عقود؟
ااه قصدك عقود الشقة والمحل لا مش هبعتها.
مرت ثوان صامتة قبل ان يسأل احمد في خفوت مريب:
-يعني أيه؟
مش ده كان اتفقنا انا اتجوز وانت تعملي تنازل على العقود!
-وكان اتفقنا بردو انك تتجوز قدام عنيه متفقناش انك تروح تتجوز واحدة من الشارع من غير فرح حتى.
وقف أحمد في حدة ليعلو صوته في ذهول من حقارة والده أثناء تحركه في تشنج لليسار واليمين:
-اومال ضحكت عليا ليه من الأول طالما معندكش النية تديني الورق.
جز أحمد على أسنانه غير قادر على ايجاد رد مناسب يشعر كحيوان حبيس غير قادر على نطق مشاعره فاتاه صوت والده الخفيف في اريحيه وكأنه لا يدمر حياته:
-ومين قال معنديش النية،
انت اللي غيرت الاتفاق وانا كمان ليا الحق اغيره والورق هدهولك لكن لما تجيبلي حفيدي.
علت انافس أحمد الصاخبة وبدا من حركة الصدرية السريعة وكأنه يواجه مشاكل تنفسية وانه يجذب أنفاسه في صعوبة، وللحظة ظنت ليان بانه يدخل في نوبة نفسية من نوع ما فانتفضت ليان غير مبالية برد فعل كلاهما وجذبت الهاتف مغلقة المكالمة والخط بشكل نهائي قائلة في ارتباك:
-اهدى يا أحمد.
-انتي قفلتي السكة في وشه كده هيتلكك ومش هيديني حاجة خالص.
أخبرها أحمد المصدوم لفعلتها تلك فقالت في حدة واصرار:
-سوري يعني في اللفظ ان شاء الله عنه ما اداك حاجة، ما تتحرق الدنيا اللي تخليك تنتفض كده انت مش شايف وشك بقى احمر ازاي من العصبية.
تجاهلها أحمد وصار يجوب المكان يضرب كف على الأخر في جنون وتفكير لا يصدق ما يحدث في حياته، ولكن جزء منه ممتن بان ليان أغلقت الهاتف فقد كان يشعر بانه على وشك الاختناق لا يصدق ان من يحول حياته الي جحيم هو والده.
اتجهت ليان نحوه تحيط كفه بكفها وتجذبه نحو الأريكة تدفعه في خفة للجلوس وقد ذهب معها في سلاسة يتتبع توجيهاتها وسط ذهوله من تصرفاتها وكأنها تمتلك المكان بل وكأنها تمتلكه هو، طوال ايام ثلاثة كانت تتعامل وكأنها قضت معه عمره بالكامل تتنقل وتعبث في اغراضه دون خجل او حرج وكأن معها حق مكتسب بفعل ما تريد معه.
أما هو فقد اكتفى بالاستسلام كعادته يتعمد الابتعاد عن مسارها منشغلًا بكوابيسه الحائرة الجديدة التي صارت تزيد من حيرته متعجبًا من ذلك الباب المغلق عدا من سنتيمترات صغيرة فيداعب عيونه الفضولية بسبب تلك الإنارة الخافتة وسط الظلام ولكنه كلما اقترب يختفي ويتبخر تاركًا الساحة لماضيه المظلم للهجوم وامتلاكه كليًا.
-ممكن تقعد وتهدى انت متعود تتنفض كده لما تتعصب؟
حرك رأسه بالنفي لا يريد اخبارها بأنه يفعل فقط عندما يشعر بالغضب من تصرفات والده فلا يجد من سبيل للاعتراض سوى بالصمت الذي يترجم فوق جسده كالذبذبات الحارقة، لكنه لم يستطع منع كلماته الصريحة:
-حياتي انتهت..
طالعته ليان ببلاهة قبل ان ترفع شفتها العلوية في اشمئزاز واضح كارهة استسلامه قائلة في حده وحنق:
-انتهت عشان شقة ومحل!!
في أيه يا أحمد ما تتحرق العقود على الشقة على المحل.
صاح احمد في غضب هادر موبخًا استهتارها بحياته وأهدافه كارهًا شجاعتها والأمل في رؤيتها:
-يعني ايه يتحرق، انتي مش فاهمه حاجة انا واحد على قد حالي معنديش حاجة اتسند عليها في الدنيا،
والمحل كان الحاجة الوحيدة اللي بنيتها بنفسي وابويا اتدخل واخدها مني غصب، أنا مش عايز غير شقايا وحقي اللي خده مني.
-ومين هيرجعلك حق عمرك اللي بيضيع منك وانت مقضية في ذل.
اتسعت عيناه في غضب وقد ضربته كلماتها في مقتل فهتف مستنكرًا:
-متدخليش في حياتي... انتي مش عارفة حاجة، متفتكريش عشان اتجوزنا يومين بقيتي خلاص فاهمة حياتي.
جزت ليان على اسنانها تواجه صراخه بصراخ أشد منه:
-لا للأسف انا فاهمه حياتك جدًا،
بس انت اللي مش فاهم انك راجل بصحتك ولسه في عز شبابك مش مشلول عشان تسيب حد يتحكم فيك كده!
وضع أحمد رأسه بين كفوفه في حيرة يرفض الانسياق خلف كلماتها التي توقظ داخله وحش جائع يتغذى على كلماتها المشجعة، فهي تغير صورة الضروريات التي دمغها في رأسه فصارت على لسانها بلا أي قيمة.
جثت أمامه رافضة انعزاله عنها ثم لامست كفيه تبعدها عن وجهه المضطرب بمشاعره ممسكة بعيونه التائه في شجاعة محفزة:
-صدقني نفسك اهم من ماديات الدنيا، لو نفسك ضاعت منك مش هتستمتع ولو معاك ملايين،
اخسر شقاك دلوقتي واتعب واشقى تاني وابني ذاتك من جديد، عشان نفسك لو ضاعت منك مش هتعرف تعوضها بأي تمن.
بثت كلماتها القوية بقلب يدق يوازي دقات قلبه العالية متفائلة بعينيه المتعلقة بها وكأنه يستمد منها الشجاعة مرت دقائق غريبة لا تستطيع تفسير سبب طولها لكنها شعرت بدفء حين هز رأسه دون وعي وكأنه منتشي بكلماتها ومن شجاعتها فهمس في خفوت مظلم:
-هاتي التلفون.
شدت على ساقه في تشجيع وركضت تعطيه الهاتف متخذه مهمة إعادة الاتصال بوالده دون اعتراض من أحمد الجالس يتابعها تعبث بالأرقام في حماس وحماسها ذاك اندفع عنوة مستقرًا داخل صدره،
لا يصدق انه مقدم على المواجهة هكذا دون تخطيط أو تحذير كان دومًا يتمنى تلك اللحظة ويجلس يفكر عن موعد اللحظة الحاسمة التي يواجه فيها مخاوفه وينهيها للأبد، علت انفاسه وقد ارتفع الأدرينالين في جسده وسط تساؤلاته المتلاحقة داخل عقله المظلم:
هل سيسقط حكم والده الاستبدادي اليوم؟
هل سينجح في الابتعاد عن براثن قسوته دون مقاومه باسلة منه؟
والسؤال الأقوى هل تبقى داخله أي قوة تكفي للمواجهة؟
صدح صوت والده الغاضب يعنفه دون اهتمام بمشاعره فنظر لليان نظرة أخيرة قبل أن يستقيم في حدة هادرًا وسط انفاسه المجنونة التي تعلى وتعلى مع علو كلماته:
-أنا مش عايز عقودك مش عايز البيت ولا عايز المحل، انا عايزك تبعد عن حياتي مش عايز اعرف انت كرهتني في نفسي،
انا... انا... بكرهك وبكره قسوتك وتحكمك فيا ومش هسمح انك تتحكم فيا تاني عايز تمنع أمي واختي مش مهم انا مش عايز اعرف حد فيكم محدش بقى عليا عشان ابقى عليه.
علا صوت والده الصارخ ولكن أحمد كان كالرصاصة المنطلقة لم بتوقف ولم يبالي بأحد مستمرًا في رص كلماته مخرجًا مشاعره القبيحة التي اقحمها والده داخل صدره لفترة طويلة للغاية، كان يتحرك حول الغرفة ويصرخ بكلماته وكأنه يريد للعالم أجمع ان يشهد على انتصاره.
كان كمن عاش في غرفة مظلمة مخيفة حتى فقد الأمل في الفرار ليفاجئه القدر بباب النجاة وهو صارع يدفعه في جنون يتابع انفتاحه في هدوء حتى انفتح على مصرعيه.
لم يشعر كيف لم ينتبه ومتى أغلق والده الهاتف في وجهه ولكنه لم يتوقف حتى احتضنت ليان الباكية جسده ترغب في السيطرة على انفعالاته المتخبطة وحركته المجنونة، كانت تعلم انه مضطرب داخليًا ولكنها لم تتوقع أن يكون الأمر بهذا السوء.
شعرت بصدمه في البداية عندما احاطها أحمد بذراعيه يضمها نحوه في قوة متقبلًا مساندتها بينما يحاول هو الأخر السيطرة على جسده المرتعش بقسوة انفعالاته حتى بدئت أنفاسه تهدأ تدريجيًا ورأسه مختبأ في عنقها، شعر بساقه ترتخي وتضعف ومن حسن حظه استقر جسده للخلف فوق الأريكة فاتبعته ليان دون تفكير جاثية بين ركبتيه تزيد من عناقه رغم ارتخاء جسده وذراعيه من حولها إلا انها شعرت بترحيبه بقربها في تلك اللحظات عندما رفضت ذراعيه المرتخية الابتعاد عنها.
*****
دلفت وسام إلى المنزل مغلقة الباب خلفها هي وزوجها الغاضب قبل أن تلومه في نبرة معاتبة:
-ينفع اللي قولته لريم وريان ده.
-خلاص بلاش تقطيم فيا، قولتلك مكنتش أقصد ولما كلنا نهدى هبقى اعتذر.
-يا حبيبي أنا مش بأنبك انا عايزاك تتمالك نفسك ومش عايزاك ترجع لعصبيتك الزايدة من تاني،
والصراحة في حاجة عايزة احكيلك عنها بس خايفة تتعصب أكتر!
التفت نحوها عاقدًا ذراعيه أمام صدره يحثها بعينيه على الحديث فزفرت قبل ان تخبره في توتر وعيناها ترفض الاستقرار فوق عينيه:
-ريم فعلًا ملهاش ذنب،
ليان هو اللي بتحب أحمد حتى من قبل ما تتجوز نادر.
-وانتي عرفتي منين؟
سأل من بين أسنانه يمنع غضبه لأنها أخفت تلك المصيبة عنه فهمست في خجل:
-اصل هي لما رجعت من السفر حصل حاجة وهي راحت عنده المحل مرة،
ولما رجعت كانت متضايقة اوي فأنا ضغطت عليها لحد ما اعترفت انها بتحبه من زمان بس وعدتها اني مش هقولك.
ضرب بيجاد قبضته في الهواء وكأنه يتخيل جسد أحمد امامه ليسب ويلعن شقيقته مستنكرًا:
-وانتي صغيرة مش عارفة امتى تقولي السر وامتى تحتفظي بيه!
-أنا مالي يا أحمد هي مكنتش عايزة حد يعرف وانا خفت تتعصب عليها وتعمل حاجة تندم عليها بعدين!
-طول عمرها مدوخه نفسها ومدوخانه وراها.
قال بيجاد في حده ثم زفر بعنف مستغفرًا الله، فاقتربت منه وسام المرتبكة تحاول تهدئته بتدليك كتفيه المشنجان قائلة بنبرة هادئة في ثقة:
-اللي حصل حصل يا بيجاد، ليان مش صغيرة وهي اختارت وأكيد ليها مبررها،
حاول أنت بس تديها مساحتها وأكيد كل حاجة هتتصلح وهيجي يوم وتسامحها.
ضحك بيجاد ساخرًا وهو يلتف نحوها مؤكدًا ما يخشاه:
-مش مهم أسامحها أنا المهم ريان يقدر يعملها، ليان كسرت لمتنا بعد ما حسينا بقيمة العيلة والاخوة اللي بينا هي هدتها بحركة واحدة.
أسبلت جفونها في خيبة امل تتفهمه تمامًا لكنها ردت في إصرار:
-ربنا يخليك انت واخوك لبعض، وميقطع لمتكم ابدًا، وأنا من جوايا متأكدة ان الموضوع ده هينتهي على خير،
بس كل وقت وله أدانه....
أومأ بيجاد الواجم رأسه وعقله يدور في حيرة وغيظ يحاول إيجاد سبب مقنع كافي ليسامح ليان على ذلك المأزق التي اوقعتهم فيه ولكنه للأسف لا يجد.
*****
لا تعلم كم مر عليهما من وقت ولكنها رغبت لو تتوقف الساعة نهائيًا وتبقى في وضعها ذلك بين أحضانه الدافئة مدى العمر، تشعر داخلها بالاحتواء رغم انه لم يُظهر لها ابدًا أي طيف من أي نوع من المشاعر قد يكنها نحوها.
تنهدت متعجبة أنها تشعر بالاستقرار والأمان معه وهو أمر لم تشعره إلا بين يديه المضطربة، ربما تلك الفتاة المراهقة الأنانية هي مْن تتململ داخلها في رضا بنشوة امتلاكه، لأنها شخصيًا لم تشعر بالأمان حتى وقت زواجها مع نادر، تنهدت تبعد افكارها عن ذلك الحقير قبل ان تومأ برأسها للأعلى تتابع ملامحه الهادئة سائلة:
-أنت كويس؟
-ايوة..
اجابها في خفوت يشعر بأن قواه خائره كمن انهى معركته للتو ولكنه يعلم بأن الحرب لم تنتهي بعد، أغمض جفونه ولكنه يستقبل ذلك الشعور بالانتصار وسينتشي به مستمدًا قوتها منه فإما الانتصار النهائي أو الموت.
شعر بليان تستقر فوق فخديه بشكل أكثر اريحيه في احضانه ثم شعر بشفتيها تقابل باطن كفيه في توالي وسط دهشته من فعلتها ومن الحنو البالغ التي تبثه به، حنان بالغ لا يتذكر إنه تلاقاه سوى من والدته حين كان صغيرًا تداوى جروحه بقبلاته، ولكنه سرعان ما حرم منها بأمر من والده الذي عاقب والدته في قسوة لأنها تدلل الفتى متهمًا إياها بأنها ستفقده رجولته حتى صار يختبأ كلما جرح دون أخبار من حوله او انتظار الاهتمام يخشى على والدته من العقاب، الهاه عن الغوص في تلك الذكريات صورة البسمة المتألقة فوق فم ليان التي اخبرته في فخر:
-احنا هنبدأ من الصفر انا ليا صحاب كتير في الخليج، إحنا ممكن نسافر لو ملقناش شغل هنا.
نظر لها مطولًا في حيرة قبل ان تظهر ابتسامه خفيفة على شفتيه متسائلًا في تعجب لأنها ترغب في الاستمرار معه:
-احنا... هو احنا مكملين يا ليان؟
ضاقت عيون ليان الصامتة في تحدي وغيط قبل ان تؤكد بنبرة قوية تعبر عن فرط تمسكها به:
-انا محطتش نفسي في مطحنه مع اخواتي عشان تسأل سؤال زي ده،
مكملين طبعًا وبالذوق أو بالعافية هنعيش حياتنا ونبنيها سوا.
ابتسم متعجبًا من تلك البسالة المشعة من عينيها وذلك التمسك الغير مبرر بوجوده في حياتها وهو الأمر الذي لم يعهده من أحد قبلًا ولكنه يضفي دفء رائع داخل صدره ويخطف منه نبضات ارجعها للمسة السعادة التي غمرته برغبتها، ضغط على اصابعها مردفًا في صدق لا يصدق جنون كلماته:
-وأنا موافق....
ظهرت اسنانها كاملة معبرة عن وسع ابتسامتها الراضية قبل ان تلقي بجسدها نحوه تعتصره بين أحضانها من جديد، هاجمته تلك المشاعر المخيفة التي تداهمه منذ دخلت حياته بشكل مفاجئ مُصرة على الإمساك بدفة القيادة دون انتظار لموافقة.
تحول العناق البريء إلي أخر أشد حرارة وأحس بصعوبة في السيطرة على مشاعره أو انفعالاته المنفلتة من قوقعته فرفعت ليان رأسها تناظر عيناه بعيون مسبلة في عشق صامت وكأنها تتوسل إليه بأن يفعل أمر يخشى الدخول فيه.
وكعادتها فاقدة الصبر اندفعت بوجهها مستقرة بفمها فوق فمه في تعنت وحرارة تشنج لها أحمد في تخبط يخشى تلك النيران التي تهاجم اوصاله فدفعها في رفض بأنفاس لاهثة قبل أن يستقيم مبتعدًا عنها فقالت في حده متهمة:
-ايه مش عجباك، ولا تكونش بتحب ريم بجد ؟!
حدقها بنظرة غامضة ليتقمص لامبالاته من جديد قائلًا:
-انا بحب ريم فعلًا ومحدش هيفهم اللي بيني وبينها بس ربنا وحده عالم انها زي اختي لبنى بالظبط.
شدت على خصلاتها في غيظ لرفضه إياها ثم تقدمت منه، تؤكد كلماتها الغاضبة:
-أنا مش هسيبك غير لما تفهمني في ايه؟
أنا عايزة ابقى زوجة ليك ومش بالاسم بس.
التفت كي يغادر متجاهلًا إياها رافضًا المفاوضة حول ذلك المطلب الذي يعتبره خط أحمر، فاندفعت خلفه صائحة في اعتراض:
-أيه مشكلتك فهمني!
لا يدري ما جعله يعترف بتلك الكلمات لها، ربما لأنها شاهدت تسلسل تمرده منذ البداية او ربما هي ساحرة تسحره فتخرج منه أقبح أسراره ولكنه انفعل في غضب ملتفتًا نحوها ليرد على زمجرتها في وجهها:
-المشكلة أن عندي مشكلة ارتاحتي، انا عندي مشكلة ومش هعرف اكون الزوج اللي انتي عايزاه.
نظرت له ببلاهة تتفحصه من أعلاه لأسفله قبل ان تخبره في سخرية:
-انت فاكرني عيلة صغيرة بتاخدها على قد عقلها، ولا أنت ناسي اني كنت متجوزة قبل كده،
يعني انا لما ابقى في حضن راجل صدقني هعرف ان كات بيستجيب ليا ولا عنده مشكلة...
ضغطت على حروفها الاخيرة في سخرية، فشعر باختناق من ضغطها المتواصل عليه لا تدري ان بكلماتها تلك وضعت فوق اكتافه ضغوط المقارنة التي سيفشل فيها لا محال.
أخذ منه الإرهاق الذهني والنفسي الكثير فلم يجيب وحاول الابتعاد لكنها وقفت أمامه قائلة في تطلب:
-أحمد انت استجبت وأنا في حضنك دلوقتي وانا حسيت بيك ليه بتبعد عني؟
-عشان مش دي المشكلة، مش مشكلتي اني استجيب المشكلة اني...
صمت مفكرًا بأن المشكلة تنبع من عجز داخله لا يعرف منبعه، فمشكلته ليست في الاستجابة ولكن في الاهانة التي ستعقبها وسيتعرض لها أمامها ما أن يخذلها..
هو أضعف من أن يكرر تلك التجربة، أضعف من أن يجرح رجولته مرارًا وتكرارًا، بل هو أضعف من ان يعترف بأنه يخشى فقدان ما قد يملكه من احترام داخل عينيها المحاربة...
يكفيه إنه سقط من انظاره كرجل ويخشى التعري والسقوط كليًا من أنظارها هي أيضًا، أن فشل في أبسط الأمور بديهية بين زوج وزوجة.
اندفع تاركًا إياها غير قادر على المواجهة يكفيه ما واجهه بالفعل، اغلق باب غرفته في ضعف واتجه كالمُسير نحو فراشه يستلقي فوقه في تعب،
بلل شفتيه الجافة ثم رمش عندما التقى بعلبه دواءه بجوار السرير فمد أصابعه يتحسس ملمسها متسائلًا هل يكفيه الوهن الذي اصاب جسده كي يسرقه النوم ام انها سيحتاج "حبة" من الزجاجة كزيادة تأكيد.
انتفض في ذعر عندما فتحت ليان الباب تقتحم خلوته في غيظ، بحثت عنه بعينها لتزداد غضبًا حين رأته ممسك بالدواء فتقدمت منه في اتهام مشيره نحو العلبة البلاستيكية:
-انا بقالي يومين ساكته عن الزفت ده، قولي انت مدمن ولا ايه بالظبط؟
وضع الدواء في مكانه لا يجد داخله القدرة على المشاجرة أو التبرير، فتقلب فوق الفراش يتأوه في ألم غير مبالي بوجودها هامسًا:
-تعبان طفي النور.
جزت على اسنانها ولكن شفقتها تصاعدت وهي تتابع جفونه تنغلق كأنه غير قادر على البقاء صاحيًا فأخذت أنفاس عميقة تسيطر على انفعالاتها الغاضبة قبل ان تتجه للخارج مغلقة الإنارة والباب خلفها، تاركة عقلها يفكر في تفسير منطقي لما يحدث مع احمد وعدم رغبته في الاقتراب منها لأن جسده بالتأكيد ليس عاجزًا.
"فرط الحب"
الفصل الرابع والعشرون
بعد أسبوع من التباعد المتعمد بين ريم وريان الذي انتهت اجازته وبدء في ممارسة عمله من جديد، قررت ريم اتخاذ موقف لإنقاذ علاقتهما فهي تعلم ان ريان رغم غضبه من ليان إلا انه يشعر بقليل من الذنب وداخله هاجس بأن يكون احمد قد اجبر شقيقته على الزواج منه لكن زوجها العنيد المزعج يكابر ويرفض الاعتراف.
فكلما حاولت فتح الحديث معه يغيره أو يندفع للخارج متحججًا بمشاوير العمل وهي تعلم بأنه يغادر ليتجنبها ويعود ليلًا حين تخلد إلى النوم، ولكنها لا تنام بل تبقى مستيقظة في قلق تنتظره ثم تتظاهر بالنوم حتى تشعر بذراعيه يحتضناها في سكون وحذر قبل ان يستسلم إلى نوم مؤرق.
تنهدت فعلى الأقل هو لا ينفر من قربها بل يناشده كل ليلة، وقفت ريم أمام الباب تفكر في توتر هل عليها الطرق واستكمال مهمتها ام عليها الرحيل، نظرت لعمر الذي يقف بين احضانها رافعًا رأسه يرغب في معرفة سر وقوفهما السخيف هذا أمام احد المنازل التي لم يزورها من قبل.
ففركت خصلاته تطمئنه قبل ان تجذب انفاس عميقة عازمة على الاستكمال لتدق جرس الباب، مرت ثوان قليلة قبل ان يأتيها صوته التي صارت تبغضه فانعقدت ملامحها في غضب رغم رغبتها في المحافظة على ملامحها الخاوية.
فتح أحمد الباب ليتفاجأ بها وبعمر الذي يقف امام جسد ريم المتصلبة ترفض النظر نحوه وهي تسأله في حزم:
-عايزة أقابل ليان.
ابتلع ريقه خجلًا غير مهيأ لسرعة المقابلة بينهما لكنه انزاح من امامها مشيرًا للداخل في هدوء فقالت ريم في حدة:
-نادي ليان لو سمحت.
رمش في حرج يعلم انها تخشى الدخول فتبقى وحيده بمفردها معه بعد اتهاماته الحقيرة لها، لتشعل داخله تلك المشاعر التي تؤنب ضميره من جديد لكنه تنفس الصعداء حين أنقذه صوت ليان المتسائل:
-مين يا احمد...
صمتت ما ان رأت ريم وركضت نحوها بأعين متسعة قائلة:
-ريم .. حصل حاجة ولا ايه؟
حركت ريم رأسها في رفض قبل ان تبلل شفتيها تخفي اضطرابها قائلة في جدية:
-لا أنا جيت عشان حابه اتكلم معاكي شوية لو سمحتي.
-طبعا طبعا اتفضلي، تعالى يا عمر عامل ايه يا حبيبي؟
مالت بعفوية تقبل رأس أبن شقيقها في حنان ليقابلها بابتسامه مهتزة وعيناه تنتقل بينها وبين ذلك الرجل الذي يكرهه من كل قلبه لأنه السبب الذي استطاع ان يحرمه من والدته عامًا كاملًا.
ضغطت ريم فوق كتفيه بابتسامه في مؤازرة تكبح خيالاته الطفولية واتبع كلاهما ليان التي أشارت لهم باتباعها إلى داخل إحدى الغرف بينما اتجه أحمد سريعًا يختبئ في غرفته يكاد يموت حرجًا.
جلست ريم مشيرة لعمر بالجلوس قريبًا منهما ثم تحدثت في صراحة دون تطويل:
-أنا هدخل في الموضوع على طول،
انتي حقيقي اتجوزتي أحمد بمزاجك ولا هو اللي غصب عليكي؟
انهت جملتها ثم مدت ريم اصابعها تلامس كف ليان المتوترة لتؤكد في ثقة:
-صدقيني انا هقدر أساعدك مش عايزاكي تخافي من أي حاجة!
ابتسمت ليان في حزن لكنها هزت رأسها في رفض مؤكدة:
-ريم يا حبيبتي أنا اتجوزت أحمد بمزاجي، هو مالوش ذنب بالعكس أنا اللي اصريت.
ظهرت ملامح الذهول على وجه ريم التي سارعت في السؤال:
-ليه؟
-عشان بحبه ده اولًا وعشان ابعده عنك ده ثانيًا.
-أنا.
-أيوة كان لازم أعمل كده عشان أحس اني صلحت غلطتي.
ازدردت لعابها في ارتباك وحزن مستكملة في خيبة أمل على الذات:
-ريم أنتي ممكن متكونيش قادرة تسامحيني من قلبك،
بس تأكدي اني ندمت ندم شديد وان ربنا عاقبني باني ما شوفت يوم سعادة أو رضا بعد اللي عملته فيكي.
اوقفتها ريم عن حديثها المرتبك في خجل، فهي ذاتها كادت تموت من الذنب بعد ان ظهر لها جانب مظلم من شخصية أحمد حتى صارت تخشى من تحوله لوحش بشكل كامل مصدقة احتمالية اجباره لها، مسحت وجهها لتردف في نبرة جدية صادقة وملامحها تعكس تأثرها النابع من القلب:
-ليان يا حبيبتي انا سامحتك من زمان اوي، انتي عارفة انا مش بحب افتكر اي حاجة وحشة اتعرضتلها،
اللي حصل حصل بلاش نفتح في القديم...
تساقطت دموع ليان الخجلة فاندفعت تعانق ريم في قوة مستمرة في بكاءها هامسة:
-وحشتوني أوي، ريان مش هيسامحني مش كده؟
ربتت ريم على ظهرها وخصلاتها في شفقة هامسة:
-أخوكي عنيد انتي عارفة، بس اكيد مع الوقت هيلين.
صمتت ثوان لتسألها مرة أخيرة من باب زيادة التأكيد:
-يعني احمد بيعاملك كويس؟
-أحمد طيب أوي هو يكاد يكون مش بيعاملني اصلًا، هو مستسلم لوجودي في حياته بس انتي أكيد اكتر حد عارف طبعه...
ناظرتها ريم في صمت لأنها كانت تظن بأنها تعرفه حتى اظهر وجهه القبيح، لكنها استمعت في هدوء لليان المستكملة وكأنها تشكوها في الخفاء:
-أوقات كتير بحس اني قاعدة لوحدي بفضل اتكلم واتكلم وفي الأخر بسيبني ويدخل ينام.
كانت ريم ترغب في اخبارها انها لا ترغب في الحديث عنه فجروحها لم تلتئم بعد لكنها تحاملت على نفسها تساعدها من واقع معرفتها بأحمد الوطيدة:
-متزعليش نفسك، هو طبعه كده بيبان مش مبالي لكن في الحقيقة هو بيسمع كل حرف وبينتبه لكل حركة حواليه.
حركت ليان رأسها بعفوية قبل ان تخبرها ريم في نبرة داعمة:
-طالما بتحبيه يبقى كل حاجة هتبقى تمام،
رغم كل اللي حصل من أحمد، بس انا معرفش غير أحمد اللي قلبه طيب واتمنى ان اللي صدر منه قبل كده تكون زوبعة وعدت من حياتنا،
ليان لو محتاجة اي مساعدة أي وقت كلميني!
كانت ريم تتحدث لتطيب خاطرها لكنها من داخلها ترغب لو تذهب إلى تلك الغرفة التي يقبع داخلها لتبرحه ضربًا، لمعت عيون ليان في فكرة وامل قبل أن تميل نحوها في حرج تخشى الحديث لكنها طلبت منها على أي حال:
-هو انا فعلًا محتاجة مساعدة، في دوا احمد بياخده عمال على بطال، والصراحة الموضوع مخليني على اعصابه وخايفه يكون إدمان،
بس هو بغبقى عصبي مرة واحدة وشوية يبقى في منتهى البرود.
-يعني اعمل ايه مش فاهمة؟
سألت ريم في توجس لا تفهم طبيعة طلبها لتجيبها ليان في نبرة خافته خجلة:
-انا محتاجه تعدي على دكتوره انا اعرفها بس مش حابه انزل وهو في الحالة دي وتسألي عن الدوا، هينفع؟
فكرت ريم في توتر برد فعل ريان الذي سيحرقها بنيران غضبه لكنها تنهدت قبل ان تعض شفتيها قائلة في استسلام:
-ماشي هاتي الاسم...
ابتسمت ليان في امتنان وانطلقت راكضة تحضر العلبة الفارغة التي تخفيها في حجرتها، اعطتها إلي ريم التي وقفت مستأذنه الذهاب واعدة بأن تساعدها في اقرب وقت.
لتوقفها ليان في حرج قبل أن تهمس في أذنها تطلب سؤالها عن موضوع أخر حين تذهب للطبيبة ابتعدت ليان تضغط على اصابعها في توسل، متابعة وجه ريم الذي احتله حمرة الخجل قبل أن تهز رأسها تومأ موافقتها في صمت.
*****
بعد ساعات العصر عاد ريان إلى المنزل أخيرًا يشعر بألم حاد في الرأس وفراغ في الصدر فقد مر الأسبوع الماضي عليه غريب كأنه مغيب غارق في هواجسه وغضبه المنصب على جميع من حوله دون سبب.
كان لديه الكثير من الأعمال اليوم عليه تعويضها بسبب إجازته الطويلة ولكنه وجد نفسه مستنزفًا غير قادر على أداء عمله مستوقفه بان قلبه مشتاق .... غارق في لهفته لزوجته ولطفله عمر...
فالساعات الضئيلة التي يقضيها في البيت هي ساعات نومه، ليستيقظ في الصباح الباكر متعمدًا عدم إيقاظ أيًا منهما مكتفي بتقبل جبينهما في صمت والذهاب للعمل...
ثم يعود لتناول وجبة غداء رتيبة هادئة يشعر فيها ان اسرته الصغيرة تخشى التنفس في وجوده فينفجر كالقنبلة الموقوتة في وجههم ولم يفت عليه تلك النظرات الصامتة بينهما في خضوع.
ابتسم فلا شيء قادر على مضايقته أكثر من شعوره بانه مستثني من انسجاهما.
اتجه للغرفة فوجد ريم سابحه بساقيها فوق الفراش متقمصة دور إحدى الشخصيات في الأفلام القديمة غارقة في حديث ما على هاتفها لدرجة لم تشعر بوصوله للمنزل،
قطع تحديقها بجسدها الصغير صوت ضحكات منبثقة من غرفه عمر الذي كان يحادث لعبته الإلكترونية يتوعدها بالنصر في حماسة، فتركها تكمل مكالمتها واتجه لصغيره يفتح باب غرفته قائلًا:
-كفاية لعب بالتابلت بقى هيجيلك توحد!
-يا بابي لسه ماسكه من شويه والله.
زين وجه ريان ابتسامه مشاكسة وهو يردف في نبرة متهكمة:
-يا راجل وطول النهار كنت قاعد مؤدب مش ماسكه صح؟
-ايوة يا بابي احنا كنا في الشارع طول اليوم اصلًا.
انعقد حاجب ريان في تعجب ليسأله:
-انتوا خرجتوا؟
-اه روحنا بيت عمتو ليان وبعدين روحنا لدكتورة ريم.
تسمر رسان ما ان سمع اسم شقيقته الخائنة فأغمض جفونه يستجمع رباطة جأشه وقد رفض عقله الثبات على موقف واحد وظل يتنقل بين مشاعر مختلفة متناقضة، فتحرك في صمت تاركًا صغيره متجهًا نحو غرفة ريم.
*****
-للأسف قالتلي إنها متقدرش تأكد ده إدمان ولا لا لازم تحاليل وتكشف على المريض،
بس الموضوع ما يطمنش لأن الدوا ده نازل جدول وهي استغربت ان في دكتور ممكن يكتبه للمريض بتاعه.
وكمان اكدتلي أن في حالات كتيرة بتوصل لحالة الإدمان على المهدئات لو مش متابعة مع دكتور بشكل مناسب.
عضت ريم على شفتيها في قلق وهي تحادث ليان تخبرها عن نتائج زيارتها مع الطبيبة لتكتشف عواقب ذلك الدواء الوخيمة :
-أنا مستغربة ازاي الدكتور يكتبهوله ويا ترى بياخده من امتى،
انتي متفتكريش مثلًا امتى اخر مرة راح للدكتور؟
سألت ليان في نبرة متوترة خائفة وشعرت ريم بالضيق لأنها تجهل هذا الجانب من شخصية احمد وردت:
-للأسف انا مكنتش أعرف انه بيتعالج أصلًا بس هو مضغوط نفسيًا وأنا حسيت انه ممكن يكون عنده مشاكل بسبب قسوة والده عليه. وانه دايما حاسس بالوحدة.
أرادت ليان سؤالها عن باقي ما تخشاه فتحاملت على خجلها قائلة في خفوت:
-طيب وقالت أيه في الموضوع التاني؟
أغمضت ريم جفونها في خجل لا تصدق انها تناقش هذا الأمر الخاص مع شقيقه زوجها لكنها تحاملت على خجلها فللضرورة أحكام فهي ائتمنها على المساعدة وعليها التلبية على أكمل وجه:
-أيوة، قالت ان الدوا بيأثر طبعًا على طبيعة العلاقة بين الراجل ومراته،
بس متقلقيش هي اكدتلي أن أي دوا اضراره مش دايمه ونسبة تأثيره في المواضيع دي بتكون متفاوته حسب تركيبه العلاج.
زمجرت ليان في غضب تشعر الحقد على أحمد الغبي وطبيبه الذي ستقتلع عيناه بأسنانها لتسببه بهذه الكارثة ثم قالت في حده:
-يعني هو ده سبب المشكلة اللي عند أحمد مش كده؟
تخضبت وجنتي ريم باللون الأحمر لكنها استكملت في جراءة:
-طبعا هيسبب مشكلة بس الدكتورة نبهتني ان طالما المريض بيستخدم المهدئات فاحتمال كبير يكون عنده اكتئاب مزمن او ضروب نفسي من نوع ما وان ده ممكن تأثيره يكون أكبر من آثار الدوا السلبية.
هزت ليان رأسها في إرهاق شديد كانت تعلم انها ستعاني الكثير في تلك العلاقة التي استحدثتها من العدم بينها وبين أحمد ولكنها لم تعتقد انها ستتحمل غباءه بالكامل.
وله الجرأة بان يتعجب من وجود خطب ما به !!
-طيب يا ريم أنا متشكرة بجد، واسفة مرة تانية اني حطيتك في موقف زي ده بس حقيقي هو حابس نفسه حرفيًا في البيت كأنه مستنى ابوه يجي يطردنا منه.
اعتدلت ريم في جلستها وعيونها تضيق في قلق متسائلة:
-طيب افرضي طردكم فعلًا هتعملوا أيه؟
-متقلقيش أنا كلمت البواب وهو جابلي ارقام شقق للإيجار ولقيت كام حاجه حنينه فاضية لو أبوة طلع معندوش ضمير فعلًا ومشانا هنطلع على حاجه منهم.
اجابتها ليان في اعتياديه وثقه بأنها قادرة على تمالك الأمور من حولهم فأخبرتها ريم في لهجة جدية حقيقية:
-ليان لو احتاجتي اي حاجة كلميني او كلمي ريان،
اخوكي مهما زعل مش هيبقى عايزك تتمرمطي!
خرج منها ضحكة صغيرة ساخرة قبل أن تهز رأسها في رفض قائلة:
-وانا مش هقبل أني امرمطه معايا تاني يا ريم،
ريان من حقه يزعل وانا هسيبه براحته الفترة دي،
لكن ده مش معناه اني هستسلم أو أيأس وهفضل اتصل بيه كل يوم لحد ما يفهم ويسامحني.
انهت جملتها بلهجة مليئة بالأمل والاصرار فابتسمت ريم سعيدة بروح المحاربة منها وجانب صغير داخلها متأكد بأن ليان ستكون حبل النجاة لأحمد حتى وإن لم يستحق فهي سعيدة لأجله ولأجلها.
أغلقت الهاتف بعد تبادلهم لبضعه نقاط أخرى ثم تهدت ريم تشعر بأن جبال العالم ارتفعت من على كاهلها، فهي بريئة من أي ذنب متعلق بليان أو بأحمد.
مطت ذراعيها تلوي جسدها للخلف في تعب لتتفاجأ بريان يقف على باب الغرفة يطالعها في غموض، ارتعشت ابتسامته قليلًا لوجوده الغير متوقع وسألت:
-انت جيت امتى؟
نظر إليها في غموض قبل أن يدخل بالكامل للغرفة مجيبًا:
-جيت من شويه بس قولت اسيبك تخلصي تلفونك.
سعل بخفة متجهًا لتغيير ملابسه يفكر في امثل طريقة لبدء حديثه دون أن يفقد صوابه ويفجر غضبه في وجهها لكنه تفاجأ بصوتها المغرد في توجس:
-ريان ممكن اقولك على حاجة بس متزعقليش؟
التفت يطالعها بحاجب مرفوع وجزء داخله يتمنى ان تخبره بلسانها ما حدث اليوم ثم أرتفع جانب فمه في سخرية مردفًا:
-والله على حسب، أيه المصيبة!
-احنا اتفقنا على الثقة المتبادلة واننا هنبدأ حياة جديدة وصادقة،
وأنا مش حابه اعمل حاجة من وراك فهتسمع من غير سخرية ولا أسكت وترجع ريما لعادتها القديمة؟
اخبرته في انزعاج واضح من رد فعله الساخر فرمى بقميصه على المقعد قبل ان يمسك نظراتها بنظرات ثابتة عن قصد قائلًا:
-على حسب العادة اللي ريما عايزة ترجع ليها.
شعرت باتهام طفيف يفوح من نظراته لكنها تعلقت بها في شجاعة قائلة وهي تمد ذراعها تجذب ملابسه البيتية ثم قدمتها إليه كي تمنع توترها:
-أنا خرجت انهارده وروحت قابلت ليان!
ارتفع حاجبه في اتهام ثم قال في حده من بين أسنانه:
-قابلتي أحمد!
رفعت أصبعها في وجهه توقف شكوكه في مهدها بنبرتها الحازمة :
-انا قولت ليان مجبتش سيرة احمد ولا قعدت معاه ثانية واحدة.
-والمفروض ان أنا أصدقك مش كده؟
قالها في غيظ وهو يلقي بالملابس أرضًا فمالت رغم خوفها تلملمها وتدفعها في صدره مجبرة إياه على امساكها من جديد لتخبره في مدافعة:
-ايوة ولو مش هتصدقني قولي عشان اعتبر اتفقنا ملغي واحتفظ باللي حصل لنفسي.
قرص ريان أنفه يمنع انفعالاته قبل ان يجبر ابتسامه زائفة مظلمة فوق فمه قائلًا في غيظ:
-كملي روحتي ليه لليان؟
عقدت ذراعها في تذمر من لهجته لكنها قالت في صدق:
-روحت عشان اتطمن هي فعلا اتجوزته برضاها ولا هو أجبرها على كده.
ضحك ريان في سخرية وعاد لتغيير ملابسه بجسد مشنج كي يشغل نفسه عن خنقها ثم قال:
-انتي سمعتيها بنفسك قالت انه مغصبش عليها، ومش هو ده السبب الوحيد اللي خلاكي تروحي، صح؟
-صح اللي خلاني أروح كلام بيجاد، كنت خايفة من احمد بعد اللي عمله معايا يكون اتحول لإنسان همجي وغصب علي ليان عشان تتجوزه،
بس الحمدلله ربنا خيب ظني.
-الحمدلله فعلًا هو مش همجي، اختي أنا اللي مش متربية!
جاء رد ريان الساخر مع ابتسامه كبيرة لم تصل لعينيه، فزفرت ريم تحاول ترتيب افكارها واللحاق بمنحنى مشاعره قائلة:
-ليان بتحب أحمد بجد وبتحارب عشانه.
وضع ريان يده فوق صدره مستحضرًا ما يملكه من شفقه ساخرة فوق ملامحه قائلًا:
-أيوة بتحارب أخوها الشرير المجرم اللي واقف قدام سعادتها مش كده؟
-ريان ممكن تبطل سخرية وتسمع بالعقل شوية.
تذمرت ريم وهي تضرب بساقيها في الأرض فاندفع ريان خطوة للأمام نحوها هاتفًا في عضب مكبوت داخل صدره:
-أسمع ايه؟
ان أختي بتحب الراجل اللي مش بكره قده في حياتي، وانها اختارته على اخوتها وفضلته عليا!
اقتربت منه ريم دون خوف تمسك كفوفه لكنه جذبها منها في حده فابتلعت غصتها لتستكمل في مدافعة:
-أنا مقولتش كده، وكلنا عارفين ان اللي عملته ليان غلط،
بس كلنا بنغلط لما بنحب، والحاسبة بتعطل قدام مسائل الحب وأنت أدرى الناس بكده.
-أنا مش عايز أتكلم في الموضوع ده تاني يا ريم، حوار ليان منتهي.
استدار ناحيتها مؤكدًا في نبرة مغتاظة أمره:
-دي هتكون أخر زيارة ليكي هناك، احنا اتفقنا على الصراحة وانا احترمتك وتقبلت كلامك رغم اني عايز اقتلك،
لكن انا بقولك صراحة اهوه إياكي تخطي برجلك في بيته من تاني او في اي مكان هو موجود فيه حتى لو عشان خاطر اختي.
حركت رأسها تومأ في موافقة حزينة قبل ان تقترب منه تحتضنه في رقة لا متناهية هامسة في صدره تسترضيه:
-حاضر اللي يريحك، وبعدين انا روحت عشان عارفة ومتأكدة انك مش متطمن مية في الميه من موضوع جوازها حتى لو انت بتنكر الوضع.
تنفس عدة مرات يخرج طاقته السلبية بها فهو لا ينكر بأن هناك جزء خفي داخله يشعر بنوع من أنواع الامتنان بأن شقيقته ليست تحت سيطرة شخص مجنون لكنه لن يعترف ابدًا ولا يريد لزوجته بالتدخل.
-ممكن افضل في حضنك شوية، وحشتني!
حطمت أسواره بنبرتها الحانية فتنهد وهو يطالع زوجته الحنونة الفاتنة تتوسل قربه ليتحرك معها ثم يجلسها إلى جواره قبل أن يقتحمها في عناقه القوي مستسلمان للراحة بين ذراعي بعضهم البعض.
مرت الدقائق طويلة وكأنها الدهر نجح فيها في تهدئة افكاره والسيطرة على غضبه مقررًا الترثي والهدوء معها فعلى الأقل هي صادقة وتحارب من أجله.
قبل مقدمة رأسها في حب قاطعًا صمتهم الطويل وهو يعبث بأناملها قائلًا:
-وحشتيني أكتر على فكرة، وكنت هتجنن من الصبح مستني اروح ليكي انتي وعمر..
نظرت له بعيون تتلألأ في سعادة وبهجة مبتسمة في خجل مهيب يخلب العقول، وود لو يخفيها داخل منزله فلا يلمحها أحد غيره، حاول اقحام غيرته الحارقة داخل جره مشاعره ثم مد ذراعيه حولها يبادلها عناقها مؤكدًا:
-مش بحب الغيرة، متجبرنيش أحسها عشان ساعتها ههدم كل اللي بنيته.
-مفيش حاجة تستدعي الغيرة وياريت تتفهم اللي حصل وبلاش تزعل مني.
همست محاولة تغيير مجرى الحديث وسمح لها ريان بذلك خاصة عندما استمرت في مسح وجهها كالقطط في صدره تمتص غضبه كالمغناطيس وتستبدله بشحنة حنان وعشق موجه نحوها فلامس خصلاتها متسائلًا في قلق طفيف وقد تذكر كلمات صغيره:
-روحتي للدكتورة ليه كان مالك؟
شعر بجسدها الصغير يتصلب فأغمض جفونه متأكد بأن ما سيخرج من فمها سيشعله غضبًا، عضت ريم شفتيها في حرج وارتباك ثم قالت في خفوت طفولي وهي ترمقه بطرف عينيها:
-قول والله العظيم مش هزعل منك يا ريم ومش هتقمص أسبوع كمان.
-اولا أنا مش هقول العبط ده،
ثانيًا انا مكنتش مقموص انا كنت مضغوط شوية ومكنتش حابب اضايقك انتي وعمر معايا.
أخبرها ريان بملامح منكمشة في غيظ لسذاجتها فتنهدت في استسلام قبل أن تسرد عليه تفصيل ذهابها للطبيبة بناء على طلب ليان كي تساعدها مع حالة أحمد المريبة.
سند ريان مرفقه فوق كفه الأيسر بينما استقرت أصابع كفه الأيمن فوق فمه يفكر في طريقة لقتل ريم دون أن تفقد حياتها بشكل كامل، عض شفتيه يتابع حركتها الملتوية في توتر أمامه قبل أن يخبرها بقلة حيلة:
-قوليلي أعمل معاكي أيه وأنا هعمل!
-أنا أسفة والله بس مكنش ينفع مساعدهاش.
جز على اسنانه وهو يمسك جانب وجهها ليتخلل لحمها بين أصابعه جاذبًا إياه في غيظ متعجبًا:
-ليه مينفعش، عليكي كمبيالات، ماضية شيكات أو ورق على بياض مثلًا،
ده إيه المرار ده، انتي مفكرتيش شكلك هيبقى ايه قدام الدكتورة لما تسأليها عن مشاكل واحد غريب!
شهقت في دفاعيه وهي تبتعد عن انامله ترفع اصابع يدها امامه في مدافعة تؤكد براءتها:
-والله العظيم ابدًا انا قولتها جوزي!
اتسعت أعين ريان في صدمه قبل ان يهتف في وجهها غير مصدقًا وقاحتها:
-يا فرحتي بيكي، يا فرحة قلبي بيكي،
ياريتك قولتلها راجل غريب، بتفضحيني يا ريم!!
ارتبكت ريم عندما خبط ريان بقبضته فوق رأسه وكأنه يكبح نفسه عن نطحها فقالت في خوف وتوتر:
-يا حبيبي أنت زعلان ليه هي تعرفك اصلًا!
-لا لازم اروح افهمها الحقيقة واثبتلها أني زي الفل.
قال دون شعور وهو يجول المكان اماها ذهابًا وإيابًا كارهًا ما حدث ولا يدري ماذا يفعل بذلك الانزعاج الغير مبرر، ولم يلاحظ زوجته التي تخصرت في غيظ وهي تتابع عيناه المخططة هاتفه في حنق:
-ريان اتربى.
هز ريان رأسه يحاول استيعاب جراءتها بأنها تلومه بعدم التربية في حين انها من ذهبت واساءت إلى مظهره العام.
ارتفع حاجبه متعجبًا ملامح الضيق على وجهها لكنه فهم ظنها الوقح بعد ثوان فابتسم في بهجة مغيظة:
-لا والله لازم أثبتلها، اديني عنوانها بسرعة.
جزت على اسنانها تطالعه في صمت وانفاس عالية فانفجر ضاحكًا في رضا قبل ان يغيظها في سماجته المعتادة:
-تستاهلي عشان تحرقي دمي تاني.
-انسان لا يطاق.
-اسكتي بالله عليكي، يا شلال المفهومية.
رمقته في غرور وتحدي تحاول السيطرة على ابتسامتها لكنها فشلت في التمسك بتذمرها حين اقترب يحتضنها متناسيًا ما دار وحدث منذ قليل وزاد من دهشتها اكثر حين أخبرها:
-أنهارده وصلت لحاجة مهمة جدًا.
طالعته في صمت فاستكمل بابتسامته الرائعة وقد استعاد مزاجه الجيد من جديد :
-انكم وحشتوني أوي واننا بعد كده لازم نفصل بين حياتنا وأي أحداث خارجة عنها.
-وحط كمان اننا ما نتقمصش أسبوع!
تذمرت في غنج ودلال تتمايل بين ذراعيه عن قصد فدوت ضحكاته الغالية بينما يشد على خصرها يمنع ابتعادها مدللًا إياها بكلماته المجنونة الساخرة يلاعب أوتار غيظها تارة وحنقها تارة اخرى قبل أن تتحول أجواء المرح سريعًا إلى أجواء أشد إثارة يهاجم فيها كل دفاعاتها ببسالة حتى يمتلك عشقها ويقدمه كقربان للطمأنينة داخل صدره.
*****
اندفعت ليان داخل غرفة أحمد الذي يرفض الخروج منذ أن رأى ريم في الصباح لا يزال غارق في مشاعر الخذلان، قبل ان تقتحم ليان المكان وبكل جراءة جذبت علبة الدواء من فوق الطاولة تلقيها في وجهه متهمة:
-ابقى روح أسأل دكتورك المتخلف اللي اداك العلاج ده انت عندك مشاكل ليه!
أمسك أحمد المنذهل بعلبه الدواء قبل ان يقف امامها متسائلًا في استنكار:
-دكتور ايه؟
-الحمار اللي بتتابع معاه وبيديك المهدئ ده!
رمش أحمد مرتين قبل أن يخبرها في بلاهة:
-انا مش بروح لدكتور اصلا.
ارتسمت البلاهة تلك المرة على وجه ليان التي تقدمت نحوه بعيون ضيقة تحدقه في قسوة قائلة من بين اسنانها:
-اومال أنت بتاخد الدوا ده ازاي؟
-باخده لوحدي وبعدين انتي داخله تزعقيلي كده ليه انا حر!
حاولت سحب انفاسها لتهدأ قبل ان تقول في نبرة مضطربة وهدوء زائف:
-أحمد بعد اذنك بلاش تعاندني وجاوب بصرحة لأن دي مصيبة الدوا ده اصلًا نازل جدول بتوصله ازاي؟
-واحد صاحبي صيدلي وبيجبهولي، وبعدين انا مش مطالب ابدًا اني أبرر تصرفاتي ليكي.
انهى كلماته في حده وهو يتحرك من امامها معطيها ظهره فاندفعت تديره نحوها قبل ان تصيح في غضب:
-أنت أيه عايش في العصر الجاهلي مش عارف ان دوا زي ده من غير دكتور ممكن يموتك مش بس يدمرك،
بلاش ده مفكرتش تقرأ نشرة العلاج تشوف أثاره.
وقف أمامها بملامحه الجامدة ثم أخبرها في حده يرفض الاعتراف بوجود خطب ما:
-مش بيجي بورقه أنا بخده منه كده.
وضعت يدها فوق رأسها تكاد تستشيط بنيران الغضب غير مصدقة درجة الغباء التي وصل لها فقالت مغتاظة:
-فهمني أنت ازاي انسان سلبي ومش بتفكر كده،
فين ثقافة الوعي اللي عندك، ازاي تقبل تاخد علاج متعرفش عنه اي حاجة غير انه بيريحك،
انت كده بالظبط زيك زي المدمنين!
التفت أحمد بعيدًا عن اتهاماتها وقد بدأت انفاسه في التصارع يخشى التفكير فيما تحاول اقحامه داخل عقله، فكل ما يراه في دواءه سبيل للهروب من ظلمات، فابتعد قائلًا في نبرة مهتزة مدافعة:
-أنا مش مدمن ده دوا اكتئاب مش مهلوسات وأي حد بياخدها عشان ينام.
-أي حد ده ...ممكن ياخدها لما يبقى بيتابع مع طبيب،
أي حد ده ... مش بيصحى من النوم يقولك بس أنا مكتئب هنزل اجيب شوية علاج!!
علا صوتها الغاضب في تهكم فصرخ بها مستنكرًا:
-انا باخده من سنين ومحصليش حاجة ومش مدمن على حاجة،
مش عشان دخلتي حياتي كام يوم هتفتكري نفسك فاهمة كل حاجة ومش عشان ساكتلك هتفتكري انك امتلكتيني...
خرجت كلماته قاسية مستنكره لأنها تشعره بغبائه بانه استمع لرفيق عايشه في وقت المراهقة ونعم لم يسأل فقد كان شاب صغير متخبط لا يفقه شيء وكل ما أرداه هو النوم، ضغط على فكيه في غضب لم يطلب الجاه ولا المستحيل بل طلب حق آدمي حرم منه وهو النوم قرير الأعين كباقي المخلوقات....
فلما تعاقبه بأن تلوح بضعف يحاول الهرب منه في وجهه بقوة، خرجت ضحكات ليان الساخرة التي جذبته من أفكاره مصدومة من كلماته لكنها جزت على اسنانها متقدمة نحوه في خطوتين هامسة في قوة:
-أنا امتلكتت فعلًا حتى لو بتقنع نفسك بالعكس ومن حقي احافظ على ممتلكاتي طالما محدش غيري هيحافظ عليها...
كانا يتواجهان وجهًا لوجه في معركة صامته تترجمها لغة العيون وكلاهما ينتفض بأنفاسه العالية لأسبابه الخاصة، تعلم ليان أنه سيتراجع كعادته في اللحظات الحاسمة فقررت إعادة الحوار لمنصبه الأساسي بكلماتها الماكرة :
-فكر كده انت بتاخد الدوا ده كل قد ايه؟
مرتين في الاسبوع، لا لا أكيد تلاته عشان مضغوط ..
أقولك أنا هحسبهالك أسهل،
انت بتاخده كل يوم عشان تهرب وتعرف تنام ولو حطينا عليها جملتك "أنا باخده طول عمري"…
قطعت حديثها ممسكة عيونه المرتبكة بأنظارها الحارقة التي تلامس دواخله ثم استطردت في حدة وثبات:
-فانت مش بس مدمن على المهدئات، أنت أذيت نفسك وجسمك أذية ملهاش عدد.
لامست وجنته منهية حوارها اللاذع فنفضها في حده وهو يبتعد للخلف في رفض يكره كلماتها ويكره تعريتها لدواخل حياته، فمالت برأسها محركة شفتيها في تقبل قبل أن تتجه بخطوات ثابتة نحو الدواء متعمدة قذفه نحوه من جديد وحين التقطه كرد فعل ابتسمت في غموض قائلة بنبرة مقطرة بتحدي:
-موقف صعب بس الاخيار سهل الهروب ولا المواجهة ؟
تحركت نحو الباب تعطيه ظهرها تخفي ملامحا الحزينة قبل أن تقذفه بكلماتها المتحدية الثابتة:
-لوعندك الشجاعة خد الدوا ده وروح لدكتور واسأله أنت عندك مشكلة في ال... اااه كنت مسميها أيه؟.. ايوة افتكرت .... عجز ....،
خد الدوا ده واسأله أنت عاجز ليه؟
تقطرت جملتها الأخيرة بالسخرية وكأنها تحارب الواقع بأن عجزه الوحيد داخل عقله المتعفن ثم تركته وخرجت مغلقة الباب ساندة فوقه لتترك جفونها تنغلق في حزن بينما ترتفع أصابعها المرتعشة فوق قلبها المتسارع في حده، تعلم انها تقسو عليه وتشعر بالشفقة تتملكها ولكن ما باليد حيلة فإن لم تدفعه هي لن يتحرك هو.....
وقف أحمد مكانه دون أن يتحرك خطوة وانظاره معلقة بالباب الذي خرجت منه ليان، كم ينقم عليها لأنها تخترق خلوته وتقحم داخله مشاعر غريبة عنه وكأنها تسكب من روحها الشجاعة كي تطفئ ظمأ داخل روحه.
ضغط على علبه الدوا وعقله يدور في تساؤلات متوترة مضطربة:
هل يعقل بأن السبيل الوحيد الذي لجأ إليه والخيار الوحيد الذي اتخذه بمفرده في حياته هو السبب في ما يدور معه؟
هل يستطيع ان يتجرأ ويظن بأنه لا يزال محتفظًا برجولته وان ما حدث قديمًا كان من تأثير تلك السموم؟
أغمض جفونه وقد نجحت ليان في إشعال نيران الشك والحيرة في قلبه فلم يشعر بنفسه سوى وهو مندفع يجذب مفتاح سيارته ويخرج من غرفته متجاهلًا وقوفها بمنتصف الردهة تطالع اختفاءه من باب المنزل في ذهول صامت قطعه الباب المنغلق في حدة.
نكست ليان رأسها ورفعت رأسها للسماء تناشد الرحمة على قلبها وروحها التي هي أضعف بكثير مما تظهره للجميع من حولها.