رواية وهم الرجوع الفصل التاسع9بقلم رميسة


رواية وهم الرجوع الفصل التاسع9بقلم رميسة



  - ثمن الغياب.

كانت الليلة هادئة، لكنها لم تكن كذلك في قلب رحيل،
الدنيا سكتت حواليها… الإضاءة، الشموع، صوت الموسيقى الهادية اللي كانت مشغّلاها… كله فجأة بقى بلا معنى.

عيونها فضلت مثبتة على الصورة، مش مصدقة اللي شايفاه، حسّت بقلبها بيضرب بسرعة، كأنها خدت ضربة قوية في صدرها.

أخدت خطوة للخلف، وبعدها خطوة تانية… كأنها بتحاول تهرب من الحقيقة اللي قدامها. أخيرًا، اتجمّدت في مكانها، وكل حاجة انفجرت فجأة…

بإيد مرتعشة، رمت الموبايل على الطاولة، وبدون ما تحس، إيديها خبطت على الشمعة اللي كانت جنبها، فوقع الشمع السايح على المفرش… قلبته كله.

— "ليه؟ ليييه؟!!"

صرخت بصوت مخنوق، وشهقت من كتر الغضب، عينيها دمعت بس مش دموع ضعف… كانت دموع خيبة، دموع حد ادى فرصة واتعلق بأمل، لكن الأمل ده انكسر قصاده.

بإيدين مرتعشتين، مسكت الكرسي اللي قدامها ورمته بقوة، وقع على الأرض بصوت فرقع في المكان كله. مسكت الفازة اللي كانت حاطاها على الطاولة ورمتها على الأرض، اتحطمت لقطع صغيرة، زي ما قلبها كان بيتهشم في اللحظة دي.

وأخيرًا، وقفت تترعش، عيونها مليانة ألم، صدرها بيطلع وينزل بسرعة، دموعها بتنزل على خدها بس مش قادرة تمسحها.

— "خلاص، يوسف… أنا اللي كنت غبية إني صدقتك تاني…"

كانت مستنياه… مش عشان تسامحه، ولا عشان تعاتبه برقة، لكن عشان تواجهه، عشان تشوف بعينها هو هيكدب ولا هيعترف!

يوسف كان سايق في هدوء، عقله مشغول بالحوار اللي دار بينه وبين رحيل قبل ما يخرج. حسّ إنها كانت متغيرة، كأنها بتحاول تدي له فرصة جديدة… بس مع كل اللي حصل، هو نفسه مش عارف إذا كان يستحق الفرصة دي ولا لأ.

يارا كانت قاعدة جنبه ساكتة بعدما نامت الطفلة ، بس ملامحها بتعكس حاجات كتير. لما قربوا من بيتها، يوسف وقف العربية وقال ببرود:
— "احنا وصلنا… تصبحوا على خير."

بس يارا ما فتحتش الباب، فضلت قاعدة مكانها، عينيها عليه وكأنها بتفكر في حاجة. فجأة، بصت له وقالت بصوت هادي:
— "يوسف… هو إحنا بقينا كده؟"

رفع عينه لها مستغرب:
— "كده إزاي؟"

— "غُرب… كأننا ما كُناش عايشين تحت سقف واحد… كأن كل اللي بينا اتنسى."

اتنهد يوسف وقال وهو بيبص قدامه:
— "الحاجات لما بتتكسر صعب تتصلّح يا يارا، وانتي عارفة ده كويس."

لكنها قربت منه، نبرتها بقت أهدى وكأنها بتحاول تلعب على أوتار مشاعره:
— "هو إحنا اللي كسرناه، يوسف… ولا الظروف؟ أوقات كتير بسأل نفسي… لو ما كناش انفصلنا، كنا ممكن نكون أحسن؟"

سكت يوسف، مش عايز يخوض في الكلام ده. لكن هي ما استسلمتش، مدت إيدها ولمست إيده اللي كانت على المقود، لمسة خفيفة بس كان فيها كتير.

— "وحشتني يا يوسف…"

سحب إيده بهدوء، وغمغم ببرود:
— "اتأخرنا… دخّلي الطفلة جوه."

لكنها مالت ناحيته أكتر، لدرجة إن أنفاسها كانت قريبة منه بشكل خطير:
— "لو حتى للحظة واحدة… ما اشتقتليش؟"

كان عقله بيصرخ إنه يبعد، بس لحظة ضعف صغيرة خلت عينيه تتوه للحظة في عينيها. العطر اللي كان دايمًا بيربطه بأيام زمان لفحه، حسّ إن في دوامة بتحاول تسحبه لجواه.
لم يرد، لكنه شعر بعدم الارتياح. مدت يدها ببطء ولمست يده، وكأنها تريد إعادة تلك الذكريات التي كان يحاول نسيانها.

— "ألا تتذكر أي شيء؟ كنا عائلة سعيدة، يوسف…"

أبعد يده عنها برفق لكنه لم يقل شيئًا، فتابعت بصوت خافت:
— "أحيانًا أتساءل… لو لم يحدث كل هذا، هل كنا سنظل معًا؟"

أدار وجهه للنافذة محاولًا التملص، لكنه شعر بها تقترب أكثر، رائحة عطرها القديم تسلل إلى أنفه، تذكّره بأيام لم يعد يريد العودة إليها.

— "يارا، الوقت تأخر… ادخلي."

بعد ما رجّع يارا وبنته البيت، وقفل باب العربية، فضِل قاعد شوية مكانه، سايب إيده على الدركسيون وعينيه مثبتة قدّامه في الفراغ. حس بتقل غريب على صدره… إحساس ما كانش قادر يهزّه من فوق قلبه.

رجع راسه على الكرسي، وساب نفس طويل، كأنه بيحاول يخرج كل حاجة مع الهوى اللي طلع منه، بس الشعور ما راحش… بالعكس، زاد أكتر. كان عارف إنه ما كانش لازم يروح، وإنه ما كانش لازم يسيب يارا تجرّه وراها بالشكل ده، لكن حصل… وده أكتر حاجة وجعته.

"كنت مفروض أكون مع رحيل دلوقتي…" الكلمة دي لمعت في دماغه فجأة، زوّدته إحساس الذنب أكتر. رحيل اللي كانت مستنياه، اللي أكيد كانت حاسة بالشك وهو غايب، وهو… هو اللي داها كل سبب إنها تشك فيه.

شدّ على إيديه بعصبية، وحسّ إن أنفاسه بقت تقيلة. مشكلته إنه مش قادر يتهرب من الحقيقة… هو غلط. ومهما حاول يقنع نفسه إنه راح عشان بنته، عارف إن جزء منه سمح ليارا تجرّه للمكان ده… وده أكتر حاجة مخلياه حاسس إنه خاين.

كان لازم يتحرك… لازم يروح البيت، يمكن يلاقي فرصة يصلّح الغلط اللي عمله. بس كان عنده إحساس قاتل… إن الفرصة دي راحت منه للأبد.

مر الوقت وهي في مكانها، مش سامعة غير صوت دقات قلبها والغضب اللي بيغلي في دمها، لحد ما سمعت صوت الباب بيتفتح.

خطواته كانت هادية، كأن مفيش حاجة، كأنه راجع لبيته الطبيعي، لمراته اللي مستنياه… بس لما دخل الصالة وشاف المنظر، وقف مكانه.

الأكل اللي كان متحضر على الطاولة مقلوب، الكراسي مقلوبة، الفازة مكسورة، والمفرش متحرق شوية من الشمعة اللي وقعت عليه. حسّ بهواء بارد رغم إن الجو كان عادي، الجو في البيت نفسه كان مخيف… كان مُرعِب.

وبعد لحظة، عيونه وقعت عليها…

كانت قاعدة في الظلمة، ضهرها للحيطة، ، حضنا رجليها لنفسها، وشها نازل دموع من غير صوت، بس النظرة اللي في عيونها... حاجة خلت قلبه يضرب بسرعة، كانت فيها حاجة ما شافهاش قبل كده، حاجة كسّرت قلبه وهو مش عارف حتى يفسره.
 نطق باسمها بصوت قلق، وقلبه مقبوض.

"رحيل… مالك؟ إيه اللي حصل هنا؟" 

ملامحها متحركتش، بس دموعها مكانتش محتاجة كلام، كانت بتنزل في صمت كأنها مش لاقية حتى طاقة تبكي بصوت.

قرب منها بخطوات حذرة، نزل على ركبته قدامها، وحاول يلمس إيدها، لكنها سحبتها بسرعة، كأن لمسته بتحرقها.

"مالك… إيه اللي حصل هنا؟"

رفعت عيونها ببطء، كانت نظرتها هادية بطريقة مخيفة، ما صرختش، ما انفجرتش، بس كانت مرعبة أكتر من أي حاجة توقعها.

ردت بصوت هادي:
"مفيش… بس كنت مستنياك."

اتلخبط، حسّ إنها مش طبيعية، لكنه ماحبش يسأل أكتر، فابتسم ابتسامة صغيرة وهو بيقرب منها.
"آسف، اتأخرت عليكي… كان عندي ظرف طارئ."

اتجاهلت اعتذاره وسألته بهدوء مصطنع:
"كنت فين؟"

اتنحنح وقال بسرعة:
"كنت مشغول شوية، حاجة تخص الشغل."

"الشغل؟" كررت الكلمة وهي بترفع حاجبها وكأنها مش مصدقة، لكنه ما خدش باله.

"أيوه، حاجات لازم أخلصها، معلش كان لازم أتأخر." قالها بثقة، وهو فاكر إنه بيقنعها.

هزت راسها كأنها بتستوعب كلامه، وبصوت هادي، سألته تاني:
"متأكد إنك كنت في الشغل؟"

هنا، حسّ بحاجة غلط… نظرتها كانت باردة، زي اللي بيحفر حفرة لحد لحد ما يقع فيها بنفسه.

"رحيل، مالك؟ بتسأليني كأنك بتشكّي فيا؟" حاول يضحك بس ضحكته طلعت مهزوزة.

قامت من مكانها ببطء، مسكت الموبايل، وقلبته ناحيته، وقالت بهدوء قاتل:
"لو كنت في الشغل… ده مين؟"

نظر للصورة، وقلبه وقع في رجله.

صورة واضحة ليه وهو قاعد مع يارا والطفلة، الصورة نفسها كان شكلها كأنه مشهد عائلي دافئ، كأنهم عيلة واحدة…لكنه كان أبعد ما يكون عن الدفء اللي حاسس بيه دلوقتي. 
والأهم إنه كان في مكان مش شغله خالص.

حاول يتكلم، لكن الكلام ما خرجش… كان عارف إن أي حاجة هيقولها مش هتكون كفاية، وأسوأ حاجة إنه هو اللي وقع نفسه في الفخ بإيده.

كانت نبرتها مليانة خيبة… وده كان أسوأ من الغضب، أسوأ من أي عقاب ممكن يتخيله.
لكن قبل ما يتكلم، سمّع صوت ضحكة قصيرة منها، ضحكة فيها سخرية ووجع .

"كنت مستنياك، فاكرة إنك هتيجي… فاكرة إنك ممكن تبطل تخذلني، بس شكلي غبية، مش كده؟"

رفعت عيونها له وقالت:
"كمل، قولّي كنت في الشغل… خليني أشوف لحد فين هتوصل في كذبك ،خليني أشوف هتفضل تلف وتدور لحد فين!""

وهنا، عرف إن أي كلمة هيقولها… مش هتصلح اللي اتكسر.

حسّ بتوتر، بصوت مهزوز قال:
"رحيل، أنا كنت مع البنت، كانت تعبانة، و…"

لكن قبل ما يكمل، صوتها قاطعه، بس المرة دي ما كانش صوتها الهادي المعتاد…

"بجد؟! كنت مع بنتك؟ طب وزوجتك؟ كنت فين عني وأنا مستنياك، كنت فين لما كنت بجهز العشا ليك، كنت فين لما كنت بفكر أخيرًا أصدق إنك ممكن تبقى ليا لوحدي؟!!"

صرخت، ووقفت بسرعة، مسكت الكرسي اللي كان مرمي على الأرض، وضربته في الطاولة، صوت الخبطة كان عالي لدرجة إنه خلاه يرتعش.

"رحيل… اهدي واسمعيني…" حاول يقرب منها، بس هي رجعت خطوة لورا.

"أنا غبية، صح؟! غبية إني حتى فكرت أديلك فرصة، غبية إني سمحت لقلبي يضعف ليك تاني، غبية إني صدقت إنك اخترتني فعلاً!!"

كانت بتتكلم بسرعة، أنفاسها متقطعة، صوتها بيترعش بين البكا والغضب.

"رحيل، اسمعيني… الموضوع مش زي ما انتي فاكرة!"

قاطعته وهي بتضحك ضحكة قصيرة، بس كان فيها وجع أكتر من الضحك:
"الموضوع مش زي ما أنا فاكرة؟ طب، قوللي بقى، هو زي إيه؟"

اتقدم خطوة ناحيتها، لكن هي رجعت لورا، رفعت إيدها كأنها بتمنعه يقرب.

"ماتقربش، يوسف… كفاية كذب. كفاية وعود فاضية… كفاية خيانة."

نظر لها بعيون متوسلة، حاسس إن الدنيا بتضيق عليه:
"مش خيانة! كنت مع بنتي.... كانت تعبانة شوية

هزّت راسها كأنها بتستوعب كلامه، وسألت بنبرة هادية بس فيها غصة:
"آه… بنتك؟ وبس؟"

ارتبك يوسف، حرك رقبته بتوتر، وبلع ريقه قبل ما يرد:

"طبعًا،رُحت الدكتور و…"

 وقف ساكت، مش عارف يقول إيه… كل تبرير كان في باله حسّه فجأة فارغ، ضعيف قدام العاصفة اللي واقفة قدامه.

لكن… هل فعلًا غلط؟ هو مكانش ناوي يجرحها، بس في نفس الوقت… ليه ساب نفسه ليارا؟ ليه وافق على العشا؟ ليه حتى لما الطفلة طلبت منه، ما فكرش في رحيل الأول؟

رحيل بَصّت له بآخر نظرة مليانة ألم وقالت:
"أنا خلاص، يا يوسف… ماعُدش عندي طاقة أصدقك، ولا حتى طاقة أكذب على نفسي أكتر من كده."

وبعدها، سابته واقف في النص بين كل الفوضى اللي حصلت… لكنها كانت أكتر شخص متدمّر في المشهد كله.

سابته واقف في مكانه، مش قادر يتحرك… مش قادر يستوعب إنه ممكن يكون بيخسرها بالفعل.

تعليقات