رواية دمعات قلب الفصل السابع عشر17والثامن عشر18 بقلم رباب فؤاد
جلس الطفلان حول جدهما يستمعان إلى حكاياته عن والدهما الراحل وعن عمهما(طارق) حينما كانا صغاراً والضحكات تتعالى مع كل موقف طريف يحكيه الجد الذي سألهما فجأة في دهاء ـ"أين عمكما(طارق) اليوم؟ لم أره منذ حضوري."
انبرى الصغير(هاني)يقول في طلاقةـ"بابا(طارق) في المستشفى, إنه يبيت فيها ثلاثة أيام وهنا أربعة أيام وقبل أن ننام نلقي عليه تحية المساء على هاتفه المحمول."
رفع الجد عينيه إلى زوجة ابنه وأمها الجالستين أمامه وهو يقول بتهكم ـ"هكذا؟! لقد ظننا أن المدير الجديد سيعطينا ما نريد مادام لا عذر له ولكن بعد ستة أشهر!! لابد وان هناك سراً ما."
أدركت(هالة)ما يرمي إليه حماها فأشارت بحزم إلى ابنيها قائلة ـ"(هيثم), (هاني), لم تنتهيا من واجباتكما المدرسية بعد. اذهبا وأنهياها قبل العشاء."
نهض الطفلان في تذمر قبل أن يقول(هيثم) لجده بتوسل ـ"عدني بألا تنصرف يا جدي قبل أن أنهي واجباتي المدرسية. لم يتبق الكثير منها على أي حال."
قبل جده وجنته قائلاً بحنان ـ"أعدك يا حبيبي."
حينها انصرف كلاهما إلى غرفته في سرعة, والتفتت(هالة) إلى حميها قائلة ـ"الأولاد لا يعلمون بموضوع زواج(طارق), ولا يجب أن نتحدث عنه أمامهما."
قال الرجل في ضيق ـ"لقد كانت حجته معك هي أنك أخت له, وعندما قال أنه يحب(سمر) هذه وأصرّ كلاكما على هذه الزيجة وافقت على أمل رؤية أبنائه, لكنهما حتى الآن لم يعلنا عن قرب قدوم وليّ العهد المنتظر."
تبادلت(هالة)نظرة سريعة حائرة مع أمها قبل أن تقول ـ"دعهما يستمتعان بحياتهما سوياً قبل أن يدخلا دوامة إنجاب الأطفال, كما أن(طارق) يعد الترتيبات النهائية لمناقشة رسالة الدكتوراه و(سمر) على وشك مناقشة الماجستير, بعدها لن يكون لديهما أية أعذار لتأجيل الإنجاب."
هتف في غيظ واضح ـ"من يقول أن الماجستير والدكتوراه أهم من إنجاب الأطفال؟"
قالت(هالة) بدبلوماسية ـ"يا عماه, ’ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‘, كما أنه ليس من العدل أن يضيع كلاهما مستقبله من أجل إنجاب طفل, وفي النهاية هذه حياتهما الخاصة ولا دخل لنا فيها."
ورغم منطقية حديثها لم يقتنع حموها الذي جلس قليلاً حتى موعد العشاء كما وعد حفيديه، ثم غادر المنزل قبل أن يصل(طارق) الذي تأخر حتى بعد منتصف الليل.
ولدهشة(هالة) فقد سألها(طارق) في عصبية عن سبب زيارة والده, فقالت في حيرة ـ"(طارق)! إنه بيت ابنه وله مطلق الحرية في زيارته في أي وقت شاء, ولا أرى سبباً لعصبيتك تلك."
ألقى بسترته الصوفية بعيداً في ضيق وجلس على حافة الفراش واضعاً وجهه بين كفيه في صمت, فاقتربت(هالة) منه في هدوء وربتت على كتفه في حنان قائلة ـ"ماذا بك يا(طارق)؟ لقد ازدادت عصبيتك في الآونة الأخيرة, إنك لم تعد حتى تجلس مع الأولاد كعادتك."
زفر في ضيق وخلل شعره بأصابعه قائلاً بتوتر ـ"لا شيء, إنها بعض المشاكل بالمستشفى."
جلست إلى جواره وهي تقول بتعاطف ـ"أنا لم أعرفك بالأمس فقط, بإمكاني معرفة ما بداخلك من نظرة عينيك ونبرة صوتك. أخبرني بما يضايقك كما اعتدت دوماً. ألسنا صديقين؟"
حوّل بصره إلى عكس اتجاه جلوسها قائلاً ـ"صدقيني, إنها مشاكل خاصة بالعمل."
أدارت وجهه إليها قائلة بابتسامة حنون ـ"ولماذا تدير وجهك؟ كي لا أعرف الحقيقة من عينيك؟"
خفض عينيه في سرعة حينما التقتا عيني(هالة) التي التقطت نفساً عميقاً قبل أن تقول بهدوء ـ"(طارق), أصدقني القول, هل سأمت(سمر) وضعنا الحالي؟ لأنها لو فعلت فلن ألومها فـ..."
قاطعها(طارق) وهو يرفع كفه قائلاً في سرعة ـ"كلا, أقسم لك أنها لم تفعل, إنها تتفهم الوضع تماماً."
تناولت كفه بين راحتيها قائلة في حيرة ـ"إذاً ما الأمر؟ لماذا تبدو حائراً هكذا؟ أخرج ما بداخلك كي ترتاح."
زفر في قوة قائلاً بضيق ـ"اُخرج ماذا أو ماذا؟ إن بداخلي أطناناً من الهموم, فعن أي هم تريدين التحدث؟"
عقدت حاجبيها قائلة ـ"أطناناً من الهموم؟ وتحملها وحدك؟ وما أهميتي إذاً إن لم أقف بجانبك حتى تتخلص منها؟ على الأقل أخبرني بما تريد قوله ويكفي لإراحتك في الوقت الحالي."
تنهد في عمق قبل أن يحسم أمره قائلاً بحنق ـ"إنه أبي, مازال يواصل التدخل في حياتي حتى أحالها جحيماً."
سألته على استحياء ـ"أتعني بشأن الإنجاب؟"
التفت إليها في سرعة قائلاً ـ"كيف عرفت؟"
ازدردت لعابها وأشارت بطرف عينها إلى الخارج قائلة ـ"لقد أشار إلى هذا الموضوع ضمن حديثه."
سألها في حدة ـ"وماذا قال؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا شيء محدد, لقد أشار فقط إلى رغبته في رؤية أبنائك. هذا كل ما قاله."
سألها ثانية ـ"وماذا قلت له؟"
أشاحت بكفها قائلة ـ" قلت أن هذه حياتكما وليس لنا دخل فيها, وأنكما مشغولان بالانتهاء من تحضير رسائلكما العلمية."
ضحك بسخرية قائلاً ـ"رسائلنا العلمية؟ أراهنك على أنني لن أنهي الدكتوراه قبل تخرج(هند) من الجامعة."
شهقت في لوعة قائلة باستنكارـ"لماذا تتحدث هكذا؟ لم أرك يائساً من قبل. هل ضايقتك أنا أو الأولاد في أي شيء؟"
هز رأسه نفياً وهو يجيبها في سرعة ـ"كلا بالطبع, فأنت والأولاد أجمل ما في حياتي. وعلى عكس ما يتوقع البعض, أنا أشعر بالراحة هنا معكم أكثر من بيتي مع(سمر). تخيلي أنها تثور لأتفه الأسباب، بل وتثير أعصابي معها؟"
قالت بهدوء ـ"لابد وأن لديها عذراً لذلك."
قال بتهكم ـ"عذر؟ أي عذر هذا الذي يجعلها تهمل بيتها وزوجها؟ أنا لا آكل طعاماً منزلياً إلا هنا لأنها تعود من المستشفى مرهقة ولا تقوى على الوقوف أمام الموقد. لا أنكر أنها طهت لي أكثر من مرة, لكن تقريباً مرة كل شهر."
ثم تابع بضيق ـ"ناهيك عن الاهتمام بالمنزل أو حتى بملابسي, فالملابس إما متسخة أو بحاجة إلى كيّ, وهي مشغولة بشيء لا أعرفه. وعندما واجهتها قائلاً أنك أنت الأخرى تعملين ومسئولة عن ثلاثة أطفال ومع ذلك لا تهملين بيتك, ثارت وغضبت."
شعرت(هالة) بحرج بالغ وهي تقول ـ"المرأة بطبعها لا تحب مقارنتها بأخرى أياً كانت. ولا تنس أنها تقيم وحدها بينما أمي معي تساعدني."
أشاح بيده قائلاً ـ"هذا ما حدث, تركت لها الشقة وظللت أدور بسيارتي حتى شعرت بتثاقل أجفاني من الإرهاق، فأتيت إلى هنا."
عقدت حاجبيها قائلة باستنكارـ"أتعني أنكما تشاجرتما اليوم؟ هيا قم حادثها في الهاتف واعتذر لها."
التفت إليها باستنكار أشد قائلاً ـ"أعتذر لها؟"
قالت بابتسامة عريضة ولهجة آمرة ـ"نعم تعتذر لها ولا تتركها تنم وهي حزينة. هل نسيت كم ضحّت من أجلك وأجلي؟ هيا هاتفها ولن أقبل أي حجج بالرفض."
قال بتخاذل ـ"لقد تركتني دون طعام، بل وأطارت النوم من عيني وأنا لم أنم منذ يومين، و...".
قاطعته ملوحة بسبابتها في تهديد قائلة ـ"هاتفها ريثما أعد لك ما تأكله...هيا وإلا تركتك أنا الأخرى دون طعام، وأنا أدري جيداً أنك لن تنم على معدة خاوية"
ولم تتركه إلى المطبخ قبل أن تسمع ضحكته الصافية تنتقل عبر أسلاك الهاتف إلى أذني(سمر).
الفصل الثامن عشر
جلست(سمر) بتململ إلى جوار زوجها الذي ركز انتباهه في قيادة السيارة وسط ازدحام المرور الذي يميز القاهرة خاصة في وقت الذروة. وعندما طال وقوفهما في إحدى إشارات المرور المزدحمة زفرت في تأفف وفتحت حقيبتها تلتقط طلاء شفاه لامع ثم أدارت مرآة السيارة إليها لتعيد طلاء شفتيها الرقيقتين بلون وردي جميل قبل أن تمط شفتيها في ملل وهي تعدل من تسريحة شعرها الجديدة بعد أن صبغته إلى اللون الذهبي وقصته حتى كتفيها قائلة ـ"ألن تفتح هذه الإشارة اليوم؟ إننا هنا منذ ربع الساعة."
مد(طارق) يده ليعدّل وضع المرآة قائلاً برصانته المعهودة ـ"منذ أربع دقائق فقط يا زوجتي العزيزة."
التفتت إليه عاقدة حاجبيها في صمت ثم ما لبثت أن عقدت ساعديها أمام صدرها وعادت ببصرها إلى الطريق قائلة ـ"إنها مدة طويلة على أي حال."
هز(طارق) رأسه دون أن ينبس بشيء وواصل قيادته الهادئة حتى خرج من الزحام إلى طريق واسع أتاح له الحديث في حرية فقال بلهجة تحمل بعض الضيق ـ"ألم نتفق على تخفيف مساحيق الزينة؟"
إلتفتت إليه في دهشة قائلة ـ"هل أنت جاد؟ فجأة أصبحت مساحيق الزينة سيئة؟"
ضغط بوق السيارة محذراً لشخص كان يهم بعبور الطريق، ثم أجابها وعيناه على الطريق ـ"وهل مزحت بشأنه يوماً؟ لقد طلبت منك أكثر من مرة أن تخففي مساحيق الزينة خارج المنزل، وقلت لك إنني أحبك طبيعية دون زينة على الإطلاق".
جادلته بعناد قائلة ـ"وقلت لك إنك أحببتني وأنا أضع هذه المساحيق، وإنني أضعها حتى أظل جميلة في عينيك".
إلتقط كفها يقبله قائلاً بدبلوماسية ـ"أنت جميلة دوماً في عيني...ولا أريد لغيري أن يتمتع بهذا الجمال. أيرضيك أن يتمتع غيري بالنظر إليك؟"
داعبت كفه بدلال قائلة ـ"أيرضيك أن يُقال إن زوجة الدكتور (طارق) غير أنيقة أو غير جميلة؟"
أدار مقود السيارة إلى أقصى اليمين قبل أن يقف أمام منزلهما ويلتفت إليها قائلاً بهدوء ـ"ومن قال إن الجمال في مساحيق التجميل؟ ومن قال إنني أريد للآخرين أن يروا جمالك؟"
مطت شفتيها بشكل طفولي وأشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول ـ"لم يبق إلا أن تطالبني بإرتداء النقاب".
أدار وجهها إليه وقال بابتسامة عذبة ـ"ليتك توافقين".
إتسعت عيناها في ذعر وعادت تشيح بوجهها بعيداً وتفتح باب السيارة وتنزل في سرعة متجهة إلى بوابة المنزل، فتبعها وهو يضحك من رد فعلها على قوله.
صعد إلى شقتهما ليجدها تجلس على الأريكة المواجهة للباب واضعة ساق فوق ساق وتهزهما بعصبية.
اقترب منها مبتسماً وقال ـ"ما سر هذه العصبية يا حبيبتي؟ كل هذا لأنني طالبتك بتخفيف مساحيق الزينة؟"
التفتت إليه بحدة قائلة ـ"بل لأنك تريدني أن أختفي خلف النقاب".
ضحك وأمسك خديها يمطهما كالأطفال قائلاً ـ"أنا لم أقل ذلك..أنت اقترحت وأنا وافقت على اقتراحك".
أزاحت يديه عن وجهها وقالت بضيق طفولي ـ"قلت ياليت...إذاً تفكر في ذلك".
داعب بأنامله آثار أصابعه على بشرتها البيضاء وهو يهمس ـ"حبيبتي كنت أداعبك...وعموماً لن أطلب منك سوى ارتداء الحجاب وعدم إستخدام مساحيق الزينة خارج المنزل".
عادت تلتفت إليه وعيناها تحملان غضباً لم يره من قبل وهي تهتف ـ"(طارق) من فضلك لا تجبرني على أمر لا أريده، ولا تحاول أن تجعلني مثل (هالة)".
رفع حاجبيه في دهشة حقيقية من انفعالها الغريب قبل أن ينهض قائلاً بحنق ـ"الأمر لا علاقة له ب (هالة) لأنه ليس طلبي أنا...إنه تكليف سماوي لك..وإذا كنت ترفضين فرض الله فأنت حرة وستحاسبين عليه وحدك".
قالها وإتجه إلى غرفته في ضيق واضح ورمى سترته على أحد المقاعد قبل أن يتمدد على طرف الفراش ويسند رأسه على كفيه المعقودين...
يحبها نعم...وعرفها سافرة ومتبرجة
لكنه يريد ألا يشاركه أحد النظر إليها
لم ينس بعد منظرها صبيحة يوم زفافهما وهي ترتدي قميص النوم الأحمر، وكيف ثارت الدماء في عروقه حينما رآها كذلك وشعر بأعين الغرباء تأكلها دون حياء
وفي كل مرة يراها في العمل ويشم عطرها عن بعد ويلمح إعجاب المرضى بجمالها وأناقتها ويسمع حديثهم عنها يشعر بنيران الغيرة تحرق صدره
أو ربما هي نيران النخوة
أياً كانت دوافعه...فهو لا يريد لزوجته أن تصبح مشاعاً هكذا
ولا يريد أن يُحاسب أمام الله على ما تفعله
لماذا لا تفعل مثل (هالة)؟
لماذا لا ترتدي الحجاب مثلها وتحتفظ بأناقتها أيضاً؟
(هالة)؟؟؟
مثال الزوجة الأنيقة المحتشمة
بل مثال المرأة المسلمة
يالحظ (حازم) بها
وليت.....
قطع تأملاته صوت (سمر) التي تقدمت منه بهدوء وجلست على طرف الفراش إلى جواره قبل أن تهمس بأسف وهي تلمس ذراعه ـ"آسفة على انفعالي يا حبيبي...لم أقصد أن أرفع صوتي".
منحها نظرة خاوية وكأنه لا يراها، فاستدركت قائلة بحرج ـ"لقد شعرت للحظة أن شكلي الجديد لا يروقك، رغم أنني عدلته خصيصاً من أجلك".
تأمل للحظات شعرها الذهبي المصبوغ وتسريحته الجديدة والعدسات الخضراء التي تغطي لون عينيها الطبيعي..
كانت أكثر جمالاً ولا ينكر ذلك
ولكنها ليست طبيعية
وهو يحبها طبيعية
يحبها حينما تستيقظ من نومها وتفرك عينيها كالأطفال قبل أن تفتحهما
يحبها وشعرها مبعثر بلا نظام حول وجهها البريء
ولكن أين هي الآن من تلك البراءة؟؟؟
تأملها للحظات ثانية قبل أن يقول بهدوء ـ"ها أنت ذا قلتها...عدلته من أجلي...ولكن الآخرين يرونك أيضاً..فما الفائدة إذاً؟ أنا لا أستطيع أن أمنع مرضاك أو زملاءنا من النظر إليك."
ضحكت بدلال قائلة ـ"حبيبي أنا طبيبة عيون...وأغلب مرضاي يرتدون النظارات الطبية..لا تخف. لن يغازلونني".
قال بحنق ـ"بعضهم يأتي خصيصاً ليرى الطبيبة الفاتنة، وأنا لا أحب ذلك".
مطت شفتيها كالأطفال وهي تقول بتبرم ـ"قل إنك لا تحب النيو لوك".
ضحك بخفوت على ملامحها وتبرمها واقترب منها قائلاً ـ"نيو لوك؟ أشعر أنني مع نجمة سينما".
أشاحت بكفها في ضيق ونهضت مبتعدة عنه، ولكنها ما أن وصلت إلى باب الغرفة حتى شعرت بألم شديد في أمعائها جعلها تنحني إلى الأمام وهي تضع كفها على معدتها في ألم وتتأوه بصوت خافت.
لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.
لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"
تأوهت ثانية وهي تشدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غبي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".
تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"
لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.
لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"
تأوهت ثانية وهي تشدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غبي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".
تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"
رفعت عينيها إليه بحدة وهي تقول بضيق ـ"(طارق)..ما دخل المغص بالحمل؟ لقد أصبت ببرد في المعدة، هذا كل ما في الأمر".
إحتوى وجهها بين راحتيه هامساً وهو لا يخفي سعادته بحملها المرتقب ـ"وقد يكون حدسي صحيحاً و...".
قاطعته وهي تبتعد بوجهها عنه وتتجه إلى أقرب مقعد لتجلس عليه وتنحني لتحتضن معدتها بذراعيها المتشابكين دون أن تنبس ببنت شفه.
أدهشه رد فعلها فاقترب منها وانحنى على ركبتيه أمامها ورفع وجهها إليه ليسألها بقلق حقيقي ـ"(سمر) ماذا بك؟"
تضاعفت دهشته حينما تحركت فجأة لتدفن وجهها في كتفه وتحيط عنقه بذراعيها وهي لا تزال على صمتها، فأحاطها بذراعيه بدوره وهو يشعر بارتجافتها الخفيفة التي لا يدرك سببها.
ظلت على وضعها لدقيقة أو أكثر قبل أن تبتعد عنه بهدوء غريب وكأن شيئاً لم يكن، ثم نهضت وتناولت كفه لينهض هو الآخر قائلة ـ"هيا نجهز الغذاء..لابد وأنك تتضور جوعاً".
تأملها بدهشة حقيقية بدت وكأنها الشعور الوحيد الذي يسيطر عليه في هذا اليوم، ورغم ذلك تبعها إلى خارج غرفتهما وهو يسألها بحنان ـ"هل زال المغص؟"
تحسست معدتها للحظات قبل أن تجيبه بلا مبالاة ـ"إنه متقلب...لقد هدأ الألم الآن ولكنه سرعان ما سيعود.. سأتناول قرصاً مسكناً للألم الآن".
لم يستطع التغلب على القلق الذي يكتنفه، لذا قال بلهجة حاسمة ـ"سأصحبك إلى الطبيبة لتفحصك..لابد وأن أطمئن عليك".
أشاحت بكفها وهي تشعل الموقد قائلة بلامبالاة ـ"لا تشغل بالك يا حبيبي..لقد نمت أمام المكيف واصبت ببرد في المعدة سرعان ما سيزول..ولا تنس أنني طبيبة أنا الأخرى وأفهم جيداً ما بي".
تأمل ظهرها وهي تعمل بهدوء قبل أن يقول بلهجة طبيعية ـ"إذاً نجري فحوص الزواج الجديدة".
إلتقطت نفساً عميقاً وهي تتظاهر بتسخين الطعام وحاولت ألا يبدو توترها في صوتها وهي تقول ـ"إنها للمقبلين على الزواج يا (طارق) ونحن متزوجان بالفعل. فلا داعي لإجرائها إذاً".
إتجه إلى المبرد وفتحه ليلتقط بعض الخضروات الطازجة لصنع السلاطة قائلاً بنفس الهدوء ـ"على العكس تماماً.. ربما كانت هناك أشياء خافية علينا, فقد يكون الـrh عندك أو عندي سالباً وهو ما قد يؤثر على الأجنة فيما بعد."
لم تستطع كبح أعصابها فأفلتت منها وهي تلتفت إليه قائلة بتوتر ـ"أي أجنة؟ ما بك متسرعاً هكذا؟ إننا مازلنا في بداية حياتنا وآخر شيء أريده الآن هو الأطفال. يجب أن أنهي رسالة الماجستير أولاً قبل أن أفكر في الإنجاب."
عقد هو حاجبيه هذه المرة وترك الخضروات في حوض المطبخ والماء يتدفق عليها وهو يقول بحنق ـ"ما معنى هذا؟ إننا لم نتفق على هذا الرأي, وأنا أريد أطفالاً."
هتفت به في حدة ـ"فيم تريدهم؟ أليس لديك ثلاثة بالفعل؟ما الداعي إلى المزيد؟"
أغلق صنبور المياه وإلتفت إليه يجذبها من ذراعها لتواجهه قائلاً من بين أسنانه ـ" ما هذه النغمة الجديدة؟ صحيح أن أبناء(حازم) أصبحوا أبنائي ولكنهم ليسوا من صلبي. أريد أطفالاً منك أنت ليشهدوا على حبنا, وأنت ترفضين؟!"
أدارت وجهها بعيداً عنه قائلة ـ"الأطفال لا تشهد على الحب, مع مولد أول طفل ستبدأ المشاكل, ورغماً عنك ستفرق في المعاملة بين أبنائنا وأبناء أخيك مثلما فعل زوج أمي حينما أنجبت أمي له صبياً."
ورغماً عنها سالت دمعة ساخنة على وجنتها وهي تقول ـ"حتى حينما توفى أخي هذا ظل يعاملني وكأنني المسؤولة عن وفاته".
أدار وجهها إليه في حنوّ ومسح دمعتها بإبهامه هامساً ـ"حبيبتي, أنت تعرفينني جيداً, ولست أنا من يفرق بين أولاده.لا تخافي من هذه النقطة, فقط أرجوك ألا تحرميني من حمل ابننا بين ذراعيّ. اتفقنا يا حبيبتي؟ سنجري الفحوصات من أجل الإطمئنان لا غير".
رفعت عينيها إليه ثم ما لبث عنادها أن طغا عليها وبدا في عينيها وهي تقول ـ"أنت طبيب وتدرك جيداً أن القلق من عدم الحمل يبدأ بعد عام من الزواج، ونحن لم نكمل سبعة أشهر بعد. فلم العجلة؟"
قرص وجنتيها كالأطفال وهو يقول كمن يداعب طفلته ـ"لأنني أريد الإطمئنان فقط..ولأنني أريد طفلة تشبهك كي أقرص وجنتيها كما أشاء".
ضحكت رغماً عنها وأفلتت وجهها منه وهي تدفنه في صدره قائلة ـ"إدع لنا..وإفعل بها ما تشاء".
ربت على ظهرها بحنان قائلاً ـ"لا نملك سوى الدعاء يا حبيبتي والأخذ بالأسباب...وأملنا في الله كبير".
وفي أعماقه إبتهل إلى الله أن يرزقهما الذرية الصالحة.