رواية زواج في الظل الفصل السابع والعشرون27بقلم ياسمين عطيه
رفع عينه ناحية الممرضة وقال بصوت ثابت لكنه كان مليان ألم:
"أنقذوا الولاد…"
سكت لحظة، وبص بعيد كأنه بيهرب من الحقيقة اللي لسه ناطقة على لسانه
الممرضة هزت رأسها بسرعة واندفعت جوه العمليات… وأركان وقف مكانه، صدره بيعلى وينزل بسرعة، بس قلبه كان بيتقطع… كان عارف إن مهما كان اختياره، الألم مش هيرحمه.
أميرة هجمت عليه وهي بتصرخ بصوت مليان غضب ودموع: "آه يا حيوان! أنا كنت عارفة… كنت عارفة إنك مش بتحبها! ازاي تعمل كده؟ ازاي تختارهم عليها؟"
أركان واقف مكانه، ملامحه جامدة، عينيه سابحة في ظلام عميق، لكنه ساكت، ما اتحركش ولا دافع عن نفسه.
فوزية بصوت مكسور وحسرة مالية قلبها: "ليه يا بني؟ دي بتحبك… كانت هتموت عشانك، وانت اختارت تسيبها تموت؟"
أسماء واقفة في النص، دموعها بتنزل وهي مش مستوعبة… ازاي؟ ازاي هو اللي من شوية كان بيجري بيها وهو مرعوب، فجأة اختار غيرها؟ عينيها بتدور في وشه، بتحاول تفهم، بس هو ساكت، وده بيخوفها أكتر.
الوحيد اللي كان واقف ساند ضهره للحائط وعارف الحقيقة هو عدلي… شايف أركان واقف وسط كل ده، شايف عناده وصمته، بس فاهمه أكتر من أي حد.
عدلي تنهد وهو بيبص لابنه بعيون الأب اللي عارف دماغ ابنه العنيدة:
"عملت كده مش عشانها، بل عشانها…"
بس هو… هو كان فاهم.
أركان ما اختارهش لأنه ما بيحبهاش، بالعكس… اختار كده علشان تكرهه.
علشان تقوم وتعرف إنه ما حبهاش، إنه اختار اللي بينهم مش هي. علشان تطلع من حياته من غير ما تبص وراها.
هو عايز يثبت لنفسه إنه مش بيحبها، بيعاند قلبه، بيكسر روحه بنفسه. بس الحقيقة؟ الحقيقة إنه قتل جزء منه لما اختار العيال. الحقيقة إنه أول ما شاف الدم بيغرقها، حس إنه هو اللي بينزف معاها.
عدلي بص لابنه بحسرة، عارف إن دماغه القاسية هي اللي حكمت، مش قلبه. وعارف إن أركان حكم على نفسه بالعذاب حتى لو محدش فاهمه دلوقتي. زفر نفس تقيل وقال بصوت واطي بس قاطع الهدوء اللي غرق المكان:
"آه منك… ومن دماغك يا أركان لسه مش عارف إنك خسرت نفسك قبل ما تخسرها."
أركان ما ردش… كان واقف زي التمثال، عينه متسمرة على باب غرفة العمليات، أنفاسه تقيلة كأنه هو اللي بينزف مش هي.
أسماء قربت من أركان، كانت دموعها بتنزل بس صوتها كان هادي، مش فاهمة بس حاسة بحاجة:
– "انت ليه عملت كده؟ مش انت كنت هتموت علشان تلحقها؟ مش كنت شايلها في حضنك وجري بيها؟ ازاي تختار العيال وهي اللي كانت بتصرخ تحت رجليها؟"
أركان بص لها أخيرًا، عينه كانت فاضية، بس جواه نار مولعة، بصوت هادي لدرجة مخيفة قال:
– "أنا اخترت اللي كان المفروض أختاره."
أميرة كانت بتصرخ، بتحاول تهجم عليه تاني، بس فوزية مسكتها بإحكام، صوتها كان مليان وجع وهي بتحاول تهديها:
– "اهدي يا أميرة! اهدي بقى!"
أميرة وهي بتقاومها بدموع:
– "سامعاه يا ماما؟ سامعاه؟ بيقولك اختار اللي المفروض يختاره! بيضحي بليلى! ازاي؟ ازاي يعمل فيها كده؟"
فوزية وهي بتحاول تسيطر على رجفة صوتها:
– "مش وقته يا بنتي، مش وقت الكلام ده دلوقتي!"
فجأة، صوت الباب وهو بيتفتح خلاهم كلهم يلفوا بسرعة.
الدكتور خرج، عينه كانت مرهقة، ماسك الماسك بيده وكأنه بيحاول يجمع أنفاسه قبل ما يتكلم.
أمير بخوف: "طمني يا دكتور… هي عاملة إيه؟"
الدكتور خد نفس عميق قبل ما يقول بصوت هادي: "الولاد وصلوا الحضّانة، بس…" سكت لحظة، كل العيون عليه مستنية الكلمة اللي جاية، وبعدين كمل: "الأم… حالتها حرجة جداً."
أما أركان… متحركش. متكلمش. بس عنيه قالت كل حاجة.
الدكتور كمل بعد لحظة صمت:
– " فإحنا عملنا اللي علينا، بس هي بين الحياة والموت دلوقتي. النزيف كان شديد جدًا، وهنعرف خلال الساعات الجاية إذا كانت هتقدر تقوم منه ولا…" سكت للحظة، ثم كمل بصوت أهدى: "ادعوا لها."
الكلمات نزلت كالصاعقة، قلب أركان كان بيتفرم، بس وجهه كان حجر. لف ببطء وبص للباب اللي ورا الدكتور… ليلى جواه، بين الحياة والموت.
"اختارت الأطفال يا أركان؟ طب لو راحت… هتعيش بإيه بعدها مش هعرف
اسامح نفسي لو حصل ليها حاجه ؟"
عدلي كان الوحيد اللي لسه مركز عليه، شايف اللي محدش شايفه… شايف رجفة صوابعه اللي بيحاول يخبيها في جيوبه، شايف النفس اللي بيحاول يسحبه بالعافية عشان ما ينهارش.
أركان اتحرك أخيرًا، قرب من الدكتور، وصوته خرج خافت لكنه حاسم:
– "ممكن أشوفها؟"
الدكتور أخد نفس عميق وقال بهدوء:
– "ممكن بس لدقايق… هي لسه ما فاقتش."
فجأة، أميرة هاجمت عليه وهي بتصرخ:
– "إنت عايز تدخل تقتلها؟!"
ضربته على صدره بكل قوتها، لكنه ما اتحركش، بس عينيه ارتجت للحظة…
أميرة بصوت مليان كره ودموع:
– "إنت مش هتدخل! ولو فكرت تقرب منها تاني، أنا هقتلك!"
فوزية مسكت أميرة وحاولت تهديها، بس أميرة كانت بتترجف من الغضب، عينيها مليانة دموع ووجع:
– "ليه عملت كده؟ ليه اخترت العيال وسِبتها تموت؟! هي كانت بتموت وإنت واقف تتفرج!"
أركان كان واقف مكانه، مش بيرد… مش قادر يبرر، ولا حتى عنده الشجاعة يقول الحقيقة.
أميرة بصوت متكسر:
– "هي كانت مستعدة تموت عشان عيالها وعشانك، وإنت كنت مستعد تسيبها تموت!"
فجأة، صوت عدلي جه قوي وهو بيدخل عليهم:
– "تعالي يا بنتي… عايز أتكلم معاكي إنتِ ومامتك."
نظرته كانت تقيلة، مش لأي حد، لكن لابنه… وكأنها بتقوله: "أنا الوحيد اللي فاهمك، بس ده مش معناه إني موافق على اللي عملته."
عدلي بص لفوزية وقال بهدوء:
– "تعالي معايا… لازم تعرفي الحقيقة."
فوزية نظرت له بعيون مليانة خوف ودموع، لكنها فهمت إن ورا كلامه حاجة كبيرة… حاجة لازم تتعرف.
أما أركان، ففضل واقف في مكانه، عينه لسه مثبتة على باب الأوضة… وكأنه مستني معجزة تحصل، وكأن قلبه لسه عندها… حتى لو هو نفسه مش عايز يعترف.
دخل بخطوات تقيلة، وكأنه داخل يشوف مصيره بإيده… قلبه كان بيدق بعنف، لكن ملامحه متجمدة، ما بتوحيش بأي حاجة.
أول ما عينه وقعت عليها… حس إن روحه اتسحبت.
ليلى كانت نايمة على السرير، وشيها شاحب بشكل يخوف، جهاز التنفس الصناعي موصل بيها، دراعها متوصل بمحاليل وأجهزة، وبطنها ملفوفة بشاش أبيض كله دم.
حس بحاجة تخنقه… رجله مكانتش شايلة وزنه، قرب منها ببطء، إيده كانت عايزة تلمسها، بس وقف نفسه.
ليه؟ مش ده اللي عايزه؟ مش كنت بتقول إنك مش بتحبها؟
طب لو ما بتحبهاش، ليه قلبك بيوجعك كده؟
قعد جنب السرير، عينه مثبتة عليها، صوت الأجهزة الطبية حواليه، لكنه مش سامع حاجة… كل اللي شايفه هو ليلى، وهي ما بين الحياة والموت، بيحاول يخبّي ارتجاف إيده، لكنه فشل… إيده بردت وهو بيحطها على كفها البارد، حس إن الروح بتفلت من بين إيده، وكأنها بتنسحب بعيد عنه، بعيد أوي…
بص لوشها الشاحب وهمس بصوت متكسر:
– "مش هسامح نفسي لو حصلك حاجة… قومي عشان عيالك، متسبيهمش… مش لازم تبقي نهايتك كده، إنتِ مالكيش ذنب في أي حاجة، متبقيش ضحية لكل اللي هيحصل فيهم…"
كأن الكلام خرج من قلبه قبل عقله، كأن اللي جواه انفجر غصب عنه… لأول مرة مش قادر يتحكم في نفسه، لأول مرة مش قادر يخبي اللي جواه.
أخد نفس عميق، وحاول يثبت صوته، لكنه خرج أضعف، مليان رجاء خفي:
– "أنا اخترت الأولاد… عشان متتعلقيش بيا… لو قومتي وعرفتي إني اخترتك، كنتِ هتحبيني أكتر، وأنا… أنا مقدرش أذيكي… بس أنا عارف إنك قوية وهتقومي عشان ولادك…"
في اللحظة دي، دمعة نزلت من عينه… أول مرة من سنين، أول مرة ينهار قدام حد… بس الحد ده كان بين الحياة والموت، والحد ده كان ليلى.
قعد جنبها، مسك إيدها اللي كانت باردة بشكل مرعب، قرب وشه منها وهو بيحارب دموعه… مش أركان اللي ينهار، مش أركان اللي يسيب ضعفه يظهر، لكنه في اللحظة دي كان مجرد راجل خسر أكتر شخص قدر يلمس روحه.
مسح دمعته بسرعة، رفع راسه، وعينيه اتحولت لنار:
– "هجيب حقك… وحق ولادنا… حق الأيام اللي راحت، حق حياتنا اللي دفعناها لكل ده…"
عينه كانت بتوعد، صوته كان قرار… والقرار ده كان معناه إن اللي آذاها هيشوفوا جحيم عمرهم ما تخيلوه.
ــــــ&ـــــ
في كافتيريا المستشفى
في جو مليان توتر، عدلي قعد قدام فوزية وأميرة وأسماء، عارف إن الكلام اللي هيقوله هيقلب حياتهم، بس كان لازم يعرفوا الحقيقة… الحقيقة اللي ليلى شايلها لوحدها طول الوقت.
عدلي بص لفوزية وقال بصوت هادي لكنه حاسم:
– "أنا مش عارف أبدأ منين ولا إزاي، بس عايزك تفهميني وتفهمي بنتك… ليلى بنت قوية، جميلة، وبتحبكم أوي. ضحت بنفسها واختارت طريق معين عشان تبقوا كويسين."
الكل كان بيسمعه في صدمة، لكنه كمل بدون تردد:
– "أركان ابني ظابط مخابرات سرية، وأنا رئيس أمن دولة."
الصمت خيم على المكان… العيون اتسعت، والنَفَس اتقطع… كأن حد شال الأرض من تحتهم.
عدلي كمل وهو شايف ملامح الصدمة في وشوشهم:
– "عارف إنكم مصدومين، سبوني أكمل للآخر… ليلى كانت عارفة كل حاجة، واتجوزت أركان بالاتفاق."
فوزية شهقت وبصت له بعين مليانة غضب ووجع:
– "اتفاق؟! فلوس؟! بنتي باعت نفسها ليك ولا لابنك؟!"
عدلي حرك رأسه بالنفي، حاسس بالذنب من نظرة الألم في عينها:
– "لا… متفهميش غلط، هي مكنتش مخيرة، كانت مجبرة. كان لازم تعمل كده، ولو فيه تمن خادته، فده كان مكافأة على اللي عملته ومجهودها… الاتفاق كان إنهم يقعدوا سنة كاملة متنكرين، يدخلوا وسط عصابة سلاح ومخدرات عشان نكشفهم ونقبض عليهم. بس اللي حصل دا مكانش في الحسبان، ومش عارفين الموضوع هينتهي على إيه بس ليلي دورها انتهي لحد كده وصدقيني بنت قويه وهتقوم بالسلامه إن شاء الله …"
أخد نفس عميق ومد إيده بالمفاتيح:
– "دول مفتاح بيتين… دي هدية ليلى ليكم."
فوزية فضلت تبص للمفاتيح بعين مليانة دموع قبل ما تنهار وتحط إيدها على قلبها، صوتها مليان وجع:
– "آه يا ليلى… آه بنتي… كل دا مخبية علينا؟! كل دا عملتيه ليه؟! ما احنا كنا عايشين مستورين!"
أميرة كانت بتعيط بصمت، كانت حسه إن فيه حاجة غلط طول الوقت، لكن مش مستوعبة إن الحقيقة تكون بالشكل ده.
أما أسماء، فكانت التوهة هي اللي مسيطرة عليها، دماغها مش قادرة تستوعب، صوتها طلع ضعيف وهي بتسأل:
– "يعني… هنية مش هنية؟! وسعيد مش سعيد؟! مفيش بواب وخدامة؟! طب وهي مين؟!"
عدلي بص لها وعينه تقرأ الحيرة والضياع اللي جواها، قرر يوضح قبل ما عقلها يتوه أكتر:
– "أركان قالي إنك أمان، وإنك مش ممكن تخوني … ليلى قالتله إنك مش شبههم أصلاً، وخالي بالك، صحبتك بتحبك أوي، وأظن إنك كمان كده."
اسماء فضلت تعيط
نظر لكل الموجودين، صوته كان حازم:
– "اللي سمعتوه ده، محدش يعرفه… لحد ما أركان ينهي كل حاجة. ابني مش هينام غير لما يجيب حق ليلى… مش علشان ينفذ المهمة، لا… علشانها هي."
سكت لحظة، وبعدها بص لهم كلهم نظرة طويلة قبل ما يقول بهدوء:
– "عارف إنكم صعب تصدقوا، بس أركان بيحب ليلى… بس ابني عنيد، وصعب يعترف بسهولة… ادوله شوية وقت، وسيبوا ليلى براحتها… محدش يضغط عليهم، سيبوهم يختاروا حياتهم."
الصمت رجع يسيطر تاني… كل واحد كان بيحاول يهضم الحقيقة، لكن الحقيقة كانت أكبر من قدرتهم على التصديق.
ــــــــــ&ـــــــــ
أركان خرج من المستشفى وعينيه مش شايفة قدامه، كل اللي جواه غضب مشتعل، غضب كان بيزيد مع كل خطوة بيخطوها ناحية العربية. رجع الفيلا… لكن المرة دي مش عشان يكمّل المهمة، بل عشان ينهيها على طريقته.
دخل الأوضة اللي عاش فيها مع ليلى… بص حواليه، كل حاجة فيها ريحتها، ذكرياتها، ضحكتها اللي كانت بتملأ المكان… بس دلوقتي كل حاجة بقت باردة، ساكتة، كأنها شهادة على اللي حصل.
بدأ يجمع كل حاجة تخصها… هدومها، حاجات الأطفال، وحتى حاجته هو… حط كل حاجة في العربية، وهو بيحس كأنه بيشيل جزء من قلبه معاها، لكنه كان مصر إنه ينهي اللي بدأه.
كان طالع بالعربية، مستعد ينطلق، لكن فجأة صلاح ظهر قدامه، وقف قدام العربية ومد إيده عشان يمنعه.
صلاح بص له بريبة وسأله:
– "رايح فين كده يا سعيد؟ إحنا محتاجينك معانا بكرة!"
أركان ابتسم ابتسامة مصطنعة، تخفي ورائها كل اللي جواه، وقال بصوت هادي لكنه ثابت:
– "طبعًا معاكم بكرة… بس هنية ولدت، وكنت هودي ليها لبس للعيال."
صلاح ارتاح شوية وهز رأسه وهو بيقول:
– "كويس إنها بخير والعيال بخير… بعد ما نخلص العملية دي، ابقى روح ليها، وصدقني… أنا هجيب لك حقها من نسرين، أنا مكنتش متخيل إنها تعمل كل ده!"
كلمة "نسرين" لوحدها كانت كافية تخلي إيد أركان تتحرك لا إراديًا ناحية المسدس، لكن لسه وقتها مجاش. أخد نفس عميق وكتم غيظه، لكن قبل ما يتحرك، صلاح بص له بحدة وقال:
– "خلاص… انزل من العربية وتعالِ كمل شغل مع الرجالة… بكرة يوم طويل."
أركان وقف لحظة، عقله بيحسب كل حاجة… هو عارف إنهم مترقبينه، عارف إن أي حركة غلط هتفضحه، لازم يلعب لعبتهم لحد ما يجي وقته.
نزل من العربية بهدوء، رمى نظرة سريعة على شنط ليلى والأطفال، وبعدين مشي مع صلاح، عارف إن الليلة دي هتكون طويلة، لكن اللي بعد الليلة دي… هتكون دم.
ــــ&ـــــ
في المستشفي
الليل عدى ببطء وكأنه بيتحداهم، وكل دقيقة كانت بتعدي بتزود القلق جوه المستشفى.
مع أول خيط نور للصباح، كان المستشفى كله في حالة ترقب.
كل العيون اتوجهت ناحية باب الغرفة أول ما الممرضة خرجت وقالت بصوت واضح:
– "المريضة فاقت…"
فوزية، أميرة، أسماء وحتى عدلي، كلهم طلعوا يجروا ناحية الغرفة، قلبهم متعلق بخوف مش مفهوم، مزيج بين الفرح إنها فاقت، والرعب من اللي جاي.
أول ما فتحوا الباب، صوت ليلي كان بيصرخ وهي بتحاول تقوم، لكن جسمها كان ضعيف، عينيها واسعة بخوف، ودموعها بتغرق وشها:
– "عيالي فين؟!"
كانت بتنهج، بتحاول تستوعب اللي حواليها، تحط إيديها على بطنها كأنها بتدور عليهم، كأنها مش مصدقة إنهم مش جواها.
فوزية وقعت على ركبتها جنب السرير، مسكت إيد بنتها ودموعها نازلة:
– "حبيبتي، هدي، عيالك بخير…"
بس ليلي كانت بتبص حواليها بذعر، مش قادرة تستوعب أي حاجة غير غريزة الأمومة اللي بتصرخ جواها، عنيها دورت على شخص معين، وعرفت إنه مش موجود.
بصت في وش عدلي، دموعها نازلة، صوتها متكسر:
– "هو فين؟ هو مشي وسابني؟"
عدلي خد نفس عميق، قرب منها وحط إيده على رأسها بحنية أبوية حقيقية، لكن صوته كان تقيل بالحقيقة:
– "هو خرج، بس هيجيبلك حقك يا ليلي، صدقيني…"
ليلى وهي بتدمع، صوتها كان ضعيف لكنه مليان إصرار:
– "عايزة أشوف عيالي… لو فعلًا مش بتكدبوا عليا، هاتوهم قدامي!"
عدلي قرب منها بهدوء، كان فاهم قد إيه اللحظة دي صعبة عليها، ومد إيده على كتفها بلطف:
– "هما في الحضانة يا بنتي، بس هجيبهم ليكي، بس اهدي شوية، صحتك لسه ما تسمحش بأي انفعال."
ليلى رفعت عينيها ليه، ملامحها كانت خليط ما بين الألم والخوف، كأنها مش قادرة تصدق غير لما تشوفهم بنفسها. كانت كل مشاعرها معلقة بلحظة واحدة… لحظة تشوف فيها ولادها بعينيها، وتحس إنهم لسه في الدنيا.
عدلي خرج من الحضانة وهو شايل الطفلين، وكل واحد فيهم كان متشال على دراعه بحنية غريبة عليه. أول ما حس بدفئهم بين إيديه، قلبه انقبض وانشرح في نفس اللحظة. دلوقتي بس، فهم معنى الجملة اللي كان بيسمعها دايمًا: "أعز الولد ولد الولد."
بص عليهم… كانوا نسخة طبق الأصل من أركان، نفس الملامح القوية، نفس تقاطيع الوش اللي بتقول إنهم من دمه. عنيه دمعت بفرحة حقيقية، فرحة إنه شايل حفيده بين إيديه، وإن ليلى نجت وعاشت عشان تشوف ولادها. خد نفس عميق ومسح دموعه بسرعة قبل ما يدخل ليها.
أول ما دخل عليها، ليلى كانت نايمة بس ملامحها شاحبة، لكن أول ما سمعت صوت البيبيهات، دموعها نزلت بغزارة، بس المرة دي دموع فرحة، مش وجع. كانت بتبتسم وهي بتعيط، إيديها بتترعش وهي بتمدها عشان تاخدهم في حضنها.
قبل ما تخدهم ليهم، ليلي لمحت عدلي بنظرة حزينة لكن فيها رجاء، وقالت بصوت مبحوح:
– "كبر في ودنهم، وسميهم مكان اركان…"
عدلي وقف للحظة، حس بقلبه بيدق أسرع، كأنه رجع سنين لورا، كأنه بيعيد ذكرى قديمة بطريقة جديدة
وقف وسط الغرفة، عيونه كانت معلقة بالطفلين الصغيرين اللي نايمين في حضنه، قلوبهم الصغيرة بتدق بسرعة، وملامحهم البريئة نسخة من أركان. لأول مرة من سنين، حس إنه ماسك نعمة عظيمة بين إيديه، نعمة كان فاكر إنه مستحيل يعيشها تاني
قرب الطفل الأول من شفايفه، وبدأ يهمس بصوت مليان رهبة وتأثر:
"الله أكبر، الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله... أشهد أن محمدًا رسول الله..."
كلماته كانت بتخرج مع كل نفس، كأنه بيحط أمانة غالية في رقبة الزمن، كأنه بيوصي الدنيا تحفظهم ليلي، كأنه بيرجع روحه اللي كانت ضايعة فيهم.
شد الطفل التاني على صدره وهمس بخشوع، دموعه نزلت على خد الرضيع الصغير:
– "أسميك ريان… الاسم اللي كان أركان بيحلم يديه لابنه."
ثم قرب الطفلة الصغيرة وهمس بصوت مختنق:
– "وأنتِ… تاليا، اسمك نور، زي ما أركان كان شايف بنته في أحلامه."
رفع عيونه لليلي، والابتسامة بتشق وشه رغم الدموع:
– "أركان حتى لو مش هنا، أولاده شايلين اسمه، ودمه في عروقهم… وأنتِ يا ليلي، اللي هتحميهم وتربيهم زي الأسد اللي كنتِ عليه دايمًا."
ليلي مدت إيديها المرتعشة، شالت أطفالها لأول مرة، حضنتهم بقلب أم اتقطّع على عيالها. كانت بتبكي، لكن دي كانت دموع أم شافت نور الدنيا لأول مرة بعد ظلام طويل،أخيرًا شالتهم بين دراعها، حضنتهم بكل القوة اللي كانت فاكرة إنها فقدتها، وقلبها كان بيدق بجنون… دول ولادها، دمها وروحها، ومهما حصل، مش هتسمح لحد ياخدهم منها أبدا او يذيهم ً.
اقتربت أسماء من ليلي، ودموعها تلمع في عينيها، مدت يدها ببطء ولمست وجوه الأطفال الصغار بحنان كأنها تحاول تصديق أنهم حقيقيون، بصوت مختنق قالت:
– "جمال أوي يا هنية… يا ليلي…"
ابتسمت ليلي وسط دموعها، نظرتها مليانة حب وندم، بصوت هادي ومكسور همست:
– "متزعليش مني… غصب عني… معرفتش أقولك السر دا… حتى ماما وأمير مكنوش يعرفوا…"
حاولت فوزية السيطرة على مشاعرها، دموعها كانت بتلمع لكنها تماسكت، بصوت حازم لكنه دافيء قالت:
– "إحنا هنتكلم في الموضوع دا بعد ما تقومي لينا بالسلامة، إنتي وأولادك… أهم حاجة دلوقتي صحتك."
نظرت ليلي لمامتها، دموعها نزلت أكتر، قلبها كان بيوجعها من الإحساس بالذنب، همست بندم:
– "حقك عليا يا ماما… غصب عني…"
لم تستطع فوزية تمالك نفسها، مدت إيديها ولمست وش بنتها بحنان ومسحت دموعها، أميرها قربت منها، حست بضعف أختها رغم قوتها اللي كانت دايمًا شايفاها، بصوت دافيء مليان حب، قالت:
– "استريحي دلوقتي يا ليلي… ونتكلم بعدين، كل حاجة ملهاش لازمة غير إنك تبقي بخير."
في اللحظة دي، ليلي بصت لأولادها… حسّت لأول مرة إنهم بقوا بين إيديها فعلاً، قلبها دق بحب وخوف، حضنتهم بضعف وهي تهمس بصوت مهزوز:
– "إنتو حياتي… مش هسيبكم أبدًا…"
ــــــــ&ـــــــ
في مكان تحت الأرض، حيث يظنون أنهم في مأمن، وقف أركان بهدوء، يده مدسوسة في جيبه، وعيناه تراقب المشهد أمامه. كان كل من صلاح وأولاده وأحفاده والتجار الكبار في مصر، ومعهم الأمريكان وجيسي، يركضون كالفئران المذعورة، غير مدركين أن النهاية قد كُتبت بالفعل.
كان كل شيء تحت السيطرة، كل زاوية محكمة، كل خطوة محسوبة. لم يكن مجرد انتقام، بل كان تطفئة لنار ظلت مشتعلة داخله، نار لم تهدأ منذ أن رأى ليلى بين الحياة والموت، منذ أن رأى دموعها وضعفها لأول مرة.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم أخرج مسدسه ببطء، وكأن الزمن توقف. ضغط على الزناد مرة واحدة… ثم انطلقت الفوضى.
وصلوا على النبي