رواية زواج في الظل الفصل الثامن والعشرون28بقلم ياسمين عطيه


رواية زواج في الظل الفصل الثامن والعشرون28بقلم ياسمين عطيه





في اللحظة اللي افتكروا فيها إنهم في أمان، المكان اتقلب جحيم… أصوات عربيات الشرطة والمصفحات قطعت سكون الليل، أضواء الكشافات ضربت المكان، وحاصر العساكر المسلحين كل المخارج.
وقف أركان وسط المكان، عيونه مليانة غضب بارد، ملامحه جامدة كأنه صخر. الكل كان مرعوب، الفوضى حوالين المكان، ناس بتجري، ناس بتصرخ، وناس بتحاول تهرب بأي طريقة، لكن أبواب الجحيم كانت اتقفلت عليهم.
 مفيش هروب… الطلقات التحذيرية اتضربت في الهوى، وصوت مكبرات الصوت كان واضح وحاسم:
"كله يرمي سلاحه ويسلم نفسه! المكان كله محاصر!"
صلاح كان واقف متجمد في مكانه، مش قادر يصدق إن أركان هو اللي بيدير المشهد دا كله. حاول يتكلم، بس صوته طلع ضعيف:
"سعيد... أنت..."
أركان رفع إيده بإشارة صغيرة، في لحظة، رجاله كانوا محاصرين المكان، أسلحتهم موجهة لكل اللي موجودين. خطا ناحيته ببطء، كل خطوة كانت تقيلة، كأنها بتسحب أرواح اللي حواليه. وقف قدامه، عيونه غامقة مليانة غضب ، سحَب إيده من جيبه، رفع البطاقة العسكرية وبص له ببرود:
"أنا المقدم أركان عدلي… والمكان ده من النهارده تحت سيطرة الحكومة المصرية وانت تم القبض عليك ."
صلاح وقع على ركبته، دموع القهر في عيونه وقال بصدمه:
"إنت واحد منا، ليه بتعمل كده؟!"
أركان انحنى ناحيته، همس بصوت منخفض بس كان فيه وعيد:
"عمرك ما كنتوا مني، أنا كنت بينكم بس كنت بلعب لعبتي... واللعبة انتهت."
الصدمة خلت وش صلاح يصفَر، عينه جابت آخرها وهو بيبص حواليه، كأنه مش مصدق إن النهاية جات كده.
رجال الشرطة هجموا، الكلاب البوليسية بتنهش في الأرض، العساكر بيكبلوا المجرمين واحد ورا التاني، وجيسي كانت بتصرخ وهي بتتحاول تفلت من قبضة الضباط:
"مش معقول! مستحيل!"
أركان بص لها ببرود:
"المستحيل كان إنك تفكري إنك فوق القانون!"
صلاح اتشد من دراعه وهو بيقاوم، عينه في أركان والشر اللي فيها بيولع:
"انت دمرتني يا يا سعي أركان! دمرتني!"
أركان قرب منه وهمس بصوت بارد وهو يبص في عينه مباشرة:
"دي اقل حاجه … كان لازم أجيب حقها."
وهو بيقول كده، المكان كله كان بيتنضف، رجالته بيتسحبوا واحد ورا التاني في عربيات الترحيلات، وصفارات الشرطة كانت موسيقى النهاية اللي أركان مستني يسمعها من زمان.
ـــــ$ــــ
في عربية الترحيلات، الصمت كان يملأ المكان كأن الزمن توقف. الأجواء مشحونة بالدهشة، ولا أحد قادر على استيعاب ما يحدث. مروان، الذي كان في حالة من الجنون، وقف على أطراف أصابعه وهو يهتف:
"إيه اللى بيحصل ده؟!"
لكن الرد جاء سريعًا من طاهر بصوت منخفض لكنه مملوء بالصدمه:
"سعيد طلع ظابط؟!"
سليم، الذي كان يحاول فهم الموقف، سأل بصوت متهدج:
"طب يعني، كل حاجة حصلت وكل اللى فات كان كذب؟!"
عادل، الذي كان يشعر بمرارة النهاية، قال بصوت خافت لكن مليء بالحسرة:
"احنا كده وصلنا للنهاية خلاص، كده."
أما خليل، الذي كان دائمًا مشككًا في المواقف، همس متألمًا:
"كنت حاسس إن في حاجة غلط... مش قولتلك يا فؤاد؟ وانت تقولي... حتة واد بيعيش ليه يومين؟ شفت اليومين كانوا نتجتهم عاملين ازاى؟ هندفع تمنهم عمرنا كله في السجن."
فؤاد كان جالسًا، عيونه مفتوحة على آخرها، مش قادر يصدق اللى بيحصل. كان واضح إنه ما فيش حاجة تقدر ترده عن الواقع المرير. وفي تلك اللحظة، الستارة الوحيدة التي تغطيهم كانت بداية النهاية، التي لا مفر منها.
ـــــ&ـــــ
 في عربية أركان
عدلي بابتسامة فخر وهو ينظر إلى أركان: "رفعت راسي وراس جهاز الأمن الوطني كله النهارده."
أركان وهو يسند رأسه على الكرسي وينظر للطريق قدامه: "احنا تعبنا ونستاهل الفرحة دي."
عدلي بتساؤل: "عرفت إزاي مكان اللي بيصنعوا فيه؟ أنا كنت فاكر إن كل حاجة انتهت ومش هنعرف نوصل للمكان ده."
أركان بابتسامة جانبية وهو بيحرك عجلة القيادة: "أومال أنا بعمل إيه بقالى شهرين يا بابا؟ عرفت من صلاح ذات نفسه، في مرة كان سكران وبدأ يهلفط بالكلام، فهمت الشفرة واتأكدت بنفسي."
أركان ببرود: "جايب روس وأمريكان حبسهم في فيلا تحت الأرض، المدخل من الأوضة بتاعته في أسانسير بينزل تحت، غير الباب اللي بيتفتح من جهة الشارع العمومي… من بعيد تحلف إنه حيطه، وهو في الحقيقة باب سري."
عدلي وهو بيهز رأسه بدهشة: "جايب الدماغ دي منين بجد؟"
أركان بستهزاء: "مش دماغوا… حد بيخطط ليه."
عدلي وهو بياخد نفس عميق: "على العموم، القوة سبقتك على الفيلا عشان المصنع، وعمر مستنيك عشان اللي إنت عايزه."
أركان بنظرة غامضة وعينه بتلمع: "تمام يا بابا."
أركان (بصوت ثابت): إيه اللي حصل عندك يا بابا؟ طمني.
صوت عدلي جه من الناحية التانية، هادي بس فيه نبرة ارتياح.
عدلي: كله تمام، الحمد لله… ليلى كويسة، والعيال بخير.
أركان حس بصدره بيتحرك نفس أعمق من العادي
أركان (بصوت حاول يكون عادي): كويس… الدكتور قال إيه؟
عدلي: قال إنها عديت مرحلة الخطر خلاص، والعيال بخير، صحتهم كويسة.
أركان بص للأرض للحظة، الحروف كانت بتلعب في دماغه… ليلى كويسة… والعيال بخير.
جواه حاجة كانت عايزة تخليه يقوم يجري، يروح يشوفها، يسمع صوتها، يتأكد بنفسه، بس العقل كان أقوى… أو يمكن عناده.
أركان (بنفس النبرة المحايدة): تمام… خليك جنبها، لو احتاجت أي حاجة بلغني.
عدلي (بضحكة خفيفة): بلغك؟! ده أنت اللي المفروض تكون جنبها دلوقتي.
أركان سكت لحظة، عينه جات على صورة كان ناسيها  … صورة ليلى، بس قبل ما يوصل لها بإيده، زقها، كأنه بيخبيها حتى عن نفسه.
أركان (بنبرة أخف شوية، بس لسه متحكم في نفسه): هبقى أشوف الموضوع، مع السلامة.
قفل الخط ورمى الموبايل على المكتب، حاسس بحاجة غريبة في قلبه، حاجة مش قادر يسميها… أو يمكن مش عايز يسميها.
ــــــ&ـــ
كانت الشقة غارقة في الظلام، صوت أنفاسها المتوترة يملأ المكان. حاولت تهرب، لكنها سمعت صوت خطوات سريعة وثقيلة تقترب. الباب اندفع بقوة، وفي لحظة، وجدت نفسها وجهًا لوجه مع أركان.
وقف عند المدخل، نظراته باردة، حادة، مليانة غضب مكتوم. كان لابس بدلته الرسمية، شارة المخابرات بتمسك على كتفه، وعيناه مثبتة عليها كأنها فريسته الأخيرة.
نسرين بصوت مرتعش: "إنت... إنت جاي ليه؟ أنا معملتش حاجة!"
أركان قرب منها بخطوات تقيلة، مسك إيديها بعنف وقيدها قبل ما تقدر تتحرك. قرب وشه منها وهمس بصوت خافت لكنه مليان قوة:
"تم القبض عليكِ بتهمة الشروع في قتل ليلي وطفليها… وأنا هقبض عليكِ بصفتي المقدم أركان الجارحي."
نسرين بصوت مبحوح:
"ظابط؟ إنت ظابط؟!"
الصدمة كانت كأنها صاعقة نزلت عليها. دماغها بدأت تربط الأحداث ببعض.هنيّة … أو بالأصح "ليلي"، مش مجرد خادمة، مش مجرد واحدة هتروح لحالها…
نسرين بصرخة هستيرية وهي تتراجع للخلف:
"لااا! إنت بتكدب! هنيه مستحيل تكون عايشة! وعيالها… مستحيل!"
أركان قرب منها بخطوات تقيلة، سحبها من دراعها بكل برود وهو بيكلبشها، في اللحظة اللي كانت فيها صراخها بيملأ المكان.
نسرين وهي بتخبط في الأرض وتصرخ:
"إنتو بتكدبوا! أنا كنت ضامنة إنهم هيموتوا! مستحيييل!"
أركان شدها بقوة وهو بيقرب من وشها بهدوء قاتل:
"الغلط الوحيد اللي عملتيه إنك افتكرتِ نفسك أذكى مني… والنهارده جاي أخد حق مراتي وولادي، وكل واحد لازم هيدفع التمن غالي!"
نسرين فضلت تصرخ، تتوسل، لكنها كانت عارفة… النهاية وصلت، ومافيش هروب!
بإشارة واحدة من إيده، جرّوها رجال الشرطة، وصوت صراخها اختفى وسط هدير السيارات اللي بدأت تتحرك. أما هو، فوقف في مكانه، خد نفس عميق، ثم رفع رأسه للسماء… وأخيرًا، شعر لأول مرة إن نار جواه بدأت تهدى.
ــــ&ـــــ
فيلا صلاح  
صوت دوّي باب الفيلا وهو بيتفتح بعنف، رجال الشرطة بيقتحموا المكان بسرعة، أسلحتهم مرفوعة، والعساكر منتشرين في كل زاوية. صفيّة وقفت مكانها متجمدة، عنيها بتتنقل بينهم بصدمة، مش مستوعبة اللي بيحصل.
صفيّة (بذهول): إيه… إيه اللي بيحصل؟
رغدة (بابتسامة ساخرة وهي بتبص حوالينها): الظاهر إن نهايتهم جت… وطبعًا نهيتنا إحنا كمان جت معاهم.
صفيّة (بتشد شعرها بغضب): ياما قلت ليكم بلاش القرف اللي بتشتغلوا فيه! مالُه القرش الحلال؟ أهو إحنا اتاخدنا في الرجلين بسببكم!
صباح (بجنون وهي بتصرخ): اخرسي! اخرسي يا بنت منك ليها! مافيش نهاية ولا حاجة، إحنا هنطلع من هنا سلام!
لكن صوت الضباط كان أقوى من أي إنكار… في اللحظة دي، عساكر الشرطة بدأوا يطلعوا كميات كبيرة من السلاح والمخدرات، يحطوها قدام الظباط اللي بيكتبوا التقارير، ملامحهم كانت باردة، حاسمة.
عمر (وهو بيقرب من صباح بالكبشات): تم القبض عليكم بتهمة حيازة مخدرات وسلاح… انتهى اللعب.
نظرات الذهول والخوف كانت واضحة على وشوشهم، حتى صباح اللي كانت بتكابر، بقت عيونها متوسعة، مصدومة، وهي بتشوف ستار النهاية بينزل عليهم كلهم… بلا رجعة.
ـــــــ&-----
في الفيلا، وأركان داخل…
فريدة كانت واقفة في الصالة، قلبها بيدق بسرعة من التوتر والاشتياق. أول ما سمعت صوت الباب بيتفتح، دموعها نزلت من غير ما تحس. بقالها شهور ما شافتهوش، ابنها الوحيد،اللي رماه شغله في نار الخطر، واللي حتى جوازه كان مجرد جزء من مهمة.
أول ما دخل وشافها، وقف لحظة، ملامحه كانت جامدة زي العادة، بس عيونه فيها حاجة غريبة، حاجة مختلفة.
فريدة بصوت مختنق: "أركان…"
قبل ما تكمل، كانت بتجري عليه، حضنته بقوة وكأنها خايفة يختفي من بين إيديها. دموعها غطت وشها وهي بتقول بصوت متكسر:
"يا حبيبي… كنت هتجنن عليك… كنت بموت كل يوم وأنت بعيد…"
أركان حس بقلبه بيدق، حضنها بحنية نادرة منه، وهو بيهمس بصوت دافي:
"أنا رجعت يا أمي… سامحيني عالغُربة اللي فرضتها عليكي."
فريدة وهي تبعد عنه شوية، تمسك وشه بين إيديها بحب: "أنت بخير يا ابني؟ متعور؟ جرالك حاجة؟"
أركان بابتسامة خفيفة : "أنا كويس يا أمي، وكل حاجة خلصت خلاص."
عيونها لمعت بفرحة غامرة، وقفت لحظة تبص له بحنان:
"أركان… أنا فخورة بيك، يا حبيبي."
أركان وهو بيبوس راسها برفق، ضمها لحضنه بحنية نادرة وقال بصوت دافئ: "حبيبتي يا ماما."
(عمر داخل الفيلا بابتسامة ماكرة، وهو بيرفع إيده قدام فريدة ويهتف بمزاح)
عمر: "اقفش عندك! فعل فاضح في فيلا للواء عدلي!"
(فريدة ضربته على كتفه وهي بتضحك)
فريدة: "لم نفسك يا حيوان، أنت فاضيلي ولا إيه؟"
(عمر ضحك وهو بيبص لأركان اللي كان واقف بيتفرج عليهم بابتسامة خفيفة)
عمر: "عايز حضن زيك يا فوفو!"
(أركان مد إيده بضحك، سحب عمر في حضن سريع وهو يربّت على كتفه)
أركان: "تعالى يا اللي وحشتني"
(عمر رفع حواجبه بمرح وهو بيقف جنبه)
عمر: "حبيب قلب أخوك من جوا… مستعد للأخبار اللي هتطفي نارك؟"
(أركان اتكئ على الكنبة، وملامحه شدت وهو بيبصله)
أركان: "عملت إيه؟"
(عمر ابتسم ابتسامة نصر، وقعد جنبه وهو بيحرك إيده بحماس)
عمر: "كل اللي هناك اتمسكوا، حيازة مخدرات وسلاح والتستر عليهم، وكمان لقينا ملفات تودي في داهية، من ضمنهم فيديو لصلاح وهو بيقتل أم وأبو واحد مجنون اسمه محروس!"
(أركان شد حواجبه، وعمر كمل بحماس)
عمر: "الفيديو ده لوحده كفيل يخليه ينعدم… مش عارف هيتعدم كام مرة على كل البلاوي اللي عملها!"
(أركان سحب نفس عميق، لمعت عينه بنار الانتقام اللي أخيرًا اكتملت، بَصّ لعمر بابتسامة باردة وهو بيتمتم)
أركان: " جت نهايته… واللي جاي هيكون أسوأ ليه!"
عماد دخل بخطوات ثابتة، قرب من أركان وفتح دراعاته بحب وهو بيقول بصوت كله فخر:
"مبروك يا بطل… انت عملت المستحيل يا أركان، اللي معرفناش نعمله أنا وأبوك في سنين، انت عملته في شهور… برافو يا حبيبي."
أركان شدد قبضته في جيبه للحظة، وبعدين خرجها وحضن عمادل بقوة، وهو بيهمس بصوت واطي:
"انت مش زعلان مني على اللي حصل؟"
عماد بعد عنه شوية، بص في عيونه، ولمح الشرخ الصغير اللي مستخبي تحت نبرة صوته الجامدة، فقال بهدوء وهو يحط إيده على كتفه:
"أنا عارف إن ده كان غصب عنك، وبعدين كل حاجة نصيب… متفكرش في أي حاجة دلوقتي غير إنك تفرح، بكرة في تكريم كبير ليك في الجهاز."
أركان حاول يبتسم وهو بيقول بنبرة هاديه:
"مافيش داعي."
عادل شدد قبضته على كتفه وهو بيرد بجدية:
"لا، إزاي؟ دي أقل حاجة تتعمل لبطل زيك… ضحى بكل حاجة عشان شغله، عشان البلد، عشان المهمة تنجح."
ــــ&ـــ
في المستشفى
عدلي وهو واقف جنبها، عينيه مليانة حنية واطمئنان: "كل حاجة خلصت يا ليلي…"
ليلي ابتسمت لا إرادياً، فرحة مش مصدقة إن الكابوس اللي عاشته أخيراً انتهى. بس الفرحة ما كملتش، ابتسامتها اضمحلت، وضحكتها اللي كانت بتشق وشها اختفت ببطء. كل حاجة انتهت، بس معنى كده إن علاقتها بأركان كمان انتهت؟ مشفهاش، مشافش عياله حتى… هو فعلاً قرر يمحيها من حياته؟
عدلي وهو ملاحظ الحزن اللي سكن ملامحها: "الله أعلم بكرة مخبي ليكي إيه، بس متقلقيش يا بنتي… انتي وعيالك مسؤولين مني، متشليش هم أي حاجة. مصاريف عيالك علينا، مش هخليكي لا انتي ولا هما محتاجين أي حاجة."
بص لها بعمق، صوته بقى أهدى لكن أوضح: "أما علاقتك بأركان… دي هو اللي هيقررها."
كلماته سابت أثر في قلبها، مش عارفة تفرح إن كل حاجة انتهت، ولا تخاف من اللي جاي؟
عدلي وهو بيقرب منها بنبرة هادية لكن مليانة قرار: "انكتب لك خروج انتي والولاد خلاص… روحي عيشي في البيت الجديد، المنطقة هناك أمان وعشان يبقى مناسب للأولاد."
ليلي كانت بتسمعه، لكن عقلها كان في حتة تانية… قلبها بيوجعها بس مش عايزة تبينه، خبت مشاعرها وابتسمت ابتسامة باهتة وقالت بصوت ضعيف: "حاضر."
عدلي لاحظ الوجع اللي بتحاول تخفيه، لكنه قرر ما يضغطش عليها، ساب لها مساحة تفكر براحتها. فوزية قربت منها ولمست إيدها بحنية: "هتكوني كويسة يا بنتي، وهما هيكبروا في أمان."
ليلي بصتلها بامتنان، وبعد لحظة طويلة، بصت لأولادها اللي نايمين ببراءة، وخدت نفس عميق وهي بتحاول تهيئ نفسها للمرحلة الجديدة… حتى لو قلبها لسه متعلق بالماضي.
ـــــــــ&ــــــ
في البيت الجدبد
ليلي كانت حاسة إنها مستنزفة… مش بس جسديًا، لكن روحيًا كمان. تعبها، خوفها، صدمتها، كل حاجة كانت متجمعة جواها وبتخنقها. لما دخلت الأوضة، ما قدرتش حتى تبص حواليها أو تتأمل البيت الجديد، الحاجة الوحيدة اللي كانت عايزاها إنها ترتاح… ترتاح من التفكير، من الألم، من كل حاجة.
أسماء كانت شيلة تاليا، وأميرة كانت شايلة ريان، وفوزية كانت سنداها عشان تمشي. أول ما دخلت الأوضة، أول حاجة عملتها إنها شالت أولادها، حضنتهم وكأنها بتحاول تستمد منهم قوة تخليها تكمل. كانت تعبت، بجد تعبت، ومش قادرة تستحمل أكتر من كده.
بصت عليهم وهي بتحطهم جنبها، عينها مليانة دموع بس بتحاول تبتسم. بس جوها كان فاضي… كأنها فجأة فقدت حاجة كبيرة، كأنها فقدت نفسها.
رمت رأسها على المخدة، سحبت الغطاء عليها، وسابت دموعها تنزل في هدوء. محدش كان سامعها، بس الألم كان بيصرخ جواها.
كده خلاص؟…
مش هشوفه تاني؟ مش هشوف نظرة عيونه الباردة اللي كنت بعافر عشان أكسرها؟ مش هيجي يطمن على العيال؟
للدرجة دي أنا مش فارقة معاه؟!
كانت بتسأل نفسها بس الإجابة كانت واضحة… آه، مش فارقة معاه!
اختار ولاده… بس ما اختارهاش هي.
ودي كانت حاجة شايفاها صح، على قد ما كان قلبها وجعها إنه سبها للموت بس فرحانه انوا انقذ ولادهم 
غمضت عيونها وهي بتحاول تبعد أي تفكير عنه، بس صورته ما سبتهاش. أول مرة تحس إنه غريب عنها بالشكل ده، وإنها مهما حاولت، مستحيل ترجع زي ما كانت.
ــــ&ـــــ
أركان دخل أوضته، وقف في النص وهو حاسس بفراغ غريب. الأوضة اللي كانت دايمًا بتكون مصدر راحته، اللي كان بيحس فيها إنه نفسه، بقت دلوقتي مجرد أربع حيطان مخنوقين عليه. مفيش ليلى، مفيش صوتها، مفيش ضحكتها اللي كانت بتطلع حتى وهي زعلانة.
قعد على طرف السرير، سند كوعه على ركبته وحط راسه في إيده، خد نفس طويل وهو بيحاول يبعد عن دماغه أي أفكار، بس كل حاجة كانت راجعة له غصب عنه. كان ممكن يروح يشوفهم، بس منع نفسه… خايف لو قرب منهم مش يعرف يبعد تاني، خايف لو بص في عيونها يلاقي فيها الحقيقة اللي بيهرب منها، الحقيقة اللي بتقول إنه متعلق بيها وبعياله من أول لحظة.
مسح وشه بإيده، قام وفتح الدولاب، عيناه وقعت على حاجة صغيرة ملفوفة في قطعة قماش ناعمة، مد إيده وسحبها… كانت لعبة أطفال، حاجة بسيطة كان جايبها وهو مش حتى عارف ليه. بص لها لحظة، وبعدين شد نفسه ورماها على الكومودينو، وقف شوية قدام المراية، نظرته لنفسه كانت مختلفة… ده مش أركان اللي كان فاكره، ده واحد تاني، واحد قلبه بدأ يبقى مش ملكه، وده أكتر شيء كان بيخوفه.
أركان مقدرش يفضل واقف في مكانه، كأن رجليه بتجروه جري ناحية ليلى. غير هدومه بسرعة، وطلع على المستشفى وهو مش قادر يتحكم في دقات قلبه.
وصل عند أوضتها، وقف برا الإزاز، عينه ما سابتش ملامحها.. كانت مرهقة، لكن عايشة.. قدامه.. بخير. كان عايز يدخل، يشيلها في حضنه، يطمنها، لكنه وقف مكانه، صارع نفسه.. هو مينفعش يبقى بالشكل ده، هو المفروض يكون أركان اللي محدش بيظهر عليه أي حاجة.
فضل يبص عليها لحظات طويلة، كل حاجة حواليه اختفت، مابقاش شايف غيرها.. حس لأول مرة إنه كان ممكن يخسرها للأبد، وإنه مش مستعد لده، أبدًا. شد نفسه واختفى بسرعة قبل ما حواسه تخونه.
راح على الحضانة، وقف قدام الزجاج، عينه وقعت على التوأم.. طفلين صغيرين بيناموا بهدوء كأنهم ملايكة. قلبه دق بقوة، حس بثقل غريب في صدره، نوع من المشاعر اللي هو مش متعود عليها.
"تاليا.. ريان.."
الأسماء اللي كان بيحبها وهو طفل.. بقت أسامي ولاده في الحقيقة. مش مصدق إنه بقى أب، مش مصدق إن الكائنات الصغيرة دي قطعة منه. مد إيده وحطها على الزجاج، كأنها لمسة خفيفة من بعيد، ابتسامة صغيرة قوي ظهرت على وشه، ابتسامة محدش شافها.. ولا حتى هو نفسه كان واعي بيها.
ـــــ&ـــــــ
 في الصالون
فريدة وهي متوترة، وقفت قدام عدلي وعينيها مليانة تساؤلات.
عدلي وهو بيحط إيده في جيبه وبيبص لها بهدوء: "ريحي نفسك، لو عايزة تروحي تشوفي عياله روحي. البنت محترمة وكويسة وهتفرح لما تشوفك، يمكن مروحك يخفف البواخة اللي ابنك عمالها مع البنت دي."
فريدة بحدة: "ابني ماعملش حاجة! هو ذنبه إيه؟ هو مش بيحبها، مش غصب عنه يبقى معاها!"
عدلي بابتسامة هادئة لكن نظرته حاسمة: "طفّيت عين ابنك دي معناها عندك إنه مش بيحبها؟"
فريدة بعصبية: "مش يمكن لأنه بعيد عن يارا؟ مش يمكن حياته كلها باظت بسبب الجوازة دي؟"
عدلي وهو بيهز راسه: "الأيام قدامنا، هتثبت مين الصح."
فريدة بصوت واطي مليان شوق وحب جده: "مش مصدقة يا عدلي إنه بقى أب! اركان كبر للدرجه دي نفسي اشوف عياله ؟"
عدلي بابتسامة ، وهو بيطلع الموبايل وبيوريها صورة الأطفال: "بصي بنفسك… نسخة من أركان وهو صغير."
فريدة وهي بتبص للصورة وعينيها بتلمع: "ما شاء الله… اللهم بارك! جمال أوي زيه … عيونهم زي عيون أركان بالظبط…"
عدلي وهو بيتأملها: "لما تشوفيهم وتحسي اللي أنا حسيته، هتفهمي ليه أركان عمل كده …  قلبك هيحن يا فريدة."
فريدة فضلت ساكتة، لكن الصورة فضلت ثابتة في عينيها… لأول مرة، حسّت بحاجة تتحرك جواها، إحساس غريب… يمكن حنين… يمكن خوف من الحقيقة اللي بدأت تظهر قدامها.
ــــ$ـــــ
في المساء 
كانت ليلي قاعدة على الكنبة في أوضتها، لابسة إسدال ، عيونها متعلقة بالشاشة، وإيديها بتضغط على مخدة في حضنها. صوت المذيع كان بيملأ المكان بحماس:
"وفي مهمة وصفت بالمستحيلة، نجح المقدم أركان عدلي في اختراق واحدة من أخطر العصابات المحلية، وتمكن من إسقاط شبكة تهريب السلاح والمخدرات التي كانت تهدد أمن البلاد. واليوم، يتم تكريمه بوسام الشجاعة من السيد رئيس الجمهورية تقديرًا لمجهوداته العظيمة في حماية الوطن."
الكاميرا جابت أركان وهو واقف على المنصة، وقف قدامها بهيبته المعتادة، البدلة السوداء مفصلة عليه بإتقان كأنها مصنوعة خصيصًا ليه، بتبرز عرض كتافه وقوامه الممشوق. القميص الأبيض تحت الجاكيت زاد ملامحه صرامة، وكرافاته السوداء مربوطة بإحكام، كأنها ختم رسمي لشخصيته اللي صعب اختراقها. عيونه الثابتة كانت بتراقبها بحدة، بينما إيده مستريحة في جيب البنطلون، لكن في أي لحظة ممكن تتحرك بثبات محسوب، زي ما تعود في شغله، بملامحه القوية اللي كانت واثقة لكن عيونه مخبية حاجة أعمق بكتير من الفرح… حاجة محدش حاسسها غير ليلي،حست بدموعها بتتجمع، مش عارفة هو وجع ولا فخر، هو كسرة قلب ولا إحساس بالخذلان. أركان كان هناك، بيتكرم قدام الدنيا كلها، بيلمع زي نجم في السماء، وهي هنا… قاعدة لوحدها، بعيدة عنه وعن كل حاجة تخصه.
شدت المخدة أكتر على صدرها، ابتلعت غصتها وهي تراقب اللحظة اللي كانت جزء منها لكنها مكنتش فيها. كان نفسها تبقي معاه 
في اللحظة اللي الكاميرا قربت على وشه وهو بيستلم الوسام،لحظة صمتت فيها الدنيا، وكأن اللي بينهم كان أكبر من المكان والزمان.
همست لنفسها بصوت مليان فرحه:
"مبروك يا أركان… كنت دايمًا تستاهل المجد."
"بينهم السما والأرض، هو فوق وهي تحت، هو الشرق وهي الغرب،… عالمين ضد بعض، بس يا ترى العكس ده هيفرقهم ولا هيقربهم أكتر؟"

تعليقات