رواية وهم الرجوع الفصل السادس6بقلم رميسة
صدى الخيانة
صوت الماء المنهمر من الحمام كان الخلفية الوحيدة للصمت المشحون الذي اجتاح الغرفة.
رحيل جلست على حافة الاريكة ،عيناها مثبتتان على شاشة هاتفها، حيث استقرت الصورة التي قلبت عالمها رأسًا على عقب. أصابعها قبضت على الجهاز بقوة، وكأنها تحاول سحق الشكوك التي بدأت تتسلل إلى قلبها.
لم تكن مجرد صورة... كانت صفعة قاسية على ثقتها، على كل مرة أقنعها فيها يوسف أن ماضيه مع يارا قد انتهى.
كانت رحيل تحدّق في هاتفها، نبضاتها تتسارع مع كل ثانية تمرّ. الصورة أمامها لم تكن مجرد لقطة عابرة، بل كانت خنجرًا غُرس في قلبها دون رحمة. يوسف… ويارا… معًا.
دوى صوت باب الحمام وهو يُفتح، ليخرج يوسف، يلف المنشفة حول خصره، وقطرات الماء تتساقط من شعره. مسح وجهه بالمنشفة الأخرى دون أن يلاحظ نظرة رحيل المتجمدة.
لكنه شعر بالصمت. ذلك النوع من الصمت الذي يسبق العاصفة.
رفع رأسه أخيرًا، ليجدها جالسة في نفس الوضعية، ملامحها لا تعبر عن شيء سوى الغموض. لكنه يعرفها جيدًا، ويعرف أن هذه النظرة أخطر من أي صراخ.
اقترب منها بحذر:
"رحيل؟ مالك؟"
لم ترد. فقط رفعت الهاتف أمام وجهه، وعندما وقعت عيناه على الصورة، شعر وكأن الهواء قد اختفى من الغرفة.
نهضت واقتربت منه قليلًا: "يوسف… أنا سألتك قبل كده، وعايزة أسأل تاني… في حاجة لازم أعرفها؟"
نظر إليها بعمق، كان يعلم أنها لم تعد تصدقه تمامًا، لكنه قال بثقة زائفة: "أنا مفيش حاجة بخبيها عنك."
ابتسمت رحيل بسخرية وهي تمسك هاتفها، ثم عرضت له الصورة مجددًا—الصورة التي وصلتها، والتي يظهر فيها يوسف ويارا معًا.
"طب لو كده… ليه ماقولتش إنك شوفتها لما رجعت من السفر؟"
لم يعرف ماذا يرد، لكنه قرر أن يتمسك بروايته: "لأن الموضوع مكنش مهم… قابلتها بالصدفة، سلمنا على بعض، وخلاص."
لكن رحيل لم تكن غبية. تقدمت نحوه أكثر، وعينيها تلمعان بشيء أشبه بالحزن المخلوط بالغضب.
"يوسف، اتكلمتوا؟"
تردد للحظة، ثم قال: "أيوه… كلام عادي."
رفعت حاجبها ببطء: "كلام عادي؟ تقابلها، وتسلم عليها، وتتكلموا، وكل ده مكنش يستاهل إنك تقوله لي؟"
شعر يوسف أن الأمر بدأ يخرج عن سيطرته. حاول أن يبدو هادئًا لكنه كان يشعر بأن الموقف يزداد سوءًا.
"رحيل، أنا مش فاهم ليه كل ده؟ يعني، حتى لو شوفتها، إيه المشكلة؟"
أخفضت رحيل يدها وهي تنظر إليه نظرة طويلة قبل أن تقول بصوت خافت لكنه محمل بكل الألم الذي تشعر به:
"المشكلة إنك مش شايف إن في مشكلة."
يا رحيل، شفتها صدفة... مكنتش مرتب للقاء ولا حاجة، هي اللي جات ناحيتي."
ضحكت رحيل ضحكة قصيرة، لكنها كانت خالية من أي مرح:
*"طب ليه مقلتش؟ ليه كان لازم الصورة دي هي اللي تخليني أعرف؟"
لم يكن لديه إجابة، لكنه حاول:
"مكنتش عايزك تزعلي... الموضوع مكانش يستاهل."
وهنا، نظرت إليه نظرة أخيرة، نظرة امتلأت بخيبة الأمل أكثر من الغضب، ثم همست:
"الموضوع ماكنش يستاهل إنك تخبي، بس يستاهل إني أعرفك على حقيقتك."
تراجعت للخلف، التقطت حقيبتها من على الأريكة، أصابعها كانت ترتجف لكنها لم تكن تنوي إظهار ضعفها أمامه.
عندما وصلت إلى الباب، توقفت للحظة، أخذت نفسًا عميقًا دون أن تلتفت إليه، ثم قالت بصوت منخفض لكنه محمل بالخذلان:
"كنت أتمنى تكون صادق معايا لمرة واحدة."
وخرجت من الغرفة، تاركة يوسف في دوامة من الأفكار، بينما الصورة لا تزال أمامه، كأنها دليل على خيانته الصامتة، تاركة إياه واقفًا في منتصف الغرفة، يدرك أنه ربما هذه المرة… لن يتمكن من إصلاح الأمور بسهولة
بعدما خرجت رحيل من الشقة، شعر يوسف أنه فقد السيطرة على كل شيء. لم يكن يفهم كيف وصلت تلك الصورة إليها، لكنه كان متأكدًا أن هناك يدًا خفية تحاول تحطيم كل ما تبقى من استقرار حياته. كانت الشكوك تتجه نحو يارا، لكنها دائمًا تعرف كيف تخرج من الأمور دون أن تترك أثرًا يدينها.
دس يده في جيبه واخرج هاتفه، تردد قليلًا ثم يضغط على اسم يارا واتصل بها.)
يارا (بصوت ناعس وكأنها استيقظت للتو): يوسف؟ خير، بتتصل عليا ليه في الوقت ده؟
أغمض عينيه وضغط على جبهته، محاولًا كبح غضبه. *"يارا، إنتِ اللي بعتِ الصورة لرحيل؟"
تأخرت في الرد، ثم قالت بنبرة ناعمة: *"إنت فعلًا شايفني بالوضاعة دي؟"
*"جاوبيني من غير لف ودوران."
*"يوسف... أنا عمري ما حبيت أؤذيك، بالعكس، أنا أكتر واحدة عايزة سعادتك."
ضحك بسخرية: *"سعادتي؟ بإنك تبعتي صورة تخرب بيتي؟"
*"إنت ناسي إن إحنا كنا مع بعض فعلًا؟ يعني لو الصورة وجعت رحيل، فالسبب مش أنا... السبب إنك سمحت لحاجة زي دي تحصل."
أغمض عينيه وهو يشعر بأن كلماتها تخترق عقله. لم يكن يريد أن يصدق أن يارا قد تكون وراء هذا، لكنه كان يعرف أنها قادرة على أي شيء.
*"يوسف، إحنا لسه بنحب بعض... حتى لو بتحاول تنكر ده."
*"يارا، مفيش حاجة اسمها إحنا... اللي بينا انتهى."
*"انتهى؟" ضحكت بخفوت، ثم قالت: *"ليه مش قادر تقفل السماعة، طالما انتهى؟"
نظر إلى الهاتف في يده، وكأنه أدرك أنه كان يمنحها فرصة للتلاعب به مجددًا.
*"خلاص يارا، انتهى وقت الكلام."
*"يوسف، ما تقفلش... أرجوك. أنا ندمت، ندمت على كل حاجة حصلت بينا قبل كده، بس أنا بحبك، ولسه مستعدة أعمل أي حاجة عشانك."
صمت للحظات، ثم قال ببرود: *"أنا مش محتاج منك حاجة... اللي محتاجه دلوقتي هو إنك تخرجي من حياتي للأبد."
أغلق الهاتف دون أن يمنحها فرصة للرد، وألقى به على الطاولة. شعر وكأنه دخل في دوامة لا يستطيع الخروج منها
بعد أن أنهى يوسف المكالمة مع يارا، ظل واقفًا في مكانه للحظات، ينظر إلى الهاتف بشرود، يحاول استيعاب كلامها. رغم محاولاته لإقناع نفسه بأنها تتلاعب به، إلا أن كلماتها عن "ما شعرت به رحيل عندما رأت الصورة" لا تزال تتردد في ذهنه.
قرر أن يبحث عن رحيل. وجدها في الحديقة القريبة من المنزل، تجلس على مقعد خشبي، تنظر إلى الفراغ بنظرة شاردة. عندما اقترب منها، لم تلتفت إليه، لكنها كانت تشعر بوجوده.
يوسف بتردد: رحيل.....
رحيل لم ترد، فقط استمرت في التحديق أمامها وكأنها لم تسمعه. يوسف شعر بانقباض في صدره، جلس بجانبها لكنه ترك مسافة بينهما.
يوسف يحاول كسر الصمت: كنتِ فين؟
رحيل تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تلتفت إليه أخيرًا، عيناها تلمعان لكنها لا تبدو ضعيفة، بل هادئة بشكل مخيف.
رحيل بهدوء غير متوقع: كنت بفكر...
يوسف ينظر إليها بحذر: بتفكري في إيه؟
رحيل تبتسم بسخرية خفيفة: فيك... فينا... في كل حاجة.
يوسف يشعر بالقلق، كان يتوقع انفجارًا منها، لكنه لم يحصل على ذلك. رحيل ظلت صامتة للحظات قبل أن تكمل.
رحيل: اتصلت بيارا، صح؟
يوسف بضيق: آه... كان لازم أعرف منها الحقيقة.
رحيل تضحك ضحكة قصيرة، لكنها ليست فرحة، بل محبطة.
رحيل: الحقيقة؟ الحقيقة واضحة يا يوسف، مش محتاجة تسألها عنها.
يوسف بإصرار: هي قالت إنها ما بعتتش الصورة!
رحيل تنظر إليه مباشرة، عيناها ثاقبتان: وصدقتها؟
يوسف يصمت، لا يستطيع الإجابة. رحيل تبتسم ابتسامة خفيفة لكنها تحمل وجعًا.
رحيل تكمل بهدوء، لكنها تضع حدًا واضحًا: مشكلتي مش في يارا، مشكلتي فيك... مش في الصورة، لكن في اللي جواتها. أنا مش هقعد أحقق معاك وأحاول أثبت لك إنك غلطان... لأنك عارف لوحدك.
رحيل تنهض من المقعد، تنظر إليه للحظة وكأنها تنتظر شيئًا منه، لكنه لا يقول شيئًا. فتتنهد وتبدأ في الابتعاد، تاركة إياه مع أفكاره، وهو يدرك أن صمتها لم يكن ضعفًا، بل بداية النهاية.
يوسف يقف في مكانه، يشعر بأن الكلمات التي قالها لم تكن كافية، وأنه قد يفقد رحيل بالفعل هذه المرة. لا لا يستطيع تركها تذهب بهذه السهولة. يركض خلفها مجددًا، يقف أمامها ليمنعها من التقدم.
يوسف بصوت متوسل: رحيل، استني... متسيبنيش كده، إنتِ عارفة انك غالية عندي أوي، أكتر مما تتخيلي.
رحيل تنظر إليه، عيناها تحملان ألمًا عميقًا، لكنها تحاول أن تبقى قوية.
رحيل بصوت منخفض لكن حاسم: غالية عندك، بس مش كفاية عشان تصون وجودي في حياتك.
يوسف باندفاع: لا! إنتِ أهم حاجة في حياتي، ومش عايز أخسرك... مش هسمح لك تبعدي عني بسبب حاجة فيها سوء تفاهم.
رحيل تضحك بسخرية حزينة.
رحيل: سوء تفاهم؟ يوسف، أنت اللي خليت الشك يملاني... وأنا مش قادرة أعيش في الدوامة دي تاني.
يوسف يمسك بيدها بحنان، يحاول أن يبحث في عينيها عن أي أمل.
يوسف: رحيل، أنا غلطت... وعارف إني غلطت، بس صدقيني، كل حاجة عملتها كانت بدافع خوفي على علاقتنا. إنتِ أغلى حاجة عندي، ولو فقدتك مش هبقى يوسف اللي تعرفيه.
رحيل تتنهد، تحاول كبح دموعها، لكنها تضع يدها على يده برفق، ثم تسحبها ببطء.
رحيل بهدوء مؤلم: أنا مش محتاجة كلام، يوسف... أنا محتاجة أحس، وأنا مش حاسة إنك فاهم معنى وجودي في حياتك لحد دلوقتي.
ثم تستدير وتكمل طريقها إلى المنزل، تاركة يوسف خلفها، يشعر بأن محاولاته لاسترضائها لم تكن كافية... وأنه ربما، هذه المرة، عليه أن يفعل أكثر من مجرد الكلام.
جلس يوسف في سيارته، يحدّق في اللا شيء، بينما أصابعه تعبث بعجلة القيادة بلا وعي. كان عقله يعجّ بأصوات متداخلة؛ صوت رحيل الممتلئ بالخذلان، وصدى كلماته المتعثرة وهو يحاول تبرير موقفه، ثم صوت يارا الناعم، الذي حمل في نبرته شيئًا لم يستطع تحديده… هل كان تهديدًا أم استغاثة؟
تنهد بعمق، وأراح رأسه على المقعد. لماذا يشعر وكأن كل الطرق أصبحت مسدودة؟ لم يكن ينوي أن تتعقد الأمور هكذا. لم يكن يريد أن يخسر رحيل، لكنه أيضًا لم يستطع محو يارا تمامًا من حياته، وكأنها ظل يطارده مهما حاول الفكاك منه.
فجأة، يرن هاتفه... ينظر إلى الشاشة، إنها رسالة من يارا.
يارا: "يوسف، عايزة أشوفك ضروري، في حاجة لازم تعرفها."
يوسف ينظر إلى الرسالة، عقله يخبره بأن يبتعد، لكن قلبه مليء بالارتباك... هل يقابلها؟ وهل يمكن أن يكون هذا اللقاء بداية لانهيار أكبر؟!
"ظل يوسف ممسكًا بالمقود، تتصارع في رأسه آلاف الأفكار... لماذا يارا مصرة على رؤيته الآن؟ ولماذا بدا صوتها بهذه الجدية؟ لم يكن أمامه سوى أن يعرف الحقيقة بنفسه. أدار المحرك وانطلق... دون أن يدرك أن هذه الليلة ستحمل له صدمة لم يكن مستعدًا لها."
"أنا جاي."
مع كل حرف نطقه، شعر وكأنه يفتح بابًا لن يتمكن من إغلاقه بسهولة.