رواية وهم الرجوع
الفصل الحادي عشر11بقلم رميسة
- أولويات جديدة
في الصباح
استيقظت رحيل على ضوء الشمس المتسلل من ستائر الغرفة، لكنه لم يكن صباحًا عاديًا، بل صباحًا يليه خيبة وجرح جديد. لم تشعر بالدفء، بل ببرودة الخيبة التي سكنت قلبها. جلست على طرف السرير، يداها تتشابك بين ركبتيها، وعقلها ممتلئ بالأسئلة. لم تتحرك، ظلت تحدق في السقف وكأنها تبحث عن إجابة لأسئلتها الكثيرة هل هذا زوجها؟ هل هذا الرجل الذي وثقت به يومًا؟
في الخارج، كان يوسف يتحرك في المنزل ببطء، وكأنه يخشى إيقاظ عاصفة جديدة. حاول أن يكون هادئًا، لكنه لم يستطع تجاهل ثقل الأجواء بينهما.
سمعت أصواتًا خافتة في الخارج، أيقنت أن يوسف استيقظ. تنهّدت بعمق قبل أن تنهض، وغسلت وجهها بالماء البارد في محاولة لإخفاء آثار الدموع والتعب الذي لازمها طوال الليل. عندما خرجت من الغرفة، كانت خطواتها هادئة لكنها حازمة، وكأنها تسير نحو قرار حاسم.
وجدت يوسف جالسًا على الأريكة في الصالة، عيناه شاردتان، وكأنه يفكر فيما سيقوله لها. عندما لمحها تقف عند المطبخ، استقام واقفًا وتقدم نحوها بحذر، وكأنه يقترب من شيء قد ينفجر في وجهه في أي لحظة.
"صباح الخير، رحيل."
لم ترد.
انتظر لحظات على أمل أن تقول أي شيء، لكنه لم يحصل على رد.
رفعت حاجبيها اخيرا ونظرت إليه، لكن نظرتها كانت خاوية، خالية من أي مشاعر، وكأنها لم تعد تراه بنفس الطريقة. تقدمت إلى طاولة المطبخ، سكبت كوبًا من القهوة وجلست على الكرسي، دون أن تعطيه أي اهتمام.
يوسف شعر وكأنها تدفعه للخارج بصمتها وكأن وجوده أصبح غير مرئي بالنسبة لها.
"رحيل، أنا عارف إنك زعلانة، وعارف إن اللي حصل خلاكي تشكي فيا، بس لازم تفهمي إن الموضوع أبسط مما تتخيلي،
واللي حصل مش زي ما انتي فاكرة."
"بسيط؟ يوسف، أنا تعبت.. مش قادرة أعيش وأنا عندي إحساس طول الوقت إنك ممكن تخذلني في أي لحظة."
نظر إليها بأسف، مدّ يده ليضعها على يدها، لكنها سحبتها فورًا، وكأن لمسته باتت غريبة عنها.
"أنا... أنا بس كنت عايزك تفهميني، وتسامحيني، زي ما كنتي دايمًا بتسامحيني."
تنهدت بعمق، ثم نهضت بهدوء.
"خلاص يا يوسف، الكلام مش هيفيد دلوقتي."
اقترب أكثر، جلس أمامها مباشرة، محاولًا التقاط نظراتها الهاربة.
"رحيل، والله ماكانش في حاجة، بنتي كانت عايزاني أقعد معاهم شوية.. إزاي تفتكري إني ممكن أخونك؟"
رفعت عينيها لكن نظرتها كانت باردة، كلماته لم تحرّك فيها أي شيء. وضعت الكوب بهدوء وقالت بصوت خافت لكنه محمل بالغضب المكتوم:
"الخيانة مش بس أفعال، يوسف.. ساعات بتكون مشاعر، ساعات بتكون مجرد لحظة ضعف.. وأنا زهقت من إني دايمًا اللي بحاول أفهم وأسامح."
ارتبك يوسف للحظة، شعر أن الأرض تنسحب من تحته.
"أنا ما... ما عملتش حاجة غلط، رحيل. مستحيل تفكري كده."
وقفت فجأة، ابتعدت عنه قليلًا ثم التفتت إليه بعينين مليئتين بالألم.
"وأنا كمان مستحيل كنت أتخيل إننا نوصل لكده."
تركته واقفًا، واتجهت نحو الصالة، لكنه لم يستسلم.
"رحيل، استني!"
توقفت للحظة عند الباب، لكنه عندما اقترب منها، رفع يده ليضعها على كتفها، انسحبت بسرعة وكأنها تخشى أن يلمسها.
"متلمسنيش، يوسف.. مش عارفة أصدقك ولا أصدق إحساسي.. بس اللي متأكدة منه إني تعبت."
خرجت من المطبخ دون أن تلتفت خلفها، تاركة يوسف غارقًا في صمته وندمه،يشعر وكأنه يفقدها شيئًا فشيئًا دون أن يعرف كيف يمنع ذلك.
في المساء خرجت رحيل تمشي في الشوارع بلا هدف، لكنها شعرت أنها بحاجة إلى من تستمع إليها. وجدت نفسها أمام أحد المقاهي التي كانت تذهب إليها مع صديقتها ليلى، فقررت الدخول، وجلست تنتظرها.
لم يمر وقت طويل حتى جاءت ليلى، جالسة أمامها بوجه مليء بالقلق.
"مالك يا رحيل؟ من صوتك في التليفون وأنا حاسة إن في حاجة غلط، وشك تعبان قوي، وحاسة إنك مش في حالتك الطبيعية!"
نظرت إليها رحيل، وكأنها تحاول السيطرة على دموعها، لكن في النهاية، انفجرت تحكي كل شيء، كيف شعرت بالخيانة، كيف قضت الليلة الماضية في صراع داخلي، وكيف أصبحت تشعر أنها مجرد ظل في حياة يوسف، وعن إحساسها الدائم بأنها في معركة لا تنتهي.
استمعت ليلى إليها بصمت، ثم أمسكت يدها بحنان قائلة:
"بصي يا رحيل، الحب مهم، بس كرامتك وراحتك النفسية أهم. انتي محتاجة تخرجي من الدوامة دي.. ترجعي تهتمي بنفسك، تعيشي حياتك بعيد عن القلق ده.
انتي لازم تعملي حاجة لنفسك، حاجة تخليكي تحسي إنك مش بس زوجة وأم، انتي كمان إنسانة ليها شغف وطموح.
رحيل (بصوت خافت):
"أنا... مش عارفة اعمل ايه ؟!
ليه متفكريش ترجعي شغلك؟"
رفعت رحيل عينيها ببطء، كأنها تفكر لأول مرة في هذا الاحتمال.
"الشغل؟ بس... أنا تركته بعد الجواز."
"زمان كنتي إنسانة مستقلة، كنتي عندك شغف، كان عندك طموح... فين رحيل اللي كانت بتحب شغلها؟"
صمتت رحيل، وكأنها تسترجع ذكرياتها. قبل الزواج، كانت مصممة ديكور ناجحة، تحب عملها، تعشق التفاصيل، كانت تشعر أن لها قيمة بعيدًا عن أي شخص آخر. لكنها تركت كل شيء بعد الزواج، كانت تظن أن الحب وحده يكفي ليملأ حياتها. والآن؟ الآن تشعر بأنها ضائعة.
رحيل (بهمس):
"كنت بحب شغلي."
ليلى(بابتسامة مشجعة):
"طيب، ليه متفكريش ترجعي؟ متخليش حياتك كلها متعلقة بيوسف، لازم تلاقي نفسك من تاني."
نظرت لها رحيل بتردد ...
"أيوه، رحيل.. ارجعي لشغلك ! انتي كنتِ مصممة ديكور شاطرة، وحبيتي شغلك، ليه تسيبيه بسبب حد؟ استعيدي نفسك، مش لازم تعتمدي على وجود يوسف عشان تحسي بقيمتك! انتي طول عمرك شاطرة، وكان عندك طموح، ليه سبتِ كل حاجة علشانه؟ يمكن لو رجعتي تشتغلي، تفوقي من اللي انتي فيه،متخليش حياتك كلها متعلقة بيوسف، لازم تلاقي نفسك من تاني."
كانت كلمات ليلى كصفعة أيقظت شيئًا ما داخل رحيل، شيء كاد يندثر وسط الخيبات. ربما كان عليها أن تفكر في نفسها قليلًا، ربما العمل سيكون طريقها للخروج من هذه الدوامة.
في شركة يوسف كان يحدق في الأوراق أمامه لكنه لم يكن قادرًا على التركيز. كان عقله عالقًا في حديث رحيل وما حدث الليلة الماضية لأول مرة يشعر أن الأمور قد تفلت من بين يديه.
جلس في مكتبه، أخرج هاتفه، وكتب لها رسالة:
"رحيل، لو سمحتي، خلينا نتكلم بهدوء النهارده لما أرجع."
لكنه تردد، ولم يرسلها.
شعر وكأن أي كلمة ستبدو فارغة أو بلا معنى بعد ما حدث.
"مستر يوسف، عندك اجتماع بعد نص ساعة."
رفع رأسه ببطء، ناظرًا إلى مساعدته التي كانت تنتظره عند الباب. أومأ برأسه دون أن يقول شيئًا، ثم نظر مجددًا إلى هاتفه، مترددًا بين الاتصال بها أو تركها تهدأ لبعض الوقت.
لكنه لم يكن يعلم أن هناك من يشعر بالانتصار الآن...
في أحد الكافيهات الهادئة، جلست يارا على طاولة بالقرب من النافذة، تتأمل الشارع بنظرة تحمل ثقة، وكأنها ترى الأمور تسير لصالحها وأن قربها من يوسف بدأ يؤثر عليه، لكنها تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة.
لم تمر سوى دقائق حتى وصلت صديقتها وجلسَت أمامها بابتسامة فضولية.
سمر (بابتسامة وهي تضع حقيبتها على الكرسي بجانبها):
"واضح إنك مبسوطة النهارده… في حاجة حصلت؟"
يارا (بابتسامة خفيفة وهي ترفع كوب القهوة إلى شفتيها):
"ممكن نقول كده، الليلة اللي فاتت كانت كويسة جدًا حاسه إن في حاجات بتتغير."
سمر (بحماس):
"احكيلي! يوسف بدأ يلين معاكي يعني حسيتِ إنه ممكن يرجعلك؟"
يارا (بثقة):
"هو لسه مش مدرك ده، بس آه… بدأ يحس بالفرق، بدأ يفتكر أيامنا مع بعض، وده اللي كنت مستنياه."
سمر (بحذر):
"بس إنتِ عارفة إنه متجوز، ورحيل مش هتسيبه بالساهل ما تعتبريش نفسك كسبتي لسه."
يارا (بهدوء وهي تقلب الملعقة في فنجانها):
"رحيل مشكلتها إنها بتشك فيه وده اللي هيبعدها عنه ، و هيكون سلاح ضدها. يوسف مش من النوع اللي بيتحمل الضغط ده، وفي الآخر… هيدور على اللي بيرتاح معاها. وهنا بقا، أنا هكون البديل اللي بيرتاح معاه."
سمر (وهي تميل للأمام باهتمام):
"بس إنتِ متأكدة إنه حس بحاجة؟ يعني كان مختلف معاك؟"
يارا (بابتسامة جانبية):
"كفاية إنه قعد معايا أكتر من أي وقت فات، وتردده لما الطفلة طلبت منه يخرج معانا، ده في حد ذاته خطوة. يوسف مش بيعمل حاجة هو مش عايزها، وأنا عارفة ده كويس."
سمر (بتفكير):
"بس رحيل مش هتسكت، أكيد عرفت إنه كان معاكي."
يارا (ببرود):
"لو عرفت، يبقى هتشوف بنفسها اللي كنت بقوله… يوسف مش زي الأول، ودي البداية."
ابتسمت يارا بثقة وهي تميل للخلف في مقعدها، تشعر أن خطتها تسير كما تريد، دون أن تدرك أن القدر قد يحمل لها مفاجآت لم تكن في الحسبان.
عادت رحيل إلى المنزل وهي تفكر في كلام صديقتها. هل هذا هو الحل؟ هل العودة للعمل ستجعلها تشعر بأنها قوية من جديد؟
دخلت المنزل، وجدت يوسف يجلس في الصالة، رفع عينيه نحوها فور دخولها، وكأنه كان ينتظرها.
"كنتي فين؟" سألها بنبرة تحمل بعض القلق.
لم تجبه مباشرة، بل وضعت حقيبتها على الطاولة، خلعت معطفها، ثم التفتت إليه وقالت بهدوء حازم :
" كنت مع ليلى"
ثم اضافت:
انا قررت قرار أنا هرجع لشُغلي."
تجمدت ملامح يوسف لثوانٍ، وكأنها ألقت عليه قنبلة لم يكن مستعدًا لسماعها. رفع حاجبيه قليلاً محاولًا استيعاب الأمر، ثم اقترب منها خطوة.
يوسف (بتوتر): "شُغلك؟ قصدِك التصميم؟"
رحيل (بإيجاز) : "أيوه، كنت بشتغل قبل ما نتجوز، ولما اتجوزنا سيبته عشانك… لكن دلوقتي عايزة أرجع، ده قراري."
شعر يوسف بشيء ما ينقبض في صدره، لم يكن ضد عملها، لكنه لم يتوقع أن تُلقي عليه هذا القرار هكذا، وبكل هذه الحسم. كان يدرك أن الأمر ليس مجرد وظيفة… بل خطوة أخرى تبتعد بها عنه، تُثبت له أن مكانه في حياتها لم يعد كما كان.
يوسف (يحاول كتمان انزعاجه): "وأنا؟ مش المفروض تتكلمي معايا في حاجة زي دي قبل ما تقرري؟"
رحيل (بهدوء، ولكن بحدة خفية): "زي ما إنت بتاخد قراراتك لوحدك، أنا كمان ليّا الحق آخد قراراتي، خاصة لما تكون تخصني أنا."
كلماتها أصابته في الصميم، أدرك أنها تُلمّح لما حدث، وأنها لم تسامحه بعد، بل ربما لن تسامحه أبدًا. تراجع خطوة للخلف، شعر وكأنها تنسحب تدريجيًا من حياته، وكلما حاول الاقتراب، وجدها تُشيّد جدارًا جديدًا بينهما.
يوسف (بصوت منخفض وكأنما يحدث نفسه): "حاسس إنك بتبعدي عني، وإنك مش عايزاني في حياتك زي الأول."
رحيل (تلتفت إليه أخيرًا، تنظر في عينيه مباشرة): "أنا مش بعدت، إنت اللي خليتني أفكر… لوحدي."
صمت يوسف، لم يجد ردًا كافيًا، شعر وكأنها تبتعد عنه بطريقة لم يستطع إيقافها. شاهدها تدخل غرفة النوم دون أن تلتفت، وبقي هو واقفًا في مكانه، يتساءل إن كان لا يزال جزءًا من حياتها… أم أنه أصبح مجرد تفصيل قديم في قصتها الجديدة.
في صباح اليوم التالي
كان يوسف جالس في مكتبه، يحاول التركيز على الأوراق المبعثرة أمامه، لكن عقله كان في مكان آخر... في البيت، مع رحيل، ومع كلمتها التي ما زالت تتردد في أذنه:
"قررت أرجع شُغلي."
لم يكن يتوقعها، لم يكن مستعدًا لها، لكنها قالتها بثقة كأنها كانت تفكر فيها منذ مدة طويلة. لم تعترض، لم تشتكي، فقط أخبرته بقرارها وكأن وجوده في حياتها لم يعد مركزها الوحيد، وهذا ما أزعجه أكثر من أي شيء.
ارتكز بمرفقيه على المكتب، وسند رأسه بين يديه، يشعر بقلق غير مفهوم. رحيل كانت دومًا تعتمد عليه، كانت تراه عالمها، لكنه الآن يشعر أنها تحاول استعادة جزء منها كان قد نُسي بعد زواجهما. هل كان خطأه أنه جعلها تشعر بأنها فقدت ذاتها؟
أمسك بهاتفه بتردد، أراد أن يرسل لها رسالة، يسألها، يستفسر أكثر، لكنه تراجع... لم يكن يعرف ماذا سيقول، وكيف سيواجه فكرة أنها قد تكون سعيدة بقرارها بعيدًا عنه.
تنهد بعمق، نهض من مكتبه، وسار نحو النافذة، يراقب الشارع أسفله، لكن ذهنه كان غارقًا في سؤال واحد... هل رحيل بدأت بالفعل في الابتعاد عنه؟