روايةهيبة الفصل الثاني2بقلم مريم محمد غريب


روايةهيبة
 الفصل الثاني2
بقلم مريم محمد غريب





_ ظنون  _ :

كان الليل قد أسدل ستاره على أرجاء القصر، حين صعد "نديم" الدرج بخطواتٍ ثابتة بعد أن أنهى أعماله العالقة بمكتبه. خفتت الأضواء في الممر الطويل المؤدي إلى غرف النوم، والهدوء الذي يخيّم على المكان لم يكن سوى قناع، يخفي تحته عواصف من المشاعر التي لا تهدأ هنا بين جدران هذا البيت.

عندما اقترب من باب غرفة "ليلى". استوقفه صوتها، كانت تبكي، ونبراتها المتحشرجة تشي بحزنٍ متراكم، لم تجد له متنفسًا سوى في حديثها مع شخص تثق به. وأيّ شخص سواها، صديقتها المقرّبة "نوران عيّاش".

توقف في مكانه، وقلبه يخفق على إيقاع أنفاسها المضطربة. ألصق راحة يده بخشب الباب مصغيًا، بينما صوتها يتسلل إلى أعماقه يوخزه بالشعور بالذنب :

-بقى حد تاني.. بقى شخص ماعرفوش يا نوران.. نديم إللي أنا طول عمري أعرفه مابقاش موجود. قبل كده ماكنش يقدر يزعلّني ولا حد كان يقدر وهو موجود.. دلوقتي مابقاش يفرق معاه احساسي.. اتحوّل مش فاهمة إيه السبب.. أوقات بكون عايزه أسأله ليه.. ليه بيحاول يخلّيني أكرهه. وأنا مش قادرة. مهما حاولت.. مهما وجعتني تصرفاته.. قلبي مش راضي يكرهه!!

استقرت كلماتها فوق صدره كصخرة ثقيلة، ألقت به في دوامة من المشاعر المتضاربة. لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. كل حرف نطقته كان كافيًا لإشعال نيران لم تنطفئ داخله يومًا، حتى وإن حاول إقناع نفسه بعكس ذلك.

حسم أمره، ووضع يده على مقبض الباب قبل أن يفتحه بهدوء. لم يكن بحاجة إلى إصدار أيّ صوت، فوجوده وحده كان كفيلًا بإعلان حضوره الطاغي.

التفتت "ليلى" إليه فورًا، وعلى الرغم من أن الدموع ما زالت تلمع في عينيها، إلا أنها أسرعت بمسحها في إصرار، كأنها تخشى أن يراها ضعيفة. رفعت رأسها، وعادت ترتدي قناعها المعتاد، قناع الكبرياء والعناد الذي لطالما واجهته به.

كانت جالسة فوق سريرها، مقابل صديقتها نوران، التي بدا عليها بعض الارتباك لرؤيته. لكن "ليلى" لم تمنحه سوى نظرة ثابتة، نظرة تتحدّى ضعفها أمامه، كأنها تريد أن تثبت له بأنها لا تزال صامدة، حتى وهو يحاول كسرها.

أما هو، فقد وقف عند الباب يراقبها بصمت، عينيه تلتهمان تفاصيل وجهها الذي يعرفه جيدًا، يعرف كل انفعالاته، كل محاولاتها لإخفاء ألمها خلف جدار من الصلابة. شعر بشيء يشبه الإعجاب، إعجاب بذلك التمرّد الذي لا ينكسر فيها، حتى وهي في أضعف حالاتها.

مرر بصره نحو "نوران". قبل أن ينطق بصوتٍ هادئ لكنه يحمل أمرًا لا يقبل الجدال:

-نوران.. ممكن تسيبينا لوحدنا شوية من فضلك؟

كلماته كالسهم، أصابت جو الغرفة فأثقلت الهواء بحالة من الترقب، نظرت "نوران" إلى "ليلى". وكأنها تنتظر منها إذنًا غير منطوق، لكن "ليلى" لم تقل شيئًا، فقط اكتفت بتشديد أصابعها حول الغطاء، وكأنها تستعد لمواجهة لا تعرف كيف ستنتهي.

ترددت "نوران" قليلًا، وكأنها كانت تخشى أن تترك "ليلى" وحدها معه، لكن في النهاية استجابت للصمت الذي فرض نفسه على الغرفة. نهضت من مكانها بخطوات مترددة، ألقت على صديقتها نظرة أخيرة تحاول طمأنتها، قبل أن تتجه إلى الباب وتفتحه بهدوء، ثم تخرج مغلقة إيّاه خلفها برفق.

حلّ السكون بينهما، ثقيلًا، ممتدًا كأنه يتحدى أيّ محاولة لكسره. لم يتحرك "نديم" من مكانه، ولم تتزحزح "ليلى" عن وضعها، لكنها كانت تشعر بتوتر غريب يتسلل إلى أوصالها، يجبرها على التظاهر بالتماسك أكثر. مرّت لحظات، قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا، وتقرر قطع هذا الصمت بنفسها ... 
-شكرًا !.. نطقت بصوتٍ جاف.

نديم بهدوء: على إيه؟

-كنت قلقانة أحسن تطرد نوران.. يعني. عشان انت معاقبني.. بس شكرًا إنك  مأحرجتنيش و ...

لم تكمّل جملتها، إذ بادرها "نديم" بردٍ هادئ لكنه قاطع:

-عقابي ليكي عمره ما يوصل إني أطرد صاحبتك.. خصوصًا وأنا عارف إنها أقرب صديقة ليكي.

نظر إليها نظرةً مباشرة، نظرة لم تستطع أن تفهمها تمامًا، لكنها شعرت بها تتغلغل تحت جلدها. بدا كأنه على وشك أن يضيف شيئًا آخر، لكنه صمت لوهلة قصيرة، ثم رفع يده بإشارة خفيفة نحو شعرها المصبوغ بالأشقر، وعاد يتحدث بصوتٍ منخفض، لكنّه لا يخلو من التلميح:

-إلا لو كانت هي السبب ورا إنك غيرتي ستايل شعرك.. ساعتها هايكون ليا تصرف تاني معاها.

رفعت حاجبيها ببطء، وكأنها تفاجأت بإدراكه للأمر. مررت أصابعها بين خصلاتها، ثم هزّت رأسها بقليل من الحدة وهي تردد بجمودٍ:

-نوران ملهاش أي علاقة.. الفكرة كانت فكرتي أنا.

لم يعلّق "نديم" على الفور، فقط أومأ برأسه ببطء وكأنه يستوعب ردّها، ثم زفر أنفاسه في هدوء. ظلّ يحدق بها لثوانٍ أخرى، قبل أن يتحرك أخيرًا. اقترب منها بخطوات هادئة، حتى جلس على حافة السرير، في مواجهتها تمامًا.

تصلّبت "ليلى" في مكانها، لكنها لم تبتعد. فقط راقبته بعينين مليئتين بالحذر، تنتظر ما سيقوله، ما سيفعله. نظراتهما تلاقت في صمتٍ جديد، لكنه هذه المرة لم يكن صمتًا فارغًا، بل كان مزدحمًا بكل ما لم يُقال بعد.

رفع يده قليلاً، وكأنه يفكر في لمس شعرها، لكنه توقف في اللحظة الأخيرة، فقطع المسافة بينهما بالكلمات بدلًا من ذلك:

-ليه؟ ليه قررتي تغيري شكلك فجأة؟

لم ترد "ليلى" مباشرةً، وكأنها تزن كلماتها قبل أن تنطق بها. ثم، بعد لحظة قصيرة، زمت شفتيها وردت بإجابة أذهلته:

-عشان أعجبك!

لم يُزح "نديم" عينيه عنها، لقد نجحت وباغتته بجوابها، لكنه مارس على نفسه أقصى درجات ضبط النفس وقال بهدوء:

-ومين قال إن شكلك في الأول ماكنش عاجبني؟ والسؤال الأهم.. ليه عايزة تعجبيني أنا بالذات يا ليلى؟

رمشت "ليلى" باضطرابٍ للحظة، لكنّها استعادت تماسكها سريعًا، وردّت بلهجة طبيعية:

-انت طول عمرك كنت مرايتي.. من وأنا صغيرة كل حاجة عملتها كنت باخد رأيك فيها. لون التوكة. شكل الجزمة. تسريحة الشعر.. في الفترة الأخيرة لما كنت باخد رأيك كنت بشوف نظرة غريبة في عينك.. كأنك مابقتش شايفني حلوة.. كأنك مش طايق تشوفني أصلًا.. كنت موجوعة.. متغاظة!!

ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة، لكنها لم تكن ابتسامة مرح، بل ابتسامة تحمل معاني لا تُفهم بسهولة. مال بجسده قليلًا للأمام، ليقلّص المسافة بينهما أكثر، وعيناه ثابتتان على عينيها وهو يردّ بنبرة منخفضة:

-منّي.. ولا من نفسك؟

ارتجفت أنفاسها للحظة، لكنها لم تسمح لنفسها بالتراجع. حافظت على تماسكها قدر استطاعتها، رغم أن نظراته كانت تفكك شيئًا بداخلها دون أن تدري.

لكنها، كعادتها، لم تكن مستعدة للاعتراف.. ليس بعد.

ظلّ الصمت معلقًا بينهما، مشحونًا بما لا يُقال. "نديم" ينظر إليها بعمق، يراقب الاضطراب الذي حاولت جاهدة إخفاءه خلف عينيها، ذلك الاضطراب الذي يعرفه جيدًا، الذي لم يعد بإمكانها التستر عليه مهما ادّعت القوة.

ثم، دون أيّ مقدمات، كسر الصمت بشيء لم تتوقعه، بكلمات لم تتخيّل أنها ستسمعها منه أبدًا:

-أنا آسف يا ليلى!

اتسعت عيناها في دهشة حقيقية، وكأن أذنيها لم تستوعبا كلماته للوهلة الأولى. رمشت ببطء، وحدّقت فيه كأنها تنتظر تفسيرًا لما قاله، لكنه لم يمنحها فرصة للسؤال، بل أكمل بصوت منخفض لكنه محمّل بثقل ما يشعر به:

-اسمعي كويس الكلام ده عشان يمكن مقدرش أقوله تاني.. أنا آسف على كل حاجة.. على قسوتي. على معاملتي ليكي الفترة إللي فاتت.. عارف إني وجعتك. وعارف إنك مستحقتيش مني ده.. كنت فاكر إني لازم أبعد. لازم أخلّيكي تكرهيني.. بس حتى ده ما نجحتش فيه. صح؟

بقيت "ليلى" صامتة، لكن عينيها قالتا كل شيء. نظرتها المرتعشة، الطريقة التي شحبت بها ملامحها، الاضطراب الذي ظهر على وجهها للحظة قبل أن تسارع بإخفائه، كل ذلك كان أكثر من كافٍ ليخبره بما لا تقدر هي على قوله بصوتٍ عالٍ.

استمرّ "نديم" وكأن هناك ثقلًا جاثمًا على صدره، لن يزول إلا إن أفرغ كل ما بداخله:

-لأول مرة حاسس إني مش واقف على أرض ثابتة.. وانتي السبب.. شوفي انتي سنّك وخبرتك كلها في الدنيا كام سنة.. لكن قادرة تهزّي كيان راجل زيي.. قادرة تهزّي كيان نديم الراعي.. عرفتي ليه كنت بعاملك كده؟

في اللحظة التي انتهى فيها من كلماته، لم تستطع "ليلى" الصمود أكثر. غامت عيناها بالدموع، رغم محاولتها العنيدة لكبحها، لكنها لم تنجح. تساقطت دمعة، ثم أخرى، كأنها إفراج متأخر عن ألم ظلّ محتجزًا لفترة طويلة، أرادت أن تتكلّم، أن تعاتبه على أشياء كثيرة، لكن الكلمات التي أرادت قولها إن خرجت فستكون بمثابة كوارث، فأسرّتها في نفسها مكتفيّة بنشيجها الحار.

شعر "نديم" بشيء ينقبض داخله عندما رآها تبكي، إحساس مرير بالذنب تسلل إلى قلبه، فأبعد المسافة المتبقية بينهما، رفع يده في رفقٍ، وإصبعه يلامس وجنتها برقة، يزيل آثار دموعها التي خانتها. لم يقل شيئًا في البداية، فقط لمسها كما لو كان يحاول محو الألم نفسه، ثم همس بصوت أكثر لينًا ممّا اعتادت عليه منه:

-الأميرة ماتعيّطش.. أميرة بيت الراعي عيونها تضحك وبس.. عشان خاطري كفاية عياط!

رفعت "ليلى" وجهها إليه، نظرتها تحمل ألف شعور متناقض، عتاب لم تقله بعد، وجع لم يهدأ تمامًا، لكنها رغم ذلك لم تبعده، لم تحاول الانسحاب. بل على العكس، تركت نفسها تنظر إليه بعمق، وكأنها تحاول التأكد إن كان يعني كلماته حقًا أم لا.

وأخيرًا، بعد صمتٍ قصير، خرج صوتها مرتجفًا قليلًا لكنه يحمل شيئًا من القوة:

-كنت فاكرة إنك عايزني أكرهك. كنت فاكرة إنك بتبعدني بعيد عنك متعمد وعملت كل ده عشان أنا بالذات أبعد كأني شيء مُقزز بتهرب منه.. بس أنا..

توقفت، حبست أنفاسها، ثم أضافت بصوت أضعف:

-أنا مقدرتش أكرهك يا نديم. بالعكس.. لو ماكنتش جيت وقلت الكلام ده كله كنت كرهت نفسي لأني مش فاهمة سبب كرهك ليا!!

يشعر "نديم" بشيء داخله يتحرّك، إحساس لم يختبره منذ وقت طويل، ذلك الشعور الدافئ الذي كان يحاول الهروب منه. لم يعرف بماذا يرد، أو كيف يخفف عنها، لكنه لم يحتاج للبحث عن الكلمات، لأن ما حدث في اللحظة التالية كان كافيًا لقول كل شيء.

فجأة، ودون أيّ مقدمات، رمت "ليلى" نفسها بين ذراعيه، كما لو أن جسدها سبق عقلها في اتخاذ القرار.

تجمّد "نديم" في مكانه للحظات، وكأن عقله لم يستوعب ما يحدث. شعر بيديها تحيطان به، بأنفاسها المتلاحقة عند عنقه، بذلك الارتجاف الطفيف في جسدها وهي تلجأ إليه.

استغرق الأمر ثوانٍ فقط قبل أن يستسلم، قبل أن يتخلّى عن تردده، ويفعل الشيء الوحيد الذي كان يرغب في فعله منذ وقتٍ طويل، ضمّها إليه، بقوة، كأنه يحاول أن يحتويها كلها، أن يمحو كل المسافات التي وضعها بينهما بإرادته.

دفن وجهه في شعرها، استنشق رائحتها الطيّبة كما لو كان يلتقط أنفاسه لأول مرة منذ شهور، وهمس بصوتٍ خافت لكنه مشبع بالصدق:

-لو كرهتك.. أبقى كرهت نديم الراعي.. أبقى كرهت نفسي يا ليلى. اوعي تفكري إني ممكن أكرهك.. اوعي.. مهما عملت.. مهما شوفتي مني.

ظلّت "ليلى" بين ذراعيه، تتشبّث به كما لو كان طوق نجاتها الوحيد، بينما هو يضمّها إليه وكأنه يحاول حمايتها من كل ما ألقاه عليها من ألم في الماضي. لم يكن هناك شيء في هذه اللحظة سوى دفء احتضانها، سوى الإحساس بأنها قريبة أخيرًا بعد كل المسافات التي وضعها بنفسه بينهما.

لكن هذه اللحظة لم تدم طويلًا.

دُفع باب الغرفة فجأة، ليتبعثر الصمت في الهواء، ومعه تبعثرت اللحظة بأكملها.

ظهرت "راندا" عند العتبة، وقفت للحظة متجمّدة مكانها، وعيناها تتّسعان برؤية ما أمامها. زوجها يحتضن ابنة عمّه الصغرى، الأميرة المدللة كما يطلقون عليها، بينما "ليلى" متشبّثة بظهره بقوة، كأنها ترفض أن تتركه.

تحوّلت نظرتها في لحظة إلى صقيع قاتل، تجهمت ملامحها بشدة، ونقلت بصرها بينهما بعينين مشتعلتين بالغضب، بينما ظلّ "نديم" جامدًا في مكانه، باردًا وكأنه لم يُفاجأ بوجودها، ولم يهتز لمراقبتها وهي تراهما معًا.

من جهة أخرى "ليلى" لم تفوّت الفرصة. بل على العكس، رسمت ابتسامة صغيرة، تحمل من الشماتة والانتصار أكثر ممّا تحمل من البراءة، وهي تنظر إلى "راندا" نظرة تحدٍّ صامت، كأنها تهمس لها دون أن تنطق بكلمة واحدة: "إنه لي أنا!".

حاولت "راندا" كبح ثورة الغضب التي اجتاحتها، لكنها فشلت. اشتعل صوتها حدة وهي تخاطب زوجها:

-دوّرت عليك في البيت كله مالقتكش.. ماكنتش أعرف إنك هنا!

لم يحرّك "نديم" ساكنًا، ظلّ محتفظًا بجموده المعتاد، وكأن وجودها أو عدمه لا يفرّق لديه كثيرًا. أبعد ذراعيه عن "ليلى" بهدوء، ولم يعطِ "راندا" أكثر من نظرة جانبية قبل أن يخاطب ابنة عمّه بصوتٍ خافت لكنه قاطع:

-هاسيبك دلوقتي يا لولا.. شوفي هاتعملي إيه مع صاحبتك. تصبحي على خير.

هزّت "ليلى" رأسها وهي لا تزال محتفظة بابتسامتها، وألقت عليه نظرة هادئة، دون أن تهتم برد فعل "راندا" المتجهمة.

تقدم "نديم" نحو "راندا" بخطواتٍ هادئة، لم يبدُ عليه أيّ ارتباك أو تردد، مدّ يده وأمسك بمعصمها برفق حازم، ثم قادها للخارج دون أن ينطق بكلمة أخرى.

لم تفتح "راندا" فمها حتى وصلا إلى غرفتهما، وما إن أغلق "نديم" الباب خلفهما حتى انفجرت فيه:

-ممكن تفهمني إيه إللي أنا شوفته ده؟ انت بجد كنت حاضن بنت عمك بالشكل ده! وعملت كده قدامي وبكل برود. ما ترد عليا؟؟!!

لم يتحرّك "نديم" من مكانه، لم يبدُ عليه حتى أنه متفاجئ من نبرتها الغاضبة. فقط خلع ساعته من معصمه ووضعها على المنضدة القريبة، قبل أن يلتفت إليها أخيرًا ويرد بصوتٍ هادئ جدًا، لكنه يحمل في طياته شيئًا خطيرًا:

-راندا.. خدي بالك من كلامك.. إللي بتتكلّمي عنها دي بنت عمي الصغيرة.. يعني أختي.. ومن قبل ما تدخلي حياتي شوفتي بعينك الطريقة إللي بعامل ليلى بالذات بيها.. ليلى دي أنا إللي ربّيتها على إيدي.. ف نبرتك في الكلام عليها ماتعجبنيش وتتحاسبي عليها كمان.

اتسعت عينا راندا أكثر، وشعرت لوهلة أن شيئًا في صدرها سينفجر من شدة الغضب:

-انت بتقلب الترابيزة يا نديم.. يعني أنا إللي غلطانة؟ مش انت صح؟ أنا إللي غلطانة عشان دخلت أوضة بنت عم جوزي لاقيته ماسكها في حضنه.. ده انت مابتعملهاش معايا أنا وأنا مراااتك!!

رفع حاجبه قليلًا، وكأنه يسخر من منطقها، قبل أن يرد ببرود:

-إللي بيحصل بيني وبينك أكتر من حضن يا راندا.. معلش بتقارني إيه بإيه؟ انتي كلامك مابقاش موزون ومحتاجة وقفة تراجعي نفسك.. وإلا هاضطر أحط حد لحياتنا مع بعض.

شعرت "راندا" وكأن الهواء سُحب من رئتيها، حدقت فيه غير مصدقة، وكأنها تستوعب للتو ما لم تكن تودّ الاعتراف به منذ البداية. مدت يدها نحوه، وكأنها تحاول التشبث بشيء ما، قبل أن تقول بصوتٍ مرتجف، لكنه لا يزال غاضبًا:

-انت بتهددني يا نديم؟ عاوز توصل لإيه بالكلام ده؟

تقدم نحوها خطوة، نظراته ثابتة، باردة حدّ القسوة، ثم قال بنفس النبرة المنخفضة التي زادت من توترها:

-أنا مش بهددك يا راندا.. أنا بواجهك بالواقع إللي انتي رافضة تشوفيه.. وأظن دلوقتي. بعد اللي سمعتيه. فهمتي اللي كنت بحاول أوصلهولك من زمان.. الاختيار في إيدك انتي.

رمقها بنظرة جافّة مطوّلة، ثم ولّى من أمامها ساحبًا بيجامته في بده متجهًا بها صوب الحمام، أغلق الباب خلفه بقوة وأطبق الصمت من بعده.

بينما تشعر "راندا" بوخزة في صدرها، وكأن شيئًا ما تحطّم بداخلها. لم تكن تتوقع هذه المواجهة، لم تكن مستعدة لسماع الحقيقة منه بهذه الصراحة المؤلمة. لكن الأسوأ من ذلك كله، هو أنها لم تكن تملك أيّ رد لتواجهه به.

لم يربط بينهما الحب يومًا، على الأقل من جهته، و ها قد اعترف للتو ولو بطريقة غير مباشرة بأنه لم يرتبط بها حبًا أو حتى رغبة، بل لأنها فقط.. واجهة!

بالطبع، هذا هو السبب، وهذا ما يفسّر بُعده المتزايد عنها، إنه يزهدها، لا يراها امرأة بما يكفي ليعاملها كزوجة بينه وبينها.

ولكن ما ذنبها؟ هل لأنها أحبّته؟

وقد قال أن الخيار لها. ما يعني أنه لن يغيّر طريقته معها، يسدّ الطريق عليها، وفي نفس الوقت يدفعها لتتخذ هي القرار بدلًا عنه.

فهل ستفعل؟
_________

بعد مرور أسبوع ...

تصل "ليلى" إلى الجامعة لأول مرة، قلبها يخفق بمزيج من الحماس والتوتر. كانت ترتدي ملابس محتشمة بسيطة، مؤلفة من تنورة صفراء واسعة، وكنزة بيضاء بأكمام قصيرة مطعّمة ببتلات زهور "دوّار الشمس". تنسدل خصيلات شعرها الناعمة بتسريحة هادئة بعيدة عن أيّ صخب.

إلتقت بـ"نوران" عند البوابة، سارت نحوها بخفة كالفراشة، بينما تتأملها الأخيرة من رأسها حتى قدميها بنظرة طويلة قبل أن ترفع حاجبيها بدهشة مصطنعة وتقول بمكر:

-يا نهار أبيض! إيه ده؟! أنا شايفة ليلى الراعي بجد؟ ولا دي واحدة شبهها وأنا مش واخدة بالي؟

نظرت إليها "ليلى" بضيقٍ، لكنها لم ترد، فاسترسلت "نوران" بمرحٍ، وهي تميل نحوها لتهمس كأنها تكشف سرًا عظيمًا:

-يُحكى أن نديم باشا رجّع الهانم قطة تاني.. مش بس خلّاها تسمع كلامه. لااااا. دي بتنفذه برضا وطيب خاطر كمان. حقيقي نديم باشا مسيطر!

زفرت "ليلى" في ضيق، توقفت عن السير والتفتت إلى صديقتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها، نبرتها حازمة هذه المرة:

-محدش يقدر يسيطر عليا يا نوران.. فاهمة؟

رفعت "نوران" حاجبًا ساخرًا، لكن قبل أن تفتح فمها لترد، أكملت ليلى بنفس النبرة الواثقة:

-أنا إللي قررت ألبس واسع.. لما كنت بلبس بشكل ملفت قبل كده. ده ماكانش عشان حاجة غير إني كنت عايزة أغيظه لأنه كان بيقول عليا لسا عيّلة صغيرة. انتي عارفة إني لو عايزة أعمل حاجة لا نديم ولا عشرة زيه يمنعوني. بدليل شعري لسا ستايله زي ما هو ماغيرتوش.

رفعت "نوران" يديها باستسلام مصطنع قائلة:

-ياستي محدش قال حاجة.. أنا بضحك معاكي.

أخذت "ليلى" نفسًا عميقًا قبل أن تكمل بصوتٍ أكثر هدوءًا:

-زي ما قلت لك قبل كده. هو اعتذر لي. وخلاص. الخلافات إللي بيننا خلصت. ف مابقاش في داعي أمثل شخصية غير شخصيتي. أنا ماعرفش أكون مبتذلة أصلًا.

ساد الصمت لثانية، قبل أن تبتسم "نوران" في خبثٍ وتغمز لها بمكر:

-اممم.. وإيه كمان؟ كمّلي.. عارفة يا لولو.. أنا متعتي ماتتوصفش وأنا سامعاكي بتأفلمي عليا.. وأنا أصلًا عارفة الفولة.. نديم ده مخلّص عليكي رسمي والله. انتي متأكدة إنه متجوز؟ طيب هايخطبك إمتى بقى؟

ضحكت "ليلى" رغمًا عنها، دفعتها في كتفها بخفة وهي ترد:

-يا بنتي بلاش غلاسة. نديم ده أخويا.. إيه عمرك ما شوفتي اخوات؟؟

قهقهت "نوران" وهي تحاوط ذراع "ليلى" قائلة:

-طيب نبقى نشوف الحوار ده بعدين.. يلا بقى أحسن هاننطرد من أول يوم لو اتأخرنا أكتر من كده على أول محاضرة!

ضحكتا بخفةٍ وأسرعتا معًا نحو المبنى. تشعر "ليلى" أن هذا اليوم لن يكون مجرد بداية لدراستها الجامعية، بل بداية لمرحلة جديدة تمامًا في حياتها!

__________

في المقرّ الرئيسي لمجموعة "الراعي للحديد والصلب" ...

جلس "نديم" خلف مكتبه الضخم، تتراص أمامه ملفات هامّة، بينما كان عمّه "مهران" يجلس على الجانب الآخر، يقلب في بعض الأوراق استعدادًا لعقد الاجتماع الإداري بعد قليل.

كان الجو مشحونًا بالتركيز، صوت الأوراق يُقلَّب في هدوء، و"نديم" يراجع آخر التفاصيل بعينٍ حادة لا تفوّت شيئًا. لكن فجأة، قطع "مهران" هذا التركيز بكلماته التي نزلت كالصاعقة على "نديم" رغم نبرته العادية:

-في عريس متقدِّم لليلى!

توقفت أصابع "نديم" للحظة عن تقليب الأوراق، شعر بقبضة غير مرئية تعتصر صدره، وكأن الأكسجين قد نُزع من الغرفة للحظات. لكن وجهه ظل جامدًا، لم يبدُ عليه شيء، وكأنه لم يتأثر بكلام عمه إطلاقًا. رفع عينيه ببطء، ونطق بنبرة هادئة لكنها قاطعة:

-ليلى لسا صغيرة.

ابتسم "مهران" ابتسامة خفيفة، كأنه كان يتوقع هذا الرد، وأكمل دون أن يتراجع:

-مش بس تعرف العريس مين؟

هزّ نديم رأسه في برود مصطنع، وعاد ينظر إلى الأوراق كأنه لم يعد مهتمًا بالحديث:

-مش مهم يا عمي.. ليلى بدري أوي عليها عشان تاخد خطوة زي دي.. ده حتى إنهاردة أول يوم ليها في الجامعة. خلّيها تركز في الدراسة. بالنسبة لي أهم من موضوع العريس ده أيًّا كان هو مين.

لم يستسلم "مهران" بسهولة، مال بجسده للأمام قليلًا، وأردف بصوتٍ يحمل نبرة إقناع:

-أنا عارف ان الدراسة مهمة. لكن الجواز مش هايضرّها ما عندك لُقى في السنة الأخيرة وهاتتجوز قريب. أسمع يا نديم. انت عارف ليلى بالنسبة لي إيه.. عايز أطمن عليها وأوصلها لبر الآمان. وبعدين. العريس مش أي حد. ده ابن فايز نصار أهم شريك لينا. والعرض ده مايترفضش بسهولة.

في تلك اللحظة، وكأن شيئًا انفجر داخل "نديم". أغلق الملف الذي بين يديه بحركةٍ حادة، ورفعه قليلًا قبل أن يضعه على المكتب بقوة، رفع عينيه إلى عمّه، نظراته هذه المرة أكثر حدة، أكثر صرامة وهو يقول بنبرةٍ قطعية لا تحتمل الجدل:

-ليلى لسا صغيرة.. والموضوع ده مقفول خلاص. سامعني يا عمّي.. من 16 سنة انت حطّيت مسؤوليتها في إيدي أنا. وأنا بقولك لأ.. فكرة جوازها دلوقتي مرفوضة.. نهائي.

توقف "مهران" عن الكلام للحظة، تأمل "نديم" الذي بدا أكثر حزمًا ممّا توقع، ثم زفر ببطء وهو يهز رأسه، بينما "نديم" لم يغيّر من وضعه، ظل محتفظًا بجموده الظاهري، رغم أن داخله كان يغلي.

لم يكن يعرف حتى الآن لماذا شعر بهذه الثورة تجتاحه، لماذا شعر بالغضب لمجرد أن هناك رجلاً آخر يفكر في "ليلى" بتلك الطريقة. لكنه لم يكن مستعدًا لمواجهة مشاعره في هذه اللحظة. كل ما كان يعرفه أنه لن يسمح بهذا الأمر أن يحدث، لا الآن، ولا في أيّ وقت قريب.

يدقّ باب المكتب، يعقبه دخول السكرتيرة الشابّة وهي تخبر "نديم" بلهجة رسمية:

-رياض نصر الدين برا يا فندم.

لم يكد الاسم يُلفظ!

حتى بدا التوتر واضحًا على وجه "مهران". التفت إلى "نديم" بسرعة، وكأنه لم يتوقع سماع هذا الاسم على الإطلاق. 

أما "نديم" فقد رفع حاجبه ببطء، كأنه يحاول استيعاب الخبر للحظات. لم يكن يتوقع هذه الزيارة نهائيًا.

"رياض نصر الدين"!

رجل الأعمال الطاعن في السن، الاسم الذي ظل لعقود رمزًا للثروة والسلطة، لكنه تقاعد منذ سنوات، بعد أن سلّم مقاليد أعماله لورثته. لم يعد يظهر في المشهد كثيرًا، لذا، ما الذي جاء به إلى هنا اليوم؟ ولماذا تحديدًا يطلب مقابلته هو الآن؟





تخلّص "نديم" من أفكاره سريعًا، وبتعبير محايد أمر السكرتيرة:

-دخّليه يا مروة.

غادرت الفتاة بسرعة، ولم تمر سوى لحظاتٍ حتى فُتح الباب مجددًا، ليدخل رجل عجوز، لكن هيبته كانت كافية لفرض الصمت في الغرفة.

كان يرتدي عباءة سوداء أنيقة، باهظة الثمن، صنعت بحرفية واضحة. يعلوها مئزر من نفس القماش الداكن مُحدد بشريطٍ ذهبي.

رغم تقدّمه في العمر، إلا أن ظهره ظل مستقيمًا، يحمل في يده عصا فاخرة، منحوتة بدقة من خشب داكن، رأسها من الفضّة الخالصة، منحوت عليها رمز عائلته العريق.

تقدم الرجل في خطوات محسوبة، تنبئ عن شخص اعتاد أن يتحرك وسط الكبار دون استعجال، ورفع بصره نحو الرجلين بتحية هادئة ذات وقار:

-مساء الخير!

نهض "نديم" من مكانه ليحييه باحترامٍ، وقد حافظ على وقفته الواثقة ونظراته الثابتة وهو يرد بنفس الهدوء:

-مساء النور. رياض باشا بنفسه.. نورت الشركة.

مدّ "رياض" يده ببطء لمصافحته، استجاب "نديم" باحترامٍ، دون أن يفقد شيئًا من هيبته المعتادة. ثم انتقل نظره إلى "مهران" الذي لم يبدُ مرتاحًا على الإطلاق، بل كان متوتّرًا بطريقة لم تخفَ على أحد.

جلس "نديم" أولًا، وأشار إلى أحد المقاعد:

-اتفضل يا باشا.

جلس "رياض" ببطء، وضع عصاه إلى جانبه، ثم التفت إلى "مهران" بنظرة ذات مغزى، قبل أن يقول بنبرة محمّلة بالكثير من الإشارات غير المفهومة حتى الآن:

-أنا جيت مخصوص عشانك يا مهران.. بس لما سألت قالولي إنك في مكتب نديم بيه.

ظلّ الجو مشحونًا لثوانٍ، بينما "مهران" يحاول أن يخفي توتره، و"نديم" يراقب ما يحدث بعينيّ صقر، محاولًا أن يفهم المغزى الحقيقي من هذه الزيارة الغير المتوقعة.

ساد الصمت للحظات أخر، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا، بل كان ممتلئًا بالتوتر، كأن الهواء في الغرفة أصبح أثقل.

لم يستطع "مهران" إخفاء اضطرابه، يده التي كانت تستند إلى المكتب انقبضت في توتر واضح، بينما "نديم" ظل ثابتًا في مكانه، يراقب المشهد بعينين حادتين، يحاول أن يفهم ما يجري."رياض نصر الدين" لم يكن رجلًا يأتي بلا سبب، ولم يكن ممّن يضيعون وقتهم في المجاملات الفارغة. لذا، حين فتح فمه أخيرًا بعد لحظات الصمت، كان صوته ثقيلاً، واضحًا، وكلماته سقطت في الغرفة كحجر ثقيل في ماء راكد:

-أنا ليا عندك أمانة يا مهران. وجاي أخدها.

كلماته كانت كافية لتجعل كل شيء يتجمّد للحظة. "مهران" بدا وكأن الدم قد انسحب من وجهه، بينما "نديم" لم يتحرك، لكن عينيه ضاقتا قليلًا في حذر.

ثم أكمل "رياض". هذه المرة بصوتٍ أشد صرامة، كأنه لا يترك مجالًا للنقاش:

-أنا عايز حفيدتي… عايز بنت دهب… عايز ليلى يا مهران!



                   الفصل الثالث من هنا

تعليقات