رواية وهم الرجوع الفصل العاشر10بقلم رميسة


رواية وهم الرجوع الفصل العاشر10بقلم رميسة



 - بين البقاء و الرحيل 

هدأت الأجواء في المنزل، لكن الصمت لم يكن مريحًا، بل كان مشحونًا بالخذلان والغضب.

وقف يوسف في منتصف الغرفة، يراقب رحيل وهي تتحرك بسرعة، تضع ملابسها في الحقيبة بعصبية، وكأنها تحاول الهروب من كل شيء. كان يشعر أن كلماته لن تغير شيئًا، لكن مجرد رؤيتها وهي تستعد للرحيل جعله يدرك كم أنه خائف… خائف من فقدانها للأبد.

يوسف (بصوت مهزوز لكن مصمم): "رحيل… متعمليش كده، اسمعيني بس."
رحيل (دون أن تنظر إليه، وهي تغلق الحقيبة بقوة): "مفيش حاجة أسمعها، كل حاجة واضحة… أنا مش قادرة أكمل كده، مش قادرة أعيش معاك وأنا شاكة فيك كل يوم."
يوسف (يقترب منها بخطوات بطيئة): "أنا غلطان… بس مش باللي في بالك، أقسم بالله مكنش في بيني وبين يارا أي حاجة."
رحيل (تضحك بسخرية، وهي تحاول حمل الحقيبة): "وفي صورة تشرحلي ده؟! ولا أنا لازم أصدقك وخلاص؟"

حاولت أن تمشي، لكن يوسف تحرك بسرعة، أمسك بالحقيبة، وسحبها منها. نظرت إليه بعيون مليانة بالغضب والانكسار.

رحيل (بحزم): "يوسف، رجّع الشنطة!"
يوسف (بعناد): "مش هسمحلك تخرجي كده! إنتي مش عايزة تمشي، إنتي بس مجروحة… ولو خرجتي دلوقتي، ده هيكون آخر يوم بينا!"

تجمدت رحيل في مكانها، تنظر إليه وكأنها تحاول قراءة عينيه، هل هو جاد؟ هل فعلاً مستعد يخسرها؟

رحيل (بصوت مختنق): "وإيه الفرق؟ مش أنت اللي ضيعت كل حاجة؟"

تنهد يوسف، ثم فجأة جلس على السرير، وكأنه فقد قوته للحظة. مرر يده في شعره، ثم نظر إليها نظرة مختلفة… نظرة لم تراها منذ زمن.

يوسف (بصوت هادي مليان ندم): "أنا غبي… يمكن كنت فاكر إنك هتسامحيني بسهولة، بس الحقيقة إني خوفت… خوفت أخسرك، خوفت إن الشك يبوظ كل حاجة بينا."

نظرت إليه رحيل، لأول مرة تراه بهذا الضعف، بهذا الانكسار… لكنها لم تكن مستعدة للاستسلام.

في مكان آخر 
بعد ما دخلت يارا بيتها، أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم أسندت ظهرها عليه وأطلقت زفرة انتصار خافتة. خلعت معطفها وألقته على الأريكة، بينما عيناها تتجهان نحو المرآة المقابلة. اقتربت منها ببطء، تأملت انعكاسها، ثم مررت أصابعها بين خصلات شعرها وهي تسترجع تفاصيل العشاء مع يوسف.

ضحكت بسخرية وهي تهمس لنفسها: "لسه زي ما هو… نفس النظرة، نفس التردد…"

اتجهت نحو المطبخ، سكبت لنفسها كوب عصير، وجلست على الكرسي وهي تحرك الملعقة داخل الكوب بشرود. هاتفها الموضوع على الطاولة اهتز معلنًا عن مكالمة واردة، لكنها لم تلتفت إليه فورًا. أخذت رشفة من العصير قبل أن تمسك الهاتف وترى اسم صديقتها على الشاشة. ابتسمت، ثم أجابت:

يارا (بنبرة مستفزة): "عارفة مين كان معايا النهاردة؟"

سمر  (بدهشة وفضول): "إنتِ بتتكلمي عن يوسف؟!"

يارا (بضحكة خفيفة): "هو فيه غيره؟"

سمر: "إنتِ بتهزري؟! ازاي حصل كده؟ مش كان قافل الموضوع من زمان؟"

يارا (بتنهيدة مصطنعة): "فاكرة لما قولتلك اللي ملكتيه مرة، تملكيه تاني؟ يوسف مش استثناء، بس الفرق إن المرة دي مفيش حاجة تمنعني أخده من غير ما يرجع لها."

سمر (باندهاش): "إنتِ مجنونة، بس استني... هو جه لوحده؟"

يارا: "بالعكس، أنا اللي خلّيته ييجي... مكالمة بسيطة، لمّحت له إن في حاجة ضرورية، وجري على بابي زي زمان."

سمر (بسخرية): "ولما جه؟"

يارا (بابتسامة خبيثة): "دخل، شاف البنت، خدها للدكتور، وبعدها طلبت منه نخرج ناكل سوا... وطبعًا مقدرش يقول لا."

سمر : "يا بنتي إنتِ خطيرة، بس استني... هو مش المفروض مراته تشك؟ يوسف مش ساذج عشان يقع كده بسهولة."

سمر(بسخرية): "إنتِ مجنونة، بس استني... هو جه لوحده  كده عادي ؟"

يارا (بابتسامة خبيثة): "طبعًا لا، أنا اللي خلّيته ييجي... لعبت على نقطة ضعف أي أب، بنته كانت تعبانة، اتصلت بيه، وقالتله بنفسها تعال يا بابا، وهو مقدرش يقول لا."

سمر (باندهاش): "ده طبيعي، يوسف عمره ما هيهمل بنته، بس بعد ما أخدها للدكتور؟"

يارا: "ساعتها قلت له تعالِا نأكل مع بعض، والبنت كانت فرحانة، فضلت ترجّيه لحد ما وافق. شوفتِ بقى؟ يوسف فاكر إنه بيراعي بنته، بس في الحقيقة، هو بيرجع لي خطوة بخطوة."

سمر : "بس كده! ده مش معناه إنه راجع ليكي، يوسف مجرد عمل الصح مع بنته."

يارا (بثقة): "هو اللي فاكر كده، بس أنا عارفة إن كل حاجة ليها تأثير. شوية ذكريات قديمة، لمسات بسيطة، كلمات محسوبة، ومع الوقت... مش هيحس بنفسه وهو راجع لي."

سمر: "أنا مش عارفة أقولك إيه... بس لو يوسف حس إنك بتحاولي تتلاعبي بيه، هتخسري كل حاجة."

يارا (بتحدي): "وإيه اللي ممكن يكتشفه؟ هو بنفسه وافق يخرج معايا، وأنا لا كدبت عليه ولا غصبته، مجرد شوية لحظات دافية، وهمسة في ودنه... كفاية تخلّيه يرجع لي من غير ما يحس إنه رجع."

سمر: "طب ومراته؟ أكيد هتحس إن في حاجة غلط؟"

يارا (بابتسامة جانبية): "وأنا عندي وقت، خليه هو اللي يفسّر لها، وأنا هكون هنا، مستعدة لأي سيناريو."

هدأت الضجة في البيت، لكن الصمت اللي حلّ كان أثقل من أي صوت. وقف يوسف في وسط الغرفة ، عيونه مثبتة على رحيل اللي كانت بتحاول تاخد شنطتها وتمشي.

وفجأة، كسر الصوت الهادئ ده صوت خطوات صغيرة…

التفت يوسف بسرعة، وكان قلبه وقع لما شاف ابنته "لين" واقفة عند باب أوضتها، عيونها واسعة وخايفة، وإيديها الصغيرة ماسكة طرف فستانها كأنها بتحاول تتأكد إنها لسه في أمان. صوتها كان ضعيف وهي بتسأل ببراءة مؤلمة:

"بابا… إنت وماما بتتخانقوا ليه؟"

رحيل شهقت وهي تاخد خطوة لورا، كأنها فجأة أدركت إن بنتها سمعت كل حاجة، كل كلمة، كل كسرة، كل خيبة. أما يوسف، فركع على ركبه قدام بنته ومدّ إيده ليها بلطف:

"تعالي هنا يا حبيبتي…"

لكن لين ما اتحركتش، بالعكس، نظراتها راحت على شنطة السفر اللي كانت رحيل بتحاول تحزمها، فبدأت عيونها تدمع أكتر وهي بتسأل بصوت مرتجف:

"ماما… هتسيبينا؟"

الجملة دي نزلت على رحيل زي الصاعقة. كانت فاكرة إنها خلاص أخدت قرارها، إنها مش هتسمح لنفسها تعيش في دوامة الشك والألم دي أكتر من كده… لكن لما شافت الخوف في عيون بنتها، حسّت بتردد رهيب، حسّت إنها فجأة مش قادرة تتحرك ولا تاخد نفس حتى.

يوسف استغل اللحظة دي، قام واقف وقرب من رحيل، صوته كان هادي لكنه مليان مشاعر:

"رحيل… بصي لبنتنا، بصي لخوفها… إحنا نقدر نحلها، نقدر نتكلم، بس ما تخديش قرار يهدّ كل حاجة."

رحيل بصت له بعيون مليانة وجع، صوتها كان ضعيف وهي تهمس: "وأنا؟ مين فكر في وجعي؟ في شكي؟ في إحساسي وأنا بشوفك معاها؟"

يوسف حبس أنفاسه للحظة، معرفش يرد فورًا، لكنه مدّ إيده ولمس كتفها بلطف: "أنا غلط… لكن أقسم بالله ما كان قصدي أوجعك."

اللحظة كانت مشحونة، ورحيل  كانت بتصارع مشاعرها بقوة، لكنها في الآخر، بصت لبنتها اللي كانت لسه واقفة مكانها وبتبص لها برجاء، فحسّت إن رجليها تقّلت، وإن قرار الرحيل اللي كان سهل من لحظات، بقى أصعب بكتير دلوقتي.


تعليقات