رواية فرط الحب الفصل الخامس والعشرون25 والسادس والعشرون26 بقلم دينا ابراهيم
جلس بيجاد في منزله يشاهد التلفاز في تركيز يحاول الاسترخاء قليلًا بعد يوم عمل شاق، فخرجت وسام المغتاظة بخطوات هوجاء من المطبخ بصحن من الفشار تضعه في حده اكثر من اللازم فوق صدره دون حديث.
رمقها نظرة متعجبة قبل أن يتجاهل الأمر ويعاود مشاهدة التلفاز، انشغل فمه بالفشار إلى أن اتاه صوت تنهيدتها العالية، ضاق طرف عينه ولكنه قاوم النظر نحوها، عاودت التنهد بشكل أعلى حاد تلك المرة فوضع الصحن فوق الطاولة أمامه قبل أن يعتدل في جلسته ناظرًا نحوها متسائلًا:
-مالك؟
-ماليش...
ارتفع حاجبه وقلبه ينذره بفخ في الطريق فحرك أصبعه امام وجهه في خفة هامسًا:
-انجزي واتكلمي وفكك من النكد.
رمقته بحده قبل أن تعتدل نحوه في حزم مطالبة:
-انا عايزة أروح معاك للدكتور زي أي ست حامل عشان أنا من حقي أعرف نوع المولود أيه وانت جنبي،
أنا كنت بأجل بقالي كتير بس خلاص أنا بقيت في السابع.
عاد جسد بيجاد للخلف ثم استطرد في لهجة مستغربة عدائيتها الزائد:
-طيب.
-طيب؟
سألت في حالة من الغباء غير قادرة على تصديق سهولة موافقته فحرك بيجاد رأسه في حركة خفيفة راضية ثم عاد لمشاهدة الشاشة مؤكدًا:
-أيوة شوفي المعاد امتى وهنروح.
أخذت جفونها تنفتح وتنغلق عدة مرات تحاول استيعاب هدوءه ورضوخه الغاية في السلاسة خاصة وقد امتنعا عن الذهاب للمتابعة بسبب حالة من حالات غضبه الهوجاء وتهجمه على زوج حالة غليظ متعجرف كان يريد تخطي دورهم وحظه التعس اوقعه مع زوجها الغاضب، والنتيجة انتهاء الأمر بشجار صاخب بين الطرفين نتج عنه قرارهما بعدم الذهاب للمتابعة سويًا مطلقًا.
-أيه ده إنت مش هتتعصب؟
تنهد فاقد الأمل في متابعة التلفاز فمد ذراعه يجذب جهاز التحكم مغلقًا إياه ثم استقام يمط جسده في بطء متعمد مشاكستها وكأنه لديه وقت العالم كله وكأنها لا تجلس تشاهده في ترقب طفيف وشفتيها ممطوطه في حنق لعدم إجابته.
-أنا بكلمك على فكرة.
قالت وسام معترضة وهي تقف قبالته فالتفت في ملل ينظر إليها قبل أن تتسع عيناه في ذعر مطالعًا نقطة خلف ظهرها، استدارت وسام في ذعر لترى ما خلفها لكنها صرخت حين شعرت بذراعين غليظين يلفان جسدها في خفة ليحملها بيجاد الضاحك وسط صرخات اعتراضها:
-كان ممكن أموت، قولتلك مية مرة بطل تخضني وأنا حامل هتسقطني.
-يا وسام فوقي أنتي في الشهر السابع يعني لما اخضك هولدك وهوفر عليكي شهرين.
تحرك بها نحو غرفتهم فتمتمت وسام في نبرة منزعجة:
-مش عايزة أنام أنا!
-ومين قال اننا هنام؟
رمقها بعيونه المشاغبة غامزًا وكادت تُحبط أماله حين اوقفها رنين هاتف بيجاد الموجود بين ثنايا سرواله البيتي فمطت ذراعها، وهي لا تزال بين أحضانه تعبث في طيات ملابسه حتى جذبت الهاتف محركة شفاها للجانب في ضيق وهي ترى اسم رشاد فقالت في نبرتها الساخرة:
-صاحبك اللي بيظبطلكم البنات....
اتسعت ابتسامته مظهرًا كامل اسنانه ثم قال في اعتيادية متعمد إغاظتها:
-أيه بقيتي بتغيري من الرجالة كمان؟
-لا يا حبيبي أنا مش بغير، أنا سيباك براحتك رايح جاي ومبتكلمش لما نشوف اخرتها...
كان وجهها أحمر من شدة غيرتها المشتعلة فدوت ضحكته المستفزة أثناء وضعه لها فوق الفراش قائلًا في غلاظة:
-هتموتي وتعرفي بروح فين!
-اه هموت وأعرف!
هكدب ليه انا ست زي كل الستات وعايزة افهم جوزي بيروح فين.
-ما انتي لو ست واعية كنتي عرفتي ازاي تضحكي عليه وتحتويه.
حرك بيجاد حاجبيه مقلدًا طريقة والدتها المحببة لقلبه فانفجرت ضاحكة لكنها تمالك ضحكاتها متمسكة بعضبها موبخه:
-متغيرش الموضوع، بجد يا بيجاد قولي بتروح فين؟
انصاع للتوسل في عيناها متنهدًا في استسلام قبل أن يعتدل بجوارها جاذبًا إياها في أحضانه متعجب من ذلك التوتر الذي يمتلك جوارحه كلما قرر مصارحتها فهناك جانب مظلم خفي داخله يحذره بانها قد تعايره في يوم من الأيام وقت شجارهم بعلاجه، أبعد تلك الأفكار الحارقة مقررًا مصارحتها بما كان يأجله للوقت المناسب:
-عايزه تعرفي انا بروح فين كل يوم؟
هزت رأسها بأعين متسعة لامعة بالفضول فأجابها في غموض وكأنه يستشعر رد فعلها:
-أنا بحضر اجتماعات نفسية.
ارتفع حاجبيها بعدم فهم فاستكمل في توتر:
-ساعات بيسموها دوائر التشافي مجرد حاجة تحفيزية متفتكريش اني مريض مفسي مثلا او اني...
قاطعته وسام سريعًا ما ان وصلتها نبرة الحرج في صوته الرجولي وكأنه خجل من حضوره ومُحاربته:
-بجد يا بيجاد؟
والموضوع جايب نتيجة مع العصبية، أقصد حاسس بالفرق؟
سألته وهي تمسك بأصابعه في فخر فتنفس الصعداء قائلًا في حيرة وتعجب:
-المفروض انتي اللي تقوليلي،
حاسة اني اتغيرت ولا لا؟
هزت رأسها بالموافقة ثم ضمته نحوها واضعة رأسها على كتفه هامسة:
-قد ايه انا غبية، انت فعلا اتحسنت انت تقريبا معملتش اي خناقه الايام اللي فاتت الا مع سواق التاكسي البارد من يومين،
اه وعصبيتك الزايدة مع ريم وكلامك السم.
رمش بيجاد قبل ان يخبرها في نبرة ساخرة محبطة:
-لا واضح اني اتغيرت فعلًا.
عضت شفتيها في حرج لتسأل بابتسامه مشرقة:
-وبتعمل أيه هناك ولا بتقولوا أيه؟
-كلام .. بنتعلم من تجارب بعض...
ابتسمت في رضا تحاول كبح فضولها كي لا تزيد من ضغطه، قبل أن تختفي تلك الابتسامة تدريجيًا من على وجهها قائلة في لهجة متوجسة:
-الاجتماعات دي لو فيها ستات، انا هقطع شعرهم في ايدي واكل دراعك ده بسناني.
اتسعت أعين بيجاد في ذهول للعنف الصريح المتجسد داخل مقلتيها، لكنه ابتسم مجيلًا في لهجة متهكمة:
-أنتي بقيتي عنيفة ليه كده، داهية لتكوني عندك مشاكل محتاجة تعالجيها...
ضاقت عيناها متقبلة القائه باتهاماتها السابقة في وجهها لكنها لن تنكر سعادتها ورضاها بالحالة التي وصل لها زوجها، متأكدة انه قد تكبد العناء من أجلها هي فهمست في خجل:
-انت لسه زعلان مني بسبب العبط اللي كنت بعمله معاك؟
انكمشت ملامحه يعكس تفكيره قبل أن يسألها في غموض مرح:
-قصدك بالعبط ... فوبيا الخوف من القادم ومنهج (وقوع البلاء ولا انتظاره) اللي كنتي بتجربي عليا زي فيران التجارب،
ولا قصدك الأسلوب السخيف اللي كنتي بتستخدمي معايا عشان تثبتي لنفسك ان كلام ابوكي عني صح؟
نظر لها في جمود ونبرته تحمل من العتاب واللوم الكثير، فابتلعت وسام ريقها في خجل عندما تعلقت عيناه بها في صمت يحدجها بنظرات ذات معنى قبل أن يمنحها ابتسامه صغيرة صادقة مستطردً:
-لا مش زعلان.
-اومال لو زعلان.
غمغمت مغتاظة من كلماته التي جعلتها غارقة في جلد الذات لأنها وضعت زوجها وسط ضغط نفسي كبير دون قصد، انتبهت إلى بيجاد الذي رفع ذقنها نحوه قبل يعتدل ممسكًا بكفيها ولاحظت هروبه من نظراتها بخفض عيناه وكأنه يخشى النظر لها ثم سأل في لهجة التقطت منها الخجل وخيبة الأمل:
-أنا عايز اعتذرلك على اللي حصل مني يوم الخناقة، صدقيني لو كنت اتخيلت اني همد ايدي عليكي كنت قطعتها بنفسي.
رفعت كفها توقف كلماته بأغلاق فمه قائلة في نبرة منخفضة لكنها نابعة من القلب:
-انا مش حابة تفكر في الموضوع ده لا أنا ولا أنت، خلينا واقعين أنت غلطت وأنا غلطت ....
احنا مش محتاجين عتاب عشان نزود محبتنا في قلوب بعض، انت مكانك في قلبي مفيش حاجة في الدنيا تقدر تزحزحه.
أبعدت يدها تنظر للناحية الأخرى في خجل قبل أن تعيد رأسها للنظر نحوه في اللحظة التالية سائلة بحاجبين مرفوعين وعيون متسعة في توجس:
-تفتكر دي الهرمونات ولا أنا اللي عقلت فعلًا.
أغمض بيجاد عيناه ضاحكًا وقد نجحت في سد ثغرة كبيرة داخل صدره بكلماتها، لكنه تجاهل محاولاتها لتخفيف الموقف وإخفاء توترها وقربها منه مقبلًا رأسها قائلًا:
-أنا موافقك في كل كلمه، بس هقولك أنا أسف مش عشانك بس لا عشان أريح قلبي.
تمايلت برأسها لليمين واليسار في خفة وكأنها توزن كلماته قبل ان ترتفع بجسدها كي تقبل رأسه هي الأخرى هامسة أمام وجهة:
-وأنا كمان أسفة، وهتصدق لو قولت انه مبقاش يفرق معايا تتغير ما تتغيرش أو تتأسف ما تتأسفش؟
المهم ان اخر اليوم أنا هكون هنا بين ايديك وفي حضنك جوا قلبك.
-يا وعدي على الحب والدلال .. أموت أنا..
قال بيجاد ضاحكًا ضحكته الرجولية المميزة قبل أن يعانقها وهي تمانعه في خجل فأبعدها عنه في لحظه كالملسوع هامسًا في صدمة:
-أيه ده وسام ... أنتي بتتكسفي؟
خرجت انفاسه وضحكاته الهاربة في قسوة حين دفعت بالوسادة في وجهه قائلة في اهتياج:
-قوم من وشي...يا غتت....
أمسك أصابعها التي تحاول صفعه ليلثمها في بطء شديد في فمه، حاولت التمنع عنه ولكنه شد فوق معصميها هامسًا بين قبلاته الحانية:
-بحبك يا مجنونة...
مطت شفتيها تمتنع عن إجابته بالمثل فارتفع حاجبه محذرًا:
-هتندمي..!
-مش هقولك بردو هاه...
قالت في دلال وغيظ وهي تجذب معصميها لينقض عليها معتصرًا إياها بين ذراعيه غير مبالي بصراخها المحذر خوفًا على بطنها المنتفخة مقبلًا جانب عنقها مطالبًا في مرح:
-قولي بحبك...
حركت رأسها في رفض وعناد رغم الابتسامة الطفيفة التي تفضح مشاعر الرضا على وجهها، فعض بيجاد أعلى كتفها في تحذير مطالبًا من جديد:
-قولي بحبك يا بت بدل ما أروح اندهلك أمك تعدلك من أول وجديد...
حدجته بنظرات قاتلة وكادت تمطره بوابل من الشتائم لكنه نجح في ابتلاع كلماتها المغتاظة بين شفتيه الغليظة في قبلة طويلة متقلبه أسرت الدماء في عروقه وامتصت من زوجته القدرة على التمرد أو الرفض، ابتعد عنها مقدار شعره هامسًا أمام شفتيها:
-بحبك...
-وأنا كمان بحبك ...
لمعت عيونه في سعادة كالتي عكستها عيونها الرائعة الخلابة، لكنها أغمضت جفونها في استسلام حين مال يقبل جبينها في محبة منتقلًا على وجهها بقبلات خفيفة سلبتها صوابها وأشعلت لهفتها.
لمعت عيناه في نصر حين انفرجت عيناها المنتظرة في شوق قبل ان يختطف أنفاسها منتقلًا بها إلى عالم أخر السلطة داخله مُنقلبه الموازين .... فيه القلب هو الحاكم والعاشق هو المحكوم....
*****
أما في عالم الواقع الموازي كان أحمد يجرر ساقيه كالمغيب في الطرقات ناسيًا إنه ترك سيارته مركونة أمام المبنى الخاص بعيادة الطبيب الذي خرج من عيادته للتو مثقلًا بالهموم في خضم الصدمات المتتالية التي تلاقاه في مقتل اليوم.
لا يدري كيف وصل ومتى لكنه وجد نفسه جالسًا متربعًا داخل جزيرة وسط الطريق والفجر على وشك البزوغ، لامس بأنامله النباتات الرطبة أمامه وذهنه منشغل بكل كلمة خرجت من الطبيب.
شعر بخمول وتبلد بل أسوأ يشعر بالنقص والغباء والإهمال... يشعر بأن والده قد نجح أخيرًا في سرقه أدميته فهو ذاته لم يحترمها واختار الانسياق كالحيوان خلف رجل ظالم في ضعف وخضوع بل تمادى في أخطاءه بالانسياق خلف أوهامه عن الهروب.
نظر للخلاء من حوله متعجبًا شعوره بالاختناق كمن علق في أتوبيس عام وقت الظهيرة بين جموع الموظفين، استقام في إرهاق شديد وقد انزاحت ضبابية أفكاره نوعًا ما يبحث عن سيارته كي يعود لمنزله التي تسكنه مشعوذة بعثرت مشاعره المضطربة فصار أشد اضطرابًا بعد أن أجبرت قلبه على الضرب فوق جدران سجن نسجه بخيوط أوهامه ومخاوفه.
وجد نفسه يركض في تيه ولهفة لا يطيق الصبر والانتظار حتى يصل إليها ويحتمي بهالتها المحاربة.
*****
-الرقم الذي تحاول الاتصال به مغلق أو غير متاح ....
ضغطت ليان فوق الشاشة في عنف مغلقه المكالمة قبل أن تجفف دموعها المنهمرة ثم عادت تنظر إلى شاشة هاتفها المشيرة إلى أن الوقت قد تعدى الرابعة فجرًا مقررة عدم الانتظار أكتر والتصرف.
بالتأكيد تغاضت عن فكرة الاتصال بأخويها وطلب المساعدة فماذا ستخبرهم؟
ان زوجها أحمد الذين لا يكرهون أكثر منه في الحياة خرج من المنزل ولم يعد؟!
لا ستعتمد على حدسها تلك المرة فهي ستوقف سيارة أجرة وتبدأ بحثها من المتجر فلا بد إنه قابع في ظلام مخزنه الموحش،
دلفت تعبث بالأكياس التي أحضرتها دعاء العاملة في متجر الملابس الخاص به بعد يومين من زواجهما، بناءً على طلب أحمد الذي أشفق عليها أو ربما هو فقط سئم استعارتها المستمرة لملابسه، كانت تحاول إيجاد ما يمكن ارتداءه حين سمعت باب المنزل ينغلق في هدوء.
اتسعت أعينها ملقيه ما بيدها راكضة للخارج في لهفة فوجدته يستقر فوق الأريكة بينما يميل للطاولة يضع أغراضه في إهمال قبل ان يدفن وجهه بين كفيه في تعب يظهر على أكتافه المتشنجة.
ركضت ليان نحوه هاتفة في اعتراض:
-انا كنت نازلة أدور عليك من كتر القلق، أنت ليه اناني كده ومش بتفكر غير في نفسك،
رد عليا مفكرتش ان في كلبة في البيت هتتجنن عليك لأن أنا حرفيًا مبقاش ليا حد غيرك في الدنيا ومش بمزاجي!،
ما تنطق كنت فين كل ده؟
رفع كفيه من على وجهه وعبارتها الصريحة " مبقاش ليا حد غيرك في الدنيا" تعيد نفسها في ذهنه دون رحمة بحاله التخبط الذي وصل لها، رفع ذراعه يجذبها في لطف لتجلس إلي جواره قائلًا بصوت خشن لعدم خروجه منذ مدة:
-هقولك كل حاجة.
تنهد وهو يعود بذاكرته إلى وقت جلوسه كالتلميذ المشاغب المنتظر عقابه أمام كرسي الطبيب .....
***
-ايوة طبعًا مؤثر يا فندم وتأثيره مختلف حسب طبيعه جسمك، أنا مش هقدر افيدك بشكل كامل غير لما نعمل شوية تحاليل....
لكن اللي أقدر أقوله من الكشف ان حضرتك مش بتعاني من أي مشكلة عضوية.
بلل أحمد المصدوم شفتيه دون جدوى فحلقه جاف كمن حُرم من الماء منذ أيام، تعجب الطبيب لصمته الذي طال وتشنجه الواضح فسأل في مهنية بلمحه من الاهتمام:
-حضرتك متوتر ليه، احنا شباب زي بعض اعتبرني صديقك وحاولي تحكي كل حاجة بالتفصيل عشان أقدر ابني صورة واضحة عن أبعاد المشكلة.
حرك أحمد رأسه في توتر فقد كانت المرة الأولى التي يدلف فيها إلى طبيب، بعد أن كابر كأي رجل شرقي يعيش وسط مجتمع حازم متنمر وحارب كي يتجاهل ما أصابه فكان يعتقد بانه ان تجاهل الوضع سيختفي.
يعترف بانه كان يخشى الاعتراف لأحد بما حدث بل كان يخشى الاعتراف بالأمر أو تذكره حتى أمام نفسه....
لكنه فعلها مرة حين فقد السيطرة على مشاعره أمام ريم التي التقطت الأمر بسبب رفضه القاطع لفكرة الزواج ليستسلم في لحظة ضعف ويعترف لها بما يخشاه.
حرك فمه ليسرد عليه في بطء وتأني تفاصيل حياته شارحًا ضغوطاته التي تعرض لها منذ كان طفل ووقت صباه حين كان مراهقًا لم يصل سن الرشد فقد وجد الأمر ضروريًا لتبرير موافقته على تناول الدواء الذي اقترحه عليه صديقه في هذا الوقت، لينتهي أخيرًا بسرد الموقف القبيح الذي سلبه رجولته وجعله غير قادر على تقبل الأمر أو الإفصاح عنه لأيًا كان.
حرك الطبيب رأسه في تأني وتركيز يحاول منع ملامح اشمئزازه من الظهور على وجهه لوجود ذوي على هذه الدرجة من الغباء فلا يحتاج إلي خبير لنفسي لمعرفة أن قسوة والده قد زعزعت وجدانه وحفرت ثغرات عميقة داخل شخصه، فأحمد ليس الحالة الأولى التي يعالجها تعاني من حاجز نفسي يمنعها من ممارسة الحياة بصورة طبيعية وحين أنتهى حديث أحمد، مط الطبيب شفتيه لأسفل بعدم رضا قائلًا:
-طبعا مش محتاج أقول لحضرتك، ان أكبر غلطه غلطها هي انك تاخد دوا بدون اي استشارة طبية،
صدقني مش أفورة لكن احنا كدكاترة مش بندرس سبع سنين من فراغ وياريت تفتكر الموضوع ده بعد كده ومتكررهوش تاني لأن معظم الشباب بيقعوا في الغلطة دي،
وانت لازم تحمد ربنا انك محظوظ لان في ادوية بتسبب هبوط في الدم وبتؤدي للوفاة اللحظية لو مش مناسبة مع جسم المريض وفي ادوية تانية ممكن تدخلك في غيبوبة.
-عارف.
اعترف احمد الخجل في نبرة منخفضة وهو يعبث بغرض ما فوق مكتب الطبيب يحاول عدم الظهور ككتله متوترة وهو ما فشل به فشل ذريع، لأنه يشعر بالغباء وكأنه ذلك الأحمق الذي امتطى حماره بطريقة عكسية.
رأف الطبيب بحالته وقد شعر بذبذباته الغير مستقرة فقرر التعامل معه بحذر وهدوء مدونً بضع اسماء اختبارات دون أن يخبره صراحة بانه يريد التأكد من إدمانه بجانب امور أخرى لينهي حديثه بغرض تخفيف الوضع:
-انا هطلب من حضرتك صراحة تمتنع عن أي نوع من الادوية وانك تعملي التحاليل دي في أقرب وقت ممكن خلال الأسبوع ده عشان اقدر اساعدك بشكل مناسب،
وياريت حضرتك تسمحلي أتدخل واقولك ان مشكلتك أكبر من كده بشوية ومُتعديه تخصصي لأنك محتاج استشارة نفسية بجانب المعالجة الجسدية.
صمت أحمد المستمع إليه في صمت وحرج وكأنه يخجل بجلوسه هنا امامه، فحاول الطبيب الشاب الذي تعاطف معه تخفيف وطأة الوضع مستجيبًا لضميره الانساني قائلًا:
-على فكرة أنا مبسوط جدًا ان حضرتك لجأت ليا، صعب جدا الاقي انسان بيحارب عشان نفسه.
ظهر شبح ابتسامه ساخرة على وجه أحمد ما أن سمع كلمة محاربة فابتسم الطبيب مؤكدًا محفزًا إياه:
-مجرد أنك تعترف بان عندك مشكلة ده في حد ذاته قوة ونص الطريق، حضرتك باين عليك راجل محترم وعلى خلق بلاش تتراجع بعد الخطوة المهمة دي.
سعل الطبيب في خفه قبل أن يستكمل في هدوء:
-أنا حقيقي مهتم بحالتك وشايف انك مشروع صديق لدرجة اني عايز اتطفل واطلب منك تديني رقمك عشان أقدر أتواصل معاك.
خلل أحمد خصلاته في توتر لكنه سارع في إعطاءه رقمه ليس لأنه غبي مصدقًا إنه يرغب في صداقته بل لأنه يخشى أن يتراجع ويعود لذاته المستسلمة وقد يعمل تواصل الطبيب معه كحافز لدفعه في الاستمرار.
اقتحمت صورة ليان المبتسمة في تحدي أفكاره وكأنها تؤكد له قوة حضورها في حياته حتى في غيابها، فحتى وأن قضت بها أيام قليلة فهي تؤكد له بأنها لم تمتلك قلبه بل امتلكت روحه العاطبة.
-انت متجوز يا أحمد؟
سأل الطبيب الذي لاحظ خواء أصبعه من خاتم الزواج لكنه تعجب حين حرك أحمد رأسه بإثبات قبل ان يهزها بالنفي قائلًا في حرج:
-متجوز بس الموضوع معقد شوية.
-معقد بسبب الموضوع ده ولا معقد لظروف تانيه.
-الاتنين.
خرجت شبة ضحكة يائسة من الطبيب الذي أخفض راسه متعجبًا من أطنان التعقيدات المحاطة بمريضه قبل ان يسأله في مرح:
-انت دوست على ديل قطة سودة وانت صغير؟
اهتز وجه أحمد بابتسامه ضعيفة مجيبًا في تعب:
-شكلي كده يا دكتور.
-مش مشكلة كفاية علينا كده انهارده هنتكلم في النقطة دي بعدين.
تحدث الطبيب في ثقه وهو يفتح أحد الأدراج مخرجًا كرت صغير لأحد الأطباء النفسيين قائلًا في جدية:
-ده دكتور نفساني محترم وشاطر جدًا خليه معاك عشان هتحتاجه أكيد لو قررت تكمل.
اجبر احمد كفه على الإمساك بالورقة وبروشته الطبيب وهما يتبادل بضع كلمات قليلة وقبل أن يغادر أوقفه الطبيب قائلًا في تمني:
-اتمنى لو حصل أي مشكلة وحسيت ان جسمك محتاج الدوا ومش متقبل غيابه، كلمني...
-أنا مدمن صح؟
سأله أحمد الشاحب فأنكر الطبيب بطريقته اللطيفة الحذره:
-مش مدمن بالمعنى المتعارف عليه بس أي علاج في الدنيا بيأثر على الجهاز العصبي والجسم بيتعود عليه،
فطبيعي لما توقف الدوا هيظهر عليك أعراض انسحاب.
تنهد أحمد يشعر بالندم لأن الإهمال النابع من لامبالاته اللامتناهية هو من رماه في مصائبه الشائكة، شكر الطبيب في صدق قبل أن يتحرك للخارج مجرجرًا ساقيه في تعب.
***
-بس كده وبعدها محستش بنفسي غير وانا قاعد في الشارع للفجر فرجعت.
نظر نحو ليان التي تسند رأسها فوق كفها تخفي فمها المزموم خلف انامها، كان متوتر بل قلق يخشى رد فعلها غير قادر على التنبؤ بقراراتها فربما هي نادمة تفكر الآن بأي مصيبة أوقعت نفسها بها...
-ليان أنا انسان غير سوي وعايز إعادة بناء من الألف إلي الياء وعارف أنك انسانه متهورة عنيدة ماشية ورا حب قديم،
بس صدقيني نصيحتي ليكي أهربي انتي متستحقيش التعب ده.
خالفت ليان توقعاته حينما لمست ذقنه ترفع عيناه نحوها قبل أن تتفوه بما لم يتوقعه:
-حب قديم، يعني أنت عارف أني بحبك؟
نظر لها احمد وكأن لها رأسان متسائلا في نبرة متعجبة مما تنتبه له النساء:
-هو ده اللي سمعتيه من كل اللي قولته ... هو ده اللي همك؟
حركت رأسها فاقدة للأمل بأن يفهمها قبل أن تخبره في نبرة شبة ساخرة وابتسامه مستفزة:
-انا اختارتك بعيوبك من غير ما اشوف مميزاتك حتى،
تفتكر هنسحب دلوقتي بعد ما عرفت ان حياتنا ممكن تكون طبيعية حتى لو الطريق صعب؟!
تعلقت أبصاره بوجهها المبتسم كالأبلة غير قادر على ترجمة ذلك الشعور الذي ينبعث من عينيها فيبعثر مكنوناته ...
لا يدري أهو حبً أم إعجاب لأنه لم يتذوق أيً منهما قبلًا لكنه متأكد مائة في المائة بأنها تقحم شعورًا دافئ بالأمان والاحتواء داخل صدره.
-لما أنت عارف أني بحبك مقولتليش قبل كده ليه، ولا أنت مش حاسس بأي حاجة نحيتي؟
سألت في تعنت بأنف مرفوع شامخ متجاهلة صمته ونظراته المطولة بها رغم لمعة الخوف البارقة من عيونها خشيةً من جوابة.
-أنا مكنتش حاسس بحب أكيد، لاني وقتها اخترت أمنع نفسي عن الحب وعن الستات كلهم.
اهتزت ملامحها وكأنه كسر قلبها لتوه لكنه أنقذ الموقف بهمسته الخافتة في صدق:
-بس ده ميمنعش أني لما بشوفك بكون عايز أحبك وأعرف معنى الحب،
ومعاكي انتي بالذات ليه؟
عشان كل ما أبص في عنيكي بسافر لمكان جواه أمان عشت عمري كله محروم منه.
أنهى كلماته بتنهيده أسى ثم شاهد بقلب ينبض بين ضلوعه اقتراب ليان منه في بطء تدريجي وكأنها تخشى أن يتبخر في الهواء حتى احتوته في عناق صادق بريء يصب حبها المجنون داخل قلبه الأجوف.
أسبل جفونه سامحًا لنفسه باستشعار لمساتها دون قيود حتى وإن كانت تلك القيود في حالة هياج تطرق على أبواب رأسه تحاول التحرر لامتلاكه من جديد، ضغط على جسدها يدفعها للجلوس بين أحضانه فوق ساقيه وكأنها يحتمي بها ويخشى انفلات تلك القيود.
فتاه في لمسات أصابعها الحنونة على خصلات شعره خلف رأسه لدقائق طويلة قبل ان يخبرها بصوت أجش:
-عارفة ان لمستك حنينه اوي بتفكرني بأمي الله يسامحها.
عادت بجسدها للخلف تحتضن وجهه بين كفيها وقد شعرت بحاجتها لتبرير الحقائق هامسة في صدق:
-متزعلش من مامتك يا أحمد صدقني هي أخر ما تتمناه منك انك تلومها،
انت عارف ومتأكد ان باباك صعب وهي مجرد ست اتكسرت تحت جناح راجل قاسي فبلاش تقسي عليها أنت كمان.
هز رأسه معترفًا بكلماتها ولكنه لا يستطيع منع شعوره الداخلي بالحزن والغضب لأنه لم يستمع منها أو من شقيقته منذ زمن طويل وهو مشتاق ... مشتاق كثيرًا.
شعرت به ليان يشد على خصرها فارتخت بين احضانه باستسلام ترغب لو تعطيه كل الراحة التي في العالم لكنه عاد يفتح حديث يؤرق كلاهما:
-اعملي حسابك انه هيجي ياخد البيت قريب هو بس مديني فرصة ولسه عنده أمل اني هرجع زاحف اطلب منه السماح.
تلك المرة هي من شدت على جسده تزيد من احتواءه قائلة في تحدي ساخر:
-متقلقش هبقى أنزل أكمل نومي عند عم عبده البواب لحد ما تأجر أي شقة.
رفع رأسها بيده يعيد ترتيب خصلاته للخلف سامحًا لأنظاره بالانتقال فوق ملامحها ثم قال بابتسامه خفيفة بها لمحة من المرح:
-وعم عبده ليه هبقى انيمك في عربيتي.
ارتفع حاجبها في تساؤل متعجبة:
-هو مش هياخد العربية؟
-لا دي بتاعتي، العربية كنت واخدها من كام سنة تخليص حق من واحد، هي الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها ....اااه..
تأوه حين صفعت كلا كفيها فوق صدره تعنفه في غيظ:
-ولما هو في عربيه مصفي دمي ليه يا بني آدم ما ده معناه اننا مش على البلاطة عربيتك شكلها نضيق وغالية ولو بعتها هتوفرلك راس مال حلو،
ده غير ان معايا مبلغ صغير لو حطناهم على بعض ممكن نفتح مكان خاص بينا، سواء بوتيك أو محل مكياج ... أنت بتبصلي كده ليه؟
-انتي عايزة تديني فلوسك بجد؟
سأل وكأنها تفعل امرًا معيبًا فشعرت بالارتباك قائلة في نبرة مستغربة:
-اه وأيه المشكلة، ولا أنت ناوي تنصب عليا؟
خرج باقي سؤالها مقطرًا بمشاكسة وقد زين وجهها ابتسامه رائعة فتجرأ أحمد بأصابع مهتزة على جذب وجهها أمام وجه كي يضع قبلة طفيفة لا تذكر فوق فمها مباشرةً قائلًا:
-أنتي مش هتسرقي قلبي وبس، أنتي مش هترتاحي غير لما تسرقي روحي مني.
علت ضحكتها الرنانة النابعة من قلبها المجنون الذي يثب في صدرها لا تصدق أنه تقرب منها للتو حتى وان كانت لمسه طفيفة إلا إنها هزت كيانها بالأمل، غمزت له ما ان توقفت عن الضحك مؤكدة في غرور أنثوي:
-دي اقل حاجة عندي.
حاولت الاقتراب منه فعاد قليلًا للخلف مجيبًا على تساؤلها الصارخ فوق وجهها الواجم:
-انا لسه في البداية.
-يعني؟
سألت بشفه مرتفعة في ازدراء لا يعجبها منحنى حديثه فزفر في حرج قبل ان يقرر إعلان مخاوفه في صدق دون خجل:
-أنا خايف مش عايز الأمل ده يتسحب مني بسرعة.
علا التفاهم فوق ملامحها قبل ان تهديه ابتسامتها الهادئة مقبلة جبينه في مؤازرة مؤكده:
-متخافش أنا متأكدة ان كل حاجة هتبقى تمام وعارفة اننا هنتعب شوية بس أتاكد اني هكون معاك دايمًا وهساعدك...
أسبل جفونه في مشاغبة غريبة عن طباعه ولكنها تستفزها من أعماقه، قبل ان يعود بأنظاره الثاقبة فوق عيونها الجريئة يحاول كسر حاجز الخجل في شخصه والارتواء من جراءتها فهمس في براءة متعمدة:
-هتساعديني ازاي؟
حركت ليان راسها عدة مرات تحاول استيعاب سؤاله لكنها سعلت في حرج متمنية أن لمحه الخجل داخلها لم تكسو وجنتيها الدافئة ثم قالت في نبرة منخفضة:
-هساعدك يا احمد!
-هتساعديني ازاي يعني مش فاهم!
جزت على اسنانها وهي تسب غباءه وتحركت حدقتيها للجانب مرة قبل ان تمسك بعينه قائلة في نبرة مغتاظة:
-بلاش غباء هساعدك وخلاص.
استسلم أحمد لضحكة طويلة لم تخرج منه منذ زمن ولم تستمع إليها ليان من قبل، فظلت جالسة فوق ساقيه كطفل تائهة مبهورة برؤية شهاب لامع لأول مرة في حياتها.
توقفت ضحكاته المتقطعة وهو يعود بجسده للخلف يستند خلف ذراعيه بأريحيه مكتفي بالنظر إلي ملامحها الرائعة فقالت في نبرة حالمة محمله بلحن الوفاء:
-بحبك وبتمنى أقضي حياتي كلها معاك.
قتلت تلك الكلمة أي شكوك وهواجس داخله ببطء وبكل هدوء وجد نفسه يعتدل من جديد سامحًا لنفسه بتذوق شفتيها المبتسمة، مفكرًا بانه لا ضرر من قبلة يرغبها كلاهما في جنون مادام سيطفئ تلك النار الموقدة داخل أحشاءه.
*****
وفي داخل منزل ريان وريم عادت الحياة لطبيعتها أخيرًا متخذة رتمً مقبولًا في حياتهما، فقد كان ريان مستلقى بأريحيه فوق الأريكة رغم ثقل جسد عمر المستقر فوق جسده يتابعان في هدوء العبث على هاتفه النقال بينما ريم تجهز وجبه العشاء أخذه في التنقل بين الطاولة والمطبخ مدندنه اغنيتها المفضلة.
-حلوة الصورة دي يا بابي، دول أخوات اطفال زيي؟
مال فم ريان الساخر وهو يعبث بخصلاته سعيدًا بنظرات التمني اللامعة داخل عيون طفله البريئة، ليشعر بأريحيه وتحفز أكثر نحو قرر يشغله منذ مدة ثم قال مشاكسًا إياه في غلاظة:
-مال أهلك انت ومال الأطفال يا لمض.
ترك طفله المتذمر يعبث بالهاتف بدلًا عنه بينما راقب هو جسد ريم المتمايل في عفوية ورشاقة، و ا ان انتبهت لتحديقه السافر بها حتى عض شفتيه يلقيها بإحدى نظراته الوقحة الصارخة بتوعد، اتسعت عيون الريم خاصتها ثم هزت رأسها فاقدة الأمل في وقاحته قبل أن تعود لإحضار باقي الأطباق.
رفع ريان صغيره يجلسه فوق أحد فخديه ما أن اختفت هامسًا في شيطانية:
-عايز أخوات؟
-ايوة يا بابي.
-حلو ... تسمع اللي هقوله وتعمله بالظبط ... أمين؟
قال ريان بحماسه زائده ليهتف عُمر موافقته سريعًا:
-أمين!
ضحك ريان شاكرًا حظه بان ريم بعيدة عن مرماهم وإلا كانت ستتذمر معترضة مغرقة إياه بخطابها الاخلاقي عن انتقاء ألفاظه امام طفلها ... حبيب القلب المدلل....
*****
بعد وجبة العشاء خرجت ريم من المرحاض مسترخية منهية حمام ساخن تمتعت به ما أن انتهت من تنظيف أطباق العشاء، حركت المنشفة فوق خصلاتها المتدلية حول وجهها مرتدي رداء الحمام الخاص بها، لكنها تسمرت في مكانها بأعين متسعة خجلة تتنقل بين زوجها وطفلها الجالسان فوق الفراش يطالعونها في ترقب.
-انتوا قاعدين ليه كده؟!
اقترب منها عمر سريعًا يحتضن خصرها وأعينها المتسائلة تتنقل بينه وبين ريان الصامت في ريبة ليقطع نظراتها صوت عمر الرقيق:
-ريم مش أنتي بتحبيني؟
-ايوة طبعا يا روحي، بموت فيك كمان.
ابعد رأسه يرفعها ليرى وجهها بشكل افضل قبل أن يطالب بابتسامه عريضة:
-هاتيلي نونو العب بيه يبقى اخويا أو أختي.
ارتبكت ريم المصدومة لكنها أخبرته في نبرة مهتزة في حرج:
-نونو... اه ... ان شاء الله يا حبيبي...
-هييه شوفت يا بابي ريم موافقة ازاي.
-شوفت يا حبيبي.
أخبره ريان بعيونه اللامعة بنظراته المشاغبة فضاقت عيون ريم المتوعدة وقد استوعبت مخططه لاغاظتها لكن صوت عمر الحماسي قاطعها من جديد وهو يعود نحوها:
-يلا يا ريم كلمي طنط وسام اسأليها جابته منين عشان تروحي تجيبي من عندها!
اختفت المشاغبة من على وجه ريان المنزعج فأقترب جاذبًا عمر من أسفل عنقه مستنكرًا في غيظ:
-وتجيب من عند طنط وسام ليه؟
هو أنا قصرت معاكم في حاجة يا ابني.
ألقت ريم التي تحولت إلى حبة من الطماطم بالمنشفة الرطبة في وجهه هاتفه من بين اسنانها:
-ريان مش ممكن لسانك ده قدام الولد.
-طيب يا ستي شكرًا كفاية،
وأنت ياض انا غلطان اني اعتمدت عليك قال طنط وسام قال روح اتلهي العب يلا برا..
حارب عمر اصابع والده القابضة على مقدمه ملابسه بشفاه ممطوطه في تذمر طفولي واعتراض قبل أن تتدخل ريم وتجبر زوجها الغليظ المستمتع باعتراضاته على افلاته موجهه حديثها للصغير:
-العب جيم واحد بس يا عمر، واغسل سنانك وتنام على طول، اتفقنا؟
-اتفقنا، هتيجي تنامي معايا.
-خد هنا ياض ده أنا جوزها مقدرش اقولها الكلمتين دول،
مفيش نوم معاك من تاني انت مش صغير، ريم هتنام معايا.
-يا سلام وهو أنت اللي صغير...
كاد يرد ريان غارق في روح المشاجرة مع الصغير، في مشهد يومي باتت معتادة عليه فزمجرت منهية الوضع بقولها الحاد:
-خلاص قولت، روح يا عمر دلوقتي واسمع اللي قولت عليه عشان مزعلش منك.
-حاضر يا ريم.
اجابها في خيبة أمل قبل أن ينطلق للخارج، وحين حاول اغلاق الباب أخرج ريان لسانه في اغاظة صارخه متسببًا بزمجر عمر الذي يوشك على البكاء فتقدمت ريم من ريان تقرص ذراعه في غضب ليتأوه متألمًا وسط ضحكات عمر الراضي التي اختفى بعدما إغلق الباب.
-عجبك كده اهو بيضحك عليا، بكره دلعك ده هيخلي يضربني بالجزمة.
تذمر ريان بذراعين معقودين في حزم أمام صدره فتنهدت ريم لأنها لن تسلم من اعتراضاته ثم اتجهت تغلق الباب بإحكام لتغير ملابسها قبل تخبره ساخرة:
-هو لو ضربك هيكون مش خسارة في أفعالك،
انا مش فاهمه الحقيقة انت أبوه ولا مولود فوق راسه بطل تغتت عليه خليت الولد بقى عصبي.
ارتمى ريان فوق الفراش ساندًا رأسه فوق كفه متلهفًا لمتابعة طقوسها النسائية التي ستبدأها بخلع الرداء كاشفة عن جسدها اللذيذ قبل أن تغطيه بطبقة مخملية برائحة الزهور.
-المهم انجزي عشان في نونو مستنينا.
تسمرت وهي تخلع الرداء فأعادت اغلاقه فوق خصرها ثم اتجهت تتوسط الفراش إلى جانبه ترفض الأمل الذي يبثها به قبل أن تمط شفتيها في استنكار قائلة بنبرة عتاب بائنة:
-بس أنت كنت متفق نستني لحد ما عمر يبقى عنده سبع سنين، عشان اقدر اتفرغ لعمر وكده.
جذب ذراعها في قوة لتنتهي مستلقيه مثله امامه وهو يلمس رأسها مؤكدًا على أهمية ما سيقوله فقد حان الوقت لتبرير اتهام يتأكل رأسه منذ سمعه على لسان أحمد:
-لما طلبت منك نستنى ومنجبش أولاد بررت الوضع بوجود عمر، لكن في الحقيقة أنا كنت خايف على مشاعرك لو قولتلك اني شايفك مجرد طفلة صغيرة وكفاية عليكي هم ابن مش ابنك وقتها....
-بس عمر...
حاولت المدافعة في حماءيه عن أمومتها المكتسبة فأسكتها سريعًا بنبرة محذره:
-ششش اسمعيني للأخر ومتقاطعنيش، مش هنكر وقتها أني كنت أناني ولازلت عندي لمحة انانية ده طبع فيا مش هعرف اغيره بسهولة بس المهم اني بحاول،
لكن أنا وقت اما اتجوزت كنت شايفك طفلة زيك زي عمر بالظبط، كنت في حيرة وأنا شايفك متلهفة لنفس المشاعر ونفس الأماني المتخلفة بتاعت عمر.
انهى جملته بابتسامه صغيرة يقابل بها نظراتها المعاتبة فلامس خصلاتها المبللة مستكملًا في صدق:
-كنت خايف نجيب ولاد وانهي شبابك واهلكك في أول جوازنا، ولما تعقلي تكرهيني أو تتهميني باني ضيعت أجمل سنين عمرك وشبابك.
صمت يحاول تقدير وقع كلماته على مسامعها وتنهد حين مطت شفتيها مخفضة جفونها، قائلة بنبرة مهتزة تنبئ عن اقتراب بكاءها:
-بجد يا ريان ولا بتضحك عليا؟
-بجد يا روح ريان، بس ده ميمنعش اني هراضي ذمتي من دلوقتي وانبهك ان ده قرار أناني،
انا مشتاق لطفل من بطنك عشان اعلي سور سجني عليكي وامنعك تهربي مني للأبد.
مرر أصابعه فوق بشرة عنقها الرطبة متجهًا في ترقب إلي مقدمة صدر الرداء الغائرة متعمدًا ارباك عقلها وعدم اعطائها فرصة للتفكير أو الاعتراض فهمست ريم المضطربة التي يثب قلبها في عنف كلما تعرضت للمساته:
-ومين قال إني عايزة أهرب، أنا كمان عايزة طفل منك.
رفع ابهامه فوق وجهها يمرره في حب فوق وجنتها وشفتيها تاركًا لعيناه حرية تتبع كل بقعة يلمسها ودون أي كلمة أخرى بين الطرفين لحقتهما شفتاه المتلهفة تحرقها بقبلاته المتأججة بلهيب أشواقه.
تأوهت ريم في رفض تحاول دفعه في وهن هامسة:
-ريان مينفعش عمر لسه صاحي.
-على جثتي مش هسيبك....
حذرها متشدقًا بنشوة العاشق وهو يعتصرها نحوه موقفًا مقاومتها بشكل نهائي لتتحول من دفعه إلي لف ذراعيها بقوة حول عنقه في استسلام مهيب فوصل الروح بينهما لن ينقطع، تاركة له حق إسناد أي فعل للفاعل....
أما هو فقد كان هائم بها بل غارق بين ضربات أمواجها العاتية...
مجنون كان كجنون رسام أُطلق العنان لفُرشاته لتحاكي جنة الكمال ... تاركًا لها حرية المراقصة فوق الأوراق...
مرافقًا لها ساعات في عنادٍ لإثبات فرط حب مشتعل لاهيها عن فرط من الانانية والجفاء.......
ليست النهاية ....
فالحكاية لا تخلب الأذهان بالمكان أو الزمان وإنما ب مَن كانوا رفقاء ومطافً لمرسى أحلامنا..
الفصل السادس والعشرون
بعد مرور عامين ...
في صباح يوم مشمس مطت ريم ذراعيها تحاول الانفلات من بين ذراعي ريان المطوقة إياها في قوة ثم تنهدت في راحة حين نجحت في الهروب دون إيقاظه فاليوم ليس مجرد يوم عطلة عادي ولكنه يوم حماسي ومصيري في حياة الجميع، استدارت تتأكد من إنه يغط في سبات عميق ثم جذبت هاتفها وكادت تتجه للخارج لكنها اتجهت إلى الجانب الآخر من الفراش تلقي نظرة على مهد صغيرها الذي لا يتعدى عُمرهُ العام لتغرق في سعادة لا متناهية وهي تتنقل بين ملامحه وملامح والده فخورة وراضية عن التشابه بينهما الذي يتضح يومًا بعد يوم.
خرجت مغلقة الباب خلفها في هدوء امله ألا يستيقظ أحدهما ومتمنية أكثر أن يكون عمر الفضولي لا يزال نائمًا، ابتسمت مفكرة في طفلها الأول الذي صار كظلها منذ ولادتها لشقيقه الأصغر .. ذلك الشقي أخذ خصاص والده المتملكة ورغبته في معرفة كل صغيرة وكبيرة تدور داخل عقلها..
فتحت ريم شرفة الردهة لتجلس في هدوء قبل أن تجري اتصالها الهام الذي تلقاه الطرف الأخر أسرع من المعتاد:
-ألو يا ريم عاملة أيه، كل حاجة تمام عندك؟
ابتسمت ريم وهي تستمع إلى نبرة "ليان" القلقة والمتوترة قبل أن تجيبها في لهجة تتنقل بين التهكم والمزاح :
-تقريبًا أنا اللي لازم أسأل السؤال ده، اوعي تكوني ولدتي خلاص!
-لسه، أنا بجهز وهنزل مع أحمد المستشفى، الدكتور طلب ابقى موجودة من الصبح رغم ان معاد الولادة على المغرب.
-خير يا حبيبتي ان شاء الله هتقومي بألف سلامة...
صمت الطرفان لحظات قبل أن تتساءل ليان في خوف:
-تفتكري الخطة هتنجح وريان هيجي ولا هيفضل غضبان عليا.
-هتنجح يا ست النكد ومية مرة قولتلك هو مش غضبان عليكي بس أنتي عرفة اخوكي عنيد إزاي.
-أنا فاهمة إنه عنيد بس ده عدى سنتين يا ريم، صدقيني سنتين دول كتير أوي يعني قلبه الحجر قسي عليا.
كانت كلماتها حزينة نابعة من قلبها فقاطعتها ريم المؤكدة:
-لو كان قاسي عليكي يا ليان مكنش بعتلك فلوس لما عرف أن أبو أحمد طردكم من البيت وخد المحل وأنكم بتبدأوا من جديد.
-الفلوس مش حنيه يا ريم.
-لكن الاهتمام محبة يا ليان لو ريان قلبه قسي عليكي مش هيهتم واحنا قولنا من البداية أن الأمور محتاجة وقت،
ولا الهانم جاية تيأس دلوقتي واحنا على بُعد خطوة.
زفرت ليان في نفاذ صبر وخوف قائلة:
-ريم أنا خايفة يجرالي حاجة بجد واللعبة تبقى حقيقة.
-يا رب صبرني، أنتي متشائمة ليه كده، متقلقيش يا ستي ان شاء الله هتقوم بالسلامة وانتي جعبيزة مرات أبني.
ضحكت ليان التي ردت في استنكار:
-بنتي بقى اسمها جعبيزة وكمان عايزة تجوزيها لابنك عايزة جوزك يخلص عليها وعلى أبوها.
-يبقى انتي متعرفيش أخوكي كويس ده لو سمع الخطة دي مش بعيد يعمل فرح ويخطفها عشان ينتقم منكم ويقولكم مرات ابني يا شوية غجر.
ضحكت ريم لتوازي علو ضحكات ليان الغير منتبهه لزوجها أحمد الذي يستند على جانب الباب يستمع في هيام لرنة السعادة في نبرتها:
-أنا حاسة ان الخطة هتنجح يا ريم.
حركت ريم رأسها في يأس بأن تستطيع ملاحقة تنقلات ليان المزاجية الشبيهة لتقلبات كلًا من أشقائها... فلا امل لها مع تلك العائلة من المخابيل... فكرت ريم في شقاوة متخيلة رد فعل زوجها ان علم باعتقادها ذاك ولكنها عادت للواقع في سرعة لتسأل:
-المهم كلمتي بييجاد وقولتيله انك هتولدي انهارده؟
-لا طبعا هقوله ازاي واحنا عايزين نخدع ريان، أنا استنيت مكالمته ليا أول الاسبوع زي كل يوم بتتجمعوا فيه وقولتله أني احتمال أولد الأسبوع ده.
-جدعة، أنا هسيبك دلوقتي تجهزي وهقوم أخلص اللي ورايا قبل اللعبة ما تبدأ عشان أبقى جاهزة.
ودعتها ريم بدعواتها البشوشة قبل أن تغلق الهاتف ثم انتقلت لتلقي نظرات خاطفة بالأسفل متابعة في فضول طفيف المارة المنشغلين بهمومهم فجذبتها طفلة صغيرة بجدائل متطايرة متبعة خطوات غلام متذمر يبدو انه شقيقها الذي يكبرها بسنوات قليلة وكلاهما مرتسم على محياه الغضب والوجوم، لكن ما أقار تعجبها هو وقوف الصغيرة لحظة بعد عدة خطوات مجبرة عيناها على الانغلاق وكأنها تستجمع شجاعتها قبل أن تقفز بركبتيها فوق الطريق الوعر ثم بدئت في البكاء لينتبه لها الغلام الذي ركض عائدًا نحوها في خطوتين مخدوع بنظراتها البريئة الباكية وهي تشير إلى ركبتها المخدوشة قليلًا.
راقبت ملامح الخوف والحزن غير قادرة على سماع همسات الاثنان لكنها لا تحتاج فالجذع والمحبة في عيونه يخبراها بكل شيء.
مالت تستند على السور بمرفقيها منغمسة في صدق عواطف المشهد أمامها سعيدة بالشقيق الذي راعى شقيقته وأوقفها ينفض الأتربة عن ركبتها قبل أن يجثو يقبل خدشها كأنه يرضيها ويسرق آلامها بفعلته متناسيًا تمامًا غضبه منذ لحظات.
تابعت الفتاة التي نظرت لأسفل في خجل وعيون دامعة قبل أن تتحرك شفتيها وكأنها تعتذر عن فعلة سابقة فأكتفى الغلام بمسح وجنتها المتسخة وهو يجيبها بما سرق ابتسامة منها ابتسامة لمعت بها أسنانها الصغير، متقبلة فعلته حين جذب إحدى جدائلها في مشاكسة وسمحت له باحتضان كفها ليغادرا بخطوات صغيرة من أمامها، ظلت تتابعهم حتى اختفيا ولا تجد مبرر للسعادة والأمل الذي تولد داخلها ولكنها ستعتبرها رسالة من القدر بأن حيلتها ستكون في الصميم فلا مقدرة لخطيئة مهما كانت بشاعتها على تحويل الدم الذي يتشارك فيه أخوين إلى ماء، ويؤكد معتقدها ذلك رد فعل ريان الغاضب منذ عامين والذي تعيده ذاكرتها أمام عيناها وكأنه حدث بالأمس.
***
دخلت ريم إلى غرفة ريان المنغمس في جهازه المحمول لتخبره في سرعة وخوف وكأنها تخشى أن تتراجع عن قرارها:
-ريان الحق، أبو أحمد طرده هو وليان من البيت واخد منه المحل.
رمش ريان مرات متتالية في عدم استيعاب قبل أن ينتفض ليستقيم هاتفًا:
-طردهم ازاي وليه؟
سردت ريم طبيعة العلاقة بين أحمد ووالده واخبرته بأنه قد حضر بعد زيارة ريم لهما بيومين لطردهم من المنزل بكل سهولة، ليسرع ريان بالقول في نبرة غاضبة:
-أيه الجنان الرسمي ده؟
قوليلي أن الحيوانة دي رجعت لعقلها ومتصلة بيكي عايزاني اروح اخدها منه واخلي يطلقها.
أجابته ملامح ريم المرتبكة بشكل واضح وعيونها الهاربة بالنفي فهربت منه بضع ألفاظ غير لائقة ولم تجد ريم القدرة على توبيخه في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه لكنها استمرت قائلة وهي تفرك أصابعها:
-أحمد بيبيع عربيته وليان هتساعده باللي معاها عشان يقدروا يشتروا مكان صغير يبدئوا فيه مشروع على القد،
أنا بكلمك عشان عارفة انها محتاجة مساعدتك كأخ كبير مهما كان في مشاكل بينكم.
-هتفضل طول عمرها غبية ومدوخه نفسها ومدوخاني معاها،
هي حرة مش ده قرارها واختيارها يبقى تتحمل عواقب أفعالها.
هتف ريان في حده وعنفوان فردت ريم في ذهول:
-أخص عليك يا ريان أنت شمتان في أختك، ده بدل ما تلحقها وتقف جنبها.
-ريم لو سمحتي أنا مش بشمت في حد ولا عايز أعرف حاجة عن حد وياريت ما تدخلنيش في حوارات أنا كارهها.
علا صوته المستنكر الخشن أثناء بحثه عن علبة سجائره كي يطفئ بها الغضب الذي أشعل الحمرة في وجهة الواجم ثم تركها واتجه إلى الشرفة لإشعالها باحثًا عن بوادر أي سلام لكنها لحقت به قائلة في نبرة جدية حادة:
-على فكرة الكلام ده كان من أربع اسابيع وليان مكنتش عايزاني أقولك بس لما لقتها بتعافر وبتحاول تبني حياة وشغل من جديد فرحت بيها وقولت لازم أقولك عشان محدش هيدعمها غيرك.
-ادعمها ضحكتيني والله.
رد في تهكم وهو يطل بجسده من الشرفة قبل أن يلتفت إليها مرة أخرى متسائلًا في لهجة غامضة:
-ولا أنتي شكلك زعلانة على أحمد وعايزاني أساعده، قولي ما أنا عارف ان غلاوته عمرها ما هتختفي من قلبك.
ازدردت ريم استهجانها وغضبها بأنف مرفوع متمسكة في اصرار بعيونه التي تقدح بشر مستطير، لتجيب إياه في زمجرة:
-أنا هعتبر نفسي مسمعتش الكلام ده، ولو أنت شايف ان مبلغ صغير خسارة في أختك يبقى مالوش لازمة،
أنا هتصرف وهستلف من أي حد وربنا يعيني على اللي مالوش خير في أهلة....
جلدته بكلماتها كالسوط ولم تنتظر اجابته لتلتفت مغادرة في خطوات عنفوانيه تعكس الغضب والحنق المتصاعد داخلها.
فرك ريان خصلاته بإحدى كفيه في جنون وبالكاد يقدر على جذب أنفاس سيجارته من بين اسنانه المسكوكة وقد وقع في دوامات من الغضب والحيرة بين الصواب والخطأ.
-يا الله...
ناجي الله بصوت ممدود تائهًا يحاول استجماع أفكاره المتخبطة، ولكن مشاعر الأخوة الراسخة بين معتقداته النفسية تحارب عناده ورفضه،
إيمان ترسخ داخله بإن الشقيق وقت الضراء قبل السراء وان وقوع الأخ في خطأ لا يعني التخلي عنه وقت الضيق.
زفر بحده لأنه يتمنى بكل ذره في كيانه أن يتجاهل ليان خاصة بعد ان كسرت بخاطره واهانت رجولته امام غريب كريه.
ولكنه لا يستطع الوقوف ورؤيتها تغرق...لا يجد داخله القوة للوقوف على أعتاب حياتها بعيدًا في حياد ورؤيتها تتحطم دون تدخل منه.
رمى عقب السيجارة من أصابعه في استهجان ثم اندفع للداخل يشعر بهياج داخل صدره كحمم البركان.
اما ريم فقد جلست في عناد بغرفتها تفكر في خطوتها القادمة لا تزال في حالة من الغضب الموجه نحو زوجها الطفولي الذي لا يستطيع التفكير برشد والتخلي عن عناده السخيف المخجل.
لكن ريان أجفلها حين دخل الغرفة بخطوات قوية مبعثرة متجاهلًا نوبة غضبها متجهًا إلى ضرفة ملابسة جاذبًا ما يريد قبل أن يبصق الكلمات في نقم:
-عايزاني احولها كام؟
انفرجت ملامح ريم المصدومة بعد عدة لحظات لتبتسم بعدها متسائلة في سرعة:
-هتساعدها بجد؟
-ايوة هساعدها عشان النكد وعشان محدش يقولي اللي مالوش خير في اهله ولا نيلة على دماغك،
ولعلمك لازم تتعلمي تحترمي خياراتي أنا من حقي أعيش حياتي بهدوء وباختياري ولا هو حلال ليها وحرام ليا!
رد في تهكم مخلوط بغضب وهو يتجاهل النظر نحوها منشغل في ارتداء ملابسه يحاول إخفاء جانبه المهتم بليان قدر الإمكان.
فحاربت ريم لإخفاء ابتسامتها ثم تركته يتمتم كلماته دون اعتراض لأنها متأكدة بأن غضبه المنصب عليها الآن ما هو إلا حجة يعلق عليها شماعة اهتمامه وخوفه على مصير شقيقته ورغبته الداخلية في مساعدتها دون أن يظهر كالمهتم.
جذب ريان حذائه يرتديه وما ان استقام للرحيل تحركت ريم نحوه محتضنه إياه رغم مقاومته البسيطة الرافضة لعناقها، هامسة بكل حب وامتنان:
-ربنا ما يحرمنا منك أبدًا يا أجدع راجل في الدنيا.
-دلوقتي أنا جدع ومن شويه كان ماليش خير في أهلي!
قال في تهكم وعتاب فحاولت قرص وجنته لكنه أمسك معصمها في اصرار يرفض لمساتها لكنها استمرت في عبثها بلا اهتمام:
-والله على حسب مزاجي....
-قطة ... ناكرة للجميل....
همس بكلماته المتذمرة، ثم تحرك مبتعدًا للخارج مستطردً:
-أنا نازل، انجزي ابعت كام؟
-أي حاجة منك هتكفي.
ضاقت عيناه في انزعاج واضح لأنه يفهم لعبتها الصامتة تمامًا بينما قابلته ريم بعيون متسعة بريئة مليئة بالانتصار، تنهد ريان قبل أن يومأ رأسه محركًا إياها لليسار واليمين فاقدًا الأمل في فهم زوجته المشاكسة ثم ذهب في صمت لتحويل ما يمليه عليه ضميره في مثل هذا الظرف.
***
خرجت ريم من ذكرياتها بصرخة طفيفة وقد قفز قلبها من صدرها حين حاوطها ريان بذراعيه من الخلف ليخطفها من الشرفة وإلى داخل المنزل في أحضانه.
-ريان حرام عليك خضتني!
سمعت همهماته الضاحكة وهو يقبل عنقها هامسًا بصوت خشن يغلب عليه النوم:
-أحسن عشان تحرمي تغفليني وتدخلي ترغي في البلكونة، كنتي بتكلمي مين على الصبح؟
ارتبكت ريم بعض الشيء ولكنها استدارت تخطف قبلة من وجنته قائلة:
-أبدًا كنت بصبح على وسام قبل ما كتيبة التتار تصحى وتبدأ الحرب.
شعر ريان بنوع من التوتر في نبرتها لكنه تجاهله رافضًا الاستسلام لشكوكه قائلًا في نبرة مازحة:
-أحسن عشان أنتي اللي مدلعاهم ومخلياني مش عارف أربيهم.
لكزته بكتفها في صدره للخلف قائلة في نبرة توازيه مشاغبة:
-تربيهم ؟
ولا أنت اللي مش عايزني أدلعهم وتاخد الدلع كله!!
ضغط على خصرها وهو يغرس أسنانه بخفة في كتفها مزمجرًا في تملك وغيرة:
-حقي، هما واخدين كل وقتك لكن أنا كجوزك بشوفك صدفة في البيت.
-ماما...!
تركها ريان تفلت تبتعد عن ذراعيه بتذمر والتفت كلاهما يقابلان عمر ذو العيون الناعسة والمشعث الشعر من خلفهم فقالت ريم في نبرة محببة:
-صباح النور على عيون ماما اللي خاطف قلب ماما كله.
ضاقت عيون ريان وهو يتحسر على الدلال المقطر من نبرتها فمنذ ولادتها "عز" الصغير وطفله الخبيث نجح في سرقه انتباه ريم بأطلاقه لقب ماما رسميًا عليها وكأنه شعر بالتهديد وقرر الهجوم بكل امكانياته وحواسه الطفولية العجيبة.
زفر ريان ثم عقد ذراعيه في غيظ عندما ابتعدت عنه لتحتوي عمر في عناق طويل هامسة:
-روح أغسل وشك وسنانك وورايا على المطبخ نلحق نفطر قبل أبو لهب ما يصحى.
عانقها عمر بارتياح وكسل قبل أن يقبل بطنها التي يستند عليها برأسه ويتجه نحو المرحاض.
-ابن الكلب مقاليش صباح الخير حتى.
تذمر ريان في اعتراض مستنكرًا تصرفات الصغير:
-ومش هيقولك هو لسه زعلان منك عشان زعقتله امبارح وانت كأب مسؤول لازم تروح تصالحه.
-لا أنا كده هبقى أب دلدول مش مسؤول!
المفروض انتي يا هانم تروحي تقولي يلا نصالح بابا لكن واضح ان ماليش لازمه في البيت ده وسطيكم.
ابتعد في استهجان نحو الغرفة فاتبعته ريم في سرعة مغلقة الباب خلفهما في خفة قبل أن تلحق به توقفه في منتصف الغرفة وتلف ذراعيها حول عنقه في دلال هامسة:
-ملاكش لازمه؟!
فشر ده انت قلبي وعنيا وروحي من جوا، اه انت منكد على العيال بس ده ميمنعش اني بموت فيك وبعشق رخامتك.
اتسعت ابتسامه ريان وكأنه لم يكن غاضب منذ لحظات ليحيط خصرها بذراعيه يقربها من احضانه قائلًا في حنو:
-أموت فيكي وأنتي مثبتاني، طيب بالمناسبة السعيدة دي ما.....
علا صوت عز الباكي المكالب لوالدته ليقطع كلماته المداعبة فضحكت ريم دون قدرة على كبت شماتتها لرؤية الملامح المرتسمة على وجه ريان فابعد ذراعيه في انزعاج صريح قائلًا في استنكار:
-اضحكي ماشي، روحي لابنك يا ست هانم.
وبذلك اندفع نحو المرحاض ولكن انزعاجه تلاشا تدريجيًا ثم تنهد شاعرًا بسعادة تكتسيه ما ان أغلق الباب ووصله صوت مداعباتها السخيفة لطفلهما، حرك ريان رأسه فاقدًا الأمل في البقاء غاضبًا عليها أو التمسك بجديته بين جدران هذا البيت،
فقد نجحت ريم تلك الصغيرة ضئيلة الحجم في رسم حياة أسرية مرحة رغم الضغوطات والمشكلات التي يمران بها كحال اي زوجين ووالدين، لدرجة انه صار كمختل لديه انفصام حاد قادر على خلع رداء صفاته الحادة وكلماته اللاذعة عند عتبه منزلهما خاصة أمام ولديهما وعن طيب خاطر!
*****
أما في منزل أحمد وليان داخل الردهة الصغيرة المكونة من طاولة طعام وصالون للضيوف نجحا في شراءه خلال العام السابق، تنهدت وهي تطالع البيت من حولها بتوجس وذلك الشعور الداخلي بانها لن تعود يحوم حولها ويسيطر عليها.
نظرت لأحمد الذي يطالعها بابتسامه صغيرة مشجعة قبل أن يقبل معصمها مؤكدًا بنبرته الهادئة:
-كل حاجة هتبقى زي الفل، ممكن تبطلي بصات القلق دي ولا هي اللعبة هتقلب بجد!
-خايفة يا أحمد، أنا خايفة ربنا يعاقبني بإني.....
اوقفها احمد عن الحديث قائلًا في جدية وصدق:
-ليان ربنا رحيم ومستحيل هيعاقبك على ذنب انتي توبتي منه، بلاش ترعبي نفسك على الفاضي انتي هتقومي بالسلامه زي كل الستات اللي بتولد والدكتور بنفسه قال ان حالتك مستقرة ومفيش اي مشاكل، فخايفة ليه دلوقتي؟
بكت ليان دون قدرة على كبح عبراتها قائلة في خوف:
-مش عارفة يا أحمد، أنا بحبك وخايفة عليك وعلى بنتنا لو حصلي حاجة،
اوعدني انك هتاخد بالك منها وتبقى حنين عليها واوعدني انك هتخلي ريان وبيجاد يشوفوها في أي وقت...
وقف احمد في اعتراض قائلًا في نبرة غاضبة متوترة:
-قولنا بلاش الكلام ده، أنتي بتوترني نفسك وبتوتريني معاكي ليه؟
بنتك انتي اللي هتاخدي بالك منها لان أنا اصلا فاشل ومشوفتش الحنان عشان ادهولها.
جثا امامها ممسكًا كفيها بين كفيه قائلًا في عزم يحاول أن يبثها بقوة هي مصدرها:
-فاقد الشيء لا يعطيه يا ليان فخليكي قوية وصامدة لأنك مصدر قوتي وأماني في الدنيا دي.
ضغطت ليان على كفه تناظره بحب قبل ان تميل نحوه تقبله في ضعف تحاولي السيطرة على مشاعرها المختلطة فبادلها قبلتها حتى همست أمام شفتيه:
-أنت مش فاقد لأي شيء يا أحمد أنت احن إنسان قابلته في حياتي ومعنديش شك ولو واحد في المية انك مش حنين أو سوي،
ومتأكدة مليون في المية أنك هتكون احسن أب في الدنيا.
ابتسمت في ضعف مستكمله:
-وهتساعدني أكون احسن أم،
اخفضت عيونها قبل ان تستجمع شجاعتها قائلة بابتسامه مجبرة:
-أنا أسفة اني بقلقك على الفاضي، تقريبا كده دي الهرمونات.
همست في اعتذار صريح بينما تقبل باطن كفه ليربت احمد بحنو ورقة لا متناهيه فوق خصلاتها مؤكدًا:
-كفاية كلام ويلا عشان منتأخرش على معادنا.
هزت رأسها بموافقة وتركته يحمل الحقيبة قبل أن تتبع خطواته في بطء بينما شعر أحمد باضطراب شديد وخوف كبير من فقدانها، رمق ليان يراقب نظراتها للمكان ولحق عيناها بنظراته يتذكر كيف نجحا في بناء حياة شبه مستقرة في عامين فقط.
انتقلت به ذكرياته إلي اليوم الذي تلا زيارته للطبيب واكتشافه لمأساته وانه المخطئ الأول في حق نفسه ذلك اليوم عندما أتى والده إلي المنزل يطالبه بكل جحود وقسوة أن يترك المنزل معلنًا إنه قد وجد مشتري للمنزل والمتجر سويًا.
تذكر كيف وقف ليان بكل شجاعة وبسالة أمام والده رافضة ان تظهر ضعف أو ألم، وتذكر كيف ساندته كأنها تُسقيه من قوتها واصرارها حتى استطاع ان يواجه والده بذات القوة والتعالي وبدون إلحاح منه أو إظهار أي نقطة ضعف أو حزن لوالده المعتوه.
هبط على الدرج وهو يتذكر وقتها كيف دلف كلاهما برضا يلملمان ما يحتاجان إليه من ملابس وما يملكه من أموال في حقائب قليلة ليتخذا من السيارة مسكنًا لهما حتى وجدا منزل صغير حددته ليان مسبقًا لاستأجره.
أمسكت ليان أصابعه ما أن فتح باب السيارة لها لتحيي داخله تلك اللحظات حين تمسكت به وتعلقت بذراعه بينما هو يجلس منهارًا باكيًا داخل السيارة فتركته يخرج أخر مكنوناته المضطربة المذعورة من القادم بين أحضانها لتكون تلك أخر مرة يستسلم فيها لضعفه.
-أحمد متخافش.
همست ليان تطمأنه وقد هالها شحوب وجهه ونظراته المتعلقة بها فأجابها في صدق:
-مش خايف طول ما انتي جنبي.
ابتسمت ليان له ما ان ركبا السيارة الصغيرة نسبيًا عن سيارته التي باعها في بداية الطريق لتكون نواة مستقبلهما الحائر المبني بثقه ودون خوف بواسطتهما.
ظل أحمد طوال الطريق ممسكًا بكفها الصغير وكل ثوان يرمق عيونها المغلقة ورأسه المسنود للخلف بتفحص وقلق،
لقد اثبتت ليان بانها السحر في حياته فلكل منا تميمة خاصة قادرة على دفعه للأمام ليكيل من خلالها جهوده بالإنجازات والنجاح وليان كانت التميمة خاصته التي استعاد بها نفسه الضالة قبل مستقبله.
ليان هي الحياة وان حدث شيء لها سينهار ويتفتت كالصخور في مواجه الأمواج، تنهد فهو يخشى ان يعترف لها بانه لا يخشى على ابنتهما بل يخشى عليها ويريدها سالمة غانمة تنبض بالحياة والنضارة بين ذراعيه.
رفع كف ليان يقبله وقد تملكه رغبة كبيرة في إخفاءها داخل قلبه وبين ضلوعه، تنهد في توتر لا يزال يشعر بالاضطراب ما بين حماس بقدوم المولودة وخوف على سلامة زوجته.
كل هذا بالإضافة إلي محاربته لتفكيره الذي يصر على نقله إلي أسوأ وأفضل فترة مرت على حياته،
فبعد معاناه ستة أشهر ما بين علاج إدمانه وعلاج اضطراباته النفسية لأن ليان أصرت في نفس الاسبوع الذي طردهم فيه والده أن يعود لزيارة الطبيب وعليه فقد تم حجزه بغتًا لخمسة عشر يوم قضى منهم أول سبع أيام وكأنه في الجحيم، ايام سبع مروا عليه كالسنوات الشائكة وكأنه في صحراء قاحلة لا يجد فيها الماء ولا يواسيه سوى حرارة الشمس الحارقة.
ولكنه أصر على الخروج دون إكمال مدته معللًا إنه لن يوقع زوجته في تلك المأساة ويتركها وحدها وان مرارة الحياة جعلته قادرًا على المضي في علاجه بينما هو في بيته وبجوارها.
وقد أخذ عهد على نفسه بالنجاح وقد نفذه بمساعدة ليان التي تحملت تقلبات مزاجية ونفسيه منه لشهور مريرة، ولكن وجودهما معًا كان كافي لنسيانها.
كما تمكن خلال ذلك الوقت من شراء دكان صغير بمنطقة بسيطة وإقامة مشروع يتناسب مع مواردهم في تلك الفترة، أدارته ليان بشكل كامل متحججه بانه يحتاج وقت للتعافي وانها ستتركه يساعد حتى تسلمه مقاليد الأمور وقد كان.
فقد نجحا سويا في عملهم الجديد وبناء حياة شبة سعيدة في بيتهم المستأجر الخالي من معظم الأثاث.
لكن القدر له حكمته ففي اوج حماسه واستعداداته النفسية للمضي في الحياة جاءه خبر وفاة والده المفاجئ.
تذكر حالة التيه والجمود التي تملكت جسده، فقد كان في حالة من الإنكار والغضب لأنه توفى هكذا دون سابق إندار.
خاطفًا منه امل ضئيل خفي في أن يعود لصوابه ويعوضه حنان أبوي افتقده،
رحل دون أن يعتذر بل أسوأ هو رحل عنه دون ان يترك له ذكرى واحدة تجعله قادر على مسامحته لتنتقل روحه إلى ربه في سلام.
وكالعادة كانت ليان هي المحرك حين يعطل عقله عن التفكير ويخونه إدراكه وفي لحظات كانت تلملم حقيبة صغيرة مستعدة للسفر إلى بلدته حيث رأي والدته وشقيقته لأول مرة منذ سنوات ليرتميا في أحضانه وسط شلالات من العواطف المخلوطة بين لوم وعتاب وحزن لن يفهم من يراه سببه سواهم لا هي ولا مشاعر التيه التي سيطرت على عيون ثلاثتهم فقد كان والده الرجل المسيطر على حبال أقدارهم وأفعالهم طيلة حياتهم يعاملهم كدمى يحركها بخيوطه، ذهب وتركهم يواجهون الحياة كإنَس طبيعيون يملكون زمام أمورهم في تجربة مفجعة مهيبة لهم.
وقد حاول أحمد إقناع والدته ببيع المنزل والانتقال للعيش معه في نفس المدينة لكنها رفضت التزحزح من بيتها البسيط وبعد أيام تم فيها تصفيه ممتلكات والده على وجه السرعة فقد كان غير قادر على البقاء في تلك الأجواء كثيرًا.
كما انه رفض أخذ نصيبه بالكامل واكتفى بحق متجره الذي سلبه والده منه دون حق وترك الباقي في حساب بنكي لوالدته وشقيقته المقبلة على الزواج قريبا جدا، كي لا يحتاجان لأحد أبدًا.
وصلا إلى المشفى أخيرًا ليعيد كافة الذكريات في الخلف من عقله ويتجه بتركيزه بالكامل نحو ليان التي ترسل إليه ابتسامه مهتزة، فنظر لها منبهرًا لأنها حتى في خوفها تحاول بث الطمأنينة والأمان في قلبه.
تفتت أعماقه أمام قوة مشاعرها نحوه فهمس في نبرة حاسمة صريحة تفوح بريعان عشقه:
-بحبك...
-وأنا كمان بحبك.
هبط كلاهما بعد أن ساعدها على الهبوط، واندفعا لداخل المشفى ممسكين بيد أحدهم الآخر متجهين إلي جناحها المحجوز المنتظر وعلى لسان كلاهما دعوة واحدة أن تمر الامور على خير وسلام.
*****
في نفس الوقت على الجانب البعيد من المدينة قال ياسر زوج مروة صديقة وسام والمنغمس في حديثة الممل مع بيجاد:
-صح يا بيجاد..
-لا لا بتهزري...
قاطعتهم صديقة وسام متدخلة على طريقتها الفكاهية فتلا هذا الحوار ضحكات عالية سمجة بينهما بينما جلست وسام تربت على ساق زوجها بيجاد الذي يشع بِطاقة من الانزعاج والغيظ، منذ بداية زيارة صديقتها وزوجها اللذان اثبتا غلاظة عالية في التعامل وجدارة في ثقل الدم خاصة مزحتهم السخيفة حول أسم زوجها فكلما نطق أحدهما أسم "بيجاد" رد الآخر سريعًا "بتهزري" ليقع كلاهما ضحكًا على مزحتهم الثقيلة المملة التي فقدت رونقها منء الأزل لكثرة استعمالها.
بينما يحارب بيجاد بصعوبة أن لا ينسى سنوات من كبح الذات وينقض عليهما فلا يتركهما إلا مكسوران العظام.
-مقولتليش يا وسام ناوية تخاوي ابنك امتى؟
-لسه مقررناش الحقيقة.
رمقت زوجها المتشنج في جلسته قبل ان تخبرهم في حرج:
-اه صح يا بيجاد نسيت تعملي حاجه ضروري في المطبخ عن اذنكم يا جماعة البيت بيتكم...
جذبته ليتبعها رغم عضلات جسده المتصلبة الرافضة للحركة وهمست في خفة ما ان دخلا المطبخ:
-أهدى يا حبيبي، حقك عليا معلش لو أعرف انهم سخيفين كده مكنتش رديت ليها العزومه وقولتلها هاتي جوزك...
-سخيفين بس انا فاضلي تكه وادفنهم مكانهم في الليفنج!!
أكد بيجاد بعيون ضيقة متوعدة وهو يقبض كفه أمام وجهه في قوة، فأجابته وسام بارتباك بين ابتسامه مرغمة:
-ريلاكس ريلاكس، فين الصفاء الذهني وشغل الاجتماعات اللي قضيت شهور فيها ولسه بتروحها من وقت للتاني.
-ده ملعون أبو الاجتماعات اللي تخليني أهدى قبل ما اقتل الكائنات اللي عايزة الدبح دي!
صدقيني البشرية هتشكرني على الموضوع ده!!
تشدق من بين أسنانه في انزعاج واضح ثم سألها في ملل:
-هما مش اتغدوا هيمشوا امتى ؟
وياريت بعد كده لما حد يعزمك متروحيش خصوصا لو هتردي العزومه وتجلطيني انا!
-خلاص فكك أنت وانا مش هعمل كده تاني، بس اضحك كده شوية عشان منحرجش الناس.
ضحك بيجاد في تهكم مؤكدًا:
-يتحرجوا؟!
هما دول عندهم دم !
-معلش يا حبيبي هانت خلاص أكيد هيمشوا دلوقتي...
قاطعهم صوت هاتف بيجاد فحرك عيناه داخل مقلتيه وهو يتنفس ببطء يستعد رباطه النفسي للخروج إليهم من جديد ليحضر الهاتف،
تعمد تجاهل وجوههم المتسائلة في صمت ثم أجاب هاتفه مبتعدًا عنهم مجيبًا ما ان رأى اسم ليان:
-ألو يا ليان..
-بيجاد الدكتور قال لازم أولد دلوقتي ومش هولد قبل ما تيجي حالًا انت وريان لازم اشوفكم مرة اخيرة ليجرالي حاجة!
ارتعب بيجاد من نبرتها المُحطمة ليهتف في خوف:
-يجرالك حاجه ليه؟
انتي مش قولتي الحمل ماشي كويس؟!
-حالتي دلوقتي مش مستقرة يا بيجاد، أنا في مستشفي ******* هات ريان وتعالى ارجوك.
-حاضر يا حبيبتي متقلقيش أقل من ساعة وهنكون عندك متخافيش يا ليان!
أغلق بيجاد الهاتف بوجه شاحب قبل ان يتحرك راكضًا للخارج تاركًا وسام قائلًا:
-ليان بتولد وحالتها حرجه مشي الناس الفقر دول وحصليني ع مستشفى *******، انا رايح ل ريان ..
ذهب وترك وسام تطالع صديقتها وزوجها بعيون متسعة غارقة في حرج وصدمة من كلمات بيجاد الوقحة ....
*****
انتهت المكالمة ثم وضعت ليان يدها فوق فمها باضطراب شديد فتدخل احمد هاتفًا:
-ليان لو اعصابك هتبوظ بالطريقة دي بلاش تكملي الهبل ده عشان خاطري.
-مينفعش يا أحمد أنا عارفة ريان كويس انا بقالي سنتين بتحايل عليه محايله يرد ع الفون او الرسايل حتى ومش مديني فرصة واحدة،
أحمد أنا بسمع صوته صدفه لما بكلم ريم الموضوع ده قاتلني،
انا محتاجه ريان، محتاجه اخواتي يرجعولي ويبقوا سندي من تاني صدقني.
هز أحمد رأسه بآسى وذنب قبل ان يهمس في صدق وألم:
-أنا أسف، انا السبب في كل اللي حصل بينكم.
-لا يا أحمد أنت مش السبب بالعكس انت احسن اختيار أخدته في حياتي ولو رجع بيا الزمن ألف مرة بردو هختارك للمرة الألف.
جلس فوق سرير المشفى بجوارها يعانقها مصرحًا في شغف مقبلًا رأسها في عاطفة جياشة وكأنه يشكرها لوجودها في حياته:
-أنتي أحسن حاجة حصلت في حياتي، وأنا معاكي في أي خيار تخديه وفي ضهرك مهما كانت العواقب.
-انا لازم اتصل ب ريان دلوقتي.
انهت اتصالهم العاطفي ثم رفعت هاتفها للاتصال ب ريان في ترقب وقلبها يدق في عنف تخشى القسوة والجحود وتخشى ان تكون فقدت مشاعر الحنين والحب داخله إلي الأبد.
انتهى الرنين وكالعادة لم يجيب، فكتمت شهقة بكاء مستسلمة داخلها واعادت الاتصال في اصرار منتظرة الإجابة.
*****
-ريان تلفونك بيرن!
-عارف مش هرد.
أجاب ريان في عنف وعناد فعضت ريم شفتيها ما ان انتهت نغمة الرنين ... نظرت إلي ريان متسائلة في توتر رغم معرفتها بهوية المتصل:
-مين بيتصل بيك؟
-ليان.
جاءتها اجابته المقتضبة البسيطة قبل ان يعود هاتفه للرنين من جديد فانتظرت ريم عده نبضات قبل ان تميل نحو الهاتف تجذبه في سرعة، قائلة في توجس:
-انا هرد عليها، اصل هي على وش ولادة وممكن تولد في أي وقت!
وقبل ان يهتف برفضه أجابت على هاتفه، عقد ريان حاجبيه في غضب وكاد يجذب الهاتف منها لإغلاقه في وجه المتصل ولكن تعابير وجه ريم المرتاعة ونبرتها المرتعشة اوقفته وجمدت الدماء في عروقه:
-ليان، انتي منهارة ليه كده...
صمتت ريم ثوان تستمع لليان قبل ان تتقن دورها التمثيلي بوضع كفها فوق فمها مثيرة ذعر ريان الذي وقف يشير إليها بيده محاولًا فهم ما يحدث لكنها اكتفت بمد أصابعها بالهاتف نحو ريان هامسة في خوف:
-الحق يا ريان!
لم يقدر ريان على التحمل وقد هبت روح الأخوة منتفضه داخله مسيطرة على جوارحه هازمة العناد المستوطن شخصيته الصلبة فقال في نبرة مضطربة يشوبها اللهفة:
-ألو ...
لم يخرج من فمه جملة متكاملة حتى انفجرت ليان باكية وقد غلبتها مشاعرها المضطربة المكبوتة وانفجر ذلك الشعور الموحش بالقهر داخل قلبها ما أن سمعت صوت شقيقها الأكبر الغارق بالاهتمام لكنها استكملت مخططها وسط انهيارها وللمرة الثانية في حياتها لجأت له هامسة في ضعف وبكاء:
-ريان الحقني يا أخويا...