أخر الاخبار

رواية عشق الغرام الفصل الاخيربقلم ندي ممدوح


رواية عشق الغرام الفصل الاخيربقلم ندي ممدوح



أن يموت المرء تائبًا خيرًا من أن يموت عاصيًا. 
الراحل لم يودعه أحد؛ رحيل المودع المفارق بلا عودة، بلى ودع، وداع الغائب لحينٌ من الدهر على أملٍ باللقاء، أليس مؤلم أن يموت المرء دون وداع؟ دون أن يكون الأحبة بجانبه؟ دون أن يرتوي من عيونهم ويشبع من ملامحهم؟! 
بلى، موجع والأكثر ألمًا ذلك الرحيل دون أن يكون ثمة قبرٌ نلوذ به بغائبنا حتى إذا همنا فراقه هرعنا هنالك. 
مذ أن سافر والده ومختار يشعر بقلقٍ يقتات على قلبه، ويذره مهملًا موحشًا بغصةٍ كالحنظل. 
كان في مكتبه يباشر أعماله ببعضٍ من الثبات الذي لم يقضِ عليه القلق، عندما أتته مكالمة من رقمٍ غير مسجل، قال له صاحبه ما أن أجاب: 
_حضرتك مختار العزيزي والد الأستاذ زكريا. 
فنهش الخوف من قلبه وهو يومأ برأسه قائلًا في توجس لم يكن له سببًا وأنما جاء تلقائيًا: 
_أيوة أنا، مين حضرتك؟ 
لوهلة خيم الصمت لثوانٍ قبل أن يقول الصوت في أسف: 
_البقاء لله، ابن حضرتك كان من مضمن ركاب طيارة لندن اللي انفجرت... 
عندئذ لم يستمع مختار لباقي عبارة الرجل، بل فغر فاهٍ واتسعت عيناه مصدومًا، وقاطعه قائلًا وهو ينهض: 
_يعني أيه؟ ابني مات! 
وسقط الهاتف من يده، وأمسك قلبه وهو يشعر بوخزٍ حاد في سويدائه، وأستند براحته الأخرى على سطح المكتب، وهو يقول متألمًا: 
_زكريا، ابني.. ابني مات! 
بدا أنه مذهولًا، مأخوذًا، غير مستوعب، يودُ لو يتأكد مما عرف، فإذا بعقله يرفض الفكرة تمامًا وينتشله من حيرته وألمه وصرخ متأوهًا بشدة؛ صرخة دخلت على إثرها السكرتيرة مهرولة وهتفت باسمه وهي تعدو إليه لكن الدنيا قد مادت في عيناه، وسقط فاقد الوعي. 

                        ************

أقبلت غادة نحو غرام تعدو ما أن تناهى لها نبأ خالها في المستشفى من قِبل الموظفين، وقفت غرام تستقبلها في صالة الأنتظار، بينما هتفت غادة في لوعة وهي تلهث في انفعال: 
_غرام، خالي.. خالي مختار حصل له أيه؟ 
هزت غرام رأسها في أسفٍ، وقالت بصوتٍ بئيس: 
_معرفش والله ما اعرف اتصلوا بيا من الشركة وقالوا أنه أغمى عليه ونقلوه على طول على هنا. 
تلفتت غادة حولها وهي تقول: 
_يمان.. يمان لسه مجاش؟ انا برن عليه تفلونه مغلق. 
غمغمت غرام في حيرة: 
_لا مجاش، يمكن ميعرفش حاجة! 
"الأستاذ يمان هو اللي نقل خاله المستشفى" 
أتت العبارة من غريبٍ يقف ورائهما، فالتفتت غادة وهي تقول بلهفة: 
_يمان هو اللي نقله؟ 
أومأ الموظف قائلًا في هدوء: 
_أيوة.. وطلب مني أفضل مع الأستاذ مختار لحد ما يرجع. 
اومأت غادة برأسها وقالت في ثبات: 
_متعرفش راح فين؟ 
هز الموظف رأسه نافيًا وهو يقول: 
_معرفش يا فندم. 
تنهدت غادة تنهدًا عميقًا، ثم أردفت: 
_طب تمام أتفضل أنت على شغلك في الشركة الأمور هتمشي زي ما هي عادي. 
رحل الموظف وجلست هي وغرام في انتظار أي شيء لتطمئن على خالها وما الصدمة التي أدت به إلى ذلك! 
وبينما هن جالستان إذ أقبل يمان ممتقع الوجه، مصدوم العينين، فوقفت غرام وغادة تلقائيًا في توجس، وبادرت غادة قائلة ما أن دنى منهن: 
_يمان كنت فين؟ مال خالك؟ أيه اللي حصل؟! 
حوَّل يمان بصرٌ زائغٌ إلى غرام وتطلع فيها صامتًا وهو يزدرد لعابه، ثم ألتمع الدمع في مقلتاه، وأطرق الرأس وقال بصوتٍ بدا كأنما يأتي من مكانٍ سحيق: 
_زكريا. 
هتفت غرام في انفعال: 
_مال زكريا؟ 
رفع يمان رأسه إليها ثم أغمض عينيه واعتصر جفناه وهو يقول بنبرة تقطر حزنًا: 
_زكريا توفى الطيارة اتفجرت بيه! 
قالها فشهقت غرام وهي تضع أناملها تكتم فمها، وقد أخذ الدمع يسح من عينيها مدرارًا. 
وصرخت غادة وهي تواري وجهها بين راحتيها: 
_زكريا، مستحيل مات طب ازاي!؟ 

                         ************

مرت أيام العزاء كئيبة موحشة، كان الأكثر ألمًا هو مختار فهو لا ينفك باكيًا متألمًا، لقد نسج الحزن على وجهه أخاديدٌ سوداء، لم يستقبل أحد من المعزيين، بل لم يفارق حجرته منذ خرج من المستشفى، يؤلمه أن ابنه قد تحول لأشلاء، وأنه غادر دون وداع، قال له أنه مسافر، فلم يحسب أن السفر بغير رجوع! 
في ذلك اليوم حضر محامي العائلة، وطلب من الجميع الحضور حتى يمان، وأخذ يتطلع في الجميع في هدوء، ثم نظر إلى مختار الذي يجلس منهكًا، بعبراتٍ تجمعت بين أجفانه، وهو يلقي رأسه على ظهر المقعد في إعياء: 
_أ. مختار أنا بقدم عزائي ليك في وفاة زكريا. 
نظر له مختار وهو يضيق عيناه في ألمٍ مما ألَمّ به، فأردف المحامي يقول: 
_أنا جيت النهاردة عشان المرحوم ساب عندي أمانة كان لازم أردها في اليوم اللي سافر فيه ولكن بسبب اللي حصل أضطريت استنى! 
غمغم مختار وهو يحملق فيه مندهشًا: 
_أمانة أيه؟ 
حاد المحامي ببصره إلى غرام، وأردف يقول: 
_الأستاذ زكريا طلق حضرتك في اليوم اللي سافر فيه، قبل ما يطلع على المطار جالي المكتب. 
وأضاف وهو يمد يده لها ببعض الأوراق: 
_دي الأوراق اللي تثبت ذلك، ودي رسالة كان سايبها لحضرتك. 
تعلقت الأعين كلها في غرام وهي تتناول الأوراق، ثم نقلت بصرها إلى مختار الحائر، وقد هم أن يقول شيئًا، لولا أن تمتم المحامي: 
_وساب لحضرتك رسالة برضو أنت والأستاذ يمان! 
ثم ناولهما الرسائل ونهض وهو يستأذن منصرفًا، فأسرعت غرام إلى حجرتها، بينما غادر يمان المنزل، وقبض مختار على الرسالة بشوقٍ ولهفة، ثم فضها وأخذ يقرأ ما جاء فيها بنهمٍ وهو يتساءل: لماذا ترك له ابنه رسالة قبل سفره؟ هل كان يشعر أنه راحل! 
(أبي، عندما تصلك هذه الرسالة وتكون بين يديك، أكون أنا قد غادرت أرض الوطن، وأودُ أن أطمئن قلبك بأني أتٍ لا محالة قريبًا ولكن بعدما تكون قد غفرت ليّ ما اقترفته في حق نفسي وحق غرام وحق يمان وحقك أيضًا يا أبي! أعلم أن ما ستقرؤه سيكون صدمة طاحنة لك أنا ادرك ذلك، وربما قد تبغضني. 
ولكن لا ريب أنه يجب أن تعلم ظلمي للأحباب، نعم يا أبي لقد ظلمت يمان وغرام هما صادقان لم يختلقا كذبًا أني شخصًا بشع الخلق والخُلق والانسانية، لقد أعتديت على غرام عندما كنا في باريس. 
والدك قد اعتدى على زوجته، لقد.. لقد كنت أشرب الخمر وأزنى. 
تحل بالشجاعة رجاءً يا أبي لا تتزعزع مما ستقرأ، نعم أنا كنت أفعل كل ذلك، ولكنني قد تبتُ إلى الله منذُ زواجي بغرام، غرام ردت ليّ روحي الغائبة، التائهة، في ملذات الحياة، أعادتني إلى الله. 
ليّ طلبًا وحيد منك يا أبي سواء قد غفرت ليّ أو لأ، سامحتني او لأ لقد طلقت غرام، فأرجوك ما أن تنتهي عدتها حتى تزوجها إلى يمان، هو أحق بها مني، ربما يغفر هذا ما اقترفته في حقهما. 
سامحني يا أبي أرجوك أغفر ليّ خطيئتي 
زكريا العزيزي) 
أمَّا بالأعلى كانت غرام لا تصدق أنها قد تحررت من سجن زكريا، باتت حرة وحيدة، مضت على ورقة الطلاق كالغريق، ثم فضت خطاب زكريا؛ بلا شغفٍ وشرعت تقرأ: 
(كنتُ ضائعًا تائهًا في بحرٍ لُجي، أفعلُ كلُ كبيرة دون أن أهاب الله أو أذكره، منغمسًا في الملاذات دون ذرة خوفٍ من الله، لأني لم أكن أعلم من هو الله حقًا، حتى دخلتِ إلى حياتي كنتُ أتعجب بُكاءك في الثلث الأخير من الليل، لماذا تصلي في الليل؟ لماذا تبكي؟! هل يسمعك الله حقًا؟! أيسمعُ نجواكِ؟! حتى جربتُ ذلك لأول مرة ما أجمل قيام الليل والناس نيام، شعورٌ لذيذ يتوغل في الحنايا، ويسري في مهجة المرء فيورثه الراحة، بأنه مختلف عن كل البشر وأن الله قد أختصه باللقاءٍ خاصًا معه في الليل دون أن تراه الأعين. 
خطابي لكِ ربما يكون طويلًا فقرأي بصبرٍ ودون مللٍ أو كللٍ لآخر مرة يا غرام ولن تسمعي أو أطلب منكِ شيئًا آخر. 
عندما كنتِ تصيمين يا غرام كان وجهك منيرًا مشرقًا، نفسك جميلة نقية طاهرة، تعتراكِ راحة عجيبة وتسامح أعجب، فما أراكِ إلا تصلين أو تناجين الله، وهنا كانت بداية توبتي، نعم، الصيام رباني علمني أن الله سميعٌ رقيبٌ مجيب، لقد قررت أن أحذو حذوك أن أجرب الصيام فأرى ماذا يصنع في المرء! 
وما صنعه كان عجيبًا، فلقد محى غشازة عيني، وأزال السود الذي ران على قلبي، دلني إلى الهدى، علمني كيف أتوب، لقد كان لكِ الفضل يا غرام بأن أتوب، وأزيل خطايا قلبي فلكِ الشكر، حمدًا لله أنه قد أراني طريق التوبة الذي ظننته بعيدًا بعد السماء عن الأرض، سبحانك ربي تهدي من تشاء وتضل من تشاء. 





أخيرًا وقبل أن أقول وداعًا عليكِ أن تعلمي أنني منذُ أن تزوجتكِ لم أمس أمراة أخرى، طلبي الأخير هو أن تعودي إلى نفسك إلى غرام التي لا شيء يقيدها ولا يتحكم بها.. أمضي قدمًا لن يعد في حياتك زكريا لقد حررتك مني وطلقتك. 
وداعًا يا عزيزتي 
زكريا العزيزي) 
طوت غرام الخطاب والدموع تترى من مآقيها ثم أخذت تضحك في فرحة، لقد تحررت أصبحت وحيدة أخيرًا! 
نهضت من جلستها ثم جذبت حقيبة راحت تضع بها ملابسها وهي تتهيأ للرحيل من سجنها. 
مختار ليس وحيدًا ابناء شقيقته قد عادوا إليه! 
لكن أين قد تذهب؟! 

                            ***********

صف يمان سيارته في مكانٍ هادئ، وغادرها وفي يده خطاب زكريا، هل شعر بالحزن عليه؟ 
نعم حزن حزنًا شديدًا على موته
حزنًا أدمى قلبه 
تنهد وهو يقف جانبًا يفض الخطاب في لهفة، وراحت عيناه تلتهمان كلام زكريا في شوقٍ: 
(أخي، عزيز قلبي يمان، لأول مرة أقولها لك، ولأول مرة أشعر أني أحبك حبًا جمًا، أعلم أني قد أخطأت في حقك كثيرًا، لكني أعلم أن قلبك طيب ستغفر لأخيك حتمًا، لا ريب أنك تعلم أني كنت أغار منك في كل شيء، وأحقد عليك وأنك قابلت كل هذا بقلبٍ رحبٍ صبور، كنت يا يمان دائمًا بجانبي كثيرًا ما حاولت أن أبتعد عن كل ما أفعله، قدمت ليّ النصائح دائمًا حتى فاض بك وسقط من يدك ويأست، لا تثريب عليك هذا حقك أن تيأس من شخصٍ كان يأخذ نصائحك في تهكم ويلقي بها عرض الحائط، وكان دائم الاستهزاء منك. 
سامحني يا يمان عندما أتهمتك أنت وغرام أن بينكما شيئًا ما كنت حقيرًا يا أخي أتمنى أن تغفر ليّ فقد تبتُ إلى الله، وأريدك عند عودتي أن تكون أول المستقبلين ليّ في المطار هكذا سأعلم أنك سامحتني، سنبدأ صفحة جديدة، ولنكن يدًا بيد وكتفًا بكتف ولنكمل ما تبقي من حياتنا معًا. 
يا الله كم أتلهف أن نخرج معًا أنا وأنت، ونصلي سويًا في صفٍ واحد، وأن نستمع إلى الدروس الدينية جنبًا لجنب، أعدك أن لا أتأخر سأتي في الحال فكن بخير حتى أتيك. 
أخيك زكريا العزيزي) 
كور يمان الخطاب في يده، وهو يجهش في البكاء فغطي وجهه بين كفيه وارتفع نشيجه. 
آهٍ يا زكريا.. 
لقد رحلت قبل أن تفعل ما تتمنى! 
رحلت طاهر القلب من أوساخه! 
كم مؤلم رحيل من نحب دون زكريات نقتات عليها من بعده! 

                            **********

لم يأتٍ عبد السلام للعزاء، رغم أنه قد سمع بوفاة زكريا ابن صديقه وزوج ابنته، آثر البقاء في منزله كلا يرَ ابنته التي تشعره بالخزى والعار، لكنه استلم فلاشة جائته من زكريا المتوفي فحيرته! 
واستمع إليها ليعرف الطآمة الكبرى بأنه قد ظلم ابنته الوحيدة، بدل أن ينصرها ويأخذ حقها من زكريا أتهمها باطلًا، الويل له! 
عندئذ سافر هنالك ليأتي بابنته ويطلب منها السماح ويقطع علاقته بمختار، فما أن وصل لم يجد إلا يمان الذي لم ينهض لأستقباله بل رمقه بنظرة سريعة ثم أشاح البصر عنه بعيدًا، فدلف عبد السلام، وهو يهتف باسم ابنته: 
_غرام.. غرام أنتِ فين؟! 
وفي منزل العزيزي ومنذ وفاة الابن والجميع منعزلًا لا أحد يعرف شيئًا عن الآخر، لكن غادة حضرت على صياح عبد السلام وبادرت قائلة: 
_عم عبد السلام تعالى اقعد وأنا هندهلك غرام. 
فغمغم عبد السلام: 
_اديني واقف اندهيها بسرعة! 
ارتقت غادة الدرج في سرعة، وأتجهت إلى حجرة غرام التي وجدتها فارغة حتى من ملابسها، بالأسفل كان مختار يقترب بإعياء من عبد السلام الذي قال له في هجوم: 
_كدا يا مختار والدك يعمل كدا في بنتي، انا بسببه كنت هموتها! 
فدنى مختار منه وهو يقول بأسف: 
_حقك يا عبد السلام تزعل بس ابني خلاص مات... 
قاطعه عبد السلام وهو يقول في عنف: 
_مش مسامحه ليوم الدين يا مختار... 
وبُتر صوته مع صياح غادة وهي تهبط الدرج: 
_خالي مختار غرام مش موجوده ولا ملابسها حتى، غرام مشت. 

                       ************

جلست غرام داخل قطار يتجه إلى الأسكندرية، لم تكن تعلم أين ستأخذها قدميها، وأين تضع رحالها؟! لم يكن لها أحد إلا أبيها! 
وهي لن تعود له!
لن تعود لأبًا نبذها دون أن يعلم الحقيقة! 
لن تأسف على البقاء دونه! 
تطلعت عبر نافذة القطار إلى الليل البهيم الذي أسدل ستاره، وإلى الطرقات في هيامًا شارد. 
هبطت على محطة القطار، ووقفت ذاهلة تفتش في الوجوه عن وجهًا قد تعرفه، وظلت لردحًا من الزمن لا تعرف أين تذهب، ثم خرجت من محطة القطار، وشرعت تسير دون هدى، وعندما يأست توقفت مكانها، وأخذت تبكي في يأسٍ، وقد أحست بالخطاء الذي ارتكبته بأتينها إلى مكانٍ لا تعرف فيه أحدًا، توقفت سيارة أجرة بجانبها فصعدت بينما يسألها السائق: 
_على فين يا بنتي؟ 
فتطلعت إلى الرجل الذي لم يكن كبيرًا في السن ولم تجب، فكرر سؤاله وعندما لم يتلقَّ ردًا غمغم: 
_أنتِ محتاجة مكان تباتي فيه النهاردة؟! 
ما أن سمعت غرام جملته حتى أشرقت ملامحها، وأومأت برأسها وهي تقول: 
_لو حضرتك تعرف فندق هين هكون شاكرة ليك جدًا! 
فتنهد الرجل وهو يسألها: 
_فندق وأنتِ لوحدك يا بنتي مش أمان ليكِ خالص، أنا أعرف ست ممكن تتصرف ليكِ في أوضة كدا على قدك تقعدي فيها.. بس في منطقة شعبية. 
وافقت غرام أن يذهب بها إلى هذه المرأة، ثم توقف السائق أمام محل للحلويات في حارة شعبية تجلس أمامه امرأة يبدو الشقى على وجهها، تحرك الرجل إليها وهو يقول: 
_السلام عليكم يا ست سعاد. 
فوقفت سعاد بوجهًا بشوش وهي تهتف: 
_وعليكم السلام يا حج عطية.. عامل أيه يا حج. 
ثم لمحت غرام بطرف عينيها، فدنا منها الرجل وأسر إليها ببعض الكلمات، جذبت المرأة على إثرها كرسيًا ثم دعت غرام إلى الجلوس قائلة: 
_تعالي اتفضلي اقعدي هنا. 
فهزت غرام رأسها وهي تقول في استحياء: 
_لا لا شكرًا. 
فجذبتها سعاد من يدها وأجلستها وهي تقول: 
_تعالي ياختي اقعدي وشك أصفر زي اللمونة. 
ثم نادت على غلامٍ صغير صائحة: 
_تعال يا واد علي أنده للبت أسماء من فوق. 
ثم نظرت إلى الحج عطية وهمهمت: 
_خلاص يا حج روح أنت شوف شغلك ومتقلقش عليها هتقعد معانا لحد ما أشوف لها أوضة على قدها. 
همَّت غرام أن تقول أي شيء لولا أن أقبلت أسماء وهي تقول: 
_أيوة يا ماما. 
فربتت المرأة على كتف غرام وهي تقول لأبنتها: 
_خديها فوق معاكِ وضيفيها واهتمي بيها. 
فاومأت أسماء، قائلة: 
_حاضر. 
ثم تفرست النظر في غرام التي نهضت معها وقبل أن تخطو خطوة واحدة مادت بها الأرض وتعثرت مترنحة فأسندتها أسماء سريعًا، وهي تقول: 
_على مهلك. 
ثم سقطت غرام من بين يديها فاقدة الوعي. 

                             *********

(حمد لله على السلامة، عاملة أيه دلوقتي؟) 
هتفت بهذه العبارة أسماء وهي تجلس على طرف الفراش بجوار غرام، التي أعتدلت من رقادها لتجلس وهي تقول بوهن: 
_الله يسلمك الحمد لله أنا كويسة. 
حينئذ دخلت سعاد وهي تحمل صنية قائلة بوجهٍ بشوش: 
_حضرت لك لقمة تكليها. 
فغمغمت غرام في استحياء: 
_لا، لا شكرًا. 
فنهرتها سعاد بحدة حانية: 
_أيه شكرًا دي حتى كلي لقمة عشان العيل اللي في بطنك. 
أطل الفزع من أعين غرام، وقد حلت الصدمة على وجهها وهي تهتف بارتياع: 
_حامل!! أنا مش حامل؟ 
فغمغمت سعاد وقد توجست خيفة منها وقد ظنت بها الظنون: 
_مش حامل إزاي يعني يا بنتي؟ الدكتورة كانت هنا وقالت إن إغمائك كان بسبب الحمل. 
وضعت غرام تلقائيًا يدها على بطنها في صدمة طغت على كل كيانها، بينما تبادلت الحجة سعاد النظر مع ابنتها حائرة، في حين ازدردت غرام لعابها في خوفٍ من القادم. 
انبعث صوت سعاد وهي تقول بتريث: 
_أنتِ مكنتيش تعرفي أنك حامل؟ 
هزت غرام رأسها نافية وهي تقول بأسفٍ: 
_لا، مكنتش أعرف. 
همست سعاد بصوتٍ خفيض وهي تميل على أذن غرام مستريبة: 
_أنتِ متجوزة ولا أيه حكايتك؟! 
تطلعت فيها غرام دون أن تنبس ببنتِ شَفة، كيف تكون حامل وزكريا لم يقترب منها إلا في ذاك اليوم المشؤوم عندما اعتدى عليها؟! 
"هو أنتِ هربانة من طار ولا قتلتي قتيل، ولا فارة من أهلك بعد ما اكتشفوا عملتك" 
في حدة استدارت غرام إلى مبعث الصوت لدن الباب، فوجدت أمراة يبدو عليها القوة والصرامة وهي تضع كفيها في جنبيها، وقبل أن تفوه بحرفٍ بادرت أسماء تقول: 
_اسكتِ بالله عليكِ يا طنط منى، مالكم جايين على البنت كدا ليه؟ سيبوها تستريح ويلا اطلعوا بره! 
زمَّت منى شفتيها وهي تقول في حنق: 
_اصبري لما أعرف حكاية البنت دي أيه؟ 
فتحركت أسماء نحوها وقادتها خارج الحجرة وهي تقول: 
_يا ستي هنعرف بس مش دلوقتي يلا بقا اطلعي. 
ثم صاحت وهي تلتفت إلى أمها: 
_يلا يا سعاد اطلعي شوفي دنيا وعم طه. 
اندفعت سعاد خارج الحجرة وهي تحدج غرام بعنفٍ، بينما أغلقت أسماء الباب وجلست بجانب غرام وهي تقول بنبرة رقيقة: 
_متزعليش من امي دي ست طيبة جدًا وهتحبيها اوي هي بس بتخاف علينا حبتين، على فكرة أنا محامية ولو أنتِ واقعة في مشكلة أنا في ضهرك. 
ثم أستطردت وهي تقول بمرحٍ، وضحكة رقيقة: 
_يعني انا محامية صغيرة على قدي كدا بس معايا محاميين كبار ويعجبوكي. 
ثم تناولت صنية الطعام وشرعت تطعمها قسرًا. 

                           **********

ااا 
مرت أيامًا تليها أسابيع وهي تقيم مع السيدة سعاد بأجرٍ بسيط هو معاونتها لها في العمل بمحل الحلويات الذي تملكه، بعدما رفضت أن تقيم بمفردها وهي وحيدة وحامل، ووجدت في صحبتهن كل الأنس، وقد أحبتهم وأخذت تمضي الأيام معهن جميلة مرحة. 
ذات يومٍ كانت تقف تبيع لأحد الزبائن، بينما تجلس سعاد مع صديقة عمرها منى، عندما لمحت بطرف عينيها يمان وهو يقبل شَطْرها بخطواتٍ وئيدة، دون أن يحيد البصر عنها... 
وفي عينيه كل الشوق.. 
وكل اللهفة.. 
فتراجعت إلى اللوراء خطوتين وهي تزدرد لعابها وتهمس باسمه في خفوت، فدنى منها وبمقلتين تومضان بالشوق واللهفة هتف: 
_أخيرًا لقيتك؟! 
عندئذ تنبهت منى وسعاد، وهتفت منى وهي تثب واقفة في عنف: 
_أنت مين يا أخينا؟ 
وأرجعت سعاد غرام وراء ظهرها وهي تهتف بصرامة: 
_خير يا بيه!؟
ثم قبضت على ذقنه لتدير وجهه إليها، وهي تصيح: 
_بصلي أنا كدا ورد عليَّ مين أنت، وعايز أيه؟! 
همس يمان بصوت متهدج: 
_عايز اتكلم مع غرام! 
ضربت منى فوق صدره بانفعال وهي تحاول إخراجه خارج المحل، وهي تهدر: 
_والله! ببساطة كدا يا جدع أنت تقول عايز اتكلم معاها؟! امشي يلا من هنا بدل ما اعملك عاهة مستديمة...! 
فقاطعتها غرام وهي تقول بلهفة: 
_سيبيه يا طنط منى انا أعرفه! 
فالتفتت سعاد ومنى إليها، وهن تقولا بصوتٍ واحد: 
_أنتِ تعرفيه بجد؟ إوعى تكوني خايفة منه. 
فهزت رأسها وهي تقول: 
_لا، لا متقلقوش! 
غادرت سعاد ومنى المحل ليتركهما يتحدثان بحرية، دون أن تبتعدا أو تحيدان البصر بتحفز عن يمان، الذي اقترب من غرام وهو يقول بحزن: 
_ليه عملتِ كدا ومشيتي؟! 
فأستدارت توليه ظهرها وهي تهمس بألمٍ: 
_عشان مبقاش ليَّ حد هناك! 
فقال يمان وهو يتبسم في سخرية: 
_كدا بكل بساطة! 
أستدارت له غرام وهي تقول بأعين تفيض بالدمع: 
_ليه جيت يا يمان؟! ولا عرفت طريقي إزاي؟ 
تنهد يمان وهو يشيح وجهه عنها قائلًا: 
_يوسف هو اللي عرف ليَّ مكانك من نوح بالصدفة، أنا كنت ليل نهار بدور عليكِ، بلف زي المجنون في الشوارع، مبقتش بنام ولا برتاح من قلقي عليكِ؟! إزاي قدرتِ تعملي كدا؟ 
تفرست فيه غرام النظر من رأسه حتى أخمص قدميه، كان مشعث الشعر، كثيف شعر اللحية التي تغطي نصف وجهه، مبهدل الملابس، فنظرت في عيناه وهي تقول: 
_أنا معرفتش اروح فين مقدرتش أرجع لبابا بعد اللي عمله! 
فهتف يمان في انفعال حاد: 
_بس أنا كنت موجود وكنت هساعدك.
نفخت غرام بحنق، وأردفت: 
_أهو اللي حصل حصل أنا هفضل هنا وهصرف على نفسي وابني.. 
قاطعها يمان وهو يسألها في اهتمام: 
_أنتِ حامل؟ 
فهزت رأسها إيجابًا، ثم تمتمت: 
_أيوة حامل، يمان انا مش هرجع معك، ومش هسامحك لو قُلت لحد عن مكاني، أنا خلاص مبقاش ليا حد ولا حتى ابويا اللي رماني من غير ما يسمع مني. 
وأوفى يمان بكلمته ولم يخبر أحد بمكانها، وكان دائم الزيارة لها عند السيدة سعاد التي لم تكن تتركهما بمفردهما، وكانت دائمًا تقابله بشراسة لم يعرف مصدرها، إلا أنه كان مطمئنًا عليها معهن. 
ومضت شهور الحمل بخير، وحانت لحظة الولادة وكان أول من حمل الطفلة هو يمان الذي علم بولادتها من نوح زوج أسماء، وأخذ يهتم بالطفلة كأنها ابنته، وزيارته لهن كثرت مع مجيء الصغيرة، فكان يحضر لها ما تحتاح إليه وزيادة، ويحاول بكل بسالة إقناع غرام بالعودة، لكنها كانت تصر على البقاء. 
كتم يمان نبأ غرام حتى عن خاله وهو على يقين أنه قريبًا جدًا ستعود غرام وتخبره هي بنفسها أن لزكريا بنتًا، لم يحسب أن هذا اليوم القريب سيأتي باكرًا جدًا جدًا، فبينما هو في عمله إذ أتصل به خاله مختار يخبره أن عبد السلام قد أصيب بجلطة وأنه ما بين الحياة والموت، فذهب يمان فورًا ليراه، لم يكن عبد السلام ينزل إلى أسيوط إلا لمامًا بعدما غادرت غرام، كان القلق ينهش قلبه، والندم يأكل من صحته، وخوفه على ابنته جعله زاهدًا في الحياة لا يريد شيئًا إلا رؤيتها، لكن ماذا يجدي الندم بعد فوات الأوان؟ وعندما تيقن يمان أن الرجل قاب قوسين أو أدنى من الموت حتى أتصل بغرام ليخبرها وليترك لها هي القرار. 
أمَّا أن تأتي فتراه، أو ترفض فتعيش العمر كله في ندم. 
لكن غرام جاءت ومعها سعاد ومنى، وكان مجيئها كأعصارٍ رج مختار الذي وقف في انفعال وقد ومضت عيناه وهو يراها تحمل طفلة على ذراعها، فتبسمت غرام له في حنين وناولته الطفلة وهي تقول: 
_بسملة يا عم مختار بنت زكريا. 
فضمها الرجل إلى صدره وراح يقبلها في شغفٍ وحنين وهو يتمتم: 
_حرام عليكِ يا غرام ليه حرمتيني منها! 
فأطرقت غرام في رأسها ولم تجيب.. 
لم تجد ما تجيب به! 
وقد عفتها غادة عن الإجابة عندما ضمتها في شوقٍ ثم راحت تعاتبها، دخلت لترى والدها بناءً على طلبه فأبى مختار أن يعطيها الطفلة قائلًا: 
_ادخلي أنتِ اطمني على أبوكِ وسيبيها معايا. 
فوافقت على مضض، واتجهت إلى حجرة العناية لترى أبيها هناك ممددًا على فراش المرض بوجهٍ شاحب أشرق وتورد ما أن سقطت عيناه عليها، فمد ذراعه إليها وهو يقول بوهن: 
_غرام أخيرًا جيتي تشوفي أبوكي قبل ما يموت؟! 
فشهقت في البكاء، وهي تعدو إلى حضنه تلومه وتعاتبه وتبث له شجونها وقهرتها منه، ويطلب منها هو السماح. 
وأخذ منها وعد بعدم الرحيل مجددًا. 
خرجت غرام من عند أبيها بعدما أخرجتها الممرضة كي يستريح وبعدما استبد به التعب والأرهاق أكثر، وأخذ منها السماح، تقدمت منها سعاد وهي تقول: 
_أيه يا غرام اطمنتي على أبوكي؟ عامل أيه هو دلوقتي؟ 
فأومأت غرام برأسها وهي تقول: 
_الحمد لله ادعي له يا ست سعاد. 
ثم دمعت عينيها وهي تقول: 
_أنا مليش غيره في الدنيا؟ 
ثم أستدركت تقول: 
_أمال عمي مختار فين؟ 
فضيقت منى عينيها، وهمست وهي تتلفت: 
_كان هنا وفجأة أختفى! 
فتبسمت غرام في توتر، وقد أنقبض قلبها بخوفٍ، وهي تقول: 
_طيب بنتي، بنتي فين؟ 
غمغم يمان يطمئنها: 
_متقلقيش أكيد مرحش بعيد أنا هروح أشوفه! 
لكن مختار لم يكن له أثر لا في المستشفى ولا في المنزل، ثم أنه قد أرسل ليمان رسالة يقول فيها (
قول لغرام متدورش على بنتها لأنها معايا ومش مرهجعها ليها تاني ولا هسمح ليها تبعد بنت ابني عني، أنا ما صدقت لقيت ريحة من ريحته أعيش عشانها ومتدوروش عليَّ مش هتعرفولي أثر) 
ومع هذه الرسالة كانت غرام تستقبل طآمة أخرى وهي وفاة والدها، فكانت المصيبة مصيبتين أردوها صريعة، تئن ألمًا وتبكي غدرًا، وتنزف دمًا على فرحةٍ لم تدُم لها، وبين ذراعي منى وسعاد سقطعت غرام أرضًا منتحبة بصوتٍ يشطر القلوب: 
_بنتي آه يا بنتي، آه يا بابا سبتني لمين؟! ليه كده يا عمي مختار، ابنك يظلمني وأنت تظلمني! 
ووقف الجميع حائر يترقب في عجزٍ كان أكثرهم ألمًا هو يمان الذي كان ينظر إليها بقلبٍ مفجوع على صغيرته التي أحبها حبًا جمًا. 
لماذا لم يترو خاله ليعرف أن غرام والطفلة سيعودان لمنزله عندما يتقدم لغرام ويتزوجها، لكنه حطم كل شيء، في كل مرة  يظن أن الأمر هين يحدث شيئًا فيجعل الأمر محال. 
هدر وهو يولي منصرفًا: 
_أنا مش هسمح لخالي يبتعد ببسملة، لازم ارجعها. 
بينما جف حلق غرام من الصراخ فألقت رأسها على صدر منى ثم أغلقت عينيها وأستسلمت للجة من الظلام الذي ابتلعها عساها تهرب من واقعها الأليم. 
هكذا هي الحياة لا فرح دائم ولا حزن دائم تارة راحة وتارة عذاب. 
هي الدنيا تعذب ساكنيها. 
ومع كل عذاب فقدان ليس له دواء.. 


        الفصل السادس عشر من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close