أخر الاخبار

رواية عشق الغرام الفصل العاشر10بقلم ندي ممدوح


رواية عشق الغرام
 الفصل العاشر10
بقلم ندي ممدوح





فتحت غرام باب حجرتها وهي تنوي الخروج، فما كادت تفعل حتى تسمرت مكانها، وتجمدت قدميها، وهي تحجم عمَّا نوت وتعود أدراجها للداخل لتصفق الباب ورائها، محال أن تقابله في هذا الوقت من الليل! 
والساعة قد تخطت الرابعة فجرًا، ماذا سيقول عنها من يراها؟ 
وفي فراشها تدثرت بالغطاء، بعدما أدت فرضها، وأوت لتنام لكنَّ النوم أبَى أن يأتيها بإصرار فظل يؤرقها، فأضجعت على ظهرها، وظلت عيناها مفتوحتين دون أن تتحركا، أو يطرِف رمشهما، حتى انْبَلج الفلق وأرخى على الكون بسُدُوله، قامت من فراشها وغادرته وهي تتثاءب في إرهاق، وبدلت ملابسها ونزلت إلى صحن الدار وهي تتمنى أن تراه قبل أي أحدٍ آخر. 
لكن أول الحاضرين كان يمان، مما أورثها حنقًا شديدًا، بينما قال هو وهو يهبط الدرجات في تؤدة: 
_صباح الخير يا غرام. 
فأجابت تحيته بنبرة لم يزايلها الحنق: 
_صباح النور يا يمان. 
وران عليهما الصمت، حتى جاء مختار برفقة ابنه زكريا ذو العينين المحمرتين والناعستين، وبعدما اطمئنوا على غادة ذهبوا إلى الشركة، وهناك شرعت غرام تزرع حجرة المكتب جيئة وذهابًا بقلقٍ بنبش في فؤادها، حتى حسمت أمرها بالذهاب إلى مكتبه لحسم الأمر. 
يكفي قلقًا. 
يكفي خوفًا.. 
لن تبقَّ هكذا تترك نفسها فريسة لبراثن الشك. 
وإن لم تُصب مبتغاها فما الضير من المحاولة!. 
ولا مناص من المواجهة الوشيكة. 
توجهت شَطْر مكتبه في تردد بدا جليًا على ملامح وجهها الوضيئة، وهنالك سمحت لها السكرتيرة بالدخول فورًا لمعرفتها بعلاقتها برب عملها، لم ترُق السكرتيرة لغرام ولا هيئتها، لكنها أسرت ذلك في نفسها ولم تبديه، وفتحت باب مكتبه فرفع بصره عن الأوراق التي كان منكبًا عليها في اهتمام، ثم اتسعت ابتسامته في استقبالها وهو يقف قائلًا في ترحيب ونبرة مهللة: 
_غرام! أأقفلي الباب وتعالي أدخلي. 
فضيق عينيه في حيرة وتعجب وحنق عندما وجدها تقبل نحوه وقد تركت الباب منفرجًا، ثم قالت في توتر لم يخف عليه: 
_الحقيقة أنا جاية أتكلم معاك في حاجة مهمة. 
فأشار لها بالجلوس وهو يعود إلى جلسته قائلًا: 
_أنا تحت أمرك، اقعدي الأول اتفضلي دا مكتبك برضو. 
فجلست وهي منكست الرأس مفكرة حينًا، فبادر هو قائلًا ليبدد جو التوتر السائد بينهما: 
_تحبي تشربي أيه؟ 
فهزت رأسها وهي تقول في صوتٍ خافت: 
_ولا حاجة. 
فقال بضحكة بسيطة وهو يرفع سماعة الهاتف الداخلي: 
_مينفعش طبعًا لازم تشربي حاجة، هطلب لك أنا عصير على ذوقي. 
وأبلغ السكرتيرة بما يريد وأعاد السماعة إلى مكانها، ثم أولى اهتمامه كله إليها وهو يميل بجذعه إلى الأمام وعقد ذراعيه على المكتب، وغمغم: 
_ها يا ستي اتفضلي قوليلي إللي جيتي عشانه. 
وأصغى سمعه وراقب عينيها التي تجولان في أنحاء المكتب هربًا منه، ثم بدأت تقول في صوت متلجلج: 
_لما كنا في الحفلة شوفتك وأنت خارج مع بنت بس معرفتش هي مين ولا مشيت معاها ليه؟ وغبت إلى الفجر. 
ثم ألتفتت إليه بنظرة متقدة، وأردفت بحدة: 
_أنت كنت معاها الوقت ده كله؟! 
فازدرد زكريا لعابه، وتراجع إلى ظهر مكتبه، وهو يتفرس النظر فيها. 
يبدو أنه كان مخطئًا في تقديرها! 
فها هي ذا تسبب له المشاكل وتسأل من قبل أن تصبح زوجته! 
هل ستعيق غرام حياته هي الأخرى! 
تجهم المحيا لوهلة، وزم شفتيه عابسًا، ثم ابتسم في هدوء ومال إلى مكتبه مجددًا، وكان متهيًأ ليختلق كذبة ليبرأ نفسه، ثم أردف يقول: 
_غرام مش كل حاجة تشوفها العين بتكون دايمًا صح، طبعًا أنا سعيد أنك جيتِ وسألتيني ودي حاجة عايزها تكون بنا فعلاً لما حد فينا يتصرف تصرف ما يورث الشك في قلب التاني يسأله بكل صراحة عن مخاوفه. 
ثم تنهد وأستطرد بصوتٍ خفيض: 
_أنا خرجت فعلاً مع البنت من الحفلة لأنها عميلة مهمة عندنا وكانت محتاجة حد يوقف لها عربية توصلها فأنا عملت كده فعلاً، ومحبتش أرجع الحفلة لأني مليش في جو الأحتفالات دي، فجيت الشركة كملت شغلي الناقص، وخرجت مع صحابي الشباب وسهرنا سوا فمحستش بالوقت معاهم عشان كدا رجعت متأخر. 
وتراجع لظهر المقعد، وهو يغمغم في بساطة: 
_بس يا ستي دي كل الحكاية.
وتنفست غرام الصعداء، وأذهب كلامه شكوكها فتبسمت في ارتياح، ثم نظرت إليه باسمة فبادلها الابتسام وقال: 
_ها في حاجة تاني عايزة تستفسري عنها؟ 
ورفع عينيه إلى الباب الذي دق ولجت السكرتيرة لتضع كأس العصير أمام غرام، وتسأله في احترام:
_تأمر بحاجة تاني يا أ. زكريا. 
فأشار إليها بالخروج وهو يتمتم: 
_لا روحي أنتِ. 
وحوَّل عينيه إلى غرام في اهتمام وهو يصيخ السمع ويحثها على الحديث، فقالت: 
_لما كنا في الحفلة وفي شاب جه.. 
قاطعها زكريا قائلًا وهو مقطب الجبين: 
_تقصدي علي الحاوي؟ 
فهزت رأسها إيجابًا، وتحاشت النظر إليه وهي تسترسل: 
_لما جه يسلم عليَّ أنت ببساطة قولت ليّ سلمي وأنا مبحبش كدا ومش بسلم على حد. 
فجز زكريا على أسنانه في امتعاض وحنق، لكنه أخفى ما يشعر به في داخله وتبسم في هدوء قائلًا بلا اكتراث: 
_مكنتش أعرف انك مش بتسلمي اصل دي حاجه عادية هنا، بس اوعدك أنها مش هتتكرر تاني ولا أحطك في موقف زي ده تاني.. أنا بعتذر ليكِ. 
فأومأت غرام بعينيها، ونهضت وهي تقول: 
_طب هستأذن أنا. 
فحاول إستبقاءها لرغبة في نفسه، وهو يقول: 
_لا طبعًا اشربي العصير الأول. 
فأوضحت في هدوء: 
_معلش اصل مستأذنتش من يمان. 
فنظر لها بحنق، وخبأ ضيقه وبغضه تجاه يمان، وهو يقول في برود: 
_آه.. طب تمام روحي. 
وأنصرفت إلى مكتبها لتجد يمان يقف في منتصف الحجرة، بعيون تتقد نارًا، وتقدح شررًا، وكل وجهه ينطق بالغضب وكان قد رأها تخرج من مكتب زكريا، ولم يدرِ ما سر ذلك الغضب الذي أشتعل في صدره، هل هو من الخوف عليها؟! 
أم هو شيئًا آخر لم يعرف كنهه بعد؟! 
هال غرام منظره فتطلعت فيه ذاهلة، لكنه بخطواتٍ واسعة اقترب منها وهو يصرخ بنبرة أرجفت قلبها، وأجفلت جسدها: 
_كنتِ فين؟ 
فأرتدت إلى الخلف، وهمست في خفوت: 
_كنت عند زكريا. 
وسرت قشعريرة في جسدها عندما كور أصابعه ليضرب قبضته في الجدار بجانب رأسها فأصابها الذعر وهي تنظر إليه في صدمة، مع صيحته: 
_تاني مرة متسبيش المكتب بدون أذني وتخرجي.. المواضيع تستنى لحد ما ترجعي البيت، هنا أنتِ في شغل وبس. 
ترقرقت عينيها بالعبرات فتلاقت أعينهم، وبرد غضبه عندما رأى دموعها، كأنما استحال إلى شخصٍ آخر، وبدا كأنه سيتفوه بشيئًا ما من إنفراجت شفتاه، ثم أطبقهم في عنف وهو يصر على أسنانه ثم أولاها ظهره ودخل مكتبه صافقًا الباب وراءه. 
جلست غرام وراء مكتبها واجمة. 
الدموع تلتمع في مقلتيها، وبدا أنها على وشك البكاء، فظلت ساهمة في شرود، لم تلبث أن تناهى لها صوت باب حجرته يفتح، فنظرت شطْره بطرفٍ خفي، وشاهدته وهو يرتدي جاكته لتعلم أنه سيخرج، وأغلق الباب وراءه فأطرقت برأسها كلا تصطدم عينيها فيه، ثم ازداد وجيف قلبها عندما سمعت خشخشت قدميها تقبل نحوها، وظلل عليها ظله وهو يقف أمامها صامتًا، ساكنًا دون أن ينبس ببنت شفة، كان يشعر بالذنب لأنه عاملها بتلك الطريقة. 
ويؤنبه ضميره ويؤرق مضجعه. 
فأنَى له من سبيل لكي يخبرها أنه يخاف عليها. 
وانبعث صوته يقول في هدوء، وبنبرة رخيمة: 
_تعالي عشان خارجين عندنا شغل. 
ولم تعيره اهتمامًا أو ترفع حتى جفنًا إليه، بل هبت واقفة وألتقطت حقيبتها وسارت من ورائه في جمود. 
وتفاجئت به يوقف سيارته أمام محل لألعاب الأطفال، ويقول وهو يغادر السيارة: 
_لحظة وحدة وهآجي. 
فأومأت دون أن تعقب بحرف. 
ولم يلبث أن عاد وهو محملًا بالكثير من الحقائب، ثم تركهم في المقعد الخلفي، ورجع إلى المحل مرة أخرى ثم خرج وفي يده شيئًا آخر متغلفة بطريقة رائعة وبدت لها كهدية. 
ثم أحتل مقعد القيادة، وأنطلق بالسيارة لم يلبث أن وقف جانبًا في مكانٍ لم تذهب إليه قط، فجالت ببصرها في المكان عبر نافذة السيارة، وسقط بصرها على دارٍ للأيتام بدا لها أنها وجهته، وكان يمان قد غادر السيارة وتناول الحقائب من المقعد الخلفي تاركًا الهدية، ثم مال قليلًا برأسه عبر نافذة السيارة، وطرق بسبابته عليه، وهو يقول: 
_مش هتنزلي ولا أيه؟ 
فنفخت بضيق وهي تترجل لتسير بجواره في صمت، وما أن أطل على الأطفال حتى رأتهم جميعًا يندفعون إليه فترك الحقائب من يده، وجثى على ركبتيه ليستقبلهم ببهجة فاتحًا ذراعيه، بينما وقفت هي تتابع ما يحدث بأعين لامعة تبرق بالسرور، وقد أشرقت ملامحها كشمسٍ وهاجة، وتابعته وهو يلتقط اللعب ويوزعها عليهم ثم يخبرها في هدوء: 
_مالك واقفة ساكته كدا ليه؟! تعالي ساعديني. 
واتجهت نحوه في حماس وهي تحذو حذوه، كانت دائمًا تتمنى أن تزور ملجأ للأيتام وها هو ذا يحقق لها أمنيتها! 
كم رائع هو محب للجميع ومحبوب. 
تأملته غرام وهو يمازح الأطفال ويلهو معاهم بمقلتين تشعان حبًا وعاطفة. 
لم تلبث أن أشتركت معهم في اللهو، وبدا لها أن الجميع على علاقة طيبة به في الملجأ وليس الأطفال فقط، فقد ذهب برفقتها إلى مكتب المديرة التي نهضت تستقبله بكل سرور وترحاب، وأشارت لهما بالجلوس، ثم ناولها شيكًا لم تعرف كم دون به، وانصرفا وهو يقول لها بينما يسيران في طريقهما إلى الخارج: 
_أنا كل فترة بحب أأقضي اليوم هنا مع الأطفال. 
وسكت لهنيهة لوح فيها بكفه إلى بعض الصغار، ثم تابع السير بجوارها، وهو يقول بوجد: 
_بنسى نفسي هنا حرفيًا، بحس كأني رجعت طفل صغير، وأحيانًا كنت بجيب غادة معايا، واوقات لوحدي. 
كانت تستمع إليه مشدوهة، مأخوذة كليًا به، وأستطرد هو ببسمة هادئة رزينة: 
_لما الدنيا بضيق بيا أوي، وبحس بخنقة، وأن في هموم مش لاقي لها حل، وبحب أكون لوحدي بآجي على هنا على طول، بسمة الأطفال دي بتنسيني الدنيا وما فيها، وبتعرفني أن الهموم مهما طالت مسيرها إلى الزوال، لأن ربنا كبير مش بيسيب حد. 
وسكت عندما فتح لها باب السيارة ليدعوها إلى الدخول وأغلقه ورائها، ثم جلس خلف عجلة القيادة وأدار محركها، وهو يقول: 
_والنهاردة جيبتك معايا كأعتذار على اللي حصل مني. 
فهزت رأسها في ارتياح، وقاطعته قائلة: 
_تعرف أني دايما كنت بتمنى أزور دار أيتام.. 
فقاطعها هو قائلًا وهو ينظر إليها من مرآة السيارة: 
_بجد؟! 
فأومأت برأسها إيجابًا، وغمغمت: 
_بجد آه وأنت حققت ليّ الأمنية دي! عمري ما فرحت كدا زي النهاردة، مش هنسى اليوم ده أبدًا. 
انبلجت بسمة على ثغره مشبعة بالحنان، ثم رمقها بنظرة سريعة وهو يقول: 
_تحبي تيجي معايا أدي تسبيح هديتها؟! 
فهزت رأسها مرارًا في حماس، وهي تهتف في مرح: 
_طبعًا.. طبعًا معاك.. دا سؤال. 
وأثناء الطريق هبط من السيارة ليقتني بعض الأشياء، وتوقفت بجانبه وهو يرن جرس الباب وسمعت صوت خطوات تعدو ثم فتح الباب وأطلت الصغيرة تسبيح من ورائه، وهي تصيح: 
_بابا يمان جه. 
ثم قفزت عليه لتتعلق بعنقه بينما تلقفها هو في حنان، ودعتهما هند إلى الدخول وأجلستهما في صحن الدار، بينما تقول: 
_تاعب نفسك أنت على طول معانا كدا! مفيش داعي لكل الحاجات دي! 
فرمقها بنظرة عتاب، وقال مغضبًا: 
_عيب عليكِ الكلام ده هو أنا بجيب لمين غير لأختي. 
ثم وجه حديثه إلى تسبيح الجالسة فوق قدميه، وهو يقول: 
_بابا يمان جاب لتسبيح هدية حلوة. 
فصاحت الصغيرة وقد استنار وجهها: 
_بجد يا بابا يمان؟! 
أعطاها يمان الهدية فقبلته شاكرة ثم وثبت من فوق قدميه لتدخل إلى حجرتها. 
ولم يمكثا طويلًا فقد غادرا إلى البيت، بذكرياتٍ ستبقى محفورة في قلب غرام خالدة أبد الدهر. 
                                   ********    
توالت الهدايا على غادة من يوسف يوميًا، حتى أسرتها وباتت تكن له مشاعر إعجاب أخذ يتذايد في أعماقها، وبغتة توقفت هداياه وأورثها ذلك حزنًا وقلقًا عليه، وأخذت الأفكار تعصب بها، والحيرة تنهشها. 
هل أنقطع يوسف إلى الأبد؟! 
هل كف عن حبها؟! 
هل نساها؟! 
أما أنه قد تعرض لشيء أحال بينه وبينها؟! 
هل ثمة خطرًا ما داهمه؟ 
لا غرو! إن أنقطاعه جعلها هزيلة، مصابة بالإعياء، كليلة البال، شاردة دائمًا، وغائبة حينًا. 
لقد طالت غيبته ونالها الشوق، وابتغت لو تراه.. وحزنت حزنًا شديدًا أَمَضَّ فؤادها، وبينما هي ذات يومٍ تقف في شرفة حجرتها، وترتكز براحتيها على إطار الشرفة وتطلُ برأسها تتأمل الغائدين والرائحين، إذ أرتفع رنين هاتفها فرفعته إلى أذنيها بخمول ودون اهتمام وهي تجيب رقم مجهول، قائلة: 
_السلام عليكم.. 
فجأها صوته ليعيث في قلبها فسادًا وهو يهمس بصوتٍ خافت حانٍ فشعرت بقلبها يقبل عليه كإقبال الظآمي إلى مورد عذب: 
_طمنيني عليكِ عاملة أيه؟ 
فأختلج قلبها وتلاحقت أنفاسها، وهي تهمس بدورها: 
_يوسف؟! 
فسألها بنبرة جادة: 
_أفتقديني؟ 
فلم تنبس غير أنه لم يهتم، وهو يقول: 
_غادة أنا حاسس بالذنب إني كلمتك، أنا عمري ما عملت كدا مع أي بنت، ولكن شوقي ليكِ مقدرتش عليه ولا أني مسمعش صوتك، أديني فرصة ومش هقولك خطوبة حتى الخطوبة هتكون مبعدانا عن بعض أنا هقول نكتب الكتاب ونعرف بعض وهديكِ الفرصة اللي عايزاها ولو حبيتي بعد كدا ننفصل هننفصل بهدوء مش هعترض بس اوعدك أن ده مش هيحصل. 
وسكت لهنيهة، ثم أتبع يقول: 
_قُلتِ إيه؟! 
لاذت غادة بالصمت طويلًا، ثم غمغمت بحسم: 
_موافقة، وأتمنى مندمش في يوم على موافقتي. 
فتمتم وهو يستطير فرحًا: 
_أوعدك أنك مش هتندمي أبدًا. 
في ذات عَشِيَّةٍ مُقْمِرَة، حضر يوسف برفقة والديه وأستقبلهم مختار مرحبًا هو والشابين، وكان يمان قد سأل عنه لكن الجميع أجمع أن ليس له أصدقاء. 
وأن لا أحد يراه كثيرًا. 
وأن عائلته ليست مختلطة بالناس من حولهم. 
لكنه شاب هاديء، يمر كنسمة هواء ليس له صوتٍ أو حركة، ويبدو غامضًا في بعض الأحيان. 
فآثر يمان ملاقاة يوسف بمفرده، وتقابلا وتحادثه وقد راق له كثيرًا.. ذكي، مثقف، يعمل في إحدى شركات المقاولات. 
واتفق الرجال فيما بينهم على كل شيء تلك الليلة، ثم أتت غادة لتقدم واجب الضيافة وتجلس بجانب والدته وتشاركها في حديثٍ طويل، علمت منها أنها طيبة الشمائل، مرحت الروح، طيبة القلب، ثم جلست برفقة يوسف بمفردهما وتحدثا وحددا موعد خلال أسبوع لعقد القران. 
                          ***********
خرجت غرام من مكتب يمان وأوصدته وراءها وقد افتر ثغرها عن بسمة رائعة، واسعة ففي كل مرة تكتشف في هذا الرجل صفة تجعلها تشعر كأن الحياة قد خلت من الرجال إلا هو، ولملمت أشيائها لتستعد للذهاب معه إلى إحدى المطاعم لمقابلة عمل، حين أرتفع رنين هاتفها فرفعت الهاتف في شوقٍ جم، لترد على أبيها قائلة: 
_بابا عامل أيه طمني عليك؟ وتيتا عاملة ايه؟ 
فجائها صوت أبيها وهو يقول: 
_كويسين يا حبيبتي الحمد لله، أنتِ عاملة ايه؟ 
فردت بأعين دامعة: 
_أنا الحمد لله، انتوا وحشتوني اوي. 
فرد بلطف بنبرة مبهمة: 
_هانت خلاص وهنتقابل قريب؟! 
فغمغمت حائرة: 
_أنت جاي!؟ 
لكن قبل أن تسمع رده سمعت طرقًا على الباب لا ريب أنه تناهى لها فأغلق معها، بينما سمحت غرام بالطارق بالدخول فأنفرج الباب وأطل زكريا برأسه وهو يقول بمرح: 
_أدخل ولا ارجع؟ 
فتبسمت وهي تشير له بالدخول قائلة: 
_تعالى أدخل يا زكريا أتفضل. 
دلف زكريا في هدوء للداخل، وجلس أمام مكتبها وهو يفك أزرار سترته، ثم ألتفت إليها في اهتمام، وقال: 
_أنتِ فاضية ولا مشغولة دلوقتي؟! 
فتمتمت موضحة في هدوء: 
_يعني على حسب لو هتقولي حاجه سريعة فقول عادي فاضية. 
فاومأ برأسه ودمدم: 
_طب حلو، اسمعي بقا يا ستي. 
وحدق في عينيها، بينما أصاخت هي السمع، وقال هو بنبرة هادئة للغاية:
_الحقيقة أني فكرت كتير انا وبابا وخدنا قرار لازم تشاركينا فيه. 
ففتحت كفيها وهي تسأله في دهشة: 
_رأيي أنا. 
فأوما لها بعينيه، وتمتم بصوتٍ خفيض: 
_رأيك أهم من رأينا طبعًا!؟ 
فتراجعت بظهرها لظهر المقعد، وهي تقول في حيرة التهمت وجهها: 
_رأيي في أيه بالضبط؟ 
تنهد زكريا تنهدًا عميقًا، وابتسم وقد خيم عليه الصمت لثوانٍ، ثم قال: 
_ أيه رأيك نعقد قرانا مع غادة ويوسف؟! يعني أنا شايف بما أننا في مكان واحد سوا في البيت أو الشركة فهيكون من الأفضل أننا نعقد قرانا معاهم.. والرأي رأيك برضو. 
ونظر إليها فوجدها واجمة، ممتقعت الوجه بشكلٍ جلي، تطلُ الصدمة من عينيها، تفاجئت غرام بطلبه، لكنها وجدت أن معه حق فما دام أنهما في مكانٍ واحد وبيتٍ واحد فلا يوجد سبب لتأخير عقد القران، فطرفت ببصرها وقد احتارت، وأحست بقبضة في قلبها، ثم غمغمت بصوت متهدج كأنما توشك على البكاء:
_أنا موافقة كدا هيكون أفضل فعلاً ولكن بابا.. 
فقاطعها قائلًا بتهليل: 
_بابا كلم والدك وهو بصراحة كان موافق وطلبوا مني أفاتحك في الموضوع. 
وفي توتر ومقلتين تفيضان دمعًا هزت رأسها إيجابًا.. وبالكاد استطاعت سماعه وهو يقول: 
_يبقى لازم نستعد بقا عشان خلاص كلها أيام وتبقي مراتي. 




تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close