
رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل السابع7والثامن8 بقلم رحمه سيد
اللحظة التالية للصدمة التي خيمت على وجوه الجميع، إنحنت فيها "كارما" مسرعة لتمسك بسماعة اذنها التي سقطت منها، ثم رفعت وجهها ناظرة لزوج والدتها "جاد" الذي إنكمشت ملامحه في توتر لحظي ثم تأهب كذئب يستعد للانقضاض على فريسته، وسألها بصوت أجش:
-أنتي بتعملي إيه ؟
لا تنكر التوتر الذي انتابها هي الاخرى من سؤاله، ولكنها اجابته بفظاظة تليق بفظاظة سؤاله:
-جايه أخد حاجات من جوزي.
ضغطت على حروف كلمة زوجي وكأنها تخبره بشكلٍ خفي أنه لا يملك حق سؤالها وأنه هو الدخيل هنا !
لوى "جاد" شفتاه متابعًا بشيء من السخرية والبجاحة:
-خدي ياختي من جوزك، سبحانه!
اقترب عيسى من كارما قائلًا بابتسامة بشوشة مخضبة بالحنو وهو يربت على كتفها برقة:
-خدي حاجتك يا كرملة يلا وأطلعي.
هزت رأسها موافقة، بعدما فطنت أن سخرية جاد تتعلق بإعلانها التلقائي بكونه زوجها رغم أنها كادت تقتل نفسها كيلا تتزوجه، ولكنها تجاهلته وهي تتحرك جوارهم بخفة منتشلة بعض الأشياء..
بعد قليل كانت قد إنتهت من إنتقاء ما تريد تحت أنظار كلاهما، مما اضطرها لتسرع وتختفي عن أنظارهما التي تبث فيها اهتزازة ملحوظة..
وبينما هي تغادر اقترب منها عيسى قليلًا، مرددًا بلهجة اعتيادية كأنهما زوجان طبيعيان:
-أنا مش هتأخر.
اومأت كارما برأسها دون رد، فبالطبع لجم ردودها المحتدة وجود "جاد".
وبالفعل غادرت، فسارع جاد مفصحًا عن التوجس الذي اخذ يعتمل داخله:
-تفتكر تكون سمعت؟
هز عيسى رأسه نافيًا:
-لأ معتقدش خالص، اديك شوفت سماعتها وقعت.
ضيق عينيه وهو يفكر ولازال التوجس يختلس نصيبه بين حروفه:
-أنا عارفها دي لئيمة مايغركش الطيبة اللي بتبان عليها أحيانًا، ممكن تكون سمعت ودي كارثة.
حاول الاخر اقناعه بالمطنق:
-لو كانت سمعت كان هيبان عليها، او حتى هيبان في التعامل معايا فيما بعد.
هز رأسه يزج كلمات عيسى حيز الاقناع داخله، ثم حذره:
-بس لو عرفت مينفعش نسكت، أكيد أنت عارف هتعمل إيه ساعتها صح؟
اومأ عيسى مؤكدًا بهدوء، فأطلق جاد ضحكته المُقيدة، وأردف بخبث:
-بس أنت طلع مش سهل، فهمت ليه مجنن البنات.
لوى عيسى شفتاه في زهو مجيبًا:
-امال أنت كنت مفكر إيه!
أبدى جاد إعجابه الكامل بذكاء عيسى حين أخبره:
-لا فاجئتني أنا شخصيًا، ودي حاجة كويسة عشان ننجز بقا في الحوار ده لأن مفيش حاجة هتنفع مع كارما غير اللين.
ضرب عيسى على صدره مستطردًا في ثقة معهودة منه:
-أنا عارف بعمل إيه كويس متقلقش أنا مش بلعب!
اومأ جاد برأسه، وهتف بنبرة منتشية بالوصول الذي يشعره اقترب:
-جدع يا عيسى، وعشان كده احنا اختارناك أنت بالذات للموضوع ده.
هز عيسى رأسه وقال بينما يلتفت يمينًا ويسارًا في تفحص:
-تمام، روح أنت بقا عشان مانلفتش النظر بوجودك هنا كتير.
وبالفعل إنصرف جاد وعيسى يتابعه بنظراته، شاعرًا أن خطواته تثقل شيئًا فشيء في ذلك الطريق...
****
كان "فارس" في مكتبه، جالس بثبات على كرسيه يتلاعب بالقلم بين أصابعه، ولكن حاله كحال هذا القلم لا يستطع التحلي بالثبات، داخله شيء غريب يُفصح عن رغبة أغرب في معرفة رد فعلها، خاصةً أنه لم يختلط بها مؤخرًا... لا بل تقريبًا هي مَن تتجاهله عمدًا منذ اخر موقف بينهما..
أنهى الصراع النفسي داخله حين أمسك بالهاتف واتصل بسكرتيرة مكتبه التي اجابته على الفور فقال بجدية:
-ابعتيلي فيروز يا هويدا بعد اذنك.
-تمام يا فندم.
تمتمت بها مجيبة قبل أن تغلق وتنادي فيروز بالفعل، فأخذت فيروز نفسًا عميقًا، ثم هندمت خصلاتها وملابسها سريعًا قبل أن تطرق الباب وتدخل بعد أن سمعت اذنه بالدخول..
اقتربت من مكتبه بهدوء تسأله بثبات ورسمية:
-حضرتك طلبتني يا باشمهندس.
شعر فجأة أن كل الكلمات فرت من أعتاب لسانه، ولم يجد ما يقول فهتف بهدوء مصطنع:
-أنتي عامله إيه يا فيروز.
ردت رغم الاستغراب:
-كويسة الحمدلله.
تابـع بنفس الجدية التي ألبسها لحروفه ظاهريًا رغم خلو باطنها:
-طبعًا انتي عايزه تعرفي انا ناديتك ليه دلوقتي؟
أكدت بهدوء:
-ايوه.
قال فجأة مشيرًا للمزهرية جوارها:
-الفازة اللي هناك دي.
نظرت نحوها ثم له من جديد باستغراب متسائلة:
-مالها؟
-بتاعت جدي الله يرحمه.
هزت رأسها متمتمة خلفه على مضض:
-الله يرحمه.
-هاتيها هنا بعد اذنك عايزها، مش عارف اركز.
أكمل بنفس الجدية التي جعلت بوصلة احساسها تهتز في حيرة، وتتساءل في نفسها هل هو يمزح فعلًا ام لا..
ثم رمقته بنظرات متعجبة وكأنها تسأله بصمت أ هذا سبب احضارك لي؟!
ولكنها تحركت وجلبتها على مضض ووضعتها أمامه، ثم أضافت من بين أسنانها:
-اتفضل يا فندم، اي طلب تاني؟
سألها ببراءة:
-مالك مضايقة ليه؟
انتزعت ابتسامة صفراء لا مرح فيها وهي تتشدق:
-أنا مش مضايقة.
فهز رأسه مصممًا:
-بس أنا حاسس إنك مضايقة.
نفت محاولة الحفاظ على صبرها الذي بدأ ينفذ من تصرفاته الغريبة، فهي تشعرها طفولية في باطنها مغطاة بقشرة الجدية المزيفة:
-لا تمام.
واصل فارس:
-الميزة يا فيروز في شركتنا إن اهم حاجة عندنا سلامة وراحة الموظفين النفسية.
غمغمت فيروز بحروف فاحت منها السخرية نوعًا ما رغمًا عنها:
-طبعًا طبعًا.
ثم استدارت وكادت تغادر، ولكن لمع بعقل فارس سبب سيضعه سدًا امام امواج اسئلته التي يراها مهتاجة بعينيها، فأوقفها مسرعًا:
-استني رايحة فين؟
استدارت له متسائلة:
-حاجة تاني يا باشمهندس؟
استطرد ينفي عن نفسه تهمة إلتصقت به فعلًا:
-انتي فكرك يعني إني فاضي عشان أناديكي تجيبي الفازة وتمشي؟
-امال إيه؟
-لا طبعًا، أنا مناديكي عشان اقولك على رحلة طالعها التيم بتاعنا في أسوان عشان عندما مؤتمر مهم جدًا بحضور سيادة الرئيس.
تنحنحت فيروز وهي تفكر، ها هي الفرصة تعرض نفسها عليها مُحلاه بذهب تراه يلمع في طريقها الذي استشعرته مُظلم مؤخرًا..
لذا اومأت برأسها موافقة:
-تمام يا باشمهندس، امتى ان شاء الله؟
أجابها فارس بثقة افتقدها منذ دقائق:
-بعد يومين، يوم الخميس بإذن الله.
هزت رأسها ثم سألته:
-تمام، حضرتك محتاجني في حاجة تاني؟
-شكرًا يا فيروز.
غادرت بالفعل، بينما فارس بدأت ابتسامة صغيرة تعلن عن وجودها على شفتيه، شاعرًا بالنصر في تحقيق ما أراد يغمره..
****
كانت "كارما" في المطبخ تقوم بإعداد الطعام بذهن شارد، مُخضب بالمخاوف التي صارت تؤرق ليلها وتنغص قلبها الوحيد وسط ظلمة لم يختر المكوث بها..
سمعت اثناء ذلك صوت الباب يُفتح، ثم صوت عيسى يناديها، خرجت مجيبة النداء بهدوء:
-نعم؟
اندفع نحوها كالثور الهائج يصيح في وجهها بتهكم صريح:
-نعم الله عليكي، أنتي ازاي تنزلي من غير ما تقوليلي؟!
رفعت حاجبها الأيسر بعدم فهم:
-يعني إيه؟ هو أنا مفروض استأذنك يعني مع كل خطوة؟
غمغم ساخرًا بابتسامة سمجة لا تمت للمرح بصلة:
-ده لو مش هيضايق سيادتك يعني.
ناطحته كارما بكلماتها الحادة كالقنبلة الموقوتة التي كانت على أتم الاستعداد للانفجار:
-لا هيضايقني، استأذنك ليه هو أنت ولي أمري؟
ازدادت حدة حروفه هو الاخر كسيفان يتناطحان في حربٍ كبيرة:
-أنا جوزك يا هانم لو مش ملاحظة.
تابعت مستثارة باستفزازه الذي ينقر فوق أعماقها المُلبدة بالمخاوف:
-لا ملاحظة، بس الظاهر إنك أنت اللي مش واخد بالك او ناسي احنا متفقين على إيه؟
هز رأسه نافيًا، واسترسل بخشونة يحذرها:
-مش ناسي، بس طالما احنا متجوزين أنتي مضطرة تلتزمي بكلامي عشان نكون احنا الاتنين مرتاحين وإلا مش هيحصل كويس.
استفزها اكثر تحذيره فرفعت حاجبها الأيسر وهي تقترب منه مرددة بعناد:
-هيحصل إيه يعني؟
تمتم بإسمها ضاغطًا على حروفه:
-كارما.
فهدرت فيه بنبرة ذات مغزى كقطة شرسة هو من ساهم في إبراز أظافرها الحادة لتنبش وجهه بها:
-بلا كارما بلا بتاع، أنت إيه اللي منرفزك وموترك أوي كده ها ؟
وكأنها ضغطت على حروفه النازفة بالتوتر فازداد نزيفها، وتباطئت حروفه بعض الشيء وهو يجيبها:
-أنا قولتلك إني جوزك وآآ....
قاطعته بغلاظة:
-وأنا قولتلك إننا متفقين على حاجة معينة.
جذبها من ذراعيها بعنف يهزها مزمجرًا فيها بانفعال وعروق بارزة بالغضب:
-ملعون ابوه اتفاق يا شيخة.
في غمرة غضبه سقطت سماعة اذنها بسبب هزته العنيفة، ولم يعطها الفرصة لتهبط وتحضرها، بل ثبتها مكانها حين أمسك وجهها بين يديه، ولأول مرة يستغل ضعف سمعها، ودون وعي منه كان إصبعه يتحسس جانب وجنتها وهو يهمس بصوت مُنهك.. يضخ قلق وحنو لم يستأذنه للعبور للسطح:
-افهمي بقا أنا خايف عليكي.
اعترف ربما لأنه يعلم أنها لم تسمعه، او ربما سمعته او فهمت ما يقول من حركة شفتاه.. لا يهم، ولكنه لم يستطع السيطرة على قلبه المهتاج الذي فرض السيطرة على لسانه مدعمًا إياه باعتراف..
فيما استكانت مكانها وكأنه بكلماته ألقى عليها تعويذة من نوع خاص...
ولا تدري أ تصدقه ام لا، ولكنه مس شغاف قلبها وانتهى الامر.
تركها عيسى وتحرك صوب غرفته، تاركًا اياها شاردة في الوحل الذي تُغرس أقدامها به اكثر...
****
بعد فترة..
كانت كارما في الداخل حين سمع عيسى صوت الباب يُطرق، فتحه ليجد الطارق احد الرجال ممن يعملون مع جاد ومعه بالطبع..
سأله عيسى متعجبًا من وجوده:
-خير يا مصطفى؟
رد مصطفى الذي كان يحفظ ما سيقوله بالحرف:
-أنا جايبلك خبر من جاد.
أعاره عيسى انتباهه، فاستطرد بصوت خافت ومنخفض بعض الشيء:
-احنا هنستناك بكره هننزل تحت ومعانا الشيخ.
اومأ عيسى برأسه، ثم استفسر:
-تمام بس مأمنين ولا هيروح مننا واحد تاني زي المرة اللي فاتت؟
هز الاخر رأسه وهو يسخر منه:
-لا متقلقش، أنت خايف ولا إيه؟
اخشوشنت نبرة عيسى وهو يضيف في ثبات وحمية رجولية معروفة عنه:
-أنت عارف كويس إني مبخافش.
اومأ الاخر قائلًا لينهي ما جاء لأجله، بحروف لم تغادرها السخرية كليًا:
-تمام مستنينك على اول المغارة، أنت فاكر المكان صح؟
دفعه عيسى بخشونة ولهجة غليظة:
-دمك يلطش، يلا يا بابا روح شوف اللي وراك.
وبالفعل غادر الاخر.. حينها تحركت "كارما" التي كانت تنصت لكل شيء بملامح شاحبة، لتتخفى مسرعة قبل أن يراها عيسى...
***
وفي اليوم التالي، وحين كان عيسى على وشك المغادرة لتنفيذ العملية التي تم طلبه لأجلها، أمسكت كارما هاتفها تنوي الاتصال بالشرطة، فهي لن تكن جندي صامت في حرب دنيئة!
الفصل الثامن :-
وضعت الهاتف مرة اخرى على المنضدة بانهزام، انهزام لقلبها الذي أبى ثائرًا، ينعتها بالخائنة.. كيف لها أن تضعه بين اربعة قضبان وقد أصبح قلبها في قبضته وانتهى الأمر، وعقلها يجلدها بسوط الضمير، يحذرها أن تصبح شيطان أخرس، فتبقى هي مُعلقة بين قلبها وعقلها.. والجمر على بُعد خطوة من أي اتجاه ستخطوه!
جلست على الأريكة بملامح مهزوزة على وشك البكاء علها تفجر تلك الطاقة السلبية التي تهاجم جل خلاياها، وفي تلك اللحظات ظهر عيسى الذي كاد يفتح الباب ويغادر، ولكنه استدار نحوها متسائلًا بملامح مقتضبة بعض الشيء:
-مالك قاعدة كده ليه ؟ في حاجة مضيقاكي؟
ردت بنبرة ذات مغزى:
-ليه هو أنت هتعمل او بتعمل حاجة تضايقني؟
ثم بادرت بسؤال مماثل ولكنه أكثر اقتضاب وحدة:
-أنت رايح فين؟
هز كتفاه وكأن الاجابة التي تسأل عنها بديهية:
-رايح شغل، وبعدين من امتى وأنتي بتسأليني رايح فين؟!
رفعت حاجبها الأيسر مستنكرة ثم تابعت تذكره بما قاله سبقًا:
-مهو بما إننا بقينا بنتعامل عادي، وأنت عايزني استأذنك وأنا نازلة حتة، فـ يحق لي أنا كمان اسألك رايح فين.
تساءل في استهجان من طريقتها وقسمات وجهها الثائرة:
-مالك في إيه؟
فأجابت بحنق مفرط ليس بمحله:
-مالي يعني! أنت شايفني بشد في شعري؟!
هز رأسه بلامبالاة وكأنه فطن فقاعة الجنون الطفولي التي تبتلعها:
-طب أنا هسيبك عشان شكلك مجنونة دلوقتي.
وبالفعل تحرك نحو الباب، فأسرعت ناهضة خلفه توقفه وهي تصيح بحركة درامية ممسكة برأسها:
-دوخت دوخت مش قادرة إلحقني.
ولأنه لم يرَ ملامحها الدرامية وهي تصيح، صدق جوهر حروفها التي بثت القلق في روحه، فاقترب منها مسرعًا يسألها متلهفًا:
-مالك يا كارما حاسه بإيه؟
أكملت وهي تتقن رسم التعب على صفحة وجهها:
-اعصابي سابت مش قادرة.
حاوط كتفيها بذراعه برفق وراح يتمتم لها بصوت حاني استحضر خلفه ندم طفيف داخلها:
-اقعدي طيب وإتنفسي براحة والدوخة هتروح ان شاء الله.
أردفت بعفوية فضحتها:
-لا لا مش هتروح اوعى تمشي والنبي.
استكانت قسمات عيسى للحظات يتأمل ملامحها الخادعة، حتى ترآت له الحقيقة في جوفها، فزمجر فيها حانقًا:
-إنتي بتهرجي؟
هدرت فيه هي الاخرى تتصنع الانفعال بسبب تكذيبه لها، ولم تستطع الجمع بين الوهن والانفعال في نبرة واحدة ففُضحت اكثر:
-بهرج إيه يا عديم الاحساس والمسؤولية بقولك دايخة وأعصابي سايبة!
وبحركة مباغتة غير محسوبة كان عيسى يحملها بين ذراعيه، فتعلقت بعنقه بتلقائية وهي تشهق من المفاجئة:
-إيه ده نزلني.
تحرك بها صوب الغرفة، ثم وضعها على الفراش، وتعمد الاقتراب منها كثيرًا، حتى لطمت أنفاسه وجهها وأتت بنتيجة مثمرة فاهتزت حدقتاها في توتر ملحوظ وهي تبتلع ريقها متساءلة في توجس:
-أنت بتعمل إيه؟
أجابها بهمس خشن بعض الشيء ولم يبتعد ولو إنش، مستغلًا حالة التيه التي تصيبها في قربه:
-مش أعصابك سايبة؟
هزت رأسها نافية مسرعة وهي تغمغم بتلقائية غير مدروسة:
-لا لا مسكت مسكت خلاص.
إتسعت الابتسامة على ثغره وهو يقول بانتصار:
-جدعة خليكي مسكاها بقا لحد ما أرجعلك.
وبالفعل تحرك ولم يمهلها الفرصة لتنطق حرف واحد معترض، فنهضت خلفه تناديه ولكنه كان الأسرع حيث غادر فعليًا وأغلق الباب خلفه، زمجرت كارما بأعصاب إنفلتت تمامًا وضربت على الباب عدة مرات بغيظ حقيقي ينم عن الفشل الذي تشعر به حاليًا..
****
بعد فترة..
استدعت كارما "زياد" و"فيروز" لزيارتها في المنزل خاصةً بعد أن علمت بسفر فيروز القريب، مستغلة غياب عيسى، بل وتعمدت أن تحضرهم كونه يطالبها بالاستئذان حال خروجها متقمصًا دور الزوج المثالي!
اذن هي زوجة ويحق لها دعوة مَن تشاء..
دخل كلاهما للصالون، فأعربت فيروز عن قلقها في حال تصادمهما بعيسى:
-إنتي متأكدة إنه مش هيقول حاجة لو جه ولاقانا هنا؟!
اومأت كارما مؤكدة بثقة:
-طبعًا يابنتي، مفيهاش حاجة يعني متكبريش الموضوع.
أشار لهما زياد متمتمًا بقلة حيلة:
-والله ربنا يستر منكم انتوا الاتنين، لولا إني ماشوفتكمش وقعدت معاكم بقالي كتير، ماكنتش عبرتكم.
أضافت كارما بابتسامة سمجة ساخرة:
-فيك الخير والله يا زيزو.
ومر بعض الوقت وهم يتسامرون، مستمتعين باجتماعهم سويًا الذي لا يحدث كثيرًا مؤخرًا، على عكس وهم صغار، لم يكونوا يتفرقون تقريبًا..
ولكن أعلنت طرقات الباب عن نهاية غير لطيفة لتلك الجلسة المخضبة بالود والمشاعر اللطيفة، تمثلت في مجيء عيسى الذي فتح الباب ودخل ليتفاجئ بوجود زياد مع كارما وحدهما.. وللأسف فيروز ذهبت مؤقتًا لتلبي نداء والدتها...!
تفاجئت كارما من مجيئه، وتفاجئت أكثر من ملابسه المتربة وغير مهندمة على الاطلاق..
قطع الصمت "زياد" الذي نهض من مجلسه يغمغم بشيء من الحرج:
-ازيك يا عيسى؟
اجاب عيسى بحروف مغلقة:
-الحمدلله بخير.
تنحنح زياد متحرجًا وهو يتحرك:
-طب هستأذن أنا بقا لازم أنزل.
تمتمت كارما المرتابة جواره بخفوت:
-تمام.
غادر زياد تاركًا كارما في عرين الأسد الذي شعرته يتجهز للانقضاض عليها، أشار عيسى برأسه نحو الاتجاه الذي غادر منه زياد:
-إيه ده؟
اجابته ببراءة:
-ده زياد.
فصاح فيها مستنكرًا:
-سبحااانه، فكرته كلب معدي في الشارع!
اعترضت مغتاظة:
-متقولش على زياد كلب.
جز على أسنانه ضاغطًا على كل حرف من حروفه كمن يجاهد نفسه كيلا يفترسها:
-استاذ زياد كان بيعمل إيه هنا؟
-بيزورني هو وفيروز، ده أنت بتسأل اسئلة غريبة جدًا !
تشدقت ببرود ظاهري وهي تهز كتفاها معًا، فرفع حاجباه معًا، ثم تحرك متخطيًا اياها ليبدو كأنه يفتش عن شيء أسفل الأريكة والكراسي..
سألته كارما مدهوشة:
-بتعمل إيه؟
أجابها وقد استحوز التهكم صراحةً على حروفه:
-بشوف فيروز يمكن مستخبية تحت الكنبة.
ثم ضاقت رحاب معالمه واحتدت نبرته وهو يهدر فيها غاضبًا:
-قاعدة معاه لوحدك ليييه؟
تلجلجت حروفها قليلًا حين ظهر الوجه الاخر منه:
-قولتلك فيروز كانت معاه بس راحت تشوف مامتها عشان نادت عليها وجايه.
زمجر بانفعال حقيقي:
-على أساس إن فيروز دي محرم يعني! ما برضو اسمكم بنتين قاعدين مع راجل في شقة لوحدكم.
بدأ الغضب يتدفق من نبرتها هي الاخرى وهي تقترب منه قليلًا مضيقة ما بين حاجبيها:
-أنت قصدك إيه!
جذبها من ذراعها بعنف متعمد، ضاغطًا عليه حتى أنَّت بخفوت، واستطرد بحروف شديدة اللهجة:
-قصدي إن مفيش واحدة محترمة تجيب راجل غريب البيت وجوزها مش موجود.
لوت شفتاها ساخرة رغم القلق داخلها والألم في ذراعها:
-اوعى افكر إنك غيران ولا حاجة!
-مش غيران بس مش طالع لي قرون، أنا راجل حر، وأنتي للأسف اسمك مراتي.
إنفجرت حروفه كالشظايا في وجهها مفتتة سخريتها لأشلاء وسُكب عليها حروفه التي كانت تغلي كالمرجل!
غص صوتها وهي تتابع بعناد دون استسلام:
-أنت أصلًا ازاي جاي تحسابني وأنت جاي من جريمة لسه عاملها !!
ترك عيسى ذراعها ببطء متراجعًا، وكأنها باغتته برصاصة الصدمة في منتصف جبهته، فهو لم يتوقع أن تكون قد سمعته، لذلك فعلت ما فعلته لتمنعه من الذهاب!
واستعاد شريط الاحداث السابقة، حيث الشرطة التي إنقضت عليهم وكادت تلقي القبض عليه، ولكنه فلت بإعجوبة.. ضيق عينيه وبدأ الشك يساوره:
-أنتي اللي بلغتي البوليس؟ عشان كده جه فجأة وكان هيقبض علينا ؟!
تلكأت الحروف على عتبة شفتاها بفعل التوتر الذي وقف عائق بينها وبين ثباتها:
-لأ طبعًا، مبلغتش حد.
اقترب منها خطوة وهو يهتف وعينيه تقسو بنظراتها عليها وحروفه ينضح منها الوعيد:
-لو عرفت إنك أنتي اللي بلغتي، صدقيني هتشوفي مني وش تاني مش هيعجبك.
إنتفضت اعماقها بخوف حقيقي حين أشهرت عيناه الدافئة وعيد راعد قاسٍ، ولكنها حاولت التظاهر بالشجاعة والثبات وهي تقول:
-بس على فكرة ربنا لو سترها معاك مرة، مش هيسترها دايمًا، فالمفروض تتعظ بقا وتبطل الشغل المقرف ده.
بثق الرد بعنف في وجهها:
-مايخصكيش! واتعودي ماتتدخليش في اللي مايخصكيش عشان ماتزعليش.
ثم تحرك من أمامها تاركًا إياها تتحرق بمفعول كلماته القاسية عليها..
****
بعد مرور اليومان..
وصلت فيروز مع باقي فريق العمل والذي كان من ضمنهم فارس بالطبع، لأحد الفنادق الشهيرة والكبيرة بأسوان، بعد رحلة طويلة شاقة عليهم بعض الشيء، لذا توجهوا جميعهم نحو غرفهم للاستراحة..
كانت فيروز تتفحص الغرفة التي خُصصت لها بلمعة لحظية من الانبهار، فهي لم تقيم في فندق كهذا سابقًا، ثم توجهت للمرحاض لتأخذ حمام ينعش جسدها المُنهك..
خرجت بعد قليل من المرحاض، ترتدي فستان قصير بعض الشيء عن المستوى المعروف الذي ترتديه دومًا وتخرج به، ودون أكمام ايضًا، وارتمت بجسدها على الفراش وهي تتنهد بارتياح اخيرًا..
ولكن قطع وصلة راحتها التي لم تبدأ بعد، صوت طرقات على الباب واحدى السيدات تهتف بلباقة:
-Hotel service ( خدمة الفندق )
تأففت فيروز في قنوط، ثم أجابت على مضض:
-ثواني.
ونهضت لترتدي "الروب الطويل" الذي خصصته لترتدي على أي شيء غير مناسب، وحين فتحت الباب كانت الاخرى قد توجهت صوب احدى الغرف مستغلة الوقت الذي استغرقته فيروز لتفتح، وقبل أن تغلق فيروز باب الغرفة مرة اخرى كان احد الرجال الاجانب النازلين في الفندق، يقترب منها قائلًا بالبرتغالية بابتسامة مهتزة أعلمتها أنه ثمل وبغير وعيه:
-مرحبًا.
تراجعت خطوات ملحوظة وهي تسأله بصوت محتد بالانجليزية:
-مَن أنت؟
اقترب منها خطوة اخرى يرغمها على التراجع داخل الغرفة، ومد يده ينوي مداعبة وجهها لولا أنها أبعدته مسرعة:
-لما الغضب يا جميلة؟
كانت خطواته ملجلجة كحروفه والسُكر يفوح منها، بدأ القلق يطرق أبواب قلب "فيروز" التي صاحت فيه:
-من فضلك غادر غرفتي.
وكأن الغضب عدوى إنتقلت له ونشبت بحروفه وهو يزمجر هو الاخر:
-بل هذه غرفتي أنا.
لم تفهم فيروز ما يقول لأنها لا تعلم اللغة التي يتحدثها والتي لم تكن انجليزية، ولكنها حاولت دفعه للخارج، فسبقها هو حين دفعها للداخل متلمسًا ذراعيها، حينها إنفجرت نواقيس الرعب داخلها، فهي تتعرض للتحرش لأول مرة..
وبدأت اصواتهم تعلو، فأول مَن استجاب لنداء استغاثتها غير المعلنة، كان "فارس" الذي هب صوب غرفتها متسائلًا عن صوت النزاع الدائر فيها، وجد ذلك الرجل مقترب من فيروز كثيرًا التي كانت يبدو عليها الغضب والرعب معًا، فجذبه نحوه مسرعًا وهو يصيح بالعربية بتلقائية متقلقًا:
-في إيه؟
وأول ما وقعت عيناه عليه هو الروب المفتوح بسبب الشد والجذب بين الرجل لفيروز، وجسدها الذي برز نوعًا ما من أسفله، سارقًا نظرات فارس رغمًا عنه، منيرًا فيها لمعة إعجاب غريزية، فهذه المرة الأولى التي يرى بها قدميها العاريتين وملابس محددة لجسدها نوعًا ما..
حمحم وهو يعير انتباهه مرة اخرى لذلك الرجل الذي عاد يكرر بالبرتغالية وكأنه لا يفقه سوى تلك الجملة:
-هذه غرفتي أنا.
فهم فارس جملته لأنه يعلم البرتغالية قليلًا، فتخطاه بلحظة جاذبًا برقة من ذراعيها فيروز التي استشف أنها على مشارف البكاء والانهيار، وأدخلها غرفته المجاورة لغرفتها، ثم أغلق الباب عليها، وعاد لذلك الرجل ولكن لم يكن وحده إذ تجمع العاملين بالفندق بالطبع..
واخيرًا استطاعوا فض الشجار بعد أن عنف فارس الرجل بالطبع، تقدم منه احد العاملين في الفندق يغمغم برسمية:
-بنعتذرلك لحضرتك جدًا يا فارس بيه على اللي حصل، وبنأكد لحضرتك إنه مش هيتكرر.
-أتمنى.
قالها فارس بضيق وهو يتخطاه متجهًا لغرفته التي بها فيروز، والتي كانت جالسة على الفراش، تضع وجهها بين يديها ويبدو أنها تبكي، اقترب منها بتلقائية جالسًا على ركبتيه أمامها، ثم أمسك يديها يبعدهما عن وجهها برفق، متمتمًا بنعومة وحنو:
-اهدي متعيطيش.
ردت باكية رغمًا عنها لأول مرة أمامه، ومس بكاءها شغاف قلبه دون سيطرة منه:
-اهدى ازاي ده واحد كان بيتحرش بيا.
-انتي فاهمة غلط.
هزت رأسها نافية بإصرار تخبره:
-لا كان بيشدني وكان بيتحرش بيا.
بدا يحاول تهدئتها وهو يتابع:
-لا ده كان بيقولك إنها اوضته وباين عليه سكران، خلاص بقا اهدي، في برتقانة عيوطة كده؟
قال اخر كلماته مشاكسًا وهو يطالع وجهها الذي صار محتنقًا، فكفكفت دموعها واعتدلت في جلستها، غافلة عن الروب الذي لم تغلقه في غفوة ما حدث..
هبطت عينا فارس تلقائيًا، وثارت عاطفة غريبة عليه في أوردته، إنتبهت فيروز لنظراته فهبت منتصبة تجذب الروب لجسدها لتغلقه، ولكن حين تحركت بعزم مفاجئ تلعثمت في خطواتها وكادت تقع لولا فارس الذي لحق بها مسرعًا فصارت بين ذراعيه..
أحس بجريان العاطفة الحارة التي إندفعت تغزوه وهو يشعر بجسدها الغض بين ذراعيه، وعيناه تسبر أغوار فيروزتيها الرائعتين، ووجهها الذي يحمل لون الخجل والذي يحيط به خصلاتها البرتقالية المُبللة... كل هذا كان أكثر من المحتمل على قلبه الذي يتخبط الان بين ضلوعه، ورغبة خبيثة تلح عليه تلك اللحظة ليُقبلها... قبلة تاقت كل خلاياه لها في تلك الاثناء، فضغطت رغمًا عنه على خصر فيروز يحاول مقاومة ذلك الطوفان المُهلك للعاطفة، فلو استمر الوضع هكذا لن يضمن نفسه وسيلبي رغمًا مقتطفًا بتلات الورود في شفتاها وليذهب اعتباره للجحيم!
وكأن ضغطته الصغيرة أيقظت فيروز من سكرة المشاعر التي غمرتها للمرة الاولى في قربه، فابتعدت عنه مسرعة.. تنحنح فارس بخشونة يستعيد ثباته، ثم تشدق:
-عاوزين يتكلموا معاكي في الريسبشن تحت لو تحبي ننزل.
هزت رأسها موافقة فغادر مسرعًا من امامها تاركًا اياها تتنفس بصوت مسموع..
بعد قليل كانت قد هدأت تمامًا، وارتدت ملابسها، وخرجت من غرفتها لتجد فارس هو الاخر قد تجهز، قابلها بابتسامة رقيقة اعتيادية منه، ثم سار امامها نحو المصعد وسارت هي خلفه شاردة.. حتى ركبا معًا المصعد..
مرت ثوانٍ ثم هبط الادراك على عقل فارس الذي تصنم مكانه وهو يتذكر أنها من المفترض أنها لديها فوبيا من الأماكن المغلقة، مدققًا النظر في ثباتها وهدوئها ثم تجهمت ملامحه