
رواية لعنة الخطيئة
الفصل السادس والخمسون56
بقلم فاطمة أحمد
مهما طالت تظل قصيرة
هدوء المساء كان يخيم على الحي، والسماء بدأت تأخذ لونها البرتقالي مع غروب الشمس لكن من لا يزال قلبه يقبع تحت وطأة الفاجعة لن يرى نور الشمس المضيء ... بل سينتظر ظهور خيوط الظلام حتى ينزوي على الجانب ويقلب على نفسه أوجاعه ..
مر شهر كامل على تلك الليلة المشؤومة والألم لم يفقد حدته بعد، ما زال نابضا في كل لحظة وفي كل نظرة، وفي كل نفس.
وقف هو أمام الباب الحديدي، ناظرا إليه للحظات ثم طرق عليه بخفة ولم يطل انتظاره حتى فُتح الباب، وظهر محمد بملامح مرهقة لكن باِبتسامة دافئة :
- نورت بيتك يا أبيه آدم، ادخل.
هزّ آدم رأسه بخفة وولج للداخل بخطوات بطيئة وكأن الأرض تحت قدميه تحمل ثقلا لا يُرى، عيناه جالتا في البيت الذي زاره مرارا حين كان فاروق هنا لكنه الآن صار موحشا قاسيا ببرودته.
قابلته أخته ليلى وعانقته فبادلها الحضن بآخر دافئ ثم توجه إلى غرفة أم فاروق ووقف عند الباب يراقبها بصمت...
كانت تجلس على الأريكة والمصحف مفتوح بين يديها تقرأ بترتيل هادئ يمنح قلبه المتعب شيئا من الطمأنينة، وعندما لاحظت وجوده أغلقت المصحف ببطء وابتسمت بهوان، كأن التعب الذي أثقل روحها صار جزءا منها :
- تعال يابني تعال.
تقدم إليها وجثى على ركبتيه أمام كرسيها ثم قبل يدها بحنو وهمس :
- ازيك يا أمي عامله ايه.
تنهدت وهي تمسح على رأسه كما اِعتادت أن تفعل مع ابنها وأجابت
- الحمد لله ربنا يلهمنا الصبر ... انت عامل ايه يا ابني؟
- بخير ... أو بحاول أكون بخير.
هزّت أم فاروق رأسها بتفهم دون أن تنبس ببنت شفة فهي تعلم بأنه مثلها، خسارة فاروق في مجزرة مأساوية يوم زفاف أخيه ستظل جرحا مفتوحا في صدره ولن يندمل.
أمسك آدم يدها واستطرد بحنان :
- فاروق ربنا يرحمه وصاني عليكم قالي بالحرف خلي بالك من أمي ومحمد، وأنا وعدته اني مش هسيبكم أبدا لأن زين زيكم انتو قطعة من روحي.
رطبت عينها بالدموع لكنها ظلت متماسكة بينما تمسح على يده مرددة بدفء :
- عارفة يا ابني وعارفة ان فاروق كان محظوظ انه كان عنده أخ زيك.
- بصراحة أنا اللي كنت محظوظ مش هو.
كتم الجملة بداخله حتى لا يزيدها قهر ثم ودَّعها بكلمات طيبة وغادر الغرفة ليجد محمد جالسًا بجوار ليلى في الصالون وعندما رآه نهض ورسم ابتسامة صادقة :
- اقعد تتعشا معانا النهارده.
هزّ آدم رأسه رافضًا بلطف:
- خيرك سابق بس أنا تعبان ومحتاج أريح، بس كنت حابب أشوفكم وأطمن عليكم قبل ما أروح البيت.
جلس بجانبه وسأله عن أحواله وعمله وكيف يقضي أيامه، كان محمد يرد باختصار، يبتسم أحيانا، ويمتقع وجهه بالحزن أحيانا أخرى حتى رنّ هاتفه باِتصال من المكتب ونهض ليجيب تاركا ليلى وحدها مع آدم.
طالعها ورأى عينيها تلمعان بدموع لم تسقط بعد فرفع يده يمسح على وجنتها بعاطفة ثم همس بصوت متحشرج :
- مالك يا حبيبة أخوكي.
وكأن كلماته المليئة بالحنان داست على آخر وتر لديها فمنحت الإشارة لعبراتها حتى تتساقط بغزارة، نظرت ليلى للأسفل وأردفت بصوت خافت مرتعش :
- عدى شهر بس المجزرة اللي حصلت يوم فرحنا كأنها حصلت امبارح بس، هي لسه مأثرة فينا كلنا ومحدش قادر يتجاوزها حتى محمد رغم إنه بيحاول يبان قوي قدامي بس أنا حاسة بقهرته، شايفة وجعه كل يوم يا ابيه.
تنهد آدم وشعر بغصة موجعة في صدره وهو يرى كيف أن الفقد لم يترك أحدا سالما، نقل يده ليضعها على كتف أخته وبرطم بجدية :
- محمد محتاجك جنبه يا ليلى هو مش هيقول ومش هيشتكي بس انتي لازم تكوني جنبه وتدعميه ... فراق فاروق صعب علينا كلنا بس لازم نرجع نقف على رجلينا من تاني.
- وحضرتك يا ابيه هتقدر ترجع تقف ع رجليك بعد اللي حصل ؟ انت خسرت أعز صحابك وأكتر واحد قريب منك ازاي هتعرف تكمل.
- ربك كريم يا ليلى ... ربك كريم، خدي بالك من نفسك ومن جوزك وحماتك أنا بعرف انك مكنتيش بتتوقعي تعيشي الأحداث ديه في أجمل أيام حياتك بس ده قدر ونصيب لازم نرضى بيه.
هزت رأسها موافقة على كلامه ومسحت دموعها سريعا محاولة الاِبتسام في نفس لحظة عودة محمد فودّعهما آدم وغادر المكان، تاركا وراءه ثقل الذكريات لكنه كان يعلم أن هذا الثقل لن يزول أبدًا. فقط، سيتعلم كيف يتعايش معه.
________________
توقفت السيارة أمام باب السرايا تماما فولجت للداخل برصانة وملامح باهتة يغلب عليها طابع الحزن، وحين أبصرتها ابنة عمها اقتربت منها وحضنتها بخفة هاتفة :
- ازيك يا نيجار.
- الحمد لله يا سلمى وانتي ومرات عمي عاملين ايه.
- بخير كنا مستنيينك.
رفعت نيجار بصرها متأملة باب الغرفة الموجودة في الطابق الثاني ثم عادت تنظر لسلمى قائلة :
- وهو عامل ايه ... صفوان.
غامت عيناها بالحزن عند ذكر اسمه فتنهدت بحسرة وهي تجيب :
- زي ما هو بس أكيد هينبسط لما يشوفك.
أومأت ببطء وتوجهت إلى غرفته لكن قبل دخولها عادت سلمى تمسك يدها هاتفة بخفوت يحمل الرجاء :
- لو سمحتِ متقسيش على صفوان وكلميه بهدوء عشان خاطر ماما ع الأقل.
أخذت نيجار نفسا عميقا
- نيجار انتي جيتي أخيرا ... أنا مش مصدق اني شايفك قدامي.
- مش هتتكلمي هتفضلي ساكتة كده ؟
- اتكلم أقول ايه.
- اي حاجة غير انك تبصيلي بالنظرات ديه ... بصة واحد مش عارف يغضب ولا يشفق ع اللي قدامه.
- عاوزني ايه يا صفوان ليه طلبت مني اجي.
- عارف انتي بتفكري فيا ازاي دلوقتي بس والله العظيم يا نيجار أنا مكنتش مخطط ان كل ده يحصل، لو بعرف ان الناس هتموت والفرح يتقلب جنازة كنت ...
- كنت هتلغي خطتك ومتروحش تطلع سليمان مثلا ؟
سليمان الذي حرره صفوان بغية نشر الفزع يوم الزفاف فقام بقتل العديد من المعازيم وتسبب في شلله هو !
قبض صفوان على الغطاء كارها نفسه وعجزه وحالته كلها ثم ازدرد ريقه بصعوبة وأجلى حلقه الشائك ليهتف بصوت قاتم :
- أنا ندمت ع اللي عملته ... عارف ان ندمي مش هيقدم حاجة بس أنا خدت عقابي اللي أسوء من الموت.
قرصها لسانها الاذع كي تخبره بأن ندمه لا ينفع بعدما تسبب في سفك دماء الكثير من الأبرياء وأولهم فاروق الذي ذهب ضحية غدر في يوم زفاف شقيقه الأصغر، إلا أنها تراجعت واستطردت بنبرة يشوبها الحزن عليه مستفهمة بدلا من ذلك :
- يعني انت عاوز ايه دلوقتي ؟
- أشوف آدم ... أنا عاوز أكلمه.
انتفضت نيجار وامتقع وجهها مطالعة إياه باِستهجان وكأنه ذو رأسين فاِستدرك صفوان سريعا وقد فهم ما تفكر به :
- بعرف انك مصدومة وبتفكري ف اني اتجننت بس صدقيني نيتي سليمة أنا عايز اتكلم معاه ومش هعمل حاجة تانية.
- انت بتطلب المستحيل آدم لو عتر فيك هيقتلك من غير ما يتردد وأنا مش هقدر أمنعه المرة ديه.
- خايفة عليا ... معقوله لسه بتحبيني ؟
- أنت أخويا يا صفوان ومهما حصل مش هقدر انكر الحقيقة ديه، احنا اتربينا سوا فنفس البيت وشاركنا أسرارنا مع بعض انت كنت بتعرف كل حاجة عني زي مانا كنت بعرف أصغر تفاصيل حياتك، بس ياريت موصلناش للمرحلة ديه ولا جرحنا بعض عشان السُّلطة والطمع.
هذه المرة لم يستطع صفوان التحدث والدفاع عن نفسه أو حتى التبجح وإعطاء تبرير لأفعاله لأنه كان يدرك جيدا بأنها محقة، مع الأسف لا يمكن العودة للماضي ولكن ربما يمكن فعل شيء لتغيير الحاضر.
فكر بهذا الأمر بداخله قبل أن يُجلي صوته هاتفا :
- علشان كده عايز أشوف ابن سلطان يا نيجار.
- بس يا صفوان ...
- لو سمحتِ اسمعي كلامي واعتبري ده آخر طلب بطلبه منك.
لم تجد هذه الأخيرة رادعا أمام رجائه ونظرته المصممة فزفرت بيأس وبرطمت :
- ماشي هكلم آدم وربنا يستر ... أنا هروح دلوقتي عايز مني حاجة تانية ؟
- لا مفيش ... نيجار.
أوقفها صفوان حينما نهضت فنظرت هي له باِستفهام ليردف هو وقد عصفت عيناه بلمعة غريبة، لم ترها على وجهه من قبل :
- أنا بحبك اوي ... خلي بالك من نفسك.
في لحظة وجدت نيجار نفسها عاجزة أمام هذا الغزو العاطفي فتسربت دموعها من مقلتيها بغزارة وهرعت تحضنه بقوة وتضم ذراعيها حوله كأنها تحاول انتزاع الألم من جسده المتهالك، لكن الحقيقة كانت أنها تحاول تهدئة زلزال مشاعرها المتضاربة.
هي تعلم جيدا أنه أجرم وسبَّب الكثير من الألم، لكن في النهاية… يبقى شقيقها الذي لم تلده أمها.
ربتت على ظهره بخفة وهمست بصوت مرتجف:
- سامحني، بس أنا مش قادرة انسى اللي حصل.
أغمض صفوان عينيه وكأن كلمتها طعنته في موضع جرحه العميق، لكنه أجاب بصوت خافت:
- عارف ومش هطلب منك تعتبري كأن مفيش حاجة حصلت، بس أنا كنت محتاج أشوفك وأعرف أنك لسه هنا… معايا.
انسحبت نيجار من حضنه ببطء ومسحت دموعها سريعا حتى لا تزيد من ضعفها وهو كذلك سحب يدها وضغط عليها كأنه يتمسك ببقايا حياة لم يعد له فيها مكان، قبل أن يتركها تنهض وتغادر.
خرجت من الغرفة وقلبها يئن، لكنها تماسكت وتوجهت نحو السلالم لتجد زوجة عمها جميلة قبالتها وقد هرعت تستفهم منها بقلق :
- تكلمتو سوا يابنتي هو قالك ايه.
هزت نيجار كتفيها بحيرة وأجابتها :
- طلب يقابل آدم.
انتفضت سلمى برعب وهبَّت تردد بلهجة مذعورة :
- هو ناوي يموت ولا ايه الكل عارف ان صفوان المسؤول ع اللي حصل من شهر الناس ماتت بسببه ودلوقتي جوزك لو شافه يمكن ااا...
تعلقت بقية الحروف في حلقها حين لاحظت صدمة أمها فلاذت بالصدمة لكن جميلة هي من تمتمت مستدركة :
- مقالكيش عاوز يشوفه ليه ؟
- لأ بس يمكن يعتذر منه ولا حاجة.
هزت رأسها بعدم اقتناع واِستطردت :
- هزّت جميلة رأسها بغير اقتناع واستطردت بقلق واضح:
- لا يا نيجار صفوان مش ممكن يطلب يقابل آدم بس عشان يعتذر أنا مش مصدقة الكلام ده، مستحيل!
ازدادت حيرة نيجار وقد انتقلت بوادر القلق عليها فهتفت تتساءل :
- طيب ايه تفسيرك ؟
- مش عارفة بس قلبي مش مطمّن… صفوان عمره ما كان واحد يعتذر بسهولة، مستحيل يكون قاعد مستني قدره كده وبس خايفة يكون في حاجة في دماغه !
نظرت الأخرى إلى ابنة عمها سلمى التي كانت تراقب الحوار بقلق، ثم زفرت بضيق وقالت :
- يمكن ندم بجد يا مرات عمي يمكن خلاص استوعب إنه خسر كل حاجة ومبقاش قدامه غير انه يصلّح اللي يقدر عليه.
لم تكن هي نفسها متأكدة من هذا الكلام.
تغيرت ملامح جميلة وازدادت عتمة فهمست بصوت أقرب للرجاء :
- ده صفوان يا نيجار هو لو قال عاوز يقابل آدم يبقى أكيد في حاجة تانية ورا الموضوع ده ... بصي الأفضل تنسي كلامه ومتفتحيش الموضوع مع جوزك لأنه ممكن ميستحملش يشوفه قدامه فيقوم يقتله.
تآكلها الخوف أكثر وأكثر فتنفست باِضطراب وأدرفت في محاولة منها لتهدئة جميلة، أو ربما تهدئة نفسها هي :
- بصراحة أنا كمان خايفة بس صفوان أصرّ عليا ومقدرتش اتهرب منه فهتكلم مع آدم وخلاص ربنا يستر.
أنهت كلامها واحتضنت سلمى ثم ودعتهما وغادرت لتنظر هذه الأخيرة لأمها وتهتف برصانة :
- أنا هروح اشوف الشغالة خلصت تجهيز العشا ولا لسه.
بقيت جميلة واقفة مكانها وعقلها يغلي بأفكار سوداء لم تستطع كبحها، كان الخوف يتغلغل في أوصالها والوساوِس تهاجمها من كل صوب حتى أخذت نفسا عميقا وحدثت نفسها :
- لو كان فعلاً عاوز يشوفه للندم، فده كويس بس لو في دماغه حاجة تانية، ماحدش هيقدر يمنع الكارثة اللي جاية.
*عودة إلى الماضي...
( بعد مرور أسبوع على الحادثة...
أعادت نيجار ظهرها للخلف وهي تسند رأسها على كف يدها وعيناها شاردتان في اللاشيء، حتى جلست حليمة جوارها وهمست :
- لو قولتلك مالك قاعدة كده ليه هيكون سؤال ملوش لازمة صح.
- مش هعرف أجاوبك ع السؤال ده أصلا هرد بـ ايه و ازاي يا عمتي، الدنيا قايمة قاعدة الفرح اتقلب لغم ومعظم أهل البلد عاملين عزا، وفاروق مات.
تغضن وجه حليمة بالأسى وقبل أن تتحدث وجدت آدم يفتح باب السرايا ويدخل، نظر لهما وهما جالستان ثم صعد إلى الأعلى بعد أن سألته عمته إذا كان يريد تناول الطعام وأجابها بالنفي، ثم حدقت في نيجار وهتفت مستفهمة منها :
- انتي قاعدة ليه روحي اطلعي وراه واسأليك لو عايز حاجة.
- مبقاش ليا عين اكلمه بعد ما عرفنا ان صفوان هو اللي هرّب سليمان من مكانه يا عمتي، آدم متدمر وأنا خايفة ابص في عينيه وألاقي نظرة العتاب والاتهام جواهم.
تفهمت حليمة شعورها وخوفها فربتت على يدها وأدرفت بإيضاح :
- محدش ليه الحق يلومك انتي ملكيش دعوة باللي حصل وآدم بيعرف انك بريئة ... يلا اطلعي لجوزك انتي لازم تقفي جنبه في الظروف ديه.
أما هو فبمجرد دخوله للغرفة شرع في تغيير ملابسه بوجه صلب وعينين صقيعتين تُبرِزان قتامة واضحة، بيد أنه وعقب اِنتهائه أرخى جسده على الأرضية وأسند ظهره إلى السرير، وانقشعت البرودة من مقلتيه لتتلألآ بغشاوة ضبابية سرعان ما أصبحت دموعا شقت طريقها كالوديان على وجنتيه !!
كانت نيجار قد صعدت بخطى مترددة تقاوم إحساسها بالذنب وخوفها مما قد تراه في عينيه، وعندما دخلت التقطت أذناها صوت نشيج بالكاد يُسمع وشاهدت ارتعاشة غير مصدقة ما تراه.
آدم يبكي ؟ لم تره يوما بهذه الحالة وهذه الوحدة، شعرت بقلبها يعتصر وهبت لمواساته إلا أن خوفها من رد فعله جعل خطواتها بطيئة ومترددة فتقدمت نحوه بحذر حتى جلست بجانبه، وتطلعت إليه للحظات قبل أن ترفع يدها المرتجفة وتضعها بخفة على كتفه خشية أن تنفجر العاصفة في وجهها.
- آدم.
عند لمستها، انتفض قليلا واشرأبت عنقه نحوها فاِلتقت عيناها بعينيه واختنقت أنفاسها مما رأته ... عينان غارقتان بالألم تحملان وجعا لم تعهده فيه من قبل.
للحظة لم يقل شيئا، فقط ازدادت دموعه اِنهمارا ثم همس بصوت متهدج بالكاد خرج من بين شفتيه :
- مش قادر استحمل فراقه.
صدرت شهقة من نيجار تلتقط بها أنفاسها التي تتقطع وجعا من حالته وبحثت عن الكلمات المناسبة التي تهون عليه لكنها شعرت أن أي شيء ستقوله سيكون بلا معنى فآلام كهذه لا تطيب بالكلام.
لذا ودون تفكير جذبته نحوها، وضمت ظهره الصلب وكأنها تحاول أن تحميه من كل ما يؤلمه...
ظل آدم متصلبا في البداية ثم فجأة انهارت حصونه بين ذراعيها وحاوطها بقوة مماثلة كمن يتمسك بآخر ملجأ له واختنق صوته أكثر بينما يردد :
- كل مكان بروحله وبقعد فيه بحس بفراغ كبير مكنش حد غير فاروق بيمليه ... في البستان والمزرعة وجوا العربية وأي حته بروحلها بتفكرني بيه هو بس.
اللي بيوجعني اكتر انه طول عمره فاروق بيلحقني وبيساعدني سواء لما انطعنت ولا لما اتضربت بالنار وحتى ساعة ما كان تفكيري مشوش ومش لاقي طريقي جيه هو وريحني بكلامه وفادني بنصايحه ... ده حتى هو مات بسببي يوم الفرح لما كان بيدافع عني بس أنا ملحقتهوش ... مقدرتش ابقى صاحب كويس وأساعد فاروق زي ما هو كان بيعمل كل مرة يا نيجار.
ارتفعت شهقات آدم وتقطعت أنفاسه بين كلمات مبتورة، واكتفت نيجار بأن تمرر يدها على ظهره ببطء محاولة تهدئة رجفته وحين فشلت نزلت دموعها هي أيضا وضغطت على ذراعيه مرددة بنشيج حارق :
- لو في إيدك تعمل حاجة مكنتش هتقصر بس ده نصيبه يا آدم ومحدش بياخد اكتر من عمره ... أنا عارفة ان النار اللي جوا قلبك مش هتنطفي مهما قولتلك ووجعك مش هيخف بس ياريت لو بقدر أريحك بأي طريقة ولا انقل القهر اللي جواك لقلبي أنا وأعيشه بدالك يا حبيبي.
انزاح آدم قليلا ورمقها بأسى وحزن منقطع النظير حيث أن الفقدان الذي يعيشه أكبر مما يستطيع تحمله، ومع ذلك أمسك يديها ورفعهما لشفتيه المبتلة بدموعه وقبَّلهما ببطء ثم عاد يطالعها وقد همس بنبرة رجولية متحشرجة :
- لو في حاجة عايزها منك هي اني مشوفش نظرة الذنب اللي فعينيكي يا نيجار.
انتحرت عبراتها بخزي ليمسحها آدم برقة وهو يتابع :
- انتي مغلطتيش في حاجة وأنا متأكد أن النار المولعة جواكي دلوقتي مش أقل من ناري عشان كده بلاش تبصيلي كأنك المجرمة اللي مستنية حكم جلادك.
كأن كلماته أطلقت رصاصة الرحمة في حقها، فشهقت نيجار وألقت رأسها على صدره تستمد منه الطاقة بعدما كانت هي من تحاول مواساته منذ قليل وبداخلها راحة طفيفة لأن اِعتقادها خاطئ، آدم لا يحمل ضغينة اتجاهها ولا يُحملها مسؤولية ما حصل .... )
** وبالفعل تم الأمر، بعد محاولات عديدة من نيجار لآدم استطاعت إرساله إلى صفوان بيد أنها متخوفة الآن ونادمة لأنها أوقعت نفسها بين نارين، من جهة تعصف بها الخيالات السيئة وتموت رعبا من أن يفقد آدم زمام تعقله فيقتل ابن عمها ومع الأسف لن تقدر هي على لومه ... لكنها لن تستطيع أيضا متابعة حياتها معه !
وقف آدم في مواجهة صفوان ينظر لعدوّه الجالس على كرسي متحرك بلا حول ولا قوة، ربما في ظرف آخر كان سيشعر بالأسف عليه وربما تعتريه الشفقة حتى ولو كان هو نفسه من حاول قتله مرات من قبل.
إلا أن عيناه الآن لا تستطيعان رؤية سوى رجل هو السبب في حدوث مجزرة دموية بيوم كان من المفترض أن يُمثل أسعد يوم في حياة أخته، يوم خسر فيها هو قطعة من روحه.
حيث جثى فاروق أمام عينيه وهو ينهار غارقا في دمه، يتذكر الصراخ والرصاص، والألم الذي مزّق العائلات، كل ذلك سببه هذا الرجل الجالس أمامه الآن، يبتسم وكأنه لا يحمل على كاهله شيئًا من الذنب :
- أنا مكنتش متوقع إنك توافق تقابلني.
هدر بصوت قاتم وحاد كحدِّ السيف:
- طلبت تقابلني ليه ؟
اِزداد اتساع ابتسامة صفوان فغمغم بنبرة مستفزة :
- ايه يا ابن سلطان الحالة اللي انت فيها ديه معقول الوجع اللي عشته خلاك بارد كده ! أوعى تكون دموعك نشفت من كتر ما عيّطت على صاحبك.
أغمض آدم عيناه لوهلة في محاولة يائسة لكبح العاصفة التي تضرب داخله وتحرق روحه وارتجفت يداه من كمّ الغضب المتراكم داخله، ذلك الغضب الذي لو ترك له العنان لوجد نفسه يلفّ أصابعه حول عنق صفوان ويفنيه عن الوجود.
بقي صامتا وربما صمته كان يصرخ أكثر من الكلام، فأضاف صفوان بتهكم وهو يحدق في الأفق الممتد أمامه :
- حقك تزعل عليه للدرجة ديه، فاروق كان خادم وفيّ جدا بصراحة وأنا ياما حاولت أشتريه بس كان بيرفض يبيعك.
بقتامة تامة علق عليه الآخر :
- الوفاء ملوش تمن ومبيتشراش بالفلوس لأن العلاقة بيننا مكنتش علاقة سيد وخادمه بس انت عمرك ما هتفهم الكلام ده بسبب قلبك الأسود وروحك المليانة غدر.
قهقه بمرارة ثم رفع نظره إليه وعقب مستهجنا :
- ما أنا كمان اتغدرت وإلا مكنتش هبقى في الحالة ديه بس بتبقى أحسن من اني أموت زي صاحبك، ياه المسكين دمه اتسفك يوم فرح أخوه الصغير وهو بيدافع عنك وياريت موته جيه بفايدة أهو اللي تسبب في قتله قاعد قدامك،بس انت حتى محاولتش تاخد بتاره.
أنهى جملته وهو يتوقع أن يجد نفسه متكوما في الأرض يصارع يديّ آدم الذي سيطبق عليه كالعربيد ويختقه، بيد أن توقعاته خابت لأن آدم حرك رأسه باستخفاف ثم استدار وبدأ في الابتعاد غير راغب حتى في إهدار المزيد من أنفاسه عليه.
صعق صفوان وأحكم القبض على جانبي الكرسي وهو ينفجر فيه بعصبية بالغة :
- طول عمرك بتمشي يا أرض اتهدي ما عليكي قدي بس الحقيقة انك طلعت جبان يا ابن سلطان ... والدليل انك ساكت وخايف تلمسني!
توقفت خطوات آدم دون أن يلتفت ثم انطلق مجددا فاِشتعل الجنون داخل الآخر وهذا ما دفعه لأن يزمجر بأعصاب منفلتة وهو يحاول النهوض :
- انت رايح فين أنا بكلمك !
لكن قبل أن يتمكن من فعل شيء فقد توازنه ووقع بعنف على الأرض وارتطم بجسده على التراب، فتأوه بصوت مكتوم عاجز ثم طفق يلعن محاولا النهوض، ليتفاجأ بذراعيّ آدم تسندانه وترجعانه إلى مقعده بهدوء وهنا قبض قبض صفوان على ياقة قميصه وصرخ :
- ايه اللي بتعمله ده انت عايز تجنني المفروض تضربني بالنار وتقتلني عشان يشفى غليلك مش تجي تساعدني .. ليه مش عايز تموتني ليييه !!
- عشان مديكش فرصة انك ترتاح.
إجابته كانت كنصل حاد اخترق القوقعة التي جمعتهما سويا، وأكمل بنفس الهدوء القاتل :
- فاكرني مش فاهمك يا ابن الشرقاوي؟ أنا عارف انك طلبت تشوفني عشان تستفزني وتخليني أقتلك ... حالتك ديه مخلياك تموت ألف مرة في اليوم، بتلعن حظك لأنك فضلت عايش وبتتعذب وعلشان كده جايلي علشان أريحك.
اقترب أكثر، حتى صار وجهه قريبا من وجه صفوان، ثم همس ببطء كمن يسكب السمّ في أذنه :
- بس مش هنولها لك... تعرف ليه؟ لأني بفضلك عرفت ان الموت هو راحة للجاني مش انتقام وأنا بقى عاوزك تعيش العذاب الحقيقي لازم تنام وتصحى كل يوم وانت بتفتكر كل خطاياك ومتقدرش ترجع للماضي عشان تغيره.
لازم تعيش وإيديك مليانة بدم كل روح بريئة اتاخدت غدر يوم الفرح.
- لا مينفعش انت مش هتعمل كده مش هتفضل ساكت ... تعال اقتلني يا آدم مينفعش تسيبني بالبساطة ديه يابن الصاوي !!
نصدع صوته الصارخ يخترق ويزعج الطيور الساكنة ليدرك أنه نجح في شيء واحد فقط من هذا اللقاء ...
وهو أنه زاد من عذابه، بدلا من أن يضع حدًّا له !
________________
دلف للسرايا وصعد على السلالم بخطوات متثاقلة ووجه شارد لم يدُم طويلا حين وجد جسدها يصطدم به بقوة ويديها تحاوطان رقبته فاِلتقفها بذراعيه سريعا وهمس عند أذنها :
- بالراحة هتقعي.
شددت العناق وأغمضت عينيها وهي تعقب براحة :
- كنت مرعوبة جدا دماغي صورتلي مليون سيناريو وكل واحد فيهم أسوء من التاني بس الحمد لله أنك جمبي دلوقتي.
يدرك آدم جيدا أنها كانت خائفة على صفوان وخشت أن يتم قتله رغم كل ما اقترفه، لكنه لن لومها لأنه أكثر شخص يعرف بأن القلب لا يستطيع كُره الأخ مهما فعل.
تنهد وهو يمرر يده على ظهرها ثم انسلخ عنها ببطء وهتف بجملة واحدة :
- كل واحد مننا بياخد اللي بيستحقه يا نيجار.
توجه لغرفة جدته وولج للداخل بعدما طرق الباب ليراها على مقعدها وعيناها تنظران من النافذة مطبقة عادتها منذ الأزل، لكن الفرق هذه المرة أن عيناها باهتتان بشكل غريب ووجهها الواجم أضحى مرتخيا، وقد كانت السيدة حكمت تغيرت هي أيضا منذ يوم الحادثة.
أخذ آدم نفسا عميقا وزفره على عدة دفعات ثم جثى على ركبتيه أمام كرسيها وأمسك يدها بحنان هامسا :
- ازيك يا ستي عامله ايه.
نقلت نظرها إليها وداعبت وجنته بيدها الأخرى مجيبة إياه باِستفهام آخر :
- بتسألني أنا عامله ايه يا حفيدي؟ المفروض أنت اللي يتسأل عن حالك.
عادت الغشاوة الامعة تغطي عيناه العسليتان فوضع رأسه على ساقها وصمت لتضيف حكمت بينما تمسح بأناملها على شعره :
- آخر مرة قعدت القعدة ديه كانت من 3 سنين ليلة دفنة والدتك ربنا يرحمها.
- يومها فضلت قاعد مع أختي بمسح دموعها ولما نامت جيت عندك وسألتك .. قولتلك ازاي البني آدم بيقدر يتخطى خسارة حد بيحبه.
- وعرفت الجواب ؟
- ايوة ... محدش بيقدر يتخطى وينسى يا ستي.
- تعرف ان طول الشهر ده كنت مستنية امتى تجيلي وتتهمني فـ اني السبب فموت فاروق لأن سليمان حقد على عيلتنا بسببي بس انت معملتش كده.
- عشان عرفت أن اللوم مش هيقدم ولا يؤخر يا ستي.
رفع آدم رأسه وطالعها بتعبيرات ساكنة فاِدمعت مقلتيها وتحشرج صوتها بينما تردد :
- بعتذر منك يا حفيدي بعتذر لأن طمعي أذاك ودمرك بالشكل ده أنا بس كنت عايزة ...
إلا أنه قاطعها قبل إعطاء تبريرات عن رغبتها في إعلاء اِسم آل الصاوي أو أخذ ما هو من حقهم :
- اللي حصل حصل وأنا مش عايز اتكلم فيه.
- يمكن متفقناش في أكتر من نقطة من قبل وأنا كنت فكل مرة بعترض ع اللي بتعمله وبقول انه ميليقش بعيلتنا، بس الحقيقة يا حفيدي أنه عيلة الصاوي والبلدة ديه كلها مشافتش ولا هتشوف راجل زيك، قوي وشهم ونظيف ومسؤول، أنا بجد فخورة بيك أوي.
رفع آدم حاجباه ومال طرف شفته في شبه ابتسامة قبل أن يتمتم :
- ايه سبب الكلام الحلو ده مش متعود منك ع كده فين زعيقك وكمة حفيدي اللي بترج في السرايا كلها.
تجاوزت حكمت مراوغته واقتضب وجهها الباهت بحزم وهي ترفع ذقنه إليها متابعة :
- أنت عمود الصاوي أوعى تنسى الكلام ده وأوعى تتغير وتميل لأي طرف افضل زي ما انت ظهر بيتسند عليه أخوك وأختك وخلي بالك منهم هما ... ومن باقي أفراد العيلة يا حفيدي.
حالتها هذه جعلت الاِرتياب يعتري قلبه عنوة عنه لكنه على كل حال قبَّل ظهر يدها باِحترام ثم غمغم بصلابة :
- أكيد يا ستي متقلقيش أنا اتربيت ع ان العيلة هي كل حاجة وحفيدك مش هيخيب ظنك بوعدك.
ارتخت ملامح حكمت أخيرا وعادت للوراء براحة غريبة كأن وعده منحها السلام، فنهض آدم وألقى نظرة أخيرة لا يعلم سببها ثم غادر ...
***
عاد إلى غرفته بهدوء ليجد نيجار جالسة على الأريكة وحين رأته انتصبت واقفة وقالت :
- يلا ننزل نتعشا ولا عاوز اجبلك العشا لهنا ؟
فتح فمه ليعارض فكرة الطعام بأكملها لكنها قاطعته بسرعة :
- أنت مكلتش حاجة من امبارح بليل وده مش كويس عشانك، وبعدين أنا كنت مستنياك عشان ناكل سوا هتسيبني جعانة ؟
لم يجد آدم بُدًّا من الاِستسلام فوافق على مضض ونزل معها، وبعد دقائق قدمت له كوب الماء برضا لأنه على الأقل أكل لقيمات إضافية ثم قالت :
- تعرف اني كنت قاعدة مرعوبة وفكرت ف اني اجي وراك من غير ما تحس بيا وأشوفكم هتعملو ايه.
- ليه منفذتيش فكرتك ولا ربنا هداكي أخيرا وبطلتي شغل تلميع الأوكر.
اغتاظت نيجار ومطت شفتها ممتعضة وهي توكز ذراعه لتعقب :
- لا بس بردو كنت بعرف ان الخطوة اللي خدتها صعبة عليك ومش هتحب حد يشاركك فيها ويتطفل عليكو حتى لو أنا.
تبسم آدم وداعب وجنتها مطالعا إياها بعينين تلمعان حُبا، ثم تحشرج صوته بينما يهمس بتساؤل :
- طب لو مخاوفك اتحققت وأنا قتلت صفوان كنتي عملتي ايه ؟
- أنا بحمد ربنا مليون وبشكرك لأنك معملتش كده يا آدم ... صدقني مكنتش هقدر اكمل معاك لو إيدك اتلطخت بدمه.
- على أساس هقف اتفرج على حضرتك وانتي بتسيبيني مش كده ؟ انتي خلاص بقيتي ملكي وروحي يعني مستحيل اسمحلك تعملي كده إلا بطريقة واحدة بس.
- ايه هي ؟
اِدعى آدم التفكير ثم قرص أرنبة أنفها مجيبا :
- انك تضربيني بخنجر وتهربي.
ضيقت نيجار حاجبيها ببلاهة وسألته :
- ايه ده انت بتغازلني ولا بتذلني.
رفع آدم كتفه وهو يضحك على شكلها وعاد يضمها إليه ويطبع قبلة أعلى رأسها، مرت دقائق وحضر مراد ليجلس بجواره ويهتف :
- ازيك يا آدم عامل ايه ... ازيك يا نيجار عمتي قالتلي انك عامله محشي ورق العنب فجيت جري اوعى تكونو خلصتوه.
- لا أنا عملت حسابك هقوم اجبهولك.
رددت وهي تستعد للنهوض وعادت بعد لحظات لتعطيه حصته من أكلته المفضلة، قضم مراد اصبعا منه وهمهم بشهية منقطعة النظير :
- إيديكي فيهم سحر بجد دول تحفة زيك.
تنحنح آدم بغلظة وهمهم من بين أسنانه :
- طب كول وانت ساكت عشان مقومش اطفحهملك دلوقتي.
قلب عيناه بلامبالاة وركز في صحنه أما آدم فعاد يشرد في الفراغ دون شعور منه غير منتبه لأطراف الحديث المتبادلة حوله حتى أفاق على صوت حليمة وهي تسأله :
- وانت ايه رأيك.
- رأيي في ايه.
- أخوك بيقول انه تكلم مع أهل خطيبته عشان يأجلو الخطوبة وكمان يعملو الفرح السنة الجاية.
طالعه آدم بتعجب فأوضح له مراد قائلا بنبرة جادة :
- عشان اللي حصل في البلد وعشانك كمان يعني ملقتهاش حلوة اعمل فرح وانت...
قاطعه الآخر قبل أن يكمل :
- ومش حلو في حق عروستك انها تأجل فرحها للسنة الجاية بعد ما اتفقنا معاهم ع انه يكون بعد كام شهر بس، البنت ملهاش دعوة فجيبها لبيتك ولو حابين تعملو فرح صغير مفيش مشكلة المهم متأجلش.
ابتسم له وأماء موافقا ليتابع الجميع الحديث حول أمور جانبية حتى نطق آدم وأخبرهم بأنه سيصعد ليرى جدته...
نهض من مكانه واتجه إلى الطابق العلوي بخطوات هادئة، وحين دفع باب غرفتها رآها في مكانها مثلما تركها، مستندة إلى كرسيها العتيق ورأسها مائل قليلا وعيناها مغمضتين.
ابتسم بخفة واقترب هاتفا :
- ستي ... انتي نمتي فمكانك ولا ايه.
لم يكن يتوقع منها ردا فوريا لكنها لم تتحرك أو ترفع جفنها حتى، فزادت ابتسامته وجثى على ركبتيه أمامها مجددا ليمسك يدها بحنان ويقول :
- مراد تحت وكنا بنتكلم ع فرحه يلا تعالي عشان تقعدي معانا...
حين لاحظ أن صمتها بات أثقل من المعتاد واستوعب مدى برودة كفها اضمحلت بسمته تدريجيا وحدق في وجهها باحثا عن أي إشارة تدل على أنها تسمعه. وهنا ارتفع صدره مع أنفاسه المضطربة ورجفت يده هازًّا إياها برفق أكبر :
- ستي ؟
عينيه تجمدتا على وجهها وسكونها المطلق، وعلى طريقة ميلان رأسها التي لم يكن فيها راحة بل جمود مميت.
شعر آدم بالدم يتراجع من وجهه وجسده كله ينقبض في لحظة إدراك قاسية.
- ستي ... حكمت هانم ...
نبرته كانت ترتجف وروحه كلها تنتفض من الداخل. رفع يده ببطء باِضطراب ومررها فوق وجنتها، وعندما لم يجد أي دفء أغمض عينيه بقوة رافضا الرؤية والفهم لكنه مع الأسف قد فهم ...
- لأ...
خرجت الكلمة من آدم كنصل مزق صدره فاِنحنى أكثر وأسند رأسه على ركبتها هامسا بصوت مهتز متوسل، نبرة رجل ينهار :
- مش هقدر أستحمل خسارة حد تاني، مش هقدر يا ستي...
كل شيء انهار داخله وانفجر بكاؤه مع انقباض صدره وشهقاته التي لم يحاول كتمها فلم يشعر بالأقدام التي توقفت عند الباب أو يسمع شهقات حليمة وأنفاس نيجار المرتبكة أو حتى الصدمة الصامتة في وجه مراد ... لم يكن هناك سوى الحقيقة القاسية التي خيمت على الغرفة.
السيدة حكمت أقوى اِمرأة عرفها، التي لم يجرؤ أحد على تحديها والتي صنعت مجدها بيديها ووقف أمامها أعتى الرجال بعجز لقاء هيبتها ... رحلت.
ولأول مرة لم تعد السرايا تنتمي لحكمت هانم، بل للموت الذي سحبها من عرشها بصمت مهيب كما لو أنه انتظر اللحظة المناسبة ليهزمها أخير