رواية وهم الرجوع
الفصل الثالث عشر13
بقلم رميسة
- ترقب وحنين
بعدما أنهت يارا مكالمتها مع يوسف، ظلت تمسك بهاتفها لثوانٍ، وعقلها يعمل بسرعة. كانت نبرته مترددة، وكلماته حذرة، لكنه لم يغلق الباب تمامًا... وهذا يعني أن لديها فرصة.
وضعت الهاتف على الطاولة، وأسندت ظهرها إلى الأريكة، بينما عيناها تلمعان بأفكار متشابكة. يوسف لا يزال مترددًا، وهذا يعني أنه لم ينسَها بالكامل، أو على الأقل، لا يزال هناك جزء منه يشعر بالضعف تجاهها. لكن رحيل... رحيل أصبحت عقبة في طريقها، والوقت ليس في صالحها.
نهضت من مكانها، وبدأت تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، تفكر في خطوتها القادمة. لا يمكنها الانتظار أكثر، يجب أن تكون ذكية هذه المرة، أن تختار الطريقة الصحيحة لإبعاد رحيل عن يوسف دون أن تدفعه للنفور منها.
ابتسمت بخبث وهي تهمس لنفسها:
"لو يوسف مش عارف يقرر، أنا هقرر له بنفسي،كل اللي فات كان مجرد بداية.."
جلس يوسف في الصالة، ينظر إلى ساعته للمرة العاشرة خلال نصف ساعة. كان قد أنهى عمله وعاد للمنزل ليجد نفسه وحيدًا، والصمت يملأ المكان. لم يكن هذا هو المعتاد. لطالما كانت رحيل في انتظاره، تسأله عن يومه، تحضّر له الطعام، تشاركه الأحاديث العفوية. لكنه الآن وحده، وهي في الخارج، تعمل، تستعيد حياتها التي كان يظن أنها أصبحت تدور حوله فقط.
شعر بانزعاج لم يستطع تفسيره، وكأن جزءًا من عالمه أصبح خارج سيطرته. منذ أن قررت العودة للعمل، بدأت تتغير، تبتعد عنه شيئًا فشيئًا. كان يدرك أنها لم تعد نفس المرأة التي كانت قبل شهور، تلك التي كانت تنتظر اهتمامه وكلماته. الآن، لم تعد بحاجة له كما كان يظن.
حاول إقناع نفسه أن ما تفعله أمر طبيعي، أنها تريد فقط أن تشغل وقتها، لكنه لم يستطع الهروب من شعور الغيرة. هل التقت بزملاء قدامى؟ هل وجدت في العمل ما لم يعد يجده هو في حياتها؟ ولماذا يشعر أن وجوده لم يعد الأولوية بالنسبة لها؟
نهض من مكانه، جال في الشقة بتوتر، ثم عاد وجلس مجددًا، واضعًا رأسه بين يديه. لم يكن يريد الاعتراف بذلك، لكنه خائف... خائف من أن يكون قد بدأ يفقدها حقًا.
في نهاية اليوم، وبعد ساعات من العمل والتأقلم، وجدت نفسها تستعد للعودة إلى المنزل. وهي تسير نحو الخارج، أخذت تفكر في كيف ستخبر يوسف عن يومها الأول. هل سيكون سعيدًا أم سينزعج أكثر؟ هل سيشعر أنه بدأ يفقد السيطرة عليها؟ شعرت أن هذا القرار ليس مجرد عودة إلى العمل، بل خطوة نحو استعادة ذاتها، وربما بداية لتغيير أكبر لم يكن يوسف يتوقعه.
دخلت رحيل إلى المنزل وهي تشعر بإرهاق جسدي، لكن عقلها كان متقدًا بالأفكار والمشاعر المختلطة. كانت هذه أول مرة تعود إلى العمل بعد سنوات، وكم شعرت بأنها استعادت جزءًا من ذاتها التي كادت أن تضيع وسط زواجها ومسؤولياتها.
أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم خلعت حذاءها وسارت إلى الصالة حيث وجدت يوسف جالسًا على الأريكة، وكأنه كان في انتظارها. عيناه كانت تحملان مزيجًا من الفضول والانزعاج، ولم يخفَ عليها أنه كان يفكر كثيرًا في قرارها طوال اليوم.
يوسف (بصوت هادئ لكن يحمل توترًا): "رجعتي أخيرًا..."
ألقت حقيبتها على الطاولة، ثم جلست على الكرسي المقابل له، وهي تشعر بثقل نظراته عليها.
رحيل: "يوم طويل ومتعب... بس كنت محتاجة ده."
يوسف (محاولًا أن يكون هادئًا): "طيب... كان عامل إزاي؟"
ترددت قليلًا، ثم قالت بابتسامة خفيفة: "مختلف، حسيت كأني داخلة عالم جديد بعد غياب، بس حبيت الشعور."
كان يوسف يحاول أن يبدو متقبلًا، لكن الحقيقة أنه لم يستطع منع الشعور بأن رحيل تبتعد عنه خطوة بخطوة. شيء ما في حديثها، في نبرتها، في لمعة عينيها وهي تتحدث عن العمل، جعله يشعر بأنه لم يعد مركز حياتها كما كان من قبل.
يوسف (بتنهيدة خفيفة): "يعني ناوية تكملي؟"
رحيل (بحزم): "طبعًا، أنا مش هرجع في قراري، الشغل جزء مني وأنا ضيعته لفترة طويلة... دلوقتي مش ناوية أضيعه تاني."
ساد الصمت للحظات، قبل أن تقرر رحيل أن تكسر حدة الجو بينهما.
رحيل (بابتسامة خفيفة): "على فكرة... قابلت النهاردة زملائي القدامى في الشركة."
يوسف (رافعًا حاجبيه باهتمام): "زمايلك؟ مين فيهم؟"
رحيل (بنشاط واضح): "محمود كان هناك، وكمان نور وليلى، اتفاجئوا جدًا لما شافوني، وقعدنا نفتكر الأيام القديمة والضحك اللي كان بيحصل وقت الشغل."
لاحظ يوسف الحماس في صوتها، ورغم أنه حاول أن يبتسم إلا أن شيء ما بداخله شعر بالغيرة والانزعاج. لم تكن فقط عادت للعمل، لكنها أيضًا استعادت حياتها الاجتماعية التي تخلّت عنها عندما تزوجته.
يوسف (محاولًا أن يبدو غير مكترث): "كويس... يعني رجعتي وسطهم بسرعة."
رحيل (بإيجابية): "أيوة، وده حسسني إني رجعت لنفسي."
هنا، شعر يوسف وكأن كلمة "نفسي" كانت تعني العودة بعيدًا عنه. هل كان عملها مجرد وسيلة للهروب؟ أم أنها فعلاً كانت بحاجة لهذا الاستقلال؟
وقف من مكانه واقترب منها قليلًا، صوته كان أكثر هدوءًا لكن يحمل داخله توترًا دفينًا.
يوسف: "وإحنا؟ إحنا فين من كل ده؟ حسيت النهاردة إنك كنتي بعيدة حتى وإنتي مشيتي من الصبح، وكأنك... مشغولة بحاجة تانية غير حياتنا."
أحست رحيل بوقع كلماته، لكنها لم ترغب في التراجع.
رحيل: "يوسف، أنا محتاجة ده، مش علشان أهرب منك، ولا من حياتنا، بس محتاجة أحس إني مش بس... زوجتك وأم لبنتك، محتاجة أكون أنا."
رأى في عينيها تصميمًا لم يره منذ فترة طويلة، ورغم كل ما شعر به من خوف، إلا أنه لم يجد كلمات أخرى ليقولها. فقط اكتفى بمراقبتها وهي تنظر إليه بثقة، قبل أن تنهض متجهة إلى غرفتها، تاركة إياه مع أفكاره المتشابكة.
اتجهت إلى غرفتها، بدلت ملابسها وارتدت شيئًا مريحًا قبل أن تخرج لتجد ابنتها تجلس على السجادة تلعب بدمى صغيرة.
ابتسمت رحيل وجلست بجوارها، بدأت تشاركها اللعب وكأنها تحاول أن تنسى كل شيء آخر. كانت تداعب الصغيرة، تحكي لها قصصًا بصوتها الحنون، تضحك معها، وكأنها تستمد من طفولتها طاقة نحتاجها بشدة. يوسف، الذي كان يتابع المشهد من بعيد، شعر بغصة في صدره.
رآها تبتسم بحرية، تعطي ابنتها كل اهتمامها دون أن تلتفت له. وكأنها وجدت في الصغيرة ملاذًا من كل ما يدور بينهما. تذكر الأيام التي كانت تملأ فيها ضحكاتها المكان، عندما كان وجوده بجوارها يكفيها عن أي شيء آخر. لكنه الآن أصبح مجرد مراقب، شخصًا خارج عالمها الذي أعادت بناءه دون أن تحتاجه كما كان يتوقع.
بينما كان يوسف يراقب رحيل وهي تلعب مع ابنتهما، اجتاحه شعور غريب، مزيج من الحنين والندم. كان يراها تبتسم، تتحرك برشاقة وهي تداعب الصغيرة، تضحك معها بنفس العفوية التي كان يعشقها فيها. لكنها لم تكن تبتسم له، لم تكن تلك النظرة المليئة بالحب التي اعتاد أن يراها في عينيها كلما نظر إليها.
أخذ نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه للحظة، وكأن عقله عاد به إلى الوراء… إلى تلك الأيام التي كانت تملأ البيت بحيويتها، عندما كانت تستقبله بعد يوم عمل شاق بضحكة، وربما بعناق دافئ. كيف كان يشعر بالراحة لمجرد وجودها بجانبه، كيف كان بيتهم نابضًا بالحياة، وكيف كانا لا يحتاجان إلى كلمات كثيرة ليفهم أحدهما الآخر.
فتح عينيه مجددًا، ليجد نفسه أمام واقع مختلف تمامًا. رحيل ليست كما كانت، أو ربما هو من غيّرها بتصرفاته، بإهماله، وبأخطائه التي كان يعتقد أنها ستمر بلا أثر. كان يراها الآن أقوى، أكثر استقلالية، وكأنها تبني عالمًا بعيدًا عنه، عالمًا لا يحتاج إلى وجوده كما كان في الماضي.
اقترب منها قليلًا، محاولًا أن يستعيد شيئًا مما ضاع، وقال بصوت دافئ لكنه يحمل رجاءً خفيًا:
"فاكرة لما كنا بنقعد كده نلعب معاها ونفضل نضحك بالساعات؟ كنا بنقول إننا هنفضل جنبها دايمًا، نكبر معاها خطوة بخطوة..."
رحيل رفعت رأسها، نظرت إليه لثوانٍ، لكن عينيها لم تكن تحملان نفس الشوق الذي كان في صوته. فقط ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم نظرت إلى ابنتها مجددًا وقالت بهدوء:
"وأنا لسه عند كلامي..."
ثم عادت للعب مع الصغيرة، تاركة يوسف في دوامة أفكاره، يتساءل إن كان فقدها بالفعل... أم لا يزال هناك بصيص أمل!