رواية وهم الرجوع الفصل السابع7بقلم رميسة


رواية وهم الرجوع الفصل السابع7بقلم رميسة



الفصل السابع - بين اللقاء و الغياب 

كانت الليلة هادئة بشكل مخيف، فقط صوت أنفاسه المتوترة يملأ السيارة. يوسف كان مترددًا وهو يقود سيارته الى منزل يارا.
 لقد أقسم على نفسه أن لا يعود لهذا المكان، لكن المكالمة التي تلقاها منها قلبت كل شيء. لم تخبره بالكثير، فقط قالت بصوتٍ مضطرب:

— "يوسف، لازم تيجي حالًا… الأمر ضروري!"

كان في صوتها شيء أربكه، لكن رغم ذلك، لم يسألها عن التفاصيل، فقط أغلق الهاتف وجاء. والآن، وهو جالس في سيارته مترددًا، لم يكن يعلم إن كان قراره هذا صائبًا أم لا.

كان الليل قد انتصف، والهدوء يلف الشوارع الخالية إلا من أضواء السيارات المتناثرة هنا وهناك. على أحد الأرصفة، توقفت سيارة يوسف أمام منزل يارا، لكنه لم يترجل منها فورًا. أصابعه كانت تضغط على المقود بقوة، بينما عيناه تحدقان في باب المنزل، وكأنه ينتظر إشارة ما لتخبره إن كان عليه الدخول أم لا

تنهد بعمق، أخرج هاتفه ونظر إلى شاشته للحظة، وكأنه يتوقع أن يجد رسالة من رحيل زوجته، لكنه لم يجد شيئًا. ربما كانت نائمة، أو ربما لم تكن تهتم لمكانه في هذه اللحظة. هزّ رأسه محاولًا طرد هذه الأفكار، ثم أخيرًا، فتح باب السيارة ونزل.

وقف يوسف أمام باب منزل يارا، يضغط أصابعه بتوتر حول هاتفه. لم يكن يريد الدخول، لم يكن يريد حتى أن يكون هنا، لكنه لم يستطع تجاهل قلقه عندما سمع صوتها المتوتر في الهاتف. تنهد بعمق، رفع يده ليطرق الباب، لكنه توقف لثانية، وكأنه يمنح نفسه فرصة أخيرة للتراجع.

كانت يارا تراقب من النافذة، وبمجرد أن لمحته يتقدم نحو الباب، أسرعت لفتحه قبل أن يطرق. وقفت أمامه بثوبٍ منزلي بسيط، لكن عينيها كانتا مرهقتين وكأنها لم تنم منذ أيام.

— "يوسف… بنتك مريضة عندها حرارة عالية ومش راضية تاكل أي حاجة."

شعر بقلبه ينقبض، مر من جوارها دون أن ينبس بكلمة، واتجه مباشرة إلى الداخل، عارفًا طريقه جيدًا إلى غرفة الصغيرة. وما إن فتح الباب، حتى وجدها مستلقية تحت الغطاء، جبينها متعرق وخدودها متوردة بفعل الحمى، بينما عيناها نصف مغمضتين من التعب.

اقترب منها، جلس بجانبها وأمسك يدها الصغيرة، ففتحت عينيها بصعوبة، وما إن رأته حتى تمتمت بصوت ضعيف:

— "بابا…"

يوسف (بقلق): "حبيبتي، إنتِ كويسة؟"

لم ترد الصغيرة، فقط مدت ذراعيها نحوه بتعب، فحملها بحنان

شعر بانكسار داخلي وهو يراها بهذه الحالة. لم يتردد أكثر، التفت نحو يارا قائلاً بحزم:

— "لبسيها بسرعة، هنروح للطبيب."

لم تجادله، فقط تحركت بسرعة لإحضار معطفها ومعطف الطفلة، وقبل أن تمر عشر دقائق، كانوا قد غادروا المنزل متجهين إلى المستشفى.

يوسف كان يقود بصمت، عيناه تراقبان الطريق، لكن ذهنه كان مشتتًا. من حين لآخر، كان يلقي نظرات سريعة عبر المرآة على الصغيرة، التي كانت مستندة على المقعد الخلفي، تغلق عينيها وتفتحهما بتعب.

يارا، التي كانت تجلس بجانبه، استغلت الصمت بينهما لتتكلم بصوت منخفض:

— "عارفة إنك مكنتش عايز تيجي… بس بنتك محتاجاك، يوسف."

لم يرد، فقط ضغط على المقود بقوة أكبر. لم يكن يريد الحديث الآن، كل ما كان يهمه هو أن يطمئن على طفلته.

وصلوا إلى المستشفى أخيرًا، وأسرع يوسف بحمل الصغيرة إلى الداخل، حيث تم فحصها من قبل الطبيب. وبعد دقائق من الانتظار

فحص الطبيب الطفلة بدقة، ثم كتب لها دواءً خافضًا للحرارة ونصائح للعناية بها.

الطبيب: "مفيش حاجة خطيرة، بس خليها ترتاح وتشرب سوائل كتير، وأعطاهم بعض الأدوية.

 يوسف تنفس الصعداء، لكن ابنته لم تترك يده، تشبثت به كأنها تخشى أن يختفي من جديد.

شعر يوسف بالراحة أخيرًا، ثم حمل طفلته إلى السيارة، بينما يارا ظلت صامتة، وكأنها تخطط لشيء.

وعند خروجهما من العيادة وركوب السيارة، كانت الصغيرة هادئة لبعض الوقت، ثم نظرت إليه بعينيها البريئتين وقالت بصوت متوسل:

الطفلة: "بابا... أنا نفسي نتعشى مع بعض النهاردة، زي زمان."

تجمدت يده على المقود، والتفت إليها بدهشة، ثم نظر إلى يارا، التي ظلت صامتة لكن على وجهها ابتسامة خفية.

يوسف (بتردد): "حبيبتِي، إحنا لسه راجعين من العيادة، لازم ترتاحي."

الطفلة (بتوسل): "بابا بليز... عايزة أقعد معك شوية."

نظر إليها يوسف، ثم زفر بتعب، يعرف أنه لا يستطيع رفضها، لكنه شعر بشيء من الضيق، كأنه وقع في فخ دون أن يدرك ذلك.

يوسف: "طيب، بس هنقعد شوية صغيرين."

ابتسمت الطفلة بحماس، بينما نظرت يارا ليوسف نظرة انتصار خفية.

في نفس اللحظة،

كانت الليلة مختلفة عن كل الليالي السابقة. قلبها ينبض بشعور متناقض بين الأمل والخوف، وبين الرغبة في إعادة بناء ما تهدم وبين الحذر من تكرار الخذلان.

كانت رحيل قد قررت أن تمنحه فرصة جديدة. كانت تعلم أن الشك لم يغادرها، لكنها أرادت المحاولة، أرادت أن ترى إن كان ما بينهما يستحق القتال من أجله،لم تكن متأكدة من قرارها، لكنها أرادت أن تمنح يوسف فرصة، فرصة أخيرة ربما، لتصديق أنه لا يزال يستحق حبها.

وقفت أمام المرآة، تتفقد إطلالتها بعينين تحملان بريقًا لم تره منذ فترة طويلة. اختارت فستانًا بسيطًا لكنه أنيق، زينت وجهها بلمسات خفيفة من المكياج، ورفعت شعرها بطريقة ناعمة، وكأنها تستعد للقاء كان يجب أن يحدث منذ زمن.

نظرت إلى انعكاسها في المرآة وسألت نفسها بصوت خافت:

— "هل سيفرح عندما يراني هكذا؟ هل سيشعر أنني بذلت جهدي لأجله؟ أم أنني فقط أعيش وهمًا آخر؟"

أغمضت عينيها لثانية، محاولة طرد الأفكار السلبية، ثم أخذت نفسًا عميقًا واتجهت إلى طاولة العشاء التي أعدتها بنفسها.

المكان كان ينبض بالرومانسية.

أضواء خافتة، شموع متناثرة بعناية، موسيقى هادئة تتسلل في الأجواء، والطاولة مزينة بأطباق مرتبة بعناية، تحمل الأكلات التي تعلم أن يوسف يحبها.

جلست على الكرسي، وعيناها تراقبان عقارب الساعة التي تتحرك ببطء شديد، وكأنها تعاند انتظارها.

— "سيأتي… لا بد أنه في طريقه الآن…"

همست لنفسها بهذه الكلمات، محاولة إقناع قلبها القلق بأن هذه المرة ستكون مختلفة. لكنها لم تستطع تجاهل ذاك الصوت الصغير في عقلها الذي يهمس لها:

— "وماذا لو لم يأتِ؟ ماذا لو خذلكِ مرة أخرى؟"

مرت عشر دقائق… ثم عشرون… ثم نصف ساعة… ولا يزال الهاتف صامتًا، بلا رسائل، بلا اتصالات، بلا أي إشارة تدل على اقتراب قدومه.

بدأت  رحيل تفقد صبرها، حملت هاتفها وترددت للحظة قبل أن تتصل به. وضعت الهاتف على أذنها، وانتظرت… انتظرت رنينًا يطمئنها، لكن بدلاً من ذلك، جاءها صوت آلي بارد:

— "عذرًا، الرقم الذي طلبته غير متاح حاليًا، يرجى المحاولة لاحقًا."

غير متاح؟!

خفضت الهاتف ببطء، ورفعت عينيها إلى الطاولة التي أعدتها بكل حب، ثم إلى الشموع التي بدأت تذوب،والطعام برد، وكأنها تعكس ما تشعر به في هذه اللحظة.

هل كانت ساذجة؟ هل كانت تعيش في وهم أنها يمكن أن تستعيده؟

نهضت من مكانها ببطء، أطفأت الموسيقى، ثم جلست على الأريكة، وعيناها تتعلقان بالباب وكأنها تنتظر أن ينفتح في أي لحظة، أن يدخل يوسف معتذرًا، أن يخبرها بأن هناك سببًا منطقيًا لهذا التأخير.

لكن الحقيقة، أن يوسف لم يكن في طريقه إليها. كان في مكان آخر تمامًا… وكان يقضي تلك الليلة مع شخص آخر.

 لكن يوسف لم يكن يعلم شيئًا عن ذلك. بل كان في مكان آخر تمامًا، مع يارا، وابنتهما، دون أن يدرك أن هذه الليلة ستحمل له صدمة لم يكن مستعدًا لها…


                     الفصل الثامن من هنا

تعليقات