أخر الاخبار

رواية لايليق بك الا العشق الفصل الخامس والاربعون45 بقلم سماح نجيب


رواية لايليق بك الا العشق
 الفصل الخامس والاربعون45
 بقلم سماح نجيب

 

٤٥– " فخ وصياد ماهر "

جفت دمائها بعروقها لحظة إستماعها لإقتراحه ، لا بل تصميمه الكامل على أن يرافقها لمنزل عمها ، فبتلك الحالة ستكون كمن إستدرجت فريسة للفخ ، بل كمن ستسوقه للموت بيديها ، ولا يعلم ما يمكن أن يكون بإنتظاره ، فشقيقها وعمها باتت تعلم أى مشاعر مكنونة لديهما لأى فرد من عائلة النعمانى أو الزناتى ، فهى تحاول فعل المستحيل من أجل الحفاظ على ما تبقى ، ولكن أن يتم وضعها بين المطرقة والسندان ، لهو بالأمر الذى يستحق الرفض ، فهى لن تغامر بأخذه لهناك ، ولن تجعله يطأ بقدميه ذاك المنزل ، أو إذا صح القول إلى مقبرته 

فبتخيلها لمصيره الذى يمكن أن يلقاه هناك ، جحظت عينيها وحدقت بالفراغ وحركت رأسها بعنف وهى تصيح برفض قاطع :
– لااااء يا راسل مش هتيجى معايا مستحيل

ثورتها بالرفض لمرافقته لها ، كانت أدعى لأن يسكن الشك بقلبه وعقله ، فحالتها تلك إن دلت على شيء تدل على أن هناك خطب جلل وعظيم ، حتى ترفض هكذا أن يرى عائلتها

تلاحما حاجباه الكثيفان ورمقها بدهشة متسائلاً :
– لاء ليه يا حياء ؟ مش عيزانى أروح معاكى بيت أهلك ليه ، اللى يسمعك كده يقول كأنك راحة النار برجليكى ، مش رايحة بيت عمك

تجولت يدها على وجهها ، كأنها تحاول ترطيب بشرتها الملتهبة من تدفق دماءها الحارة ، فربما هى زادت من رد فعلها حتى أثارت دهشته ، لكنها ستعمل على تلطيف الأمر قدر إمكانها 

فقالت وهى تبتسم بتوتر :
– لا أبداً يا حبيبى ، المشكلة أن هبقى مشغولة ببيرى ومش هعرف أهتم بيك وأنت معايا هناك وكمان عمى أدريانو وديفيد تقريباً معظم يومهم برا البيت ، وبيسافروا كتير أوى ، فأنت هتقعد مع مين ، وكمان ممكن متعرفش تشوفهم ، هى دى الفكرة 

إن ظنت بأن تلك الترهات والهراء السخيف الذى قالته ، سينطلى عليه ، فهى حقاً ساذجة ، فالطفل الصغير لن يبدو قنوعاً بأعذارها وأسبابها الواهية ، فما بال زوجها الذى يستطيع قراءة تعابير وجهها ويعلم ما تفكر به بكل سهولة 

فوضع راسل يده على مؤخرة عنقها وهز رأسها بخفة قائلاً بمداعبة ودهاء :
– يا حلاوتك يا روحى وأنتى عمالة تقولى كلمة من الشرق وكلمة من الغرب وفكرانى هصدق كلامك ده اللى ميدخلش الدماغ من أساسه 

شقت إبتسامة شفتيها ، كأنها تحاول إظهار قوتها التى لم يكن لها وجود بتلك اللحظة من كشف زوجها لكذبها المتكرر ، فقالت بثقة مزيفة :
– هو أنت يعنى يا حبيبى مش مصدقنى ، أعملك إيه علشان تصدق اللى قولتهولك 

رفع يده عن مؤخرة عنقها ، وبأثناء سحبه لها جذب خصلة من شعرها بين أصابعه ، فشد عليها قليلاً ، فمال رأسها جهة اليسار ، ظنت أنه سيعمل على شد شعرها كتأنيب لها ، ولكن وجدته يضع يده الأخرى موضع قلبها 

فدقات قلبها كانت كقرع الطبول ، ولكن لم تكن ناتجة عن شعورها بالحب ولكن تلك الخفقات المرتجفة حملت شعوراً ساحق بالخوف 

فأجابها وهو يتأمل رأسها المائل :
– أكبر دليل على كدبك عليا دقات قلبك دى ، اللى بتدق من الخوف أن أعرف أنك بتكذبى عليا ، أنتى عاملة زى الفريسة اللى بتحاول تتشطر على صيادها يا روحى 

جذبته مرة واحدة من تلابيب ثيابه ، بعد أن عدلت من وضع رأسها المائل ، فقالت بصوت متهدج دليلاً على غرامها بصيادها :
– وصيادى الحلو القمور ده مش ناوى يبطل أسئلة وكلام كتير علشان هو واحشنى أوى فى أم الليلة اللى مش عايزة تخلص دى 

ذراعه الملتف حول قدها الرشيق ، شعرت بأنه كاد يذيب عظامها ، خاصة وأنه يحيطها بإحكام جعلها ترفع قدميها عن الأرض ، وألتحما كاحليها ببعضهما ، تشعر بخفة ورشاقة غير معتادة كأنها محلقة على إحدى غيمات الأحلام 

عندما تتلو عليه عهد من عهود الغرام، يجعلها تتلو الذى يليه ، فكأن العهود تلك الليلة لن تنتهى ، ولكن هناك شئ أخر لم ينتهيا من الحديث بشأنه وهى تلك الزيارة التي ستقوم بها لمنزل عمها ، فإن كانت إستطاعت إخراسه عن الحديث بذلك الأمر ، وتجعله يخوض بحديث غيره ، فالأن أنتهت إحدى جولات العشق ، وعادا لما كان عليه من النقاش 

وضعت رداءها الحريرى عليها وشدت رباط خصرها وخرجت للشرفة ، تبعها هو لينهى الجدل بذلك الشأن ، ويخبرها بقراره النهائى ، والذى كان على تصميم كامل أن يجعله قيد التنفيذ 

فعقد ذراعيه القويتين أمام صدره الصلب وقال بأمر لا جدال فيه :
– حياء أنا هروح معاكى بيت عمك يعنى هروح وده أخر كلام مفهوم 

ضربت بيدها سور الشرفة وقالت بغيظ :
– أنت ليه مصر على الموضوع ده يا راسل ، أنت عايز إيه بالظبط قولى أو بتفكر فى إيه ، إصرارك ده وراه حاجة 

خشيت أن تلتف خلفها وتواجهه ، فظلت مكانها توليه ظهرها ،  فكل كف من كفيها كان يجاوره كفه ، بعد أن حاصرها بينه وبين سور الشرفة ، فأستند بذقنه على كتفها ، وشعرت بثقل رأسه على كاهلها ، إلا أنها ألتزمت الصمت لتعلم ماذا يريد أن يقول بعد ضمته الحميمية لها 

أصابت أنفاسه جانب عنقها وهو يقول بلطف :
– حبيبتى أنا ما صدقت أنك رجعتى لحضنى تانى وأن بعد اللى حصل ده رجعنا لبعض حتى فكرت أتخلى عن فكرة جوازى من إيلين ، بالرغم برضه أنك مش راضية تقوليلى على اللى مخبياه عليا ، فعيزانى أعمل إيه أكتر من كده يا حياء 

بسماعها قوله أنه سيتخلى عن فكرة زواجه من أخرى ، تهلل وجهها ، فإستدارت بين ذراعيه قائلة ببشر وسعادة :

– بجد يا حبيبى مش هتتجوز إيلين مش هتتجوز عليا يا راسل 

حرك رأسه بالإيجاب ، ومال بها ودفنها بتجويف عنقها مغمغماً:
– شوفتى بحاول أرضيكى وأنتى برضه اللى بتحاولى تبعدينى ، يعنى عيزانى بدل ما أروح معاكى أفضل هنا مع إيلين وأنتى مش موجودة ، بس الشيطان موجود وشاطر كمان وإيلين حلوة أوى بصراحة وأنا قلبى ضعيف

تهدل فمها من تخليها أن إيلين ربما تنتهز الفرصة أثناء غيابها عنه ، وتعود تلك المرة تجدها زوجته ، ولكن بوزنها قوله من إصابته بضعف قلبه تجاه إيلين ، دفعته عنها ورمقته بشر وغيرة عاصفة 

فقالت بسخرية :
– سلامة قلبك يا أبو قلب رهيف ، صحيح كل الرجالة صنف واحد عينيها زايغة ومش فارق بقى دكتور ولا غيره ، الدناوة فى دمكم ، وست واحدة متملاش عينيكم ، أصلا ميملاش عينيكم غير التراب 

كأنها نسيت كل شئ فجأة وجعلته بصف الخائنين ، فهو لو كان يريد أى أنثى غيرها لكان حصل عليها ، ولكن تلك العاشقة الحمقاء ، التى تنسى كل شئ ولا تتذكر سوى سقطاته إذا كانت موجودة بالأساس ، فهو لم يقع بالمحظور من قبل ، حتى عندما فعلت صوفيا المستحيل لجره إلى شباكها المغرية ، وضع هو الحل لحصولها على مبتغاها وهو أن يرتبطا سوياً بميثاق الزواج ، ولم يقرب أنثى أخرى بعد صوفيا سواها هى تلك العنيدة ، والتى أصبحت تضع حبه وعشقه موضع الشبهات من كونه يركض خلف أى إمرأة

غلت دماءه بعروقه وعادا لما كانا عليه من أمر الشجار والعراك اللفظى بينهما ، فقال بجدية  :
– تصدقى أنتى حلال فيكى يا حياء متجوزش عليكى واحدة لاء أتجوز تلاتة يا أم لسان أطول منك ، ومش عارف أنا ساكتلك ليه أساساً ملعون أبو الحب ده اللى هيخليكى تبيعى وتشترى فيا كل شوية ، واتفضلى بقى روحى على أوضتك علشان عايز أنام  

جذبها من ذراعها بشئ من الحزم والقسوة وأخرجها معه من الشرفة ، متجهاً بها صوب باب الغرفة ، كأنها هرة ازعجته بمواءها المتواصل وأراد التخلص منها ، ولكن ما أن أدار المقبض وفتح الباب ، عادت واغلقته ثانية ، بل أنها أسندت ظهرها له واضعة يديها خلفها 

– مش هخرج ولا هروح أوضتى كفاية الأيام اللى فاتت مكنتش بعرف أنام من كتر الكوابيس اللى بتجيلى 

قالت حياء بصوت مرتعش ، وعيناها تزوغ بكل مكان ، كأنها تخفف من ضغط الدموع على مقلتيها ، التى تنذر إياها بالفرار من بين جفنيها والإنسكاب على وجنتيها ، فتلك الأيام التى قضتها بمفردها ، تخللتها أحلام مزعجة وكوابيس ، جعلتها لا تهدأ بنومها ، فاللية الوحيدة التى نامت بها هادئة ومطمئنة البال ، هى تلك الليلة التى قضتها بين ذراعيه فى المقصورة على الشاطئ 

أبتعدت عن الباب وأستكانت برأسها على صدره وعادت لتردد عبارات الأسف التى لا تعلم لمتى ستظل ترددها :

– حبيبى متزعلش منى ، أنا مبقتش قادرة أسيطر على لسانى ولا على غيرتى أنا حاسة أن أنا تايهة وتعبانة ومضغوطة ونفسيتى زفت وكل حاجة ماشية معايا بالعكس ، أنا حاسة أن قربت أتجنن 

أبتعدت عنه ورفعت يدها وأحتضت وجنته اليسرى وأستأنفت حديثها بصدق :
– بس ملقتش حد بيستحمل سخافتى دى غيرك أنت وعارفة أن كل مرة بخليك توصل لحافة صبرك ، وأوقات تلاقيك بتفكر تخلص منى خالص ، بس صدقنى يا راسل مبحسش بالأمان اللى لما أكون قريبة منك ، فعيزاك جمبى تطمنى وقت خوفى ، تجبر كسر قلبى وقت حزنى ، لأن قلبى بقى موجوع أوى من كل حاجة ، ومفيش غير حبك ووجودك أنت اللى مخلينى مستحملة لحد دلوقتى 

أنسحر بوضعها وهى تشير بإصبعها الرقيق تجاه قلبها ، فخفوت صوتها وإن كان حمل بين طياته الحزن الدفين بين جنبيها ، جعل أذنيه تلتقط حروفها بدقة بالغة ، يستشعر مدى حزنها وألمها وأنينها الخافت ونداء قلبها له 

فتركها تكمل حديثها ، وقالت بعد أن أخذت نفساً عميقاً:
– لو عايز تيجى معايا بيت عمى أدريانو ومصر على كده ، أنا موافقة بس عيزاك مـا تقـ

بترت حديثها ، فكيف تحذره من الجلوس بمفرده مع شقيقها أو عمها ، فهى لا تأمن صحبتهما له ، فلو مسه مكروه أثناء زيارتهما لبيت أدريانو ، فهى تقسم على أنها ستحرق المنزل بساكنيه أحياء ، حتى وإن كان رابط الدم بينهما يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار ، ولكن تضعه هو وصغيرتهما بكفة والعالم بأجمعه بالكفة الأخرى ، ودائماً ما تكون كفته هو الراجحة 

أماء برأسه موافقاً وهو لا يعى علام يوافق وهى لم تكمل حديثها ، فهو يفعل ذلك من أجل أن تأمن جانبه ، أو ربما من أجل أن ينهى النقاش ويمهد لها الطريق بأن تمارس عليه إحدى ألاعيبها ، التى صار يستمتع بها ، فعندما تظن أنها الرابحة ، يعود ويبتسم لعدم علمها بأى فخ هى وقعت بملأ إرادتها الحرة 
______________
فتحت باب غرفتها بحرص ، وأطلت برأسها من شق الباب الضيق ، الذى رفضت أن تفتحه على مصراعيه ، حتى لا ترى عمران يسطو على الغرفة كالذئب الجائع ، فالله وحده هو الأعلم كيف إستطاعت أن تنجو بنفسها من بين براثنه بالأيام الفائتة ، فكلما تتذكر تلك المرة ، التى ظنت بها أنه ذهب لعمله ، وخرجت من الغرفة لإطمئنانها لعدم وجوده ، لتقع بالأخير بين ذراعيه بعد خروجها من غرفتها مباشرة ، كأنه كان بإنتظارها ليشن هجومه عليها بذاك العناق ، الذى كان أوشك على أن يجعل عنادها وكبرياءها يتلاشا ويتبخرا وتعلن راية الهزيمة أمامه ، ولكن ما أنقذها بهذا الوقت تشتت إنتباه عمران لصياح معتصم بإسمه وهو يبحث عنه من أجل الذهاب للعمل 

ولكن الآن هناك حالة من السكون بالمنزل ، فمبيت ولاء ببيت ووالدتها منذ الأمس ويرافقها معتصم من أجل زيجة والدتها وإتمام الأمر ، جعل خوفها يتصاعد خشية ترك غرفتها وتجد عمران ينصب لها فخ أخر 

وقفتها بأعلى الدرج وهى تنظر يميناً وشمالاً كأنها تبحث عن شئ ضائع ، جعلت تلك الخادمة ، التى خرجت من إحدى الغرف ، تقف بجانبها وهى عاقدة حاجبيها بدهشة من فعلتها 

فقالت بإحترام وفضول فى آن واحد :
– مالك يا ميس هانم بتدورى على حاجة 

شهقت ميس بصوت مسموع من الخوف ، تشعر بتناقص أنفاسها من تفاجئها بمجئ الخادمة ، الذى لم تضعه بحسبانها بتلك اللحظة 

فأغمضت عينيها وحاولت إلتقاط أنفاسها وقالت بصوت منخفض مرتجف :
– حرام عليكى خضتينى ورعبتينى ، لاء مفيش حاجة كنت بشوف ولاء رجعت ولا لاء 

حملت الخادمة سلة الثياب بإحكام بين ذراعيها وهى تجيبها :
– لاء حضرتك لسه مرجعتش من بيت مامتها هى ومعتصم بيه وعمران بيه خرج للشغل من بدرى 

زفرت براحة وتبسمت لعلمها بخلو المنزل من وجود عمران ، فقالت بهدوء :
– طب حضريلى الفطار وهاتيه على الجنينة عايزة أفطر فى الهواء الطلق النهاردة 

أماءت الخادمة بطاعة ، وهبطت الدرج حتى وصلت للمطبخ ، بينما وضعت ميس يديها بجيبى بلوزتها الفضفاضة ، وتبسم ثغرها على أنها ستحظى ببعض الهدوء والخصوصية ، فعادت للغرفة وأخذت كتاب لقراءته وبعد ذلك هبطت الدرج بتأنى حتى وصلت للحديقة 

فالطقس اليوم مشمس يغرى على الجلوس قريباً من المسبح ، فتمددت على المقعد الطويل ، وبدأت بقراءة الكتاب لحين مجئ الخادمة بطعام فطورها ، أنهمكت بالقراءة ، حتى سمعت صوت والدتها وهى تناديها وتلقى عليها التحية :

– ميس أخبارك إيه يا حبيبتى 

خفضت ميس الكتاب من أمام وجهها وأغلقته وتركت مقعدها وأبتسمت وهى تقبل والدتها على وجنتيها فقالت بترحيب :

– أهلا يا ماما نورتى البيت 

جلست سوزانا على مقعد أخر ووجدت الخادمة تقترب بالصينية الموضوع عليها فطور ميس ، فوضعتها على المنضدة وأنصرفت لتأتى بمشروب بارد من أجل والدة سيدتها 

خلعت سوزانا نظارتها السوداء الكبيرة ووضعتها على طرف حقيبتها وقالت وهى ترمق ميس بتساؤل :

– مالك متأخرة فى فطارك ليه كده ، أنتى مش بتفطرى مع جوزك قبل ما يروح شغله

ضمت ميس شفتيها ، فعادت وأبتسمت بإرتباك :
– لاء النهاردة صحيت متأخرة من النوم وكان عمران راح الشغل ، بس مقولتليش إيه الزيارة الحلوة دى 

نظرت سوزانا لها وقالت وهى تحاول الابتسام :
– جيت علشان أشوفك ونخرج نعمل شوبينج سوا ، الصراحة القصر عند جدك بقى زحمة بعد ما كان مفيش غيرى أنا وهو وعاصم ، دلوقتى بقى الحبايب كتير 

حكت ميس طرف ذقنها بخفة ، فهى تعلم مدى حب والدتها الشديد للهدوء وأنها دائماً كانت محبة لكونها هى سيدة قصر النعمانى ، ولكن الآن أصبح القصر طبقاً للأعراف السائدة بأن سيدته تكون زوجة مالك القصر ، وعلى الرغم من أن جدها هو المالك ، إلا أن راسل متزوج الآن وله زوجة وهو الأبن المتبقى له على قيد الحياة ، وليس مثل والدتها أرملة ولده الكبير ، فالوحيدة التى يحق لها إستلام زمام أمور القصر هى حياء ، مثلما هى زوجة عمران وأستلمت مهامها الخاصة بإدارة شئون المنزل 

قالت ميس وهى تحاول الابتسام لتخفف من ضيق والدتها الذى لم تستطيع إخفاءه :
– بس بالذمة يا ماما مش عاملين حس للقصر وخصوصاً سجود بشقاوتها 

زفرت سوزانا وقالت بخفوت :
– أهى سجود دلوقتى واكلة عقل جدك خالص ، تقريباً مبقاش شايف حد غيرها ، تقريباً نسينى ، وخالك مشغول مع مراته وراسل ومراته وإيلين وخناقاتهم مع بعض ، يمكن الوحيدة اللى يعنى بتكلم معاها هى وفاء خالة راسل ، بس برضه بتخرج الصبح تروح المحل بتاعها وترجع بالليل ، بقى معظم النهار قاعدة فى أوضتى ، فقولت أجيلك نخرج نغير جو شوية 

أنحنت ميس للأمام وربتت على ساق والدتها وقالت بتفهم :
– ماما يا حبيبتى مش عيزاكى تزعلى من جدو أنتى أكتر واحدة عارفة هو بيحبك أنتى وخالو عاصم قد إيه ، دا تقريباً كان بيحبكم أكتر من إبنه راسل 

تشابك كفى سوزانا وقالت بنهدة عميقة:
– أديكى قولتيلها كان يعنى دلوقتى الوضع أتغير

وضعت ميس يدها على كفى والدتها المضمومين ، وقالت برصانة :
– ماما ، راسل وسجود من حقهم برضه أنهم يحسوا بحب جدو ليهم بس مش معنى كده أنه هو خلاص نسيكى ، خلى بس كده أى حاجة تمسك وهو هيقلب الدنيا فوقانى تحتانى علشان خاطرك ، وخليكى واثقة فى معزتك وغلاوتك عند جدو أنتى قبل ما تكونى مرات إبنه ، إنتى بنت أخوه وهو اللى مربيكى زى ما دايما كنتى تقوليلى 

هزت سوزانا رأسها وهى توافق إبنتها الرأى ، فبعد أن أنتهت ميس من فطورها ، أبدلت ثيابها وخرجتا للتسوق ، وبعد التجول عدة ساعات فى المتاجر ، عادت كل منهما لمنزلها ، فذهبت ميس بسيارتها للمرآب الخاص بها ، وترجلت منها وحملت ما قامت بشراءه ودلفت للمنزل وصعدت لغرفتها ، ولجت للداخل وقبل أن تضغط زر الإنارة سمعت صوت جمدها بمكانها 

إذ هتف بها عمران وهو يضغط على زر الإنارة الجانبية للفراش :
– حمد الله على السلامة يا مدام مش كنتى تعرفينى أنك خرجتى من البيت ولا هو خلاص مبقاش ليكى حاكم 

ألقت الحقائب من يدها بعنف ، وأضاءت المصابيح الكهربائية بالغرفة ، فصاحت بصوتها الغاضب :

– إيه ملكيش حاكم دى كمان حاسب على كلامك يا عمران أنت فاهم ، مش أنا اللى يتقالها كده ماشى يا ابن الزناتى 

قفز عمران من على الفراش وإستقام بوقفته ، هل هى مازالت تملك ذلك الكبرياء اللعين والذى يجعلها تتحداه وتناطحه بالحديث ؟

ولكن إن صبر يوم أو بضعة أيام ، فذلك لن يعطيها الحق بأن تظن أنه خضع لأفعالها ، فهى بذلك لا تعرفه ولا تعلم ماذا بإمكانه أن يفعل ؟

وضع يديه بخصره متأهباً لكل حركة منها ، فرد قائلاً ببرود:
– وأنتى على ذمة إبن الزناتى ، اللى لازم مراته تاخد إذنه قبل خروجها وإن كنتى عايشة كده فى بيت أهلك فهنا يا حبيبتى بيت جوزك 

عقدت ذراعيها وتبسمت بسخرية وأشاحت بوجهها عنه ، فطاحت بصوابه لفعلتها الهازئة ، حتى وإن لم ترد على ما قاله ولكن يكفى تلك الإبتسامة الساخرة ، التى زينت ثغرها الوردى

أقترب منها قابضاً على ذراعيها وهز جسدها صارخاً بوجهها :
– معناها إيه إبتسامتك دى مش عاجبك كلامى يا ميس ردى عليا

تباً لتلك الشرارة المنطلقة من أصابعه الغاضبة والقابضة على ذراعيها ، والتى أنطلقت بأوردتها كالسم الزعاف ، فهل هى أتخذت حيطتها وحذرها بالأيام الماضية ، لتأتى الآن ويتسرب الضعف لأوصالها؟ ولكن لا فهى لن تتركه يشعر بإنتصاره والذى بدأت ترى بوادره على وجهه ، من إسترخاء قسمات وجهه ، وتلك الإبتسامة التى تلوح على شفتيه القاسيتين ، والتى أختبرت كيف يكون عقابهما لعنادها 

فبكل ما أوتيت من قوة ، نفضت يديه عنها ، بل لم تكتفى بإبتعاده هكذا إذ أشارت تجاه الباب وهى تقول بإصرار :

– أتفضل أطلع برا أخرج برا يا عمران ومتحاولش تقرب منى تانى فاهم

أتسعت حدقتيه وهو يراها تحاول صرفه بتلك الطريقة المهينة ، والتى لن يقبلها منها أو من غيرها فأجابها بدون أن يعى ما يقول :

– أنتى مفكرة نفسك إيه أنتى ، فوقى لنفسك إذا كنتى بنت النعمانى فأنا إبن الزناتى وإن كنت سايبك تعملى اللى عملتيه فده علشان بس بحبك لكن أنك تزيدى فيها ده اللى مرفوض أنتى فاهمة ، أنا بإمكانى كمان ساعة واحدة بس يكون على ذمتى واحدة غيرك وتقولى يا سيدى ، يا بنت النعمانى ، لأن مش أنا اللى أسيب الحب يذل فيها ، لاء يبقى لسه معرفتيش مين عمران الزناتى 

قال ما لديه وخرج من الغرفة ، فظلت ميس مكانها ، تقف مشدوهة مما سمعته منه ، كانت تظن أنه سيحاول أن يستمليها إليه ثانية ، ويستميت بالحصول على رضاها ، ولكن جاءت النتائج مخيبة لأمالها ، فبات يهددها بإن لم تضع حد لأفعالها معه ، سيقوم بإستبدالها بأخرى ، كأنها تمثال سأم منه وسيحاول شراء أخر ليبهج نفسه برؤياه ، فكم هو عنيد ، ولكن هى الأخرى لم تكن بأقل منه عناد ، فهى تريد أن ترى ماذا سيفعل ؟ فلو فكر مجرد تفكير بأن يفعل ذلك ، ستحرمه من وجودها وليس هى وحسب ، ولكن من تلك النبتة التى ربما بدأت تنبت بأحشاءها ، والتى ستتيقن من وجودها بوقت قريب جدا 
_____________
يعلم أن ما يفعله لهو الخطأ بعينه ، ولكنه لم يستطع السيطرة على أفكاره الثائرة ، ورجفات قلبه التى إن أنذرت بشئ ، تنذر بأن نهايته قد أوشكت على الإقتراب ، فما كان من أمره بتشديد أوامره لعقله وقلبه ، بأن يلتزما بذلك الوعد والعهد الذى قطعه على نفسه ، من أنه لن يحاول الذهاب لرؤيتها أو معرفة شئ خاص بها ، صار الآن بطى النسيان والتجاهل ، فالأمر الذى بدأ بمعرفة إسمها ، أصبح الآن يعلم أين تذهب ؟ وماذا تفعل ؟ فبعد علمه بأنها تعمل معيدة بكلية الفنون التطبيقية، وأنها تعمل بإحدى المكاتب الخاصة بالديكورات ، ذهب للمكتب بحجة أنه يريد مهندس كفء من أجل تجهيز مكتبه ، الذى ينوى إفتتاحه للعمل بالإسكندرية ، وأن يتم نقل جزء من أعماله من صقلية لهنا 

ولج المكتب وحمحم بصوت منخفض قائلاً :
– لو سمحتى يا أنسة 

إلتفتت ياسمين تجاه الصوت ، فوجدت ديفيد يقف قريباً من الباب ، بالبداية عقدت حاجبيها بدهشة من رؤية ذلك الشاب ، الذى يحمل ملامح أوروبية صرفة تمثلت بزرقاوتيه وشعره الأشقر وملامح وجهه الوسيمة ، فظنت أنه رجل أوروبى ، ولكنها عادت وتذكرت أنها إلتفتت إليه بعد محادثته لها باللغة العربية وباللهجة المصرية أيضاً

فردت ياسمين قائلة ببحة صوتها الذى يشبه الهديل :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أيوة يا أفندم

حك ديفيد بإصبعه خلف أذنه اليمنى ، بعد سماعه لها ترد بتحية الإسلام ، وهو لم يلقيها عليها بالأساس ، فحاول تجاوز الأمر وهو يبتسم إبتسامة صافية :

– كنت عايز أقابل المهندس صاحب المكتب علشان كنت عايز مهندس ديكور لأن ناوى أفتح مكتب خاص بالأعمال البحرية وعايز حد يجهزيهولى ، فسمعت أن المكتب هنا فيه مهندسين كويسين 

ردت ياسمين برقة :
– تشرفنا يا أفندم ، أتفضل أقعد 

أقترب ديفيد من مكان وقوفها ، فكان بجانبها يفوقها طولاً ببضع سنتيمترات ، فمرت بجانبه لتأخذ مكانها خلف مكتبها الصغير ، ليملى عليها ما يريده ، أسدل جفنيه على زرقاوتيه ، يأخذ نفساً عميقاً ، كأنها نسمة هواء لطيفة مرت من جواره وأراد ترطيب رئتيه بنسيمها 

جلست ياسمين خلف المكتب ووضعت نظارة طبية ، على بنيتيها الوديعتين ، وأخذت قلماً ودفتر صغير للتدوين ، ورفعت رأسها وجدته مازال واقفاً مكانه ، فنقرت بالقلم على سطح المكتب ، لجذب إنتباهه ، ولكن ظل على حاله ، إلى أن هتفت به بهدوء :

– يا أفندم أتفضل أقعد واقف ليه وقوليلى على طلباتك ، بس أتشرف بالإسم الأول

جلس ديفيد حيث أشارت ، وعندما هم بفتح فمه ليخبرها بإسمه الحقيقى ، عاد وأغلقه ثانية يفكر فى إخبارها بإسم أخر ، حتى لا تشعر بالنفور منه كونه شاب يحمل إسم أجنبى حتى وإن كانت جذوره مصرية، فلو أخبرها إسمه كاملاً ربما تستطيع التكهن بهويته ، فبلمحة خاطفة عاد وتذكر أن أثناء مجيئه لهنا سمع إحدى السيدات تنادى صغيرها بإسم " تميم" ، فهو كأنه نسى الأسماء كلها فجأة ولم يعد يتذكر سوى هذا الإسم

فحمحم قائلاً بهدوء :
– إسمى تميم موسى 

هكذا لن يساورها الشك حياله ، فهو أعطاها إسماً غير إسمه الحقيقى ، ولا يعلم أى شيطان وسوس له لفعل ذلك ، فهو بدأ السير بدرب الكذب مبكراً

دونت هى إسمه أعلى الورقة وهى تقول بتهذيب :
– تشرفنا يا أستاذ تميم ، قولى طلبات حضرتك إيه

كم يشعر بحرق تلك الكلمات لجوفه ولسانه وهو يريد أن يجيبها بأنه لايريد شئ سواها هى ، ولكن لا فليكن أشد حذراً بالحديث معها 

فرفع ذراعه وأسنده لحافة مكتبها وهو يقول بود :
– زى ما قولتلك أنا ناوى أفتح مكتب للأعمال البحرية الخاصة بالمينا ، كنت عايز الديكورات حاجة شيك جدا وكويسة ، بس فى نفس الوقت عملية ومريحة 

دونت باقى حديثه وقالت وهى تنظر بالورقة المدونة :
– تمام حضرتك فهمت قصدك ، دلوقتى عايزة عنوان المكتب ، وتقولى عايز تستلمه فى مدة زمنية قد ايه

قبل أن يجيبها على أسألتها ، بادر هو بسؤاله المُلح :
– هو مين المهندس اللى هيشرف على الشغل 

رفعت وجهها وتبسمت ببشاشة وهى تقول:
– أنا حضرتك اللى هشرف على الشغل وأتمنى إن شاء الله يعجبك ، ومش عيزاك تقلق خالص فى أقرب فرصة هتستلم مكتبك زى ما أنت عايز 

– لو أنتى اللى هتعمليه ، خليكى براحتك على الاخر ، مش عايزه يخلص

قالها ديفيد بدون وعى ، ولكنه أنتبه على ذلة لسانه ، عندما وجدها تهتف به بشئ من الخشونة :

– أفندم حضرتك بتقول إيه 

أبدى إعتذاره على الفور قائلاً بأسف :
– أنا أسف مش قصدى حاجة ، كل اللى أقصده أنك تتمى الشغل براحتك 

رمقته ياسمين بإستغراب ، ولكن قبل أن تعلن عن قبولها أو رفضها لإعتذاره ، سمعت رنين هاتفها ، فإبتسمت تلقائياً ، ورفعته عن المكتب واضعة إياه على أذنها قائلة بإبتسامة حب :

– السلام عليكم يا حبيبى ، لاء خلاص شوية وهخلص شغلى مش هتأخر عليك سلام 

أنهت المكالمة ، وعندما عادت تنظر لديفيد ، وجدته ينظر لها بشك وإتهام ، بل أنه لم يحجم لسانه وهو يقول بغضب :
– هو مين ده اللى حبيبك وكنتى بتكلمى مين 

فغرت ياسمين فاها ورفعت حاجبيها من هجومه بحديثه الغير مبرر على الإطلاق ، فنهضت من مكانها وهى تقول بإستياء :

– هى إيه حكايتك يا أستاذ أنت ، هو أنت مجنون ولا إيه ، أتفضل أمشى يلا ، بدل ما أنادى للساعى يرميك برا 

هب ديفيد واقفاً مكانه ، ظنت أنه سيأخذ بحديثها ويرحل ، ولكن وجدته يدور حول المكتب ، وأمسكها من ذراعيها يصيح بوجهها :

– بقولك قوليلى مين حبيبك ده أنطقى 

نفضت هى يديه عنها ، وشعرت بالخوف من جنونه المفاجئ ، إلا أنها تسلحت بشجاعتها وعنفوانها ، فرفعت يدها اليمنى وصفعته على وجهه صفعة مدوية قائلة بتحذير :

– إياك تحاول مرة تانية تلمسنى أنت فاهم ، وأتفضل أمشى ، أحسن هطلبلك البوليس المرة دى

وضع ديفيد يده على وجنته ، التى تلقت صفعتها القاسية ، ونظر إليها وجدها تمسد على ذراعيها ، كأنها تريد محو أثار يديه ، كأنها تشعر بالإشمئزاز والنفور ، ودل على ذلك تلك الدمعات التى ترقرقت بداخل مقلتيها ، كأنه فعل بها جُرم لا يغتفر ، فلم تكتفى بما فعلته ، فصاحت منادية للعامل ، الذى جاءها على وجه السرعة ، وأشارت إليه بأن يرافقه حتى الباب ، فحظها السيئ أن المكتب اليوم ، لم يكن به أحد سواها هى والعامل ، فهى من تأتى مبكراً من أجل مقابلة العملاء لثقة صاحب العمل بها ، والذى يكون خالها شقيق والدتها ، فكثير من الأحيان يتركها هى تدير العمل أثناء غيابه 
______________
اليوم هو بصدد الذهاب للمشفى برفقة خالته وزوجته ،من أجل إصطحاب والد زوجته ، الذى مكث بالمشفى عدة أيام فاقت تخمينه ، فالطبيب هو الذى شدد على ضرورة وجوده بالمشفى من أجل تلقى الرعاية الطبية اللازمة له ، حتى لا يعود ويصاب بتلك الحالة الصحية ثانية ، التى رآها أنها كانت ستودى بحياته لولا عناية الله له ، فكم من مرة شاهد خالته وهى تبكى خلسة خشية خسرانها لزوجها ووالد إبنتها ، فهو يعلم مدى أهميته لها ، وذلك الود والمحبة بينهما 

أرتدى ذلك القميص الأزرق ، الذى إبتاعته له هند خصيصاً من أجل إرتداءه اليوم ، فعلى الرغم من إصراره على الذهاب لشقته لجلب ثيابه ، إلا أنها أصرت أن تبتاعه له على سبيل الهدية بين رجل وزوجته ، فلم يشأ الإعتراض ، أو أن يرد لها هديتها ويتسبب فى حزنها 

سمع صوت طرقات على الباب تلاها إدارة المقبض وولوج هند الغرفة وهى تقول بإبتسامة عريضة :

– خلاص خلصت علشان نمشى 

إستدار إليها بعد أن أنتهى من تمشيط شعره ورد إبتسامتها بإبتسامة أشد حلاوة :

– أه خلاص خلصت 

أمعنت النظر به جيداً ، فوسامته التى تراها صارخة بمدى أناقته وصفاء رماديتيه ، كانت باعثة على الخطر ، فتلك الأفكار التى جالت بخاطرها من أنه سيخرج هكذا وربما تراه الممرضات بالمشفى ، أشعلت بقلبها فتيل الغيرة ، فكيف هى بماضيها لم ترى مدى وسامته تلك ، أو أخلاقه وصفاته الرجولية التى يتحلى بها وتزيد من إفتتنانها بوسامته 

ساقتها قدميها إليه كالمغيبة ، ووقفت أمامه ومدت يدها تعدل من ياقة قميصه التى لم تكن بحاجة لذلك ، ولكن ذلك لم يكن حجة إلا لتقترب منه ، وتلمس أناملها جانب عنقه ، يضربها ذلك النبض النافر بعروقه من قربها المهلك لقلبه 

أزدرد لعابه للمرة التى لا يعلمها ، قبل أن يقول بصوت جاهد على أن يحاول خروجه من بين شفتيه ، اللتان شعر بجفافهما فجأة :

– إحنا مش هنمشى ولا إيه 

أجابته بصوت أشد خفوتاً من صوته :
– لاء هنمشى بس كنت بعدلك ياقة القميص ، دا طلع عليك حلو أووى يا كرم 

تعمدت إكساب صوتها نعومة فائقة وهى تهتف بإسمه بأخر عبارتها ، التى خرجت تحمل دفئاً وإشتياقاً لإحدى صولات وجولات جنونه الذى إعتادته عندما كانت تقيم معه بشقته 

بتردد رفع يديه وأمسك ذراعيها من أعلى مرفقيها ، فثوبها الصيفى غير مكتمل الأكمام ، لم يكن مناسباً بتلك اللحظة التى شعرت بأن دفء كفيه ، سيشعل النيران بجلدها ، فلو كانت أرتدت ثوب بأكمام طويلة ، لربما تفادت ذلك الشعور من ملامسته لها 

– هـ ـنـ ـد

خرجت حروف إسمها المتقطعة من فمه ، تبدى مدى إرتباكه وتوتره ، على الرغم من أنه سبق له عناقها وضمها بل بإحدى المرات كان الأمر سيتطور بينهما وكانت ستصبح زوجته فعلياً، إلا أنه اليوم كأنه عاد كرم القديم ، الشاب الخجول والذى كان يستحى كثيراً رفع وجهه ويمعن النظر بها ، ولكن هى من أحثته على قول ما لديه وهى تقول بصوت ناعم :

– نعم يا عيون هند 

تفرض أمور دلالها لثقتها وتيقنها الآن ، من أن لاشىء سيحول بينهما ، فحبها حقيقة لا يمكن إنكارها ، كتلك الحقيقة والبراهين القاطعة على أنها ستحاول أن تكون الزوجة ، التى تمناها دوماً ، علاوة على أنها تتحرق شوقاً لمعرفته حقيقة أمرها ، بأنه سيكون هو أول وأخر من سيمتلكها ويقيدها بقيود العشق والغرام 

خصلة متمردة أبت أن تنضم لميثلاتها من باقى خصيلاتها الفحمية ، كان مصيرها الإلتفاف حول سبابته ، ولكن عاد وإستفاق على تلك الحالة من الهيام ، التى بدأت تنشر أثرها بأوردته وكاد يشعر بالخدر من تلك اللمسات الحالمة ، التى صارت بارعة بفعلها لتجعله يخضع لها بالأخير 

– يلا إحنا لازم نروح لباباكى فى المستشفى 

قالها كرم وقبض على كفها وخرج من الغرفة ، ليبتعد عن كل تلك المغريات ، فوجد خالته بإنتظارهما والتى تبسمت لرؤيتهما يهبطان الدرج سوياً ومتشابكى الأيدى 

وصلوا للمشفى وأنهى كرم الإجراءات اللازمة لخروج والد زوجته ، فعادوا جميعهم للمنزل ثانية ، ساعد كرم زوج خالته بأن يستريح بفراشه ، فربت على كتفه وهو يقول بإمتنان :

– تسلم يا كرم على كل حاجة عملتها معانا ، أنا لو كنت خلفت ولد مكنش هيعمل معانا كده

رد كرم قائلاً بإبتسامة :

– متقولش كده يا عمى دا إحنا أهل وعلشان كده كنت عايز أتكلم مع حضرتك بخصوص موضوعى أنا وهند 

نظر له والد زوجته قائلاً بإبتسامة بشوشة :

– خالتك قالتلى على كل حاجة ، وأنت عارف رأيى ، أنا ملقيش فى الدنيا دى حد أحسن منك لبنتى 

أنهى حديثه وأخذ يديى كرم بين كفيه وضغط عليهما مكملاً لحديثه:
– وأنت هتبقى إبنى اللى مخلفتوش ودلوقتى معلش ناديلى خالتك

خرج كرم من الغرفة ونادى خالته ، التى خرجت من المطبخ بعد أن أوصت الخادمة بتجهيز الطعام ، وولجت غرفتها هى وزوجها ، ولكن لا يعلم كرم أين ذهبت هند ، فخرج للحديقة للبحث عنها 

أثناء مروره بالحديقة ، ومن جوار تلك النافذة التى تخص غرفة خالته وزوجها بالطابق الأرضى ، سمع ذلك الحوار الدائر بينهما 

إذ سمع زوج خالته وهو يقول ضاحكاً:
– بس إيه رأيك فى اللى عملته بقى جاب نتيجة صح

ردت زوجته وهى تقول بإستياء طفيف :

– بس أنت هربت دمنا وخوفتنا عليك ، يعنى علشان تصلح أمور بنتك مع جوزها تقوم تفول على نفسك بالمرض ودخول المستشفى كمان ، يعنى لولا أنك قولتلى على الحقيقة ، كان زمانى دلوقتى لسه مكملة عياطى 

زفر زفرة مطولة وهو يقول ، كأنه لم يكن يملك حيلة غير تلك التى فعلها :

– أنا معملتش كده إلا لما شوفت بنتى بتتقطع من جواها على أن جوزها هيسيبها ، وأنتى عارفة أن هند عمرى ما رفضت ليها طلب حتى لو كانت طلبت لبن العصفور ، كنت هجبوهلها ، لأن عارف كرم شهم ومكنش هيسيبكم فى الظروف دى وأنه هيفضل جمبكم وساعتها هند هتقدر تقنعه يتخلى عن فكرة الطلاق ، حتى كمان ناوى أخليه ميرجعش الأقصر تانى ، وأخليه يعيش معانا هنا ، لأن بنتى ممكن متستحملش العيشة هناك ، ومش عايزها تتبهدل 

أبتعد كرم عن النافذة بعد سماع نداء هند له يأتى من مكان ليس ببعيد ، ولكن يكفى ما سمعه ، فزوج خالته مارس عليه خدعة من أجل أن يضمن بقاءه بجوار إبنته ، فحبه لإبنته جعله يسلك كل السُبل الممكنة والغير ممكنة لضمان سعادتها ، ولكن هل هو لعبة أو دمية ، أراد شراءها من أجلها ؟ بل أنه ينتوى جعله يعيش هنا بكنفه ، وأن يصبح زوج الفتاة الثرية ، فلو هو وافق على ذلك ، سيظن الجميع أنه هو من سعى لأن يكون زوج لإبنة خالته ، لكى يصبح رجلاً ثرياً ويتمتع بنفوذ والد زوجته ، فشعور بالمهانة أكتسح ما لديه من قدرة على التفكير السليم 
_____________
أصبحت عيناها غائرتان وجفونها مائلة للون الأحمر ، من كثرة إرهاقها بالبكاء وتحريم النوم عليها ، فمنذ تلك الليلة وما حدث بها ، صارت حالتها أشد سوءاً عن حالات الإكتئاب أو العزلة التى كانت تفرضها على نفسها أوقات كثيرة ، ولكن تلك المرة كأنها القشة التى قصمت ظهر البعير ، إذ أصبحت تلازم غرفتها وفراشها بشكل دائم ، بل أنها لا تعلم إلى أى حال صار مصير أبيها بعد إطلاقها تلك الرصاصة التى أصابته ، فحتى الخادمة التى تعمل على رعايتها والعناية بها ، لا تلقى بيرى بنظرة واحدة عليها ، ولكن ما أن تسمع مقبض الباب يدور ، تغلق عيناها على الفور وتدعى أنها غارقة بسباب عميق ، فهى لا تريد أن ترى أحد ولا تتحدث مع أحد 

ولج ثالث طبيب تم إستدعاه من أجلها ، فلم تكلف نفسها عناء إبعاد جفنيها عن بعضهما البعض لتناظره ، أو أن تبدى استعدادها لأن يبدأ بفحصها بسبب التراجع الشديد لصحتها ، فهى أصبحت كالوردة الذابلة والتى لم يعد لها رونق أو عطر ، سوى أوراق جافة وساق أصابه اليبس 

– عاملة ايه النهاردة يا أنسة بيرى 

قالها الطبيب الخمسينى ذو الوجه البشوش بود ، فربما تتخلى عن تظاهرها بالنوم وتفتح عيناها وتجيبه على سؤاله

ولكن لم يأتيه رداً منها ، ولكن يجب عليه فحصها كما أمره والدها ، والذى كان أمره ينطوى على تهديد صريح بالايذاء إذا فشل بأن يجعل تلك الصبية تفيق من تلك الحالة الصحية المزرية

أتم فحصه لها وأدريانو يقف قريباً من الفراش ، كأنه يخشى التقدم ويمعن النظر بوجه إبنته ، ويرى شحوب وجهها ورغبتها القوية فى أن تظل هكذا حتى تنتهى أنفاسها ، كأنها أختارت الطريقة الأنسب فى تعذيبه ، بأنها لن تقدم على الإنتحار وتنهى الأمر ببساطة ، ولكن ستظل هكذا، حتى يدركها الموت ، ولكن ليس قبل أن تجعله يشعر بفداحة أفعاله ، وأن تجعل الخوف يأكل قلبه وعقله ، فهى تعلم مدى تعلقه الشديد بها 

بدأ الطبيب فحصه لها بدقة وعناية ، وبأثناء ذلك سمع أدريانو صوت طرقات متتالية على باب الغرفة ، ففتح الباب وجد حياء ومن خلفها زوجها ، فلم يكن لديه الوقت الكافى ليبدى دهشته أو صدمته من رؤية راسل هنا وبمنزله

قالت حياء وهى تنظر من خلفه لبيرى :
– أنا ديفيد قالى أن بيرى تعبانة فجيت علشان أشوفها

رفع يده يشير لها بالدخول ، فهرولت بخطواتها حتى وصلت لفراش بيرى وجلست بجانبها تناديها بصوت حنون :
– بيرى أنا حياء جيت علشان أشوفك ألف سلامة عليكى

على الفور فتحت بيرى عينيها ونظرت لحياء ، وسرعان ما اجهشت ببكاء مرير وهى تقترب منها تقول بصوت نائح :

– حياء ، شوفته يا حياء شوفت عبد الرحمن وياريتنى ما شوفته 

ضمتها حياء إليها وربتت على جسدها ، لعلها تكف عن الإرتجاف كالأرنب المذعور ، فلملم الطبيب أدواته ونظر لأدريانو قائلاً بهدوء:

– بنت حضرتك محتاجة دكتور نفسى ، لأن معندهاش مشاكل عضوية ، كل اللى هى فيه ده ناتج عن سوء حالتها النفسية 

أخذ أدريانو الطبيب معه وخرج من الغرفة، ولكن قبل خروجه رمق راسل قائلاً:
– معلش أن معرفتش أرحب بيك يا دكتور راسل بس ثوانى أوصل الدكتور وراجعلك 

أماء راسل برأسه قدر ما أقتضاه الذوق ، فوجد مقعد أسفل النافذة ، فجلس عليه واضعاً ساق على الأخرى ، وينظر لزوجته التى تحاول بث الأمان بنفس بيرى ، التى إستكانت بين ذراعيها كالطفلة الصغيرة 

تلك هى حياء ، إن لم تجعل من يقترب منها يريد دفن يأسه بين ذراعيها الناعمتين ، لن تكون صبيته الحسناء ، فبعد مرور خمس دقائق ، رآى راسل أدريانو يعود للغرفة ثانية ولكن تلك المرة لم يكن بمفرده ولكن يتبعه ديفيد ، الذى ولج الغرفة متجاهلاً وجوده عن قصد ، وأقترب من شقيقته واضعاً قبلة على رأسها وهو يقول بصوت حانى :

– وحشتينى يا حياء 

لو لم يكن يعلم أن هذا الشاب هو شقيق زوجته ، لكان أطاح برأسه من على كتفيه لتجرؤه على تقبيل رأسها ، فبعد ذلك نظر إليه ديفيد ، كأنه أنتبه مؤخراً على وجوده 

فخطى خطاه تجاهه ، ورفع يده قائلاً بأنفة وغرور :
– أنا ديفيد أخو حياء ، أكيد سمعت عنى

إستقام راسل بوقفته فصافحه مكرهاً ، فالجو بينهما كأنه تم شحنه بالكراهية منذ ملامستهما ، فيد حياء التى تربت على بيرى أصابتها الرجفة وهى ترى زوجها وشقيقها يقفان بمواجهة بعضهما البعض كأنهما إثنان على وشك بدأ معركة بينهما ، على الرغم من التحضر البادى على كل منهما 

وأكتملت مخاوفها بإنضمام أدريانو لهما ، والذى صافح راسل ،كأنه يتم العهد بالغدر ، ولكن خلف إبتسامة هادئة ، وترحيب زائف

فقال أدريانو وهو يرمق حياء بخبث :
– بس فرصة سعيدة أنك شرفتنا يا دكتور راسل ، وأتمنى تنبسط بالقعدة معانا هنا ، أعتبر البيت بيتك ، عن أذنكم دلوقتى عندى مشوار مهم ، ديفيد هياخد باله منك على ما أرجع تانى

قال راسل بسخرية فجة :
– دا على أساس أن أنا بيبى صغير جاى يزوركم و عايز حد ياخد باله منه ليلعب فى حاجة ويكسرها 

جلجلت ضحكة أدريانو بالغرفة ، فرد قائلاً بدهاء :
– دمك خفيف أوى يا دكتور راسل وشكلنا هننبسط أوى مع بعض عن أذنك

خرج أدريانو من الغرفة وأغلق الباب خلفه ، سار حتى وصل لذلك الجزء المنزوى من المنزل ، والذى يبدو عليه أنه مهجور ولا يجعل أحد يقترب منه ، أخرج مفتاح من جيبه ووضعه بمقبض الباب ، فسمع صوت التكات الدالة على نجاحه بفتحه

ولج للداخل يبحث عنها بعينان تشبه أعين الصقر ، وجدها كعادتها جالسة قريباً من النافذة وأمامها تلك المنضدة التى تراصت عليها أوراق اللعب ، فشعرها الأبيض الذى يشبه القطن ، تركته مشعثاً كالعادة كأنها تريد إخفاته ، أو ربما لتكمل تلك الصورة التى يراها عليها دائماً بأنها " ساحرة وعجوز شمطاء "

تبسمت بدون أن ترفع وجهها ، ومررت يدها على أوراق اللعب ، حتى نقرت بإصبعها على إحداها وهى تقول بصوتها الحثيث:

– ذنب فى الماضى ، وهى هتدفع تمنه ، بس مش هى لوحدها ، نسل إسكندر شمعون صابته اللعنة 

نفخ أدريانو بملل قائلاً بحنق :
– بطلى تخاريفك دى بقى يا "مارجريت" علشان أنا زهقت ، أنا جايلك تشوفيلى حل علشان بيرى ، الدكاترة مش عارفين يعالجوها

عادت تبتسم بهدوء ورفعت الورقة التى أرتسم عليها صورة الفتاة قائلة بصوتها المنخفض والمرعب بأن واحد :

– بنتك دواها مش فى إيد دكتور ، بنت دواها فى إيد اللى أنت قطعتله إيده ، ترياق بيرى موجود فى قلب الغايب ، اللى حاولت تبعده عنها ، أنا قولتلك دى لعنة ، ومفيش حل ليها ، مكنتش مصدقنى يا أدريانو ، لما قولتلك أن لعنة زمان رجعت تانى ، أهى بنتك وقعت في الحب ، وبنت دانيال غرقانة فيه وهتنكوى بناره ، وولى عهدك اللى مستنى أنه يبقى خليفتك ، زهر الياسمين نبت فى قلبه ، مثلث وأضلاعه التلاتة هيخرجوا عن السيطرة ، هيخرجوا عن السيطرة ويا ويلك يا أدريانو 

– أسكتى خالص 

صرخ أدريانو بوجهها وأقترب منها قابضاً على تلابيب ثيابها ، وهو يرغى ويزبد من ضيقه وغضبه من قولها ، الذى تعيده عليه كل مرة تراه بها ، تلك المرأة التى تشبه الساحرات الشريرة القدامى ، فهى خبيرة بقراءة الورق ، رغم تقدمها بالعمر 

شعر بنظراتها تذيب عظامه ، فهى حتى بدون أن تحاول لمسه ، يمكنها بث الرعب به ، فأبتعد عنها سريعاً وهو مستطرداً:

– مش أنتى السبب فى أنك خبيتى بنت دانيال عنى وهربتيها يعنى كان ممكن تتربى مع أخوها وبيرى وميحصلش اللى حصل

أطلقت مارجريت نهدة عميقة وقالت بحسرة :

– يا قلبى عليك يا دانيال ، راح ضحية لعمايلك يا أدريانو ، كان لازم هو اللى يعيش وأنت اللى تموت يا إبن أختى 
__________




نهاية الجزء الأول -" ما كنت أخشاه "

هكذا كان الأمر دائماً ، فشقيقه الراحل كان يتمتع بمكانة خاصة بين عائلة والده وعائلة والدته ، فالجميع كان ينظر لدانيال على أنه الشاب البكر لإسكندر شمعون وولى العهد والمخول له قيادة العائلة خلفاً لأبيه ، كان يتمتع بكل الصلاحيات التى كانت تُمنح لإعداد رجل سيكون هو الوريث والرشيد والحكيم ، الذى بإمكانه الحفاظ على تلك المكانة التى تمتعت بها العائلة بالمجتمع السكندرى 

 أما هو فهو الشقيق الأصغر ، والذى كان لا ينظر إليه أحد ،  سوى أنه سيكون الشاب المدلل للعائلة ، والذى سيعمل تحت إمرة أخيه بالمستقبل ، رآى كيف أن والديه كانا يغدقان بكامل الحب والإهتمام لشقيقه ، وربما زاد من الأمر ، كون دانيال كان لطيف ولين الطباع مع والديه ، ولكن هو كان المشاكس والمشاغب والذى يخرج جميع من حوله عن طورهم ، نظراً لكونه صعب المراس ، ولا يستطيع أحد إلجام سلوكه السيئ ، والذى بدأت بوادره منذ صغره ، وكيف كان يحاول إيذاء من حوله 

 أطاح بكل ما تحمله المنضدة أمامها ، بسبب إتيانها على ذكر تلك الأمنية ، والتى لم تكف عن ترديدها منذ سنوات ، على الرغم من أن شقيقه قد لقى حتفه منذ زمن ، وهو مازال على قيد الحياة 

فتلبسه الجنون وهو يصيح بها :
– اخررررررسى 

لم يرف لها جفن ، ولم تتحرك من مكانها قيد أنملة ، على الرغم من أنها تعلم أنه وصل لأقصى درجات الغضب ، وربما بالدقيقة التالية سيرديها قتيلة برصاصة واحدة من ذاك السلاح النارى الموضوع بغمده حول خصره ، والذى لا يفارقه بنومه أو صحوه

فكل ما إستطاعت فعله ، هو إنحناءها لتلقط صورة من الورق ، ولكن تلك المرة تحمل صورة الفتى ، مررت يديها على الورقة من أعلاها لأسفلها ، وأغمضت عينيها ، بينما أرتجفت شفتيها الجافتين وهى تهمس ببضع كلمات ، لم يفهم هو منها شيئاً

ففتحت عيناها التى تشبه الكوبلت الأسود ، وأنتفض جسدها وألقت بالورقة على الفور ، كأنها شعرت بحرق مفاجئ بيدها ، وتتابعت أنفاسها وهى تردد كلمة واحدة ولم تقول غيرها :
– هو 

لم يفهم أدريانو مغزى كلمتها ، ولا من تقصد ، ولكن نفض كل هذا عن عقله ، فهذيانها الدائم صار معتاداً عليه منذ سنوات طويلة ، أى منذ قام بحبسها بذلك المكان ، خشية علم أحد بما يخفيه من ماضيه ، ولكن دائماً ما كانت هى تحذره من كشف المستور ، بل والويل الذى بإنتظاره ، ولكن هو لا يؤمن بتلك الخرافات التى تهذى بها ، على الرغم من أنه يعلم أن قدرتها العجيبة على معرفة ما يخفيه بمهارة الإستبصار التى تملكها ، والتى لم تأتيها من فراغ ، بل تعلمت تلك المهارات من إحدى جداتها والتى كانت تشتهر فى صقلية بأعمال السحر وقراءة الورق و الكف ، وبالرغم من أنها شقيقة والدته ، إلا أن أمه لم تكن ضليعة بتلك الأمور كشقيقتها الصغرى 

أراد الخروج من الغرفة ، ولكن ما أن وصل للباب حتى سمعها تقول بتحذير:
– رحب بالضيف يا ادريانو وبلاش أذية علشان هى ممكن تحرقك بنارها 

إلتفت برأسه إليها مقطباً حاجبيه قائلاً:
– قصدك على مين يا مارجريت وعرفتى إزاى أن جه ضيف

ضحكت مارجريت حتى صار صوت ضحكتها يتردد بين أرجاء الغرفة ، وكأن الصوت يأتيه من كل حدب وصوب ، فما ذلك السؤال السخيف ، أمازال لديه شك بقدراتها ؟

نهضت مارجريت من مكانها وسارت بخطوات بطيئة ، حتى وصلت إليه ، ولكن برؤيته لها تتقدم منه ، تقهقر هو بخطواته للخلف ، كأنه يخشى أن تبتلعه كالوحش 

ولكنها لم تفعل شئ ، سوى أنها ربتت على كتفه وهى تقول بإبتسامة خافتة :
– لسه يا إبن أختى بتسأل السؤال ده ، المهم قولتلك رحب بالضيف ، وكمان أبعتلى الأكل علشان جوعت أوى 

تركته وأتجهت صوب فراشها ، فأستلقت عليه بعظامها الهرمة والواهنة ، ولكنها ظلت تنظر إليه ، وتلك الإبتسامة على شفتيها ، كأنها تشعر بالشماتة مما سيلقاه بالمستقبل ، والذى يحاول هو إنكاره 

خرج من الباب وأوصده كالعادة واضعاً المفتاح بجيبه ، فعاد ثانية لغرفة إبنته ، فأبتهجت نفسه قليلاً بعد تلك المقابلة العاصفة مع خالته ، خاصة وهو يرى بيرى جالسة بالفراش وحياء تطعمها بيدها وهى تثرثر معها وتبتسم 

– عاملة ايه دلوقتى يا حبيبتى
قالها أدريانو وهو يقترب من فراش إبنته ، وجلس على حافة الفراش بجانبها ، رابتاً بيده على يدها 

سحبت بيرى يدها من أسفل يد أبيها ، وتجهمت ملامحها المرهقة ، إلا أنها ردت بجفاء :
– تفتكر هكون عاملة ايه

تلقائياً تحولت أنظار أدريانو تجاه راسل الجالس على المقعد بجوار النافذة ، فألتقت أعينهما بحوار صامت ، فأدريانو لايريد لراسل معرفة ما يدور بمنزله ، فنهض من مكانه مقترباً منه ، وبحث عن ديفيد ولكنه لم يجده بالغرفة 

فرفع أدريانو يده يشير لراسل بأن يتبعه وهو يقول بود زائف :
– أتفضل معايا يا دكتور راسل وسيبهم هم يقعدوا براحتهم ، أنت أول مرة تشرفنى فى بيتى وكمان أنت جوز بنت أخويا ، فلازم نرحب بيك 

ما كاد راسل يرفع جسده عن المقعد ، حتى سمع صوت حياء تقول برفض :
– لاء معلش يا عمى خلى جوزى هنا ، هو برضه دكتور وممكن يساعدنى فى أن نخلى نفسية بيرى تتحسن 

إلتفت إليها أدريانو وهو يبتسم على كذبتها الواضحة ، فقال بهدوء مرعب :
– بس اللى أعرفه أن جوزك دكتور جراح مش نفسى يا حياء 

حاولت حياء السيطرة على إرتجافها المفاجئ ، فهى لا تريد أن يغيب راسل عن ناظريها ، فهى طوال طريقهما من قصر النعمانى لهنا ، وهى كانت تلوم نفسها على موافقتها بأن يصطحبها ، فما بالها الآن وهى ترى عمها وشقيقها يحاولان إستدراج زوجها بحديثهما المنمق 

أراد راسل فض الحوار بين زوجته وعمها ، فقال بهدوء :
– خلاص يا حياء أنا برضه عايز أتعرف على عمك وأخوكى ، وعلى ما تخلصى نكون أتكلمنا شوية 

ما كاد يخرج راسل برفقة أدريانو ، حتى نظرت بيرى لحياء وهى تقول بإلحاح وخوف :
– قومى يا حياء روحى لجوزك ليأذوه ، هم أذيتهم وحشة ، وأنا هاخد شاور وأحصلك

لم تنتظر حياء أن تعيد بيرى حديثها ثانية ،إذ قامت بوضع الملعقة من يدها وخرجت تهرول من الغرفة تبحث عن مكان وجود زوجها ، ظنت بالبداية أنها ستجدهم بغرفة المعيشة ، ولكنها لم تجد أحداً بها 

– هم راحوا فين
نطقت بها حياء بجنون وهى تبحث بكل مكان بالمنزل ، كأنهم أختفوا فجأة ، ولكن بسؤالها لأحد الحراس ، أخبرها بأن سيديه يجلسان مع الضيف بالحديقة ، خاصة بذلك المكان الذى خصصه أدريانو للتدريب على إستخدام الأسلحة النارية 

فبسماعها لما قاله الحارس؛ لطمت خدها ، وركضت حتى وصلت لذلك المكان المتواجدون به بعد إنضمام شقيقها لهما 

فصاحت منادية لزوجها بخوف :
– راااسل 

إلتفت راسل لمصدر الصوت ، فوجدها تهرول إليه ،  ووقفت أمامه وسحبت ذلك السلاح النارى ، الذى يحمله بيده ويبدو أنه كان على وشك إطلاق النار على ذلك المجسم المتخذ شكل إنسان 

فزجرته بحدة :
– بلاش ضرب نار لتأذى نفسك وأنتوا بتعملوا إيه هنا 

تتابعت أصوات إطلاق النيران من عمها وشقيقها ، فبعد إنتهاءهما ، رمقها ديفيد قائلاً بسخرية :
– فى إيه يا حياء مالك خايفة ليه كده ، إحنا بس كنا بنتسلى شوية تحب تتسلى معانا 

أقترب منها ديفيد ، وجعلها تمسك السلاح بوضع الإستعداد ، حاولت إلقاءه من يدها ، إلا أن شقيقها أحكم قبضتيه على يديها ، فأدنى برأسه من أذنها وهو يقول بهمس ومكر :
– إيه رأيك دلوقتى أخليكى أنتى اللى تقتليه ، دا الموضوع سهل جدا ، يعنى بس تنشنى على القلب كده 

صوب إتجاه السلاح لراسل ، وعاد مستأنفاً حديثه :
– وتضغطى بصباعك على الزناد كده 

قبل أن يجعلها تضغط بإصبعها على الزناد ، كانت هى تدفعه عنها وتضع السلاح بمنتصف جبهته وهى تساير سخريته :
– طب إيه رأيك لو ضربتها فى راسك يا ديفيد 

قهقه ديفيد لعلمه بأنها لن تفعلها وخير دليل على ذلك ، يدها التى أصابتها الرعشة ووجها الذى إستحال لونه للأبيض الشاحب كوجوه الموتى 

وضع راسل يديه بجيبه وهو يتابع الحوار بين زوجته وشقيقها ، فشعوره بوجود شئ غامض بدأ بالتزايد ، فعائلة زوجته غريبة الأطوار حقاً ، فمنهم الإبنة التى تعامل أبيها بجفاء كأنها لا تريد رؤيته ، ومنهم الأب الذى لا تنم تصرفاته الهادئة إلا على أنه يضمر بداخله شيئاً لايريد أحد ان يعلمه ، والشاب الذى من المفترض أنه شقيق زوجته ، يمزح معها بالأسلحة النارية ، إنها حقاً عائلة توضع بقائمة المجانين، ولكن ماله وما لهم ، فهو لا يريد شيئاً منهم سوى زوجته فقط 

فحمد الله على دعوة أدريانو لهما بأن يذهبا لنيل راحتهما بإحدى الغرف ، وما كاد يغلق الباب بعد دخولهما ، حتى إستند بظهره على الباب 

فزفر بقوة قائلاً بصوت منخفض:
– يا ساتر يارب بيت ده ولا  مقبرة 

سمعت حياء ما قاله ، فأقتربت منه تأنبه على إلحاحه بالمجئ :
– قولتلك متجيش وأنت اللى أصريت يا راسل دماغك ناشفة 

رفع يده ومسح وجهه مغمغماً:
– هو حرام أتعرف على أهلك ، أينعم ترحيبهم مش ولابد وكمان إكرامهم للضيف غريب ، كانوا واخدنى أتعلم ضرب النار ، مع أن بعرف أضرب نار كويس بس أخدت أخوكى على قد عقله 

قبضت على كفيه وهى تقول برجاء :
– حبيبى لو عايز ترجع بيت باباك أرجوك أرجع وأنا هطمن على بيرى وهحصلك على طول ، أنا حاسة أنك مرتحتش لمقابلة عمى أدريانو وديفيد 

أدناها منه وضمها إليه بقوة ، يكاد يجعلها تنفذ من بين ضلوعه لتستكين بين ثنايا قلبه ، فرد قائلاً:
– هو بكرة تطمنى عليها ونروح سوا ماشى يا روحى 

هزت رأسها بضعف وهى تستشعر دفء ذراعيه المحيطتان بها ، حتى أنها كاد يغلبها النعاس ، فغمغمت بصوت خافت :
– ماشى يا حبيبى تعال ننام 

أنحنى حاملاً إياها بين ذراعيه ، ولكن ما أن وضعها على الفراش ، حتى رآى ظل أسود عند النافذة ، فذهب ليتحرى الأمر ولكنه لم يجد أحد

جلست حياء بالفراش ورمقته متسائلة :
– فى ايه يا حبيبى بتبص على إيه فى الشباك

أغلق راسل النافذة وضم ستائرها ، فإستدار لها قائلاً بإبتسامة :
– لاء يا حبيبتى مفيش حاجة 

إستلقى بجانبها على الفراش وجذبها إليه دون أن يحاول إستبدال ثيابه ، فشعور طاغى بعدم الراحة جثم على صدره ، حتى كاد يمنعه أن يتنفس براحة ، ولكنه لم يشأ أن يسبب لها القلق ، فحاول قدر إمكانه أن يجعلها تغرق بنومها دون الشعور بما يعتريه ، فبعد نجاحه بجعلها تخلد للنوم ، سمع صوت مواء لهرة ، كأنها طفل صغير يبكى وينوح ، فكلما أغلق عيناه يعود ويفتحهما كأنه لن يستطيع جلب النوم لجفونه 
_____________
إصطدامه المتعمد بها اثناء خروجها من أحد المتاجر ، زاد غضبها أكثر ، خاصة بعدما أمعنت النظر بوجهه وعلمت من يكون ، ولكنها لم تشأ أن تثير إنتباه المارة عليها إذا تشاجرت معه ، فبهدوء أنحنت ولملمت أغراضها المتناثرة ، وبعد إنتهاءها إستقامت لترحل ، ولكن ما كادت تبتعد خطوة حتى ناداها بصوت متلهف لأن تمنحه إلتفاتة منها ، أو تجيبه على نداءه المُلح ، ولكنها أكملت بطريقها كأنها لم تسمعه 

 ولكن مع إزدياد أفعاله الجنونية والطائشة كركضه واللحاق بها والوقوف أمامها يسد عليها الطريق ، كان ذلك أدعى لأن تفرغ به كامل إستياءها وحنقها من أفعاله

فتعالت صيحتها وهى تقول بغضب :
– فى إيه يا أستاذ انت ، هو أنت مجنون ولا إيه حكايتك 

أكسب ديفيد صوته ليناً ولطفاً ، لعلها تكون أكثر هدوءًا وهو يقدم لها إعتذاره على أفعاله الصبيانية :
– أنسة ياسمين إهدى ، أنا بس بنادى عليكى علشان أتأسفلك على سوء التفاهم اللى حصل بينا فى المكتب بجد أنا أسف

زفرت ياسمين زفرة مطولة وقالت بدون أن تنظر إليه :
– خلاص قدمت أسفك وإعتذارك أتفضل أمشى بقى علشان مينفعش اللى بتعمله ده ، دا إسمه شغل مراهقين ، ومتفتكرش أن أنا مش فاهمة تصرفاتك السخيفة دى 

عينيها الملتمعتان بغضب ، تنذره بأنها لن تطيل الوقوف هكذا أمامه ، ولو حدث ذلك لربما لن تكتفى بأن تجعل المارة بالشارع يلقونه درساً قاسياً جراء فعلته ، فتنحى جانباً ورفع يديه يشير لها بالسير ، يرافقها همهماته العاشقة 

أحكمت ياسمين ذراعيها على ما تحمله من أغراض ، ولسانها يتمتم بالكلمات الغاضبة وسوء حظها لمقابلة هذا الشاب ، فهى أيقنت الآن أنه مجنون ، فليس هناك أحد بكامل قواه العقلية ويفعل ما يفعله 

وصلت للمنزل وولجت للشقة ، فوضعت ما تحمله على مائدة الطعام الموضوعة بالصالة ، رآت والدتها تخرج من المطبخ وهى تجفف يديها بمنشفة صغيرة

فتلاحما حاجبى والدتها وهى ترى بوادر الغضب على وجهها ، فأقتربت منها وسألتها بقلق :
– مالك يا ياسمين فى إيه باين على وشك أن فى حاجة حصلت 

سحبت ياسمين مقعد وجلست عليه وهى تقول بعدم إكتراث:
– مفيش حاجة يا ماما أنا كويسة

ربتت والدتها على كتفها وهى تقول بمساكشة :
– مفيش حاجة! ولا أنتى متوترة علشان العريس اللى جايلك النهاردة

إصطبغ وجه ياسمين على الفور ، وفرك يديها وهى تقول بخجل :
– و وأنا هتوتر ليه يعنى يا ماما عادى يعنى 

جذبتها والدتها حتى إستقامت أمامها ، فضمتها بين ذراعيها الحانيتين وهى تقول يسعادة غامرة :
– مش مصدقة أن جه اليوم واللى هشوف فيه بنتى حبيبتى كبرت وبقت عروسة ، وهتبقى أحلى عروسة 

رفعت ياسمين ذراعيها وربتت على ظهر والدتها بمحبة ، فسمعا صوت الباب يفتح ويدلف منه أبيها وشقيقها ، فهما عادا بعد أن أنتهيا من تأدية صلاة العصر بالمسجد ، الذى يعمل أبيها إماماً له 

فتبسم "بلال" وهو يرى شقيقته الصغرى ووالدته متعانقتان ، فقال بحب هو الأخر :
– طب أنا مليش حضن أنا كمان يا ماما إيه التفرقة العنصرية دى ، ولا علشان ياسمين هى أخر العنقود وخلاص هتطير زى العصفورة على بيت العريس

تركت ياسمين والدتها وأقتربت من شقيقها وقبلته على وجنته وهى تقول بإبتسامة ومشاكسة :
– عصفورة مين اللى هتطير يا أبيه بلال أنا قاعدة على قلبك أهو 

إبتسم إمام المسجد على قول إبنته وشجارها المحبب مع شقيقها الأكبر ، فخرجت نهدة قوية من بين شفتيه وهو يفكر بأنه بوقت ليس ببعيد سيتزوج بلال ويترك المنزل ، وستتزوج صغيرته أيضًا ، وسيصبح هو وزوجته بمفردهما ، فالله لم يمن عليه سوى ببلال وياسمين ، لذلك يهيم حباً بهما ، ولم يتقبل حتى الآن ، أنهما سيتركانه بالقريب العاجل 

لاحظت زوجته سكوته الغير معتاد خاصة بوجود أولادهما ، بل زاد تعجبها وهى تراه يلج غرفتهما بدون أن يفه بكلمة ، فتبعته لتعلم سر صمته المقلق لها

وجدته يجلس على طرف الفراش ، فشب القلق بقلبها ، جاورته بجلسته وهى تقول بإهتمام :
– مالك فى إيه يا أبو بلال ، ساكت كده ومش زى عوايدك حتى ياسمين رجعت من برا وكانت ساكتة وكأن فى حاجة حصلت أنتوا مخبيين عليا حاجة

رفع زوجها رأسه ونظر إليها متسائلاً بقلق :
– مالها ياسمين فيها إيه حصل ليها حاجة 

تبع حديثه بإنتفاضه من مكانه وبنيته الخروج ليرى ما أصاب إبنته ، إلا أن زوجته قبضت على ذراعه وهى تقول بهدوء :
– إهدى يا أبو بلال ، أنا قولت أنها كده علشان متوترة بخصوص العريس اللى جاى ، وأنت بقى مالك 

تنهد بصوت مسموع قائلاً بحنان :
– مش قادر أتخيل أن ولادنا كبروا كده وخلاص كل واحد هيبقى له حياته ، زى العصافير اللى كبرت وسابت العش علشان تبنى ليها عش خاص بيها ، وخصوصاً مش متخيل البيت من غير ياسمين ، أنا بتهيألى لو جوزها زعلها فى يوم ، مش عارف أنا ممكن أعمل فيه إيه أو أتصرف إزاى 

ضحكت بخفوت على قوله ، فهى تعلم مدى حبه الشديد لإبنتهما ، فياسمين كالزهرة التى ينتشر عبيرها بكل زاوية من المنزل ، فهى الأخرى لم يطاوعها قلبها حتى الآن ، بتخيل اليوم الذى ستفارقهما به وتذهب لمنزل زوجها ، فعلى الرغم من هدوءها الظاهرى ، إلا من داخلها لم تكن بأقل من زوجها من حيث قلقها وخوفها على إبنتها 

تحدثت مع زوجها طويلاً ، وحاولت خلال حديثها أن تطمئنه على أن إبنتهما ستنعم بزيجة مباركة ، خاصة أن العريس المنتظر لها ، لم يكن سوى إبن أحد أصدقاءه المقربين ، والمعروف عنه إلتزامه وخُلقه الحسن ، علاوة على تحصيله الدراسي الذى مكنه من أن يعمل بإحدى شركات الطيران 
_____________
حلها الوحيد لتصحيح المفهوم الخاطئ لدى أبيها ، المختص بحادث خطفها ، وقراره بزواجها وعدم ذهابها للمدرسة ثانية ، كان بذهابها لمقر عمله ، فبالمنزل لم تعد تراه ، كأنه يتحاشى الجلوس معها أو رؤيتها ، حتى لا تغلبه عاطفة الأبوة تجاهها ، ويحيد عن قراره بتزويجها من إبن شقيقه ، فهى تعلم بأى من الشركات الكبرى يعمل أبيها ، وهناك ربما سيضطر لسماعها إذا جلسا بمفردهما بمكتبه أو ماشابه ، على الرغم من خوفها من رد فعل والدها ، إلا ان ذلك لم يحد من عزمها وتصميمها الكامل على الحديث معه 

فبمجرد وصولها وسؤالها عن مكتب أبيها ، دلها أحد العمال على تلك الغرفة التى يتخذها مكتباً نظراً لكونه مدير الشئون القانونية بالشركة ، وصلت أمام المكتب ومدت يدها بتردد ، ولكن حسمت قرارها بطرق الباب ثلاثة طرقات ، إذا لم يأتيها رد ، ستعود أدراجها ، وربما ذلك سيكون لصالحها حتى لا يثور أبيها بوجهها على أنها تريد مناقشة أمر كهذا هنا بمقر عمله 

– أنتى بتعملى إيه هنا 
أنتفضت سهى إثر سماعها تلك الجملة ، التى جاءتها من ذلك الشاب ، الذى تستطيع تميز صوته بسهولة الآن

فنظرت إليه وقالت بدهشة :
– أنت اللى بتعمل إيه هنا وجاى هنا ليه

وضع عمرو هاتفه بجيبه ، ورد قائلاً بهدوء :
– دى شركتى ، يعنى أنا صاحب الشركة 

فغرت فمها الصغير مما سمعته منه ، فكيف يكون هو مالك تلك الشركة ، وهو مازال شاباً بمقتبل حياته ، فقالت بغرابة :
– صاحب الشركة إزاى يعنى 

إبتسم عمرو على رد فعلها ، فأجابها وهو يحرك كتفيه دليلاً على أنه هو الاخر لا يعلم كيف يكون صاحب الشركة ، ولكن هذا هو الواقع :
– زى الناس ، الشركة كانت بتاعة بابا الله يرحمه ومات وأنا ورثتها هى دى الحكاية ، بس مقولتليش بتعملى إيه هنا 

رفعت سهى يدها تشير لغرفة مكتب أبيها وقالت بشعور ساحق بالخوف والخجل :
– كنت جاية أشوف بابا علشان عيزاه فى موضوع مهم 

رفع عمرو حاجبيه قائلاً:
– بجد هو مدير الشئون القانونية بالشركة يبقى باباكى 

أماءت برأسها عدة مرات ، ولكن فكرت بأنه يمكن أن يساعدها ، فهو الشاهد الوحيد على صدق حديثها ، فربما تلك الصدفة كانت بمحلها ، فبإمكانه إخبار أبيها بما حدث لها من إختطاف وإنقاذه هو لها ، وبذلك من الممكن أن يصدقها أبيها ويترك كل خططه بشأن زواجها جانباً ، فهى تريد إتمام دراستها ودخول الجامعة ، ولا تريد التفريط بأحلامها من أجل سوء تفاهم 

ضمت شفتيها لعدة ثوانِ ، ولكن سرعان ما نظرت إليه وقالت بما يشبه الرجاء :
– ممكن أطلب منك طلب ، أنت الوحيد اللى تقدر تساعدنى ، لأن بابا من ساعة ما رجعت البيت وهو مش مصدق موضوع الخطف وكمان عايز يجوزنى ومكملش دراستى ، فأنت ممكن تحكيله على الحقيقة 

فكر جدياً بمطلبها ، ولكن كيف يخبر أبيها بشأن أنه يعلم من قام بإختطافها ، وأنه متورط بأعمال غير مشروعة ، ولكن ربما هناك حل أخر ، فحدق بها وهو يقول بتفكير :
– هو ممكن أكلمه بس طبعاً مش هقوله أنا جبتك منين ولا أن أعرف اللى خطفك ، بس ممكن أقوله أن لقيتك بعد ما قدرتى تهربى وكنتى تعبانة واستضفتك فى بيتى 

حكت سهى جانب رأسها وقالت بتفكير هى الأخرى :
– بس أنا حكيت لبابا على اللى حصل بالتفصيل ، وأن اللى أنقذنى أخدنى من المكان اللى كنت فيه ، فإزاى دلوقتى هغير كلامى 

قضم عمرو جانب شفته السفلى ، بعدما إهتدى بتفكيره لذلك الحل ، الذى تبادر لذهنه ، فأشار إليها بأن تعود للمنزل ، على أن يقوم هو بحل الأمر مع أبيها ، أرادت التصميم على رأيها أنها لن ترحل قبل أن تعلم ماذا ينوى أن يفعل مع والدها ، إلا أنه أصر عليها بالرحيل مع وعده لها بأن أمورها ستسير على ما يرام

فبعد إطمئنانه لرحيلها ، عاد لمكتبه وارسل بطلب والد سهى من أجل مقابلته ، فجاءه على وجه السرعة ، ليعلم ماذا يريد منه المالك الجديد ؟

أرتخت قسمات وجه عمرو وهو يدعو والد سهى للجلوس فقال باسماً:
– أتفضل حضرتك أقعد علشان فى موضوع مهم كنت عايز أكلمك فيه 

جلس والد سهى ونظر إليه فى إنتظاره أن يقول ما لديه ، فحمحم عمرو ليجلى صوته ، فما لبث أن قال بهدوء يحُسد عليه :
– هو الموضوع أن عرفت أن عندك بنت ، والصراحة أنا شفتها قبل كده بس مكنتش أعرف أنها بنتك ، بس لما سألت عليها عرفت كل حاجة عنها ، حتى كمان فرحت أوى أنك أنت باباها ، فكنت حابب أطلب إيدها منك قولت إيه 

ظن والد سهى أن عمرو يمازحه ، ودل على ذلك ملامحه التى أكتسبت معالم الدهشة والصدمة معاً ، ولكن تلك الحالة التى أعترت والد سهى ، لم تكن شئ يذكر بجانب ما أعترى عمرو ، فكيف تقدم بمطلبه هذا ؟ وهو لا يميل لبنات حواء بالأساس ، ولكنه يعانى من التطرف بالسلوك الإنسانى والفطرة من حيث الشذوذ ، وأنه لم يكن له تجربة تذكر مع أى أنثى من قبل ، فدائماً تجاربه ما كانت تؤول للفشل ، ويعود لما كان عليه أمره ، ولكن ما جعله يأمل بأن من الممكن أن يقلع عن شذوذه ، أنه منذ مجيئه للإسكندرية وهو لم يرتكب تلك الفاحشة ، التى كان معتاداً عليها أثناء إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية ، بل أنه كان يمتلك صديق مقرب بالخفاء ، ولم يرد أن يعلم أحد بهذا الشأن ، خاصة أن من المفترض أنه شاب عربى ومسلم ، ولابد أن قيمه ودينه يمنعانه عن إرتكاب مثل تلك الفاحشة ، التى يهتز لها عرش الرحمن 
_____________
إحدى أقساط الراحة التى كان يحصل عليها عادة بيومه المتكدس بالهموم والمشكلات والأعمال ، هى عندما يجلس قريباً من حظيرة الخيول ، ويراقب تلك الصغيرة الفاتنة وهى تمتطى مُهرة خصصها لها لتكون ملكاً لها فيما بعد ، حتى أنه أطلق عليها إسم " سيجو " تيمناً باللفظ التحببى الذى يخص حفيدته ، والذى يتأكله الخوف يوماً تلو الأخر من أن يعلم ولده بما أخفاه عنه ويجده قد أختفى من حياته هو والصغيرة ، فجموح راسل يشبه جموع الجياد والتى إن روضت وعادت لجموحها ثانية ،تخرج زمام أمورها عن السيطرة ، بل وتصبح أشد خطراً على المحيطين كونها تصبح كالوحوش المفترسة ، والتى ترغب بالثأر 

رفعت سجود يدها ولوحت بها لرياض وهى تصيح منادية بسعادة :
– جدووو

تثلج صدره بإقرارها بهويته وكينونته لها ، بل ويصبح أشد الناس سعادة ، عندما يجدها تأتيه ركضاً لتلقى نفسها بين ذراعيه ، لتحصل على الدلال المتمثل بشراء ثياب أو حلوى أو أن يحاولا خداع راسل والمقيمين بالقصر بإحدى ألاعيبها الطفولية 

لوح لها هو الأخر بيده وقال رداً لنداءها :
– روح جدو 

سمع رنين هاتفه بإسم حياء ، فألتقطه بلهفة وفتحه واضعاً إياه على أذنه ، فقبل أن تقول شيئاً ، كان يبادر هو سؤالها عن ولده :
– راسل عامل إيه يا حياء ، إبنى كويس طمنينى عليكم 

أجابته حياء بهدوء :
– أطمن يا عمى إحنا كويسين وراسل مش بيغيب عن عينى ، أنا أتصلت بيك علشان أطمن على سجود 

نظر رياض لحفيدته ، التى مازالت تمتطى مُهرتها ،ورد قائلاً :
– سجود الحمد لله كويسة وبخير ، بس أنا اللى قلقان عليكم ، ومش عارف ليه وافقت أنكم تروحوا بيت أدريانو ياريتنى ما كنت وافقت ، وعلى الرغم من أن مأمن وجودكم هنا بس برضه مش مطمن لعمك ده ، لأن إبنى لو حصله حاجة ، مش هيكفينى فيه المرة دى أن أقطعه حتت وأخلى الكلاب تاكله ، لأن كفاية اللى راح منى

إستشعرت نبرة صوته الخائفة ، فهى ليست بأقل خوفاً منه ، ولكن زوجها العنيد ذو الرأس اليابس هو من صمم على الذهاب برفقتها 

فزفرت زفرات متتالية حملت على أجنحتها خوفها ، الذى لم تستطع أن تداريه وقالت بأمل :
– أمتى ينتهى الكابوس ده ونرجع البيت تانى ، أو أمتى نخلص من الخطر ده كله ونعيش مرتاحين 

– هاتى راسل وأرجعى يا حياء 
قال رياض وهو يضرب الأرض بعصاه ، فالخوف نخر قلبه وعقله ، وعلى الرغم من إتخاذه كافة الإجراءات اللازمة ، لتأمين وجود راسل وحياء ببيت أدريانو ، إلا أن عاطفة الأبوة لديه ، صارت تجعله يتخيل أبشع الأمور وأسوءها ، فيكفى فاجعته الأولى بموت ولده الأكبر ، فهو ليس على إستعداد لخسارة إبنه الثانى 

وكأن جملته زرعت بها العزم فجأة ، فردت قائلة بإصرار :
– حاضر يا عمى هجيبه وأرجع هخلص مهمتى ونرجع على طول 

أنهت حياء المكالمة مع والد زوجها ، وأغلقت صنبور الماء ، فالمكان الوحيد الذى تأمن بالحديث به مع والد زوجها هو المرحاض ، فبإمكانها أن تتذرع بحجة أنها تغتسل ، كخروجها الآن وهى ترتدى مأزر الحمام وتعقص شعرها بمنشفة صغيرة ، فبحثت عن زوجها الذى تركته نائماً أثناء دخولها ، وجن جنونها لعدم رؤيته بالفراش 

– أنت روحت فين يا راسل 
 قالتها بخوف وأقتربت من السرير وأزاحت الأغطية ، فوضعت يدها على فمها وهى تكتم صوت صرختها ، وهى ترى تلك البقع من الدماء تغطى الملأة البيضاء ، فلو ذبحها أحد الآن لن يجد بعروقها نقطة دم واحدة ، فالدماء نضبت وجفت من جسدها فجأة ، بل شحب وجهها على الفور ، خاصة وهى تتبع أثر الدماء على الأرض ، والذى يبدو أنه لن ينتهى ، إلا عندما تبلغ باب الغرفة ، فبوصولها للباب فتحته ، ووجدت أدريانو يقف أمام الباب وهو يبتسم أبشع إبتسامة يمكن أن تراها فى حياتها بأسرها ، فصدمة تلك الأفكار ، التى تدور بعقلها ألجمت لسانها ، بل كأنها أخرستها للأبد ، فدارت الدنيا من حولها ولم تعد ترى سوى هوة سوداء تبتلعها ، تتمنى أن لا تخرج منها وترى ما رفضت تصديقه صار حقيقة واقعة لا محالة 
______________
تلك الورقة التى تحملها بين يديها ، كانت الدليل القاطع على أنها تحمل الآن بأحشاءها جنيناً ، ضمن إحدى منح الله لها ، ثمرة عشقها لزوجها ، والذى وصلت الأمور بينهما الآن ، لتشييد جدران من البرودة والجفاء ، فهى لم يكن لديها الوقت الكافى لتنعم بعشقه الدافئ ، فحتى عندما أرادت أن تتحداه ، صار الحال للأسوء كحالهما الآن ، فعلى الرغم من تركها باب غرفتها موارباً كل ليلة ، كأنها تمهد الطريق له بأنه مرحب بعودته إليها ، إلا أنه كأنه زهد بقربها فجأة ، وكان ذلك أدعى لأن يسكنها الشك من أن يكون حديثه الذى قاله أثناء غضبه جدياً ، وأنه الآن يمتلك زوجة أخرى 

سمعت حركة بالغرفة المجاورة ، والتى لم يكن يفصلها عن غرفتها سوى باب ، كانت توصده هى كل ليلة قبل خلودها للنوم ، ولكن الليلة أرادت الحديث معه بشأن ذلك الطفل ، الذى سيرزقان به بعد بضعة أشهر ، فأندفعت ناحية الباب وأدارت المفتاح بالمقبض وفتحت الباب بدون طرقه 

خطت عدة خطوات حتى صارت تقف بمنتصف الغرفة ، ولكنها لم ترى له أثر ، فنادته بإلحاح :
– عمران عمران 

خرج عمران من المرحاض وهو يجفف رأسه ، فأزاح المنشفة عن وجهه ورأسه ، فنظر لها قائلاً ببرود :
– نعم ، هى المدام مشرفانى بالزيارة ليه 

بعد أن قال عبارته ، عاد يجفف عنقه وصدره من بقايا قطرات الماء العالقة بهما بعد إغتساله ، ولكن كأن الجو أصبح مشحون بشحنات كهربائية ، جعلتها تشعر بإرتعاش أطرافها ، وهى تتأمل ما حُرمت منه بالأيام الماضية، فإبتسم هو لعلمه بما يدور برأسها الجميل ، والذى أتضح أنه صلب ولا يلين ، وربما ذلك عائد لتلك الصفات السائدة بعائلتها ، فجميعهم يمتازون بالعناد والكبرياء 

فحركة بؤبؤ عينيها ، دلت على أنها تبحث عن شئ أخر يخرجها من تلك الحالة من الضعف التى أصابتها ، ولكن هو لم يمهلها فرصة ، إذ أقترب منها فجأة مشدداً من حصاره حولها ، إلا أن حالة قوية من الغثيان أنتابتها ، خاصة بعد إستنشاقها تلك الروائح العطرية التى تفوح منه بعد الإستحمام 

فتخبطت بين ذراعيه ، لعله يطلق سراحها ، قبل أن تفرغ ما بمعدتها عليه ، فوضعت يدها على فمها وهى تقول :
– عمران إبعد إبعد 

وصلت بالأخير لأن تدفعه عنها حتى كاد يترنح بوقفته ، وركضت للمرحاض ، فبعد أن أنتهت من القئ ، خرجت تجفف وجهها بالمنشفة 

فأنكمشت ملامح وجهها وهى تقول بدون أن تعى قولها :
– ريحتك مقرفة أوى يا عمران 

إستشاط غضباً وجن جنونه من قولها ، فصرخ بها بصوت جهورى :
– أنا ريحتى مقرفة يا بنت النعمانى ، الظاهر أن سكتلك كتير أوى 

بدون أن يعى ما يفعل ، كان حاملاً إياها وألقاها على الفراش بعنف مستأنفاً :
– أنا هوريكى قلة أدبك دى

عنفه المفاجئ وإلقاءه لها على الفراش جعلها تشعر بألم شديد بظهرها ، فقطبت جبينها وقبل أن تقول شيئاً ، كان يشن هجومه عليها ، كوحش جائع ووجد فريسته بالأخير ، حاولت الصراخ أو أن تقول ما لديها وتخبره بأنها الآن تحمل طفله ، إلا أنها كلما حاولت إخباره يخرسها ويجعلها تبتلع كلماتها بجوفها ، فأصابها الإنهاك والتعب من شراسته وهمجيته ، التى لم تكن تتخيلها بأسوء حالاتهما ، كأنهما إثنان بحلبة للمصارعة ولكن أحد الخصمان ، كان لديه العزم والتصميم على النيل من الأخر 

فآلام بطنها زادت عن حدها ، وصرخت ميس صرخة مدوية ، ولم ينتبه عمران لما يفعله ، إلا عندما وجد الدماء تغطى ساقيها 

فصُدم عمران لما يراه ، وحالتها المزرية التى أصبحت عليها ، بل صارت تتلوى بالفراش وهى ممسكة ببطنها وتصرخ وتبكى بأن واحد :
– إاابنى يا عمران إبنى 

أدرك الآن خطأه الفادح ، فنظر إليها بوجه شاحب متسائلاً:
– ميس هو أنتى حامل ؟

دفنت وجهها بالوسادة من الألم وهى تبكى وتصرخ :
– أااااااااه 

لم ينتظر دقيقة أخرى ، إذ أرتدى ما قابله من ثيابه التى عاد بها من عمله ، ودثرها بالملأة وحملها وهرول من الغرفة بدون أن ينتعل حذاء ، فتساقطت دموعه وهو يلعن نفسه على غباءه ، الذى جعله يفعل ذلك بزوجته ، بل تسبب أيضاً بخسرانها لطفلهما 

رآه معتصم وولاء الجالسان بالصالة ، ففزعت ولاء من المشهد الذى تراه ، وقالت بخوف :
– إيه الدم ده ميس مالها 

لم يكن لديه الوقت الكافى للرد ، إذ تجاوزهما وخرج حتى وصل لسيارته ، فتبعه معتصم وولاء ، حتى وصلا للمشفى ، وقف عمران بالخارج مع شقيقه معتصم وزوجته ، لحين خروج الطبيب 

فقبض معتصم على كتف عمران محاولاً تهدئته :
– إهدى يا عمران إن شاء الله خير بس هو إيه اللى حصل لميس

صمت عمران فهو ليس لديه ما يقوله ، فهل يخبر شقيقه ، أنه إعتدى على زوجته بهمجية ؟ فما انقذه سوى خروج الطبيب ، الذى أقترب منه بلهفة متسائلاً:
– هى عاملة إيه دلوقتى يا دكتور 

رد الطبيب قائلاً بمهنية وآسف:
– هى المدام كويسة وممكن شوية وتدخلوا تشوفوها بس للأسف خسرت الجنين حصل إجهاض ، بس إيه اللى حصل لكده 

إرتطم ظهر عمران بالجدار بعد سماع الطبيب يقر بتلك الحقيقة التى أراد أن يكون مخطئاً بشأنها ، فولاء ومعتصم أصابهما الصدمة مما سمعاه ، ولكن لم يجرؤ أحد على قول كلمة واحدة 

فبعد علمه بأمر إفاقتها ولج للغرفة وقدماه ترتعشان ، فما أن وقع بصرها عليه حتى صرخت بصوت جهورى مقهور، على الرغم من شعورها بالوهن والضعف:
– أطلع براااااا ، مش عايزة أشوف وشك أنت اللى قتلت إبنى قتلته قتلته 

على حين غرة ، أقترب من فراشها وانحنى إليها باكياً وهو يمسد على رأسها :
– أنا أسف يا حبيبتى بس ليه مقولتليش ليه يا ميس

تتابعت شهقاتها وهى تقول بصوت ملتاع :
– أنت أديتنى فرصة أتكلم ، طلعت حيوان يا عمران وأنا مش عايزة أشوف وشك تانى أخرج برا 

تساقط دموعه على جبينها وهو ينحنى مقبلاً لرأسها ، ولكن دفعته بيديها المرتجفتين ، فإستجاب لرجائها بأن يتركها ، ولا يجعلها ترى وجهه خاصة بذلك الوقت ، وخرج من الغرفة وطلب من زوجة شقيقه أن تلازمها حتى تستعيد عافيتها ، بينما هو سار بخطوات شاردة برواق المشفى ، يرى أن فعلته تلك حتماً ستخلق فجوة كبيرة بينه وبين ميس ، فما أن وصل لسيارته وأستقلها ، حتى ظل يضرب بيديه على المقود ، وهو يسب ويلعن نفسه ، على قطعه لذلك الخيط الدقيق ، الذى كان سيعزز علاقته بزوجته
_____________
إستدعاء والد زوجته له جاء ضمن تلك الخطط التى وضعها ، بأن يقيم لهما بالبدء حفل زفاف ضخم يشهد عليه المجتمع المخملى بالإسكندرية ، وقضاء عطلة بإحدى الدول الأوروبية التى لم يطأها بقدميه من قبل ، فلبى دعوته التى حملتها له الخادمة ، فبعد سماعه بحقيقة أمر والد زوجته ، وهو صار يتجنب الجلوس معهما معللاً ذلك بإصابته بألام الرأس ، كونه يفكر كثيراً بعودته المرتقبة للأقصر وأصطحابه لهند معه ، فلم تظهر له خالته وزوجها سوى السعادة والترحيب بقراره 

ولج غرفة النوم الخاصة بزوج خالته بعد طرقه للباب ومنحه الإذن بالدخول ، فقال بأدب جم :
– أيوة يا عمى حضرتك كنت عاوزنى 

أشار له بالجلوس وهو يقول بحبور :
– أيوة يا كرم كنت عايزك فى موضوع ضرورى

جلس كرم وهو يدعى الجهل ، فقطب حاجبيه متسائلاً :
– خير يا عمى أتفضل قول 

سحب من أسفل وسادته تذاكر الطيران الخاصة به وبهند ، فناولهما له وقال باسماً:
– دى تذاكر علشان تقضوا شهر العسل ، وكمان هعملكم فرح أنت عارف معنديش غير هند وعايز أفرح بيها فأرجوك يا كرم مترفضش عرضى ده ، ولما ترجعوا أبقى أعمل اللى يعجبك واللى أنت مخططله ، أنا كل اللى يهمنى سعادة بنتى وطالما سعادتها معاك أكيد أنا هبقى مبسوط وسعيد 

أخذ كرم من يده التذاكر بهدوء ، فحاول الإبتسام قائلاً :
– كل اللى أنت عايزه يا عمى أنا تحت أمرك 

تهلل وجه زوج خالته بسماع موافقته على حديثه ، فشد على يده بسعادة وقال :
– حيث كده أنت دلوقتى تروح تختارلك بدلة للفرح علشان هعملكم الفرح بكرة هنا فى الجنينة وكل حاجة هتكون جاهزة متشيلش هم حاجة خالص

أماء كرم برأسه طواعية على قوله ، فخرج من الغرفة مع تركه وعداً له بأن يذهب الآن لإنتقاء حُلة مناسبة لحفل الزفاف ، الذى سيقام بالغد 

أثناء سيره شارداً إصطدم بهند ، التى يبدو عليها أنها عادت من الخارج ، تسير خلفها الخادمة تحمل عدة حقائب ، فشعرت الخادمة بالخجل وهى ترى سيدتها الصغيرة ، بين ذراعى زوجها ولا تنتوى الفكاك من تلاحمهما ، فصعدت هى الدرج لتضع الحقائب بغرفتها 

شعرت هند بشروده ، خاصة وأنه يرمقها بصمت ، ولكن عيناه كأن بداخلها ألف سؤال ، فسحبت يديها من على كتفه ، وارتدت خطوة للخلف ، مما جعله يحل ذراعيه من حول خصرها 

فقالت وهى ترمقه بقلق :
– مالك يا كرم ، فى حاجة يا حبيبى 

حرك كرم رأسه نافياً ، فتبسم بدون مرح وهو يرفع تذاكر الطيران أمام وجهها :
– باباكى أدانى التذاكر دى وكمان قالى أنه عملنا فرح بكرة 

وضعت يديها على صدره ، وتألقت عيناها ببريق البهجة والسرور:
– إيه رأيك فى المفاجئة دى حلوة مش كده

– حلوة أوى يا هند
قالها كرم بصوت خالى من الدفء ، فلم يشأ أن تسأله عن شئ أخر ، إذ اخبرها بشأن خروجه لشراء ثياب من أجل حفل الزفاف ، بل وأنه سيبيت ليلته تلك بشقته القديمة ، فبعد إلحاحه وافقت ، فبالغد سيصبح لها ما تبقى له من عمره 

فباليوم التالى مساءاً وبحديقة المنزل الشاسعة ، كان يقام حفل الزفاف ، الذى أصر والدها أن يضم نخبة كبيرة من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ والسلطان 

ولجت والدتها الغرفة وصوتها يصدح بالزغاريد ، فأخصائية التجميل أنهت عملها على أكمل وجه وتركت هند بأجمل طلة لعروس بليلة زفافها 

فقفزت هند بسعادة وأحتضت والدتها وهى تردد :
– أنا مش مصدقة يا ماما أن النهاردة هتجوز أنا وكرم تانى والمرة دى بجد وهيبقى جوزى وحبيبى ، هو وصل تحت ولا لسه

قبلتها والدتها على وجنتيها وهى تردد عبارات التهنئة :
– مليون مبروك يا حبيبتى وربنا يرزقكم السعادة يارب ، لاء زمانه على وصول

تلفتت هند حولها لتبحث عن هاتفها ، فوجدته على الفراش ، أخذته لتهاتف كرم وتحثه على الإسراع ، فهى بأوج شوقها لرؤيته ، على الرغم من أنه لم يمر سوى يوم واحد على عدم رؤيتها له

وضعت الهاتف على أذنها ولكن جاءها الرد بأن الهاتف مغلق ، فأعادت الكرة مراراً وتكراراً ، حتى إستبد بها القلق ، فنظرت لوالدتها ، وعادت لتحاول الإتصال به مرة أخرى 

أخذت والدتها يدها بين كفيها وقالت :
– إن شاء الله خير يا حبيبتى وتلاقى تليفونه فاصل شحن ولا حاجة أنا هنزل لباباكى يبعت حد يشوفه أتأخر ليه 

خرجت والدتها من الغرفة ، بينما هى جلست على طرف فراشها ، وضعت يدها موضع قلبها ، لعلها تخفف من وطأة تلك الخفقات المؤلمة التى تشعر بها ، فشعور الخوف أكتسح كل خلاياها ، بل عيناها باتت تهدد بسقوط دموعها ، فأين هو الآن ؟ ولما هاتفه مغلق ؟ أو لما أصر على المبيت بشقته ؟
فكل تلك الأسئلة تريد إجابات شافية وكافية ، لعلها تدرأ عنها وساوس الشيطان ، التى بدأت تنخر بقلبها وعقلها 
_____________
برودة مفاجئة أصابته وهو جالساً بإنتظار سماع الإعلان عن رحلته الجوية ، فكأن كل شئ حوله أصبح صامتاً ، لا يسمع سوى أنين ذلك الذى يكتنفه بين أضلعه ، ولكن لم يعد هناك قرار للعودة ، فإتخاذه القرار بالرحيل ، إستلزمه طاقة وجهد كبير على مقاومة روحه المشتاقة والملتاعة لقربها ، ولكن عقله أكتفى من كل شئ ، ولم يعد يملك الطاقة أو الصبر لتحمل المزيد 

رفع كف يده الأيسر أمام وجهه ، وحدق بخاتم زواجه الفضى ، الذى ألتمع بضوء الإنارة الخافت داخل مقصورة الركاب بالطائرة ، التى صعد على متنها منذ عشر دقائق ، ولم يفعل شئ سوى التحديق بكفه الأيسر ، فهو الأن بصدد الذهاب لبلاد الضباب ، ذهاب إلى أجل غير مسمى

حرك الخاتم حول إصبعه حتى وصل به إلى طرف بنصره ، فأسقطه بكف يده الأيمن وقال بألم وأنين العالم أجمع :
– سلام يا أحلى ما فى العمر وأمر ما فيه ، وأجمل كدبة عشتها 

قبض على الخاتم بكف يده ، وسرعان ما وضعه بجيب سترته ، فالمضيفة بدأت بإلقاء التعليمات الواجب عليهما الإلتزام بها أثناء الإقلاع ، وما كادت تمر لحظات ، حتى شعر بتحرك الطائرة ، فأغلق عينيه يمنع تسرب أدمعه 

أنتهى كل شئ ، وصار الأن محلقاً بين السماء والأرض ، فنظر من النافذة وهو يرى معالم الحضارة من مبانى سكنية وغيرها تتلاشى تباعاً ، كتلاشى أحلامه وما تبقى له من أمنيات، كأرض ظن أن الربيع حل عليها ببهاءه ، فإجتاحها الخريف فجأة وأسقط أوراق أحلامه من على أغصان أمنياته ، التى لم يظن أنها ستكون صعبة المنال ، فالحياة تعانده وتحرضه على القتال والكفاح ، ولكن هو من ألقى أسلحته مبكراً وأعلن راية الهزيمة 


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close