رواية وهم الرجوع الفصل الرابع عشر14بقلم رميسة
- لعبة الأقدار
كان الليل قد حل، وأضواء المنزل الخافتة تنعكس على الجدران بهدوء. جلست رحيل على الأرض مع ابنتها، تلعبان معًا لعبة البازل، تضحكان بين الحين والآخر عندما تخطئ الصغيرة في وضع القطعة في مكانها الصحيح.
وقف يوسف عند الباب، يراقب المشهد بصمت، وعيناه تحملان ألف شعور متناقض. كان يراها تضحك، لكن تلك الابتسامة لم تكن له، كانت لابنتهما فقط. كان يراها مسترخية، لكن ليس بوجوده، وكأنها لم تعد تهتم لوجوده من الأساس.
دون وعي، تقدّم خطوة، ثم جلس على الأريكة المقابلة لهما. لاحظت رحيل وجوده، لكنّها لم تعره اهتمامًا، وكأنّها تعمدت أن تجعله يشعر بأنه أصبح مجرد جزء ثانوي في
حياتها،تنحنح قليلاً ثم قال بصوت منخفض:
– "وحشتكِ الأيام دي؟"
رفعت رأسها أخيرًا، نظرت إليه نظرة هادئة لكنها خالية من أي دفء قديم. سكتت للحظة، كأنها تزن كلماتها بعناية، ثم قالت بهدوء:
– "مش عارفة… يمكن وحشني إحساسي بنفسي أكتر."
جملتها أصابته كصفعة صامتة. لم يقل شيئًا، فقط ظل ينظر إليها بينما استدارت لتكمل لعبها مع الطفلة، تاركة إياه غارقًا في أفكاره.
"رحيل؟" ناداها من جديد.
تنهدت بهدوء، ثم قامت لترتب الصندوق الذي كانت تضع فيه الألعاب. لم تردّ بكلمة واحدة، وكأنّها تُخبره بصمتها أن الإجابة لم تعد تعنيه.
شعر يوسف بانقباض في قلبه، نهض بدوره واقترب منها. كان على وشك أن يلمس يدها حينما نهضت الصغيرة فجأة تركض نحوها:
– "ماما، بكرة هنلعب تاني؟"
حملتها رحيل بين ذراعيها، ضمّتها برفق وهمست لها:
– "طبعًا يا روحي."
ثم استدارت نحو يوسف وقالت بجفاف:
– "تصبح على خير."
تركته واقفًا، بينما كان الشعور بالخسارة يتسلل إليه تدريجيًا. لم يكن يعرف متى بدأ يفقدها، لكنه الآن متأكد… هي تبتعد عنه، ولم يكن لديه أي فكرة عن كيفية إيقاف ذلك.
بعد أن تركته رحيل واقفًا، شعر وكأنها تسحب معه آخر ذرة دفء كان يشعر بها. بقي للحظات محدقًا في الفراغ، ثم زفر ببطء وعاد إلى غرفته.
استلقى على السرير، لكن النوم كان أبعد ما يكون عنه. كان يتقلّب يمينًا ويسارًا، وكأن الوسادة لم تعد مريحة، أو ربما كان الضيق في قلبه وليس في وضعية نومه.
لم يستطع التوقف عن التفكير… كيف أصبحت المسافات بينه وبين رحيل شاسعة إلى هذا الحد؟ متى أصبحت نظراتها إليه باردة، وكأنهما غريبان يعيشان تحت سقف واحد؟
حاول إقناع نفسه أنها مجرد مرحلة، وأن كل شيء يمكن إصلاحه، لكنه لم يستطع إنكار أن إحساسًا مرعبًا بدأ يتسلل إلى داخله… إحساس بأن رحيل لم تعد له، وربما… لن تعود أبدًا.
وفي وسط هذا الضجيج من الأفكار، وجد نفسه يفكر في شيء آخر… يارا.
هل كان قراره بالتقرب منها خطأ؟ أم أنه كان مجرد هروب من فراغ بدأ يتضخم داخله منذ وقت طويل؟ ولماذا، رغم كل شيء، لم يستطع الشعور بأي دفء معها كما كان مع رحيل؟
أغمض عينيه بقوة، محاولًا إسكات كل الأصوات في رأسه، لكنه لم ينجح. الليل كان طويلًا… وطويلًا جدًا.
استيقظت رحيل في الصباح بروح مختلفة، وكأنها قررت طي صفحة الماضي والتركيز على نفسها. كانت تشعر بأن الوقت قد حان لتفكر في حياتها بعيدًا عن يوسف، بعيدًا عن أي مشاعر قد تربكها أو تسحبها إلى الوراء.
وقفت أمام المرآة بعد أن ارتدت ملابسها الأنيقة استعدادًا ليوم عمل جديد. مرّرت أصابعها على شعرها المرتب بدقة، وتفحصت مظهرها بعين ناقدة، ثم ابتسمت بخفوت. كانت تبدو واثقة، قوية… امرأة تعرف ماذا تريد.
عند خروجها من الغرفة، وجدت يوسف يجلس على الطاولة يحتسي قهوته بصمت. ألقى عليها نظرة سريعة، ثم أعاد تركيزه إلى فنجانه، لكن رحيل شعرت بنظراته تراقبها رغم ذلك.
"رايحة الشغل؟" سألها بصوت حاول أن يبدو عاديًا، لكنه لم يكن كذلك.
"آه، عندي اجتماع مهم النهاردة مع العميل، ولازم أخلص بعض التصاميم الجديدة للمشروع." ردّت بهدوء وهي تأخذ حقيبتها.
أحس بشيء من الضيق وهو يراها مشغولة بعالم آخر لا يشمله. منذ متى أصبح عملها بهذه الأهمية؟ منذ متى لم تعد تهتم إن كان غاضبًا أم راضيًا؟
"واضح إنكِ بقيتي غرقانة في الشغل." قالها بنبرة فيها شيء من التلميح.
رفعت حاجبيها قليلاً ونظرت إليه بثبات:
"ده حقي، زي ما ليك حياتك، أنا كمان ليا حياتي وطموحاتي، ولا المفروض أفضل متعلقة بيك وباستنى رضاك؟"
كلمتها كانت قوية، جعلته يشعر وكأنها تفلت من بين يديه أكثر فأكثر. رحيل التي كانت تكرّس وقتها له ولحياتهما المشتركة، أصبحت الآن تركّز على نفسها فقط، وكأنها تعيد بناء ذاتها بعيدًا عنه.
خرجت دون أن تعطيه فرصة للرد، تاركةً وراءها يوسف في صمت غاضب… وشيء من الغيرة بدأ يتصاعد داخله.
في مكتبها الجديد، جلست رحيل خلف مكتبها منهمكة في مراجعة تصاميم أحد المشاريع، بينما كانت ليلى تجلس أمامها، تراقبها بابتسامة متفحصة.
"مش مصدقة إني شايفاكي كده، غرقانة في الشغل ومندمجة!" قالت ليلى بنبرة مازحة.
رفعت رحيل نظرها من الشاشة وضحكت بخفة، "بجد؟ إنتي عارفة إني كنت بحب شغلي جدًا، وكان جزء مني، بس... الظروف بعد الجواز خلتني أبعد."
هزت ليلى رأسها بتفهم، "وده السبب اللي مخليكِ راجعة بقوة دلوقتي؟" سألتها وهي تميل للأمام باهتمام.
تنهدت رحيل وأخذت نفسًا عميقًا، "مش بس كده، حاسة إني كنت تايهة، وكان لازم أرجع لحاجة تثبت لي إن لسه عندي طموح وهدف بعيد عن أي حد."
ابتسمت ليلى بحنان، "وفعلاً شايفة إنك واخدة القرار الصح. بس قولي لي، يوسف كان رأيه إيه؟"
تجمدت ملامح رحيل للحظة قبل أن تعود لطبيعتها، "اتكلمنا في الموضوع، وهو كان متحفظ شوية في الأول، بس بعدين..." توقفت قليلًا، ثم أضافت بلهجة حاولت أن تبدو طبيعية، "يعني، مفيش مشكلة كبيرة، هو متفهم إن دي حاجة مهمة ليا."
لاحظت ليلى التردد في صوت رحيل لكنها لم تعلق، بل اكتفت بالابتسام قائلة، "كويس إنه بيدعمك، وأتمنى يفضل كده دايمًا. المهم، قولي لي، إيه الجديد في مشروعك؟ أنا متحمسة أشوف لمستك عليه."
تبادلت الاثنتان الحديث عن العمل، بينما كانت رحيل تحاول إبعاد أي أفكار قد تشوش على تركيزها، لتستعيد إحساسها بأنها تملك زمام الأمور من جديد.
في مساء اليوم عاد يوسف إلى المنزل متأخرًا قليلًا عن المعتاد. كان يومه مزدحمًا، لكن عقله ظل مشغولًا بأفكار متداخلة، أبرزها رحيل ، التي بدت وكأنها تبتعد أكثر مع كل يوم يمر.
عندما دخل إلى الصالة، لمحها جالسة على الأريكة، عيناها مركزة على شاشة اللابتوب أمامها، وملامحها تحمل جدية واضحة. كانت ملامحها مضيئة بضوء الشاشة الخافت، وشعرها منسدلًا على كتفها بانسيابية، مما جعل المشهد مألوفًا لكنه مؤلم.
تقدم نحوها ببطء، محاولًا ألا يبدو مترددًا.
يوسف: "إنتي لسه شغالة؟"
أجابت دون أن ترفع رأسها:
رحيل: "تقريبًا خلصت.. كنت براجع بعض التصميمات الجديدة."
جلس بجوارها على الأريكة، يتأمل تفاصيل وجهها التي حفظها عن ظهر قلب، لكنه شعر وكأنه يراها من بعيد، وكأن حاجزًا غير مرئي يفصل بينهما.
يوسف: "فكرت إننا نخرج نتعشى النهاردة."
توقفت يدها عن النقر على لوحة المفاتيح، ورفعت رأسها نحوه ببطء، تنظر إليه بتمعن وكأنها تحاول فك شفراته.
رحيل: "ليه فجأة؟"
ابتسم بخفة، لكن عينيه كانتا تحملان شيئًا أعمق.
يوسف: "حسيت إننا محتاجين نكسر الروتين شوية.. بس عشاء بسيط، من غير أي كلام عن الشغل أو الماضي."
تأملته للحظات، ثم زفرت بهدوء.
رحيل : "تمام.. بس مش عايزة كلام عن اللي فات."
ابتسم يوسف، رغم أنه كان يدرك أن الماضي لن يبتعد بسهولة، لكنه اكتفى بموافقتها.
يوسف: "اتفقنا."
وصل يوسف و رحيل إلى المطعم الذي اختاره بعناية، مكان هادئ يحمل طابعًا دافئًا بإضاءته الخافتة وطاولاته المرتبة بعناية، مع موسيقى كلاسيكية ناعمة تتسلل في الأجواء.
كان يوسف قد حجز طاولة بجانب النافذة، حيث يمكن رؤية المدينة تتلألأ بأضوائها في الليل.
سحب لها الكرسي بلطف لتجلس، ثم جلس أمامها، يراقبها وهي تتأمل المكان.
يوسف (بابتسامة خفيفة): "عجبك المطعم؟"
رحيل (بنبرة هادئة): "أه، جميل.. بس أنت مش من النوع اللي بيحب الأماكن الهادية، صح؟"
هزّ كتفيه وهو يتأمل ملامحها بتركيز:
يوسف: "زمان، يمكن.. بس حاجات كتير اتغيرت."
وصل النادل وسألهما عن طلبهما، فاختارت رحيل طبقًا خفيفًا بينما طلب يوسف طبقًا كلاسيكيًا من المطبخ الإيطالي.
بينما كانا ينتظران الطعام، ساد الصمت للحظات، لكنه لم يكن صمتًا ثقيلًا، بل كان مليئًا بالتفكير.
كان يوسف يتأمل رحيل، يلاحظ الطريقة التي ترتب بها منديل المائدة بين أصابعها، كيف يتسلل بعض التوتر إلى حركاتها رغم هدوء ملامحها.
يوسف (مبتسمًا ليكسر الجدية): "فاكرة لما كنا بنطلب بيتزا ونختلف على الإضافات؟"
رفعت حاجبيها وهي تتذكر، ثم ضحكت بخفة:
رحيل: "أوه، طبعًا! دا أنت كنت مصمم تحط أناناس وأنا كنت بشوفها جريمة!"
ضحك بدوره، مستمتعًا للحظة بهذا الشعور الخفيف الذي افتقده.
يوسف: "وكنتِ بتاخدي نص البيتزا بتاعتي في الآخر!"
رحيل (بمزاح): "كنت بتسيبها باردة، فكان لازم حد ياكلها!"
لكن اللحظة اللطيفة لم تدم طويلًا، إذ تغير تعبير رحيل قليلًا، وعادت تتجنب النظر المباشر إليه.
رحيل (بنبرة أهدأ): "عارف.. الحاجات دي كانت زمان."
لم يرد يوسف فورًا، بل ظل يتأملها، يفكر في كل المسافة التي باتت تفصل بينهما رغم أنهما يجلسان على الطاولة نفسها.
يوسف: "بس في حاجات مش بتتغير بسهولة."
قبل أن تجيب، جاء النادل ووضع الطعام أمامهما، مما أتاح لها الفرصة لتجنب الرد.
لكن بينما كانت رحيل تمسك بالشوكة لتبدأ في تناول طعامها، رأى يوسف شيئًا جعله يتجمد للحظة.
عند مدخل المطعم، دخلت يارا، ترتدي فستانًا أنيقًا، تتأبط ذراع رجل طويل القامة يبدو عليها الثراء، وتضحك معه وكأنها تعيش أسعد لحظات حياتها.
شد يوسف ظهره في مقعده، حدقتاه تتابعانها دون أن يشعر، بينما لم تلحظ رحيل أي شيء، إذ كانت منشغلة بقطع طعامها.
شعر بانقباض غريب في صدره، لم يكن غيرة، لكنه كان إحساسًا غير مريح، وكأن يارا تفعل هذا عن قصد.
حاول أن يعيد تركيزه على رحيل ، لكن عقله ظل مشغولًا، غير مدرك أن هذا العشاء لن ينتهي كما خطط له.