رواية فرط الحب الفصل الثالث3 والرابع4 بقلم دينا ابراهيم
وقفت "ريم" في منتصف المنزل تنتظر خروجه من الغرفة المنزوية بأخر الشقة والتي كانت يومًا مخصصه ل "عُمر" كي يضعه في فراشه الصغير الذي لم تمس به أي تغيير حتى بعد مرور سنة على انفصالهما، ففراشه تحرص على تغييره اسبوعيًا بجانب تنظيفها للألعاب وعلب الألوان الصغيرة التي فقدت رونها باشتياقها لسحر طفولته.
غمرتها رغبة عارمه في البكاء والصراخ لتلك الطريقة البشعة التي اقتلع بها ريان صغيرها منها.
ألهذا الحد لا قيمة لمشاعر أمومتها بعد أن توَلت تربيته وعشقته منذ كان وليد يومين ؟!
نعم، فهي أمه رغمًا عن أنف الجميع وماذا إن لم يقتطع من رحمها لكنه عاش وترعرع في روحها وملئ فراغ موحش داخل قلبها، ولا حق لأحد حتى المسمى بوالده في انتزاعه منها بتلك الطريقة المتوحشة.
حاولت التركيز على تلك المشاعر العنيفة والابتعاد عن أخرى ضعيفة مثيرة للشفقة تدافع بلهفة عن عودة "ريان" وظهوره الغير متوقع لكنها لن تستسلم لأوهامها وقلبها الأحمق مرة أخرى ولن تنساق وراء مشاعرها السخيفة وقد ذاقت بسببها المرار، فإن كان للحب وجود بينهما لما مزقها بتلك الطريقة المروعة.
قطع أفكارها خروج "ريان" من الغرفة، فاعتدلت تنتظره شامخة الرأس بإصرار على فعل ما يمليه عليها عقلها تراقبه يتقدم منها بخطوات غامضة.
ثنى ريان قميصه في طريقه لها ثم توقف يغمض عينيه لحظه واتجه للمقعد جوارها حتى يخلع حذائه في تأني قبل أن يضع ساق فوق الأخرى مستند للخلف بأريحيه يخفي خلف جفونه ثورة كالداهية ستكون هي ضحيتها.
- ممكن أفهم انت ظهرت في حياتي تاني ليه؟
انعقد حاجبيه وهو يمرر إصبعه على شفتيه في تهكم وتفكير ثم قال في نبرة غريبه:
- وإنتِ مكنتيش عايزاني أظهر؟
طالعته كأنه مجنون وعقدت ذراعيها كي تمنع نفسها من الانقضاض عليه لتُمزق وجهه، قبل أن تقول بحده:
- وإنت كنت متوقع إني هرحب بيك تاني بعد اللي عملته فيا؟
- وده يديكي الحق إنك تتخطبي لواحد وإنتِ على ذمة واحد تاني !
أخبرها بنبرة حاده قاتلة وهو يستقيم ويقف أمامها مباشرة غير قادر على التصرف بتحضُر وكل حرف يخرج من فاهها يكوي رجولته، لكنها ابتعدت خطوة للخلف بحذر وقالت في توتر:
- أعتقد الموضوع كده زاد عن حده، إنت بأي حق بتكلمني عن خياراتي،
على ما أتذكر إنت اللي رمتني وطلقتني مش أنا.
- وأنا بردو اللي رديتك لعصمتي وإنتِ اللي فضلتي تبعدي وتعزليني عنك وأنا سيبتك بمزاجك لحد ما أرجعلك مصر،
لكن متخيلتش إنك ممكن يجيلك الجرأة وتعملي مصيبة زي دي.
- ردتني لعصمتك ، يعني إيه ردتني لعصمتك؟
تساءلت بغباء عاجزة عن استيعاب ما يخرج من فمه فابتسم تلك الابتسامة الساخرة البغيضة وهو يمد أصابعه يلمس وجنتها الحمراء من شدة انفعالاتها ثم أردف:
- إنتِ عايزه يبقى معناها إيه؟
- بلاش تهريج وفهمني يعني إيه، لو قصدك ترجعني فأنا مش هرجعلك ولو على جثتي!
هتفت وهي تبعد أصابعه في حده فارتفع حاجبه يحلل كلماتها، تنفس من فمه ببطء سبب أخر يدفعه للتروي ويُذكّره بأنها فاقدة للكثير والكثير بموت ذويها لكن لم يمنعه ذلك من القول بتشفي:
- يعني في شرع ربنا إنتِ لسه مراتي!
حركت يديها بينهما بانفعال شديد قبل أن تتوالى اتهاماتها:
- كذاب، أنا مش مصدقه حرف واحد من اللي قولته، إنت فاكرني عبيطه وهصدَقك،
شرع إيه اللي يخليك تردني بعد سنة طلاق وبعدين بيجاد أكدلي إنك هتبعتلي ورقة طلاقي أول ما تنزل أجازة يبقى إزاي ردتني زي ما بتقول!
عقد ذراعيه وهو يراقبها في غضب يحاول تحليل غضبها أهو صادق أم أنها تعلمت المكر والخديعة في غيابه لتلمع عيناه وقد تَذكّر أمر هام، فبادلها نفس الخطوة ومال لتصبح عينيه الحالكة بغضبه بمستوى عيناها ويتهمها من بين أسنانه:
- لمّا كلمتي بيجاد كان لسه بقالنا شهرين، لكن أنا رديتك بعد ٣ شهور يعني قبل العدة ما تنتهي بأيام وأظن الرسالة كانت واضحة فبلاش كدب عشان تداري على عملتك.
- أداري على عملتي!
لا إنت تطلع برا بيتي حالًا، والكلام اللي إنت بتقوله ده مش صحيح أنا مجاليش أي رسايل بكلامك الفارغ ده.
- لا حصل الرسالة وصلتلك مع عقد الشقة.
حركت رأسها لليسار واليمين بنفي وهي تجزم في ذعر:
عشان تعرف انك كداب، العقد معايا لوحده ومكنش فيه اي رسايل لما وصلي الظرف وبعدين عايز تفهمني انك ردتني زي ما بتقول برساله،
لا انا مش مصدقاك دي أكيد لعبة من ألاعيبك.
- أنا كلمتك بدل المرة ألف وبدل الرسالة ألفين لكن إنتِ اللي رفضتي تكلميني وغيرتي رقمك.
ضحكت باستخفاف لتقول بلهجة يغلبها اختناقها بمشاعرها :
-تعالى اتهمك بالظلم وارميك رميه الكلاب واسافر،
وبعديها بتلت شهور هبقى افتكر اني ابعت اكلمك وشوف كده هتتصرف ازاي،
ولا انت كنت فاكرني معنديش دم او كرامة وكنت عايزني أرد اقولك عشان خاطري تعالى رجعني.
خرجت جملتها الأخيرة مهتزة لتلعن الحياة وتلعن وجوده فيها، فأجابها في غضب يوازي غضبها وهو يميل بوجهه نحوها:
- أنا معترف إني غلطان بس أنا إنسان ومفيش إنسان كامل وكل الناس بتغلط مش أنا بس،
وموضوع الرسالة ده وصلك ولا لا فأنا هعرف أوصل لنهايته.
هزت رأسها بموافقة والتفت بعيدّا عنه تخفي عمق أحزانها لتعلن بصرامة:
- كويس إنك عارف وحتى لو الكلام ده صحيح متتعبش نفسك وتدور في حاجات تافهة،
فأنا مستحيل أوافق إني أرجع لعصمتك.
- إنتِ رجعتي مراتي فعلًا، الشرع بيقول كده.
- شرع إيه اللي متعرفش عنه حاجه ده، والشرع بردو اللي قالك تردني وتسبني مرميه سنه إنت في بلد وأنا في بلد ومعرفش عنك حاجة،
وفي الآخر عايز ترجع وكأن شيء لم يكن!
صرخت بكل قوتها وهي تلتفت في هياج عصبي شديد وتدفعه في صدره دون مراعاة لهيئته الغاضبة بل المرعبة فجذبها ريان نحوه من معصميها غير مبالي بأصابعه المنغرسة في لحمها ليحذرها بنبرة غليظة واستنكار:
- أنا اعترفت إني غلطت والموضوع إنتهى ولا إنتِ عايزاني أسجد قدامك وأقولك سماح!
تعلقت عيناها المتسعة بعينيه القاسية غير مصدقه أنها كانت يومًا تغرق في بحور عشقه بكل هذا الولع والهيام.
- ريم...؟
قاطعهما صوت "عمر" المتلعثم بخوف والمختلط ببكائه الصامت وهو يطالع والده وريم يتدافعان في غضب.
التفَتَ كلاهما نحوه قبل أن تجذب ريم معصمها من بين براثن "ريان" لتردف بصوت تستحضر فيه هدوءها وحنانها:
- متخافش يا عُمر أنا وبابي بنتكلم شوية.
- أدخل جوا يا عُمر ومتطلعش غير لما أنادي عليك، ده كلام كبار متدخلش فيه.
علا صوت "ريان" من خلفها فأغمضت عينيها تحاول السيطرة على رغبة كبيرة في الالتفاف وصفع وجهه الرجولي ولكنها فتحتهما وهي تستمع لصوت تحركات قدم الصغير المترددة نحو الداخل.
فاستدارت نحوه مسترسلة في حزم:
- آخر كلام عندي يا ريان أنا شوفت مصلحتي وإنت مش فيها وبعد إذنك إتفضل من غير مطرود لإنك مش مرحب بيك هنا.
دوت ضحكته المكان وهو يتركها ليعود للجلوس في مقعده ويعلن بعنجهية:
- على ما افتكر البيت ده يبقى بيتي.
جزت على أسنانها كي لا تمطره بأسوأ السباب وقالت في حده:
- على ما افتكر ده كان بيتك قبل ما تطلقني وتكتبوا بإسمي.
- وعلى ما افتكر لما كتبته بإسمك مكنش عشان تروحي لراجل غريب وتتجوزيه.
- حاجة ماتخصكش، دي حياتي وأنا حرة فيها.
وقف بحده ليهتف في ضيق:
- وكنتي هتعملي إيه هتتجوزي وإنتِ متجوزه ؟؟
- دي غلطتك إنت مش أنا بس إحنا فيها إنت لازم تطلقني ودلوقتي حالا.
- مستحيل وأسيبك إنتِ وهو تكملوا الفيلم عليا مش كده،
مش ده الصديق اللي في محنة ومينفعش تتخلي عنه، إيه دلوقتي ينفع يتجوز عادي!
احمرت وجنتيها وعقدت ذراعيها بعناد رافضه تماما الرد وذلك الأمل الذي يحاول اختطافه من قلبها بسبب تملكه، اقترب "ريان" نحوها يحاول إمساك أصابعها لكنها رفضت بحدة وهي تبتعد للخلف ليقول ساخرًا:
- بعينك إنتِ وهو مش عايزه ترجعيلي إنتِ حره بس إبقي قابليني لو عرفتي تتجوزي من بعدي،
خليكي كده زي البيت الوقف من غيري.
- هتجوزه غصب عنك..اااه.
تأوهت "ريم" في ذهول وقد تشابكت أصابعه بين خصلاتها يجذبها للخلف بعنف ويجبرها على النظر في وجهه المرعب وكأن الجحيم انبثق من عينيه بكلماتها، فقد طفح الكيل وتلاشت محاولاته في السيطرة على ذلك الشرقي المختبئ خلف فعلته الحمقاء معها ولكن لكل شيء حدود ولطالما كان حبه لها كلعنه موسومه بالغيرة والتملك السافر.
تجمعت قطرات العرق الحامي فوق صدغيه وتكاد أسنانه تتكسر من شدة تشنجه، فهدر من بين شفتيه وهو يتنفس بصعوبة ويصرح عما ينهش في مخيلته:
- قرب منك ... لمسك ؟
إنطقي وإلا قسمًا بالله لو حسيتك بتكدبي ولا بتدُّوري بس كده لهقتلك بإيدي قبل ما أروح أخلص عليه!
انتفض جسدها لاتهامه المقزز وهو يعتصرها إليه وفي ذات الوقت يضع على خصلاتها للخلف يكاد يفصل رأسها عن جسدها بقبضته لكنها همست في خفوت مرتعده الفرائص:
- أقسم بالله ما قربلي، إنت إزاي تقولّي كده.
هزت رأسها بذهول لحقارة كلماته وعنفه الذي دب الرعب في أوصالها ودفعها لتتلبس تلك المرأة الضعيفة مرة اخرى.
شعرت بدموعها تحارب للهرب من عينها ولكنها لن تستسلم لتلك الراحة الواهية، فقاومت للتخلص من قبضته خلف رأسها ثم أخبرته وهي تضغط على كل حرف من بين شفتيها:
- سيب شعري وإطلع برا بدل ما أصوت وألم عليك الناس.
تركها ولكنه لم يفلتها بالكامل:
- عُمر.....!
صرخ في نبرة نفضت قلبها عن جسدها ووجهه لايزال في مقابلة وجهها ليركض الصغير نحو والده بحيرة قائلًا:
- نعم يا بابي.
- يلا عشان ماشين.
ركض الصغير ليمسك في ساق ريم فسقط قلبها بين قدميها ساحبًا ذلك الأمان الواهي التي حاصرت ذاتها به، وضعت ذراعيها حول الصغير ترفعه إلي أحضانها وتقبّله بجنون واخيرًا سمحت لدموعها في الهبوط عندما همس في قلق جلي:
- ريم هتروّح معانا.
- لا ريم مش عايزة تبقى معانا.
قال "ريان" فحدجته " ريم" بنظرات قاتلة لتوحشه وقالت مبررة بصوت مرتعش:
- أصل بابا مينفعش يفضل هنا عشان عنده شغل يا حبيبي.
لمعت عيون ريان بشيطانية ليستغل ضعفها بقوله:
- لا أنا معنديش شغل يا عُمر هي اللي مش عايزه ترجعلنا.
- ريان!
هتفت محذره فرفع عُمر عينيه الملائكية بتوسل نحوها متسائلًا:
- لو بابا معندوش شغل ينفع نفضل معاكي هنا ونرجع بيتنا تاني؟
- بس هو عنده ...
- لا معنديش
أغمضت جفونها بقوة عندما قاطعها "ريان" بنبرته القاطعة وسمعت شهقة عُمر الفرِحة ليقول في حماس:
- ريم معندوش، كده ممكن نبات صح؟
أجبرت ابتسامة على الارتسام فوق وجهها وأومأت رأسها بالموافقة في ضعف، غير منتبهه لتلك الابتسامة واللمعة المنتصرة في أعين سوداء خلفها.
- ممكن تنامي جنبي زي الأول.
تحركت ريم وعُمر لايزال بين يديها لتلبي مطلبه وللحظة تناست ما حدث ويحدث في حياتها ليقفز قلبها في سعادة لاستعادتها لصغيرها هنا في أحضانها.
حاولت عدم الالتفات والنظر إلى ريان حتى تستجمع شتات عقلها في محاولة لفهم لعبته وما يرغبه منها وينوي عليه، لكنها ستسمح له بالانتصار اليوم مرجعة ذلك للإرهاق الذي يغرقها ولأنها تستحق قضاء الليلة في أحضان صغيرها.
تابعها ريان تختفي ورمى بجسده على المقعد خلفه ثم تنهد بتعب يشعر وكأن قلبه على وشك الانفجار ويحمد الله أنه استطاع بدهاء البقاء بين جدران هذا البيت فعنادها وذبذبات الكره في عينيها تجزم له بأن خروجه من هذا البيت الآن يعني خروجه التام من حياتها وهذا ما لن يسمح به أبدًا.
يعلم أنه أخطأ ولكنها أيضًا لا تعطيه فرصة لتكفير ذنبه بل تصّر على معاقبته ومعاقبة نفسها فهو ليس أبله ليَفت عليه تلك النظرة الموحشة التي قابلته بها وكأن قلبها يشتاق إلى نبضات قلبه كما يفعل هو.
فرك خصلاته السوداء والقصيرة للخلف وتَعجَب من الغباء الذي تملًكه وأعماه عن حبها لصغيره، كيف استطاع تصديق كلمة تتهمها بإهماله حتى وإن كانت من شقيقته وبذلك سرح بمخيلته في ذكريات مؤلمة من عام مضى.
***
- إنتِ متأكده يا ليان يعني هي راحت فين وسابته لوحده؟
سمع ريان صوت شقيقته من الجهة الأخرى:
-مش عارفة، أكيد راحت لأحمد.
شعر بقبضة تعتصر قلبه فهتف من بين اسنانه:
- خليكي معاه أنا هستأذن وجاي حالًا.
حاول ريان الاتصال بها لمعرفة أين تجرأت بالذهاب وترك صغيره نائمًا في المنزل وحده دون رعاية ولكنه تفاجأ بصوت شقيقته تخبره بأنها نسيت هاتفها.
ابتلع ريقه بصعوبة وقد جف حلقه من انتفاض مشاعره بكل الاتجاهات لا يصدق فعلتها تلك متسائلًا في صمت:
هل بالفعل فضلت أحمد على سلامة طفله؟
هل تمسكها بأحمد رغم غيرته الحارقة من علاقتهما الوطيدة وراءه أمر أخر أخطر من شعورها بالانتماء والامتنان لدعمه لها طوال حياتها؟
هل مبررها الأخير عن صحة أحمد هي كذبة ليخدعاه و....؟
لم يستطع إكمال التفكير واسئلة كثيرة مميته تفجر براكينه وتقتله تدور في رأسه وهو في طريقه متجه في صمت نحو المنزل يتوعد لها إن صح ظنهُ.
بعد مرور ساعتين دلفت ريم إلى المنزل بوجه واجم فتفاجأت بريان يجلس على الأريكة بجوار شقيقته وشعرت بوجود خطب ما، فهي لا تستطيع تفسير النيران المشتعلة في عينيه وبالفعل لم يجعلها "ريان" تفكر كثيرًا وهو يهتف:
- إنتِ كنتي فين؟
- هو حصل حاجه؟
- ردي عليا كنتي فين؟
حركت رأسها بتعجب لغضبه وقالت بصدق وهي تبعد خصلاتها للخلف:
- نزلت المحل عند أحمد كان فيه مشكلة واحتاجني.
ارتفع جانب فم ريان في سخرية وتلونت عيناه ببغض ما أن سمع اسم غريمُه ثم حرك رأسه وكأن ظنه قد خاب بها أو أنها اجرمت فانتقلت عيناها المرتبكة نحو شقيقته ذات العشرون عام والتي تشبهه إلى حد كبير بخلاف عيونها العسلية التي تحاول إبعادها عن مرماها بريبة تعجبت لها ولكن ريان استحوذ على جام انتباهها وهو يضع يديه في جيبي سرواله ويقف امامها بجمود متهمًا:
- تسيبي طفل أقل من أربع سنين في البيت لوحده عشان أحمد كان محتاجك ؟!
طفل كنت بتخدعيني وبترسمي عليا وعليه الامومة وإنتِ أحقر من كده بكتير.
- إيه الكلام ده، أنا مسبتوش لوحده طبعا.
قاطعته في حده وذهول ليخبرها في حقد:
- كنتي سايباه مع مين مع الملاك الحارس؟
- انت جرالك إيه؟!
اسأل ليان انا كلمتها وهي جت تاخد بالها منه لحد ما اجي، صح يا ليان؟!
نظرت لليان بثقه لكنها صدمتها بقولها:
- كلمتيني إمتى؟
أنا جيت صدفه لقيت عُمر بيعيط ومنهار وإنتِ مش هنا.
اتسعت أعين ريم ووقفت كالصنم عاجزة عن تصديق ما تتفوه به ليان من كذب وافتراء دون سبب، حاولت ريم اتخاذ خطوة نحو ريان وهي تقول بذهول:
- والله العظيم كلمتها يا ريان إنت عارف إني مستحيل أعمل كده في عُمر، صح مش إنت عارف يا ريان؟
اهتز صوتها بذعر بدأ يتملك حواسها ودواخلها لكنه هدر في عنف وغضب:
- كنت فاكر إني عارفك لكن طلعت مخدوع فيكي فوق الوصف،
إنتِ إنسانه كدابه ومش أمينة ومستحيل هآمن على بيتي وإبني معاكي.
هربت دموعها وارتعشت شفتيها وهمست باختناق وهي تتجه نحو شقيقته الصغرى التي اعتبرتها أكثر من صديقة وشقيقة لها لتلمس يدها بتوسل:
- ليان إنتِ بتكدبي ليه مش أنا كلمتك؟
قولي الحقيقة ورحمة أمك.
- كفاية تمثيل، إدخلي يا ليان لمي كام طقم من هدوم عُمر.
حركت ليان رأسها دون أن تنظر نحوها مرة واحده ثم اندفعت للداخل تاركة إياهما في صراع القلوب، لامست "ريم" ذراعه وسألت بكل ما تشعر به من مشاعر وظلم:
- إنت هتعمل إيه والله أنا مش بكذب، أرجوك صدقني عُمر إبني والله العظيم إبني وأنا مقدرش اعمل الجنان ده.
لم يجيبها ورفض الرد عليها في عناد وداخله يشتعل بغيرة تنهش رجولته ليقول بنبرة حادة:
- إبقي خلي أحمد ينفعك، إنتِ اخترتيه على أغلى حاجة عندي.
دقائق وخرجت ليان بحقيبة صغيرة وضعت بها بضعًا من ملابس الصغير وحملت عمر باليد الأخرى معلنة بعيون ترفض النظر لريم:
- خلاص يا ريان.
- إنتوا رايحين فين، أنا مش هسيبكم ابدًا، ريان أرجوك إسمعني،
ليان إنتِ بتكدبي ليه؟
قالت بذعر وقد انفجرت في شهقات بكائها ترفض ترك ذراعه الذي يحاول نفضه من بين أناملها المتشبثة به بقوة حتى أعلن في قسوة:
- البيت أنا مش عايزُه خليهولِك بدل شقة أهلك الايجار اللي خليتك تسبيها وكده انا مش ظلمك وهبعتلك عقدُه بكرا مع ورقة طلاقك.
- طلاقي؟
قالت في خفوت بعد لحظة تستطعم مرارة الكلمة ثم تركت ذراعه لوضع كفيها فوق فمها في خضه مبتعدة خطوتين للوراء تتمنى لو تختفي من فوق الأرض بتلك اللحظة المؤلمة.
ليتجه ريان بحزم نحو الباب في صمت قبل ان يتوقف لحظة ويخبرها بصوت مثقل مهتز وجفنين منغلقين يخفي خلفهم كسره وخذلان:
-أنتِ طالق.
وبذلك تحرك بشقيقته وابنه إلي خارج المنزل وتركها بمفردها في حالة من الذهول، سمعت صوت شهقات تحارب للتنفس لتتفاجأ أنها صادرة من صدرها، شعرت بالمكان ينغلق عليها ويبتلعها فسندت على الجدار جوارها لا تقدر على التحرك او ملاحقته للصراخ في وجهه ووجه شقيقته الكاذبة غير مصدقه انه يظلمها ويتهمها ببشاعة بعد كل الحب الذي أغرقته به وبعد كل الليالي التي حاربت فيها لإرضائه...
واخيرًا تركت دموعها تتساب تبكي بحرقة لأجل نفسها التي ظلمها بكل بساطة دون ان يعطيها فرصة للتبرير فقط تخلى عنها بسهولة وتركها وحيده تنهار وتغرق بدونه ودون صغيرها.
***
حرك ريان رأسه في ضيق يكره تلك الذكريات ويعلم تمامًا إنه مزق قلبها إلى قطع وقتها ولكن الله وحده يعلم كم تمزق قلبه أضعاف أضعافها.
الفصل الرابع :
دلف "أحمد" إلى منزله بخطوات هائجة يشوبها الجنون، يحاول إزالة الغيوم من الأفكار السوداء التي تحتل رأسه منذ رأى ريم تغادر الحفل مع ريان.
اتجه إلى غرفته يحاول انتزاع رابطة عنقه في حدة يشعر باختناق كبير ثم رفع جواله ليحاول الاتصال بها من جديد وتلك المرة لغت المكالمة قبل أن تغلق الهاتف بشكل كلي، ارتفعت انفاسه بغل وغضب لان "ريان" عاد من جديد وهي ذهبت معه بكل سهولة و كأن شيء لم يكن.
تفاقم إحساسه بالحقد فمشاعرها ستظل حبيسه لرجل لا يستحق مهما حدث، حتى وهو متأكد من امتلاكه لجزء من مشاعرها واحترامها إلا ان هذا ليس كافيًا في وجود الحب المشتعل بينهما.
غامت عيناه بسوداوية و سيطر عليه الشعور بالحرمان وعدم إمكانية الحصول على تلك العلاقة ينهش قلبه ويمزق ما تبقى من رجولته.
فرك خصلاته البنيه في عنف وغموض وحدها رفيقة الدرب والصعاب تستطيع احتواء الظلمات داخله، كان يظن انه يملك الوقت وإنه سينتشلها من بؤرة حبها لريان ولكن انسحابها السريع خلفه اليوم اثبت له بأنه أحمق بل أحمق كبير.
وقف في حدة يبحث عن قنينة الدواء الخاص بالاكتئاب يرغب في أسهل وسيلة للهروب من الذات بالنوم، إلتهم قرصين دون تفكير وقذف بجسده على فراشه يتململ في وحدته وشقائه.
أغمضت عينيه يتذكر منذ سنوات مضت حين وضع إعلان يطلب فتاة للعمل وكيف دلفت ريم ذات السادسة عشر من العمر المكان ممسكه بورقة بيضاء نزعتها من الباب الزجاجي بين كفين مرتعشين قبل ان تغرِد في رجاء أنها بحاجة للعمل بأقل من المرتب المحدد وانها لا تملك أحد في الحياة وصرحت بوضوح انها تتوقع منه العطف عليها والموافقة بتعيينها.
العطف .... ابتسم في سخرية ... هو دونًا عن كل الناس جاءت إليه بعيونها الشبيهة بعيون الريم حقًا مطالبة إياه بالعطف، هو من لم يشعر ابدًا بهذا المسمى عطف او عاطفة بوجود والد مصاب بمرض ما يسمى الجمود والجفاء وفاقد الشيء لا يعطيه ابدًا.
تنهد ليعود بأفكاره إلى ريم التي يتعجب من سرعة تعلق كلاهما بالآخر فهو وريم علاقة أسمى من أن يفهمها أحد سواهما فبدون وجودها بجواره لكان جن جنونه على مجتمع سلبي وبدونه جوارها لأصبحت بلا أدنى شك ضحية سهلة لذات المجتمع.
- يارب.
تمتم في توسل وهو يغلق جفناه ببطء وتروي محاولًا استعاده رباطه جأشه، ومع الوقت انتظمت أنفاسه وهدأت حواسه المتراخية.
****
بعد مرور ساعات على ريان أرهقه فيها التفكير حول معضلة عدم استلامها للرسالة التي ارفقها مع عقد المنزل والتي يخبرها فيها بوضوح انه أعادها الي عصمته وبأنه سيتركها كي تهدأ وتفكر حتى يعود إليها في اجازته التالية.
زفر في حنق فقد أكد له صديقه بأنها استلمت الظرف المغلق بأحكام من جانبه ، اتجه ريان بخطوات هادئة نحو غرفة "عُمر" يفتح الباب بهدوء ويتابع في رضا خلود كلاهما للنوم بين ذراع الآخر وتمنى لو يستطيع محو خطأه الفادح من ذاكرتِها والانضمام إليهما لينهل من حبها جانبًا
لكنه تنهد واكتفى بهذا الشعور القريب للاكتمال وهو يراها تحتوي قطعة منه وشعر بالأمل يشتعل من جديد فها هو قد عاد ولن يسمح لشيء بأن يعرقل طريقة في استعادتها قلبًا وقالبًا.
دلف بخفة ووقف أعلى رأسيهما يملي نظرة منهما خاصة ريم المتقوقعة حول عُمر كأنها تخشى اختفاءه، مد أطراف أنامله يلامس خصلاتها السوداء التي عادت لجزء من تمردها باشتياق وحب.
أيقظه من ولهه تذكره استعداداتها لاستبداله برجل أخر وكيف وقفت هناك تسمح للأحمق بملامسه خصلاتها وملامسة ما ليس له حق به، شعر بغضبه يتراكم فترك خصلاتها كالملسوع كي لا يمزقها بينما هي نائمة وخرج مغلقًا الباب خلفه قبل ان يفعل ما يندم عليه.
لطالما كان شخص قليل الكلام حبيس المشاعر متملك لأقصى حد بكل ما يخصه ويحميه ولكنه فشل في حمايتها من نفسه ومن الغيرة العمياء التي أوقعته في فخ لن يخرج منه بسهولة.
شعر بالضيق لهذا المأزق الذي أوقع نفسه به ومضاعفاته التي لم يتوقعها، فقد ظن طوال السنة الماضية انه يعطيها فرصة ووقت للهدوء والتفكير قبل ان يتمكن من ترك عمله والعودة إلى مصر بل انه حارب كي يتم نقله للعمل بالفرع الجديد داخل مصر من اجلها وهذا سبب عودته قبل موعده بثلاث شهور.
دخل إلى المرحاض ثم خلع قميصه قبل ان يغرق رأسه تحت صنبور المياه لكنه سرعان ما توقف وانعقد حاجبيه في انزعاج غير قادر على التحمل والصبر فرفع رأسه بسرعة أجبرت المياه على التساقط فوق نصف جسده العلوي بإهمال وأخذ يبحث عن منشفة يجفف بها رأسه.
اتجه للخارج يحمل هاتفه من على الطاولة الخشبية الملاصقة للباب حيث تركه مع باقي اغراضه لحمل عُمر من بين ذراعي ريم، عبث بأزرار الهاتف حتى وصل لاسم أخيه الأصغر "بيجاد" ثوان واتاه صوته الاجش الدال على استيقاظه من نومه:
- الو؟
- بيجاد، فاكر لما بعتك لريم عشان تقنعها تديك رقم اتواصل بيه معاها؟
سمع صوت خربشات وتوقع انه يعتدل في فراشه ثم اجابه :
- اه، هو فيه حاجة ؟
- ريم بتقول انها ما تعرفش إني رجعتها على ذمتي، أنا عايزك تفتكر بالظبط تفاصيل كلامك معاها.
ساد الصمت وبيجاد يحاول استرجاع ذاكرته للحدث قبل ان يقول بتروي:
- انا روحت البيت ملقتهاش بعدين نزلت المحل اللي بتشتغل فيه وقولتلها انك عايز تكلمها ضروري وان الطيب أحسن،
اتعصبت وقالتلي مش عايزه اشوفك تاني وانها مستنيه ورقه طلاقها واني اقولك انها مش عايزه تتواصل معاك ومش هتديك اي تفاصيل عن حياتها.
- يعني مقولتلهاش اني ردتها؟
- هقولها ليه مش المفروض ان انت بعتلها على البيت ثم هي مدتنيش فرصة وكانت عايزاني امشي قبل ما أحمد يرجع وندب خناقة زي المرة اللي قبلها.
زفر ريان وهو يأتي ويذهب حول المكان متذكرًا شجار أخيه السابق لتلك الزيارة مع الوقح الذي وقف أمام أخيه متهمًا ريان بعدم الرجولة لأنه لم يفي بوعده ويرسل بورقتي الطلاق والعقد لريم وانه سبب لها خسائر فادحة برفضه لاستكمالها تأجير شقة والديها التي كانت على النظام القديم وتدفع فيها القليل وانه ان لم يعطيها المنزل فهي لن تتحمل تكاليف شقة بإيجار على النظام الجديد وهذا ما دفعه ليرسل العقد مع الرسالة بعدها بأيام معدودة مع أحد أصدقائه كي لا يندلع شجار جديد بين الوقح وشقيقه المنفعل دائمًا، زفر في غضب ثم أعلن في حده:
- ريم اتخطبت لأحمد ومش مصدقة اني ردتها من الأساس!
- أفندم !
يعني ايه اتخطبت وهي متجوزه وانت سكتلها؟
- وانت كنت عايزني أعمل ايه اقتلها مثلًا،
ما انا بقولك مكنتش تعرف انها لسه مراتي.
ابتلع بيجاد كلمات وقحة يصف بها سوء تصرف شقيقه الأكبر ثم سأل في حدة:
- وناوي تعمل ايه، والسؤال الأهم هنا هي عملت ايه؟
سمح ريان لنفسه بالدخول إلى غرفتها فغمرته رائحتها المحلاة كالحلوى المسكرة وكاد ينسى مكالمته مع أخيه لولا تدخل الأخير:
- قولتلك بدل المرة ألف محدش بيقعد بعيد عن شريك حياته في الظروف اللي زي دي.
فأجابه ريان بغضب لعلو صوته وصحة مقولته:
- متزعقش يا بني آدم وبعدين مكنش بمزاجي ولّا كان المفروض اسيب شغلي في الوقت الصعب ده عشان ارجع مصر واضيع مستقبل ابني لأن الهانم بتتقل عليا!
- لا بس على الأقل كان المفروض تبعت تاخدها عندك وحلوا مشاكلكم، أو اي حاجه مش انك تسيبها تنعزل عنك وتكبر الفجوة اللي ما بينكم.
هتف بيجاد من بين اسنانه وهو يقفز من فوق فراشه يبحث عن كوب من الماء يطفئ به ظمأ غضبه.
- وهي كانت بترد عليا عشان ابعت اسفرها، بيجاد روح نام ما تستفزنيش انا مخنوق خلقه.
اجابه ريان في حنق رغم علمه بأنه على حق فتنهد بيجاد وهو يترك الكوب الفارغ ثم قال بنبرة هادئة:
- أنا اسف، بس انت محتاج تحط النقط على الحروف معاها وتعرفها انها مراتك وانت اكيد هتعرف تتعامل معاها وتقنعها ولا ايه؟
- مش عايزه تسمعني وبتقول حتى لو ردتها فهي عايزه تطلق.
صمت بيجاد دون تعليق فاستمر ريان في نبرة مزمجره وقد استعاد غضبه:
- بس ده على جثتي إني اسيبها لغيري.
انعقدت ملامح بيجاد في ضيق فلابد انها لعنة ما تحوم حول حياته وحياة شقيقه، فرك ذقنه في انزعاج ثم قال:
- ربنا يعينك، انا مش عارف افيدك ازاي.
صمت "بيجاد" وقد لاح تفكير في عقله قبل ام يسأل متعجبًا:
- اومال انت فين دلوقتي؟
- انا في البيت عندها.
قال ريان بصوته الرخيم المحبط فارتفع حاجبي بيجاد بذهول وهو يردف:
- الله، مش بتقول مش طيقاك؟
- وايه يعني؟
انا مش هتحرك من هنا من غير لما اقنعها ترجعلي ورجلها فوق رقبتها.
- ليه؟
تسآل بيجاد بغرابة فأجابه ريان متسائلًا:
- تقصد ايه ب ليه؟
- ليه بتعمل كل ده؟
شعر ريان بلسانه يعقد ولم يستطع الإجابة فهمهم بعد قليل بخفوت:
- عشان هي مراتي.
- برافو قولها كده وهي مش هترضى ترجعلك ابدًا.
- تقصد ايه؟
فرك بيجاد رأسه يحاول إيجاد طريقة يوصل بها لأخيه بانه لا وقت لغروره وان عليه الانحناء لمشاعره قليلًا فإن كان لعنة بيجاد الغضب فلعنة أخيه هي الغرور والأنانية.
- شوف.. حاول تتعامل معاها بهدوء هي بردو شافت كتير وتقريبًا كده على حسب كلامك فهي بقالها سنة بتعاني فراقك عنها،
وكلنا عارفين انت وعُمر كنتوا بالنسبه لريم ايه.
ضحك متهكمًا ليقول:
- مش هنكون أغلى من أحمد أكيد.
- تحب اخلصلك عليه؟
اتسعت عيون ريان في ذهول ورغم رغبته العارمة في الموافقة إلا أن صوت العقل انتصر ليقول في نبرة مستنكرة:
- ايه قررت تعالج الغضب جواك بانك تبقى قتال قتله خلاص؟!
ارتفع صوت بيجاد الحاد باعتراض لتنتهي بذلك لحظاته الحكيمة:
- مش كل اللي يكلمني يقولي كلمة اتعالج، انا مش مريض نفسي!
تنفس ريان من انفه قبل ان يقول له بجدية تامة:
- ربنا يهديك لنفسك وتفهم ان الدنيا مش سيناريو واحد.
- ريان انا هقفل عشان انام مش ناقصه فلسفه على المسا.
اخبره "بيجاد" بنبرة تؤكد لريان بانه فهم ما يحاول تلميحه دون كلمات كثيرة فتقبل هروب شقيقه بأن رمى عليه السلام قبل إنهاء المكالمة.
تنهد بأسى يحارب مشاعر محتده تضيق في صدره فحملته قدميه باعتيادية عجيبة حول الغرفة التي كانت مهد غرامهما وإلى فراش حمل العديد من ذكرياتهما، فرد جسده بتعب ومال بعد دقائق يلصق أنفه في تلك الوسادة الممتلئة برائحتها الجذابة التي أثارت جنونه في غربته.
"فالغربة" لم يدرك معناها إلا بفراقها، وحدها هي من جعلته يعاني من هذا الشعور المهلك بحاجته للانتماء لوطن..
وكم كان أحمق حين ظن عندما غادر وتركها انه سيعود لذلك السكون الجاف الخالي من المشاعر في حياته ليثبت له الواقع العكس ... فكل خطوة يخطوها تركته حاني لحياة تذوقها من طرف معلقتها.... هي موطنه الذي يرفض احتواءه ويعاقبه بقسوة يستحقها بجدارة.
ترك نفسه للنوم برضا بين فراشها وكأنه محمل فوق السحاب تاركًا تفكير وتدابير الغد للغد.
*****
تتصلب كل عضلة في جسده وذلك الظل الأسود الكبير يعلن عن وجوده فوقه لينتفض جسده بخضه وهو يستيقظ على صراخ وعويل مرعب لوالدته وذلك الظل يمزق خصلاتها بيده الكبيرة ويتوالى عليها بالصفعات وهو الصغير يندفع للخلف يبكى وفقط يبكى كالجبناء ....
وكالومضة انتهى المشهد لتعلو صرخة أخرى وهو يستيقظ بصفعة مدوية على وجهه من ذات الظل بينما هو صاحب العشر سنوات يتلوى كالسمكة على المشواة لا يرى ولا يعي ما يحدث له من ظل أسود كبير...
صرخ والنيران تتلاعب من حوله فأخذ يلتفت ويدور في حيرة متسائلًا تُرى أين سقط هذه المرة، تساقطت قطرات العرق من جبينه وصدغيه بينما شعور مرعب يدفعه للركض والاختباء ولكن أين المفر والنجاة ؟!
صراخ يعلو وجسد ينتفض من جديد منتهي بآنين كحيوان مسكين ارتطمت به سيارة إنسِ تجرد من إنسانيته تاركًا إياه جريح بلا أي حول ولا قوة.
صوت الصراخ يعلو فيعبث في ثباته ويعيث الجنون فيما تبقى من عقله وتلك المرة وجد نفسه عاريًا وصوت ضحكات أصدقاءه وسخريتهم بعدم قدرته على الخوض في رهان قبيح مثل رفقتهم ظل يعلو ويعلو خارج غرفة كاد يبيع فيها نفسه لشيطان تنكّر في صورة امرأة مغوية تلامسه وتنتهك براءته ليأتي العقاب من الله سريعًا على تلك المتعة الغير مكتملة لتنطفئ روحه ورجولته وهو يفر هاربًا يلملم ملابسه ويركض للخارج متجاهلًا ضحكات رفاقه التي توغلت داخل أعماقه كالسكين واستقرت هناك.
صرخة مفجعه اتسعت لها عيناه على وسعهما ليجدها تلك المرة قد خرجت من أعماقه للواقع، تلاحقت انفاس " أحمد" في جنون ومرر كفه المهتز فوق جبينه بسخرية مفكرًا بأنه يطلب النوم ويجبره اجبارًا وحين يغمض عيناه يهاجمه الجحيم من كل جانب.
نظر إلى الساعة بجواره ليجدها العاشرة صباحًا فقفز في حدة وقد عاد إليه ما حدث بالأمس ثم هرع للمرحاض لأخذ حمام بارد يعيد إليه صوابه ورزانته.
عازمًا النية على الذهاب إلى ريم فهو لن يقبل بتركها له، ومهما كان الثمن لن يقبل بأن يقضي حياته في وحده موحشة تلتهمه في نومه وصحوته.
*****
استيقظت ريم أولًا ليطالعها سقف لبني اللون مليء بالرسومات الكرتونية انعقد حاجباها في شرود محاولة استيعاب ما هذا المكان لأنه بالتأكيد ليس غرفتها، حركة خفيفة في ذلك المكان بين كتفها وأعلى صدرها وتلك اليد المتثبتة بها جعلتها تنظر للصغير المتكور بين احضانها وكأنها الحياة.
ضربها الواقع من جديد لتزيد من ضم عُمر إليها تلقائيًا كأنها تحتمى من مشاعرها المتضاربة والمتلاحقة بين حزن وألم وسعادة، لكنها اختارت إبعادها مستمتعة بالدفيء المحاط بقلبها وهي تضم الصغير وكأن كل ما حدث كان حلم قبيح وانتهى.
تنهدت متمنيه لو ان الأمر بتلك السهولة، أبعدت نفسها عنه ثم دثرته جيدًا قبل أن تتجه بدفاعيه نحو الخارج لا تدري بعد ما الذي سيقرره المخبول الذي عاد لحياتها بكل غرور وكأنها ستتقبله وترتمي تحت قدمية بسعادة لعودته.
انقبض قلبها الخائن وهي تتذكر كلماته بأنها لاتزال زوجته لكنها لن تقع في نفس الخطأ مرتين ليس بعد كل ما عانته من ألم في فراقه لتتعلم إن الإنسان أضعف من ألا يبني جدار حوله يفصله عن حماقة العالم.
نظرت حول المكان لكنها لم تجد أثر له ولولا الحذاء الملقى في الردهة لظنت انه ذهب وتركهما، اتجهت نحو غرفتها وهي تكذب شعورها لكنها تفاجأت به نائم في ثبات عميق فوق فراشها، شعرت بحقد للهدوء الذي ينعم به بينما تشتعل هي، فاندفعت نحوه في شر وهزته في حدة هاتفه:
- اصحى يا بني آدم.
انتفض ريان يمسك قبضتها التي تدفعه في ذعر لكنه سرعان ما اعتدل يبعد الغطاء عن جسده النصف عاري ليعترض بنبرة غاضبة وهو يجذبها بقوة أشد من اللازم:
- إنتِ اتجننتي في حد يصحي حد كده!
- إنت اللي ازاي تتجرأ وتنام في اوضتي وعلى سريري اتفضل اطلع برا.
قالت وسط حركتها المفرطة مستنكرة استعراضه لقوته على معصمها الضعيف المتألم، شد عليه أكثر في غضب حتى تأوهت وجثت امامه على الفراش تقابل في استسلام جسده الجاثي المتأهب على أمل إرخاءه لقبضته المميتة على معصمها دون ان تضطر لإظهار ضعفها ولكن ملامحها المتألمة كانت كافية لتجعله يرخي قبضته نوعًا ما قبل ان يزمجر بصوته الصباحي الخشن:
- واضح ان غيابي عنك نساكي أداب التعامل.
ابتسم في سخرية ثم استطرد ببطء حامي:
- طبعًا وجودك مع أحمد رجعك لأصلك من تاني.
كانت كلماته حقيرة لكنها استقرت بصدق داخل روحها، اهتزت ملامحها لكنها سيطرت على تلك الفتاة الضعيفة التي كانت عليها يومًا فنجح هو في تلقينها درسًا قويًا أجبرها على حبسها بعيدًا عن أعين العالم خاصة هو، ازاحت عيناها لأسفل بهدوء ونجحت في إخراج صوتها المدافع في قوة:
- عندك حق وجودي مع أحمد رجعني لعقلي ومبقتش الطفلة الصغيرة اللي كانت بتتمنى منك كلمة حلوة أو لمسة حب،
أحمد علمني إزاي أبقى ست بجد مش طفلة كل هدفها سعادتك.
ارتفع جانب شفتيه في قسوة محاولًا السيطرة على كبرياء رجولته الغير متقبل لنبرة الفخر برجُل غيره على لسان زوجته، ودون إدراك وجد نفسه يحيط وجهها بين أصابعه القوية، يميل نحوها متحدثًا أمام فمها مباشرة دون اهتمام بذعرها:
- أحمد علمك تبقي ست في ايه كمان؟
أتسعت مقلتيها واشتعل الغضب سريعًا لمرمى كلماته وقالت من بين فكها الحبيس داخل قبضه:
- قطع لسانك يا همجي، ابعد إيدك دي عني.
حاولت الفكاك منه لكنه اقترب أكثر حتى الصق وجهه بوجهها وقال في خفوت مريب:
- متفتكريش إني هعدي كذبتك عليا انك مش هتتخلي عن شغلك معاه لأنه الوحيد اللي ساعدك واداكي شغل،
مش ده كلامك وزودي عليه انه مريض وميقدرش يتجوز من الأساس وأنك زي أخته؟
ضغطت على لسانها كي لا تقذفه بشتائم تليق بكلماته لكنه لم يعطها الفرصة واستكمل في تهكم:
- ولما إنتِ أخته، فيه أخت تبقى عايزة تتجوز أخوها العاجز؟
- اخرس انت اللي عاجز بتفكيرك مش هو، أحمد...اممم...
قطع حرقة حديثها المسموم بلهيب مشاعره الثائرة وكل هذا الحديث عن غريمه أفقده صوابه، قبض على كتفيها يمنع هروبها من هجومه السافر على شفتيها الوردية يروي شوق عارم ويطفئ رغبة تمزق صدره في اشتهاء لبتلاتها الناعمة، احاط ذراعيه بقوة حولها.
وفي لحظة هبطت مؤشرات الغضب لتعلو أخرى وقد تناسى كلماته ومشاعره الغاضبة خاصة عندما سكنت بين ذراعيه تحت وطأة قبلاته التي صارت تداعبها برقة وشغف لتتركه يعيث في مشاعرها الفساد بلمساته المتتالية المناداة لمكنونات روحها.
لا تعلم "ريم" كيف انتهى بها الحال من الغضب والتمرد إلى التمايل الحُلو في أحضانه بين ذراعيه القوية، تثبتت بصلابة كتفيه العاريين وفكرت في ضعف "مرة أخيرة ولن تتكرر" لتشتعل دقات قلبها المشتعلة بنيران حبه من جديد.
صوت رنين الباب أخرجها من سكونها الخدر فانطلقت أطرافها دون وعي تلاطم جسده للابتعاد عنها وما ان تركها حتى قفزت وهربت سريعًا للمرحاض دون اهتمام بمن الطارق.
أغلقت الباب بإحكام وحاولت السيطرة على انفاسها العالية بوضع يدها على صدرها الصاعد والهابط في قوة قبل ان تلتقي بانعكاس صورتها في المرأة فتتأوه بغيظ لبشاعة هيئتها، تنقلت بنظرها من عيناها المحاطة بمساحيق التجميل السوداء المنسابة حتى منتصف وجنتها لتبدو كالموتى الأحياء،
هذا ما تحصل عليه فتاة حين لا تزيل مساحيق التجميل من على وجهها قبل الذهاب للنوم، تفقد حقها في الاستيقاظ رطبة وناعمة كالكعكة.
تأففت في سخرية وهي تحاول تهذيب خصلات شعرها الذي عاد لتشعته المزمن بكل الاتجاهات بسبب عبث يديه المتملكة، فتحت الرف أعلى الحوض تخرج مناديلها المرطبة لإنقاذ الموقف وكادت تنتهي من إزالته بالكامل حين سمعت أصوات متشاحنة بضراوة في الخارج، رمت ما بيدها وقد نست تمامًا إن أحدهم كان يطرق الباب لتتفاجأ بريان يمسك بتلابيب أحمد ويدفعه بعنف في الباب الخشبي.
- ريان!
ركضت نحوهم تحاول إبعاد "أحمد" المذهول من قبضته وهي تصيح:
- انت بتعمل ايه؟
سيبه بقولك عيب كده!
- انا اللي عيب، وكونه إنه يجيلك البيت ده مش عيب ويا ترى بيجي عيني عينك كده ولا بيبقى في الخفى.
- ابعد إيدك دي، ريم إنتِ كويسة؟!
قال أحمد وهو يدفع ريان عنه في عنف فنجحت ريم اخيرًا في الفصل بينهما بدفع جسدها بينهما ليلتقط ريان خصرها بتملك وغضب فيجذبها نحوه مبتعدًا خطوات عن غريمه وسمح لها بوضع جانب جسدها في صدره وكأنه تسيطر على تحركاته.
- انا كويسه طبعا، انا متأسفة جدًا...
- ممكن اعرف هو بيعمل ايه هنا؟
تسآل أحمد في اصرار بينما يمسك بنظرها المتوتر:
- اعتقد السؤال ده من حقي انا !
صرح ريان وهو يضغط على ذراعها يحاول إبعادها عنه لكنها رفضت التزحزح من امامه وهي تقول من بين أسنانها:
- ممكن تبطل أسلوبك العنيف ده وتخليك متحضر شوية.
- متحضر لا حاضر من عينيه،
اتفضل تعالى ادخل الشقة عند مراتي وانا هطلع أخد لفه بالستالايت بتاعي لحد ما تخلصوا تحضر مع بعض،
حلو التحضر ده باين على راسي ولا لسه مدفون؟
انكمشت ملامحها في اشمئزاز وغضب من سخريته اللاذعة قبل ان تهز رأسها بخيبة أمل وهي تلتفت لأحمد مجيبة:
- كان فيه حاجة يا أحمد؟
- انا استغربت انك مشيتي بدري امبارح وحاولت اكلمك الفون مغلق فقلقت قولت اجي اطمن عليكي،
قابلني البني آدم ده عندك في الشقة ممكن افهم إنتِ ازاي سايباه يضحك عليكي بعد اللي عمله فيكي.
قال أحمد وهو يحرك ذراعه نحو ريان برفض وغل فجز ريان على أسنانه ثم هتف في غضب :
- أحب افهمك إنك بتكلم مراتي، يعني....
- بابا .. ريم انا خايف.
قطع ريان حديثه وهو يعض على لسانه بينما التفت ريم نحو عُمر وحاولت رسم ابتسامه لتقول في حنو:
- متخافش حبيبي ادخل جوا بليز، بابا متضايق شويه ههديه واجيلك.
هز رأسه بالرفض وانتقلت عيناه الطفولية البريئة رغم تشابه تقاسيمه مع تقاسيم والده الحادة قبل ان يقول في دفاعية غريبه على سنه الصغير:
- مين ده؟
رمشت أكثر من مرة قبل ان ترمق أحمد بنظرة وتجيبه:
- ده أحمد صاحب الشغل انت نسيته؟
عادت ذاكرته الصغيرة إلى كلمات والده حين كان يبكي بتذمر لاشتياقه لها ورغبته في العودة إليها فيخبره والده بحده بأنها تركته من أجل هذا الرجل البغيض ذو العيون الهادئة المخادعة وهاذان الحاجبان المرسومان لأعلى في شر ك "شرشبيل" حين يفشل في القبض على السنافر المساكين.
ركض عُمر نحوها يمسك طرف ثوبها في تملك يوازي تملك والده ثم حدج أحمد في نظرة تحدي طفولية وهو يعلن في صدق:
- انا مش بحبه ، امشي من بيتنا ريم هتفضل معايا انا لوحدي.
- عُمر!
قالت في استنكار فاستغل ريان انشغالها بصغيره وتسلسل من خلفها ليواجه أحمد ويحذره في نبرة حذرة متروية :
- لو قربت من مراتي تاني هجيب أجلك انت فاهمني.
- مش هتبقى مراتك كتير وهتكون مراتي أنا، انت متسحقهاش انت خدت فرصتك وضيعتها من زمان.
لكمة ريان ضربتان متتاليتان في غضب ثم دفعه للخارج قبل ان يغلق الباب بقوة في وجهه لا يرغب في قتله أمام صغيره فحاولت ريم الصارخة تخطيه لفتح الباب لكنها تأوهت عندما انتشلها ريان لجواره ليردف في سوداوية:
- افتحي الباب عشان اقتله وارتاح من وجوده في حياتنا.
جذبت رسخها من بين أصابعه وهمست من بين أسنانها وهي تغطي أذني الصغير:
- طلقني وارحمني من وجودك إنت في حياتي، مش مكسوف من نفسك شايف الولد بقى عنيف ازاي؟
- مش هيحصل.
قالها في لهجة هادئة مزعجة وهو يلتفت مبتعدًا عنها بينما يدلك أصابعه متجاهلًا أصوات أحمد الغاضبة من الخارج قبل ان يذهب، فهتفت في قهر:
- انا مش عايزه اعيش بالطريقة دي.
- وانا مبسوط كده.
استدارت تخفي غليانها من وقاحته واتجهت للداخل فعلى ما يبدو غرفة الصغير ستكون ملاذها لوقتًا طويل.