فتاة لا معنى لها
وأخيرا تستيقظ بين ذراعيه، لم تتحرك وهي تستمتع بملامحه القريبة والهادئة، أنفاسه منتظمة ودقات قلبه تحت أذنيها، رفعت يدها لوجنته وتحسست شعرات ذقنه الطويلة وشعرت بسعادة لأنه بجوارها ولم يرحل كالأمس، كانت السابعة والجميل أن مازن نال ليلة هادئة ولم يوقظها
ظلت يدها على وجهه وأنفاسه تضربها وعيونها تحفظ ملامحه حتى فتح عيونه ورآها تبتسم له وهي تقول "صباح الخير"
رفع يده ليدها التي على وجنته وقربها لفمه وقبل راحتها وقال "صباح النور، لماذا استيقظتِ مبكرا؟ هل مازن استيقظ؟"
ظلت يده على يدها وذراعه الأخرى حولها وهي تقول "لا، هل أنت بخير؟"
طل ينظر لها، بكل مرة تسأل ذلك السؤال يكون هناك شيء وكأنها تشعر به، يده تخللت خصلات شعرها وهو يرفع وجهها له وقال "فقط اشتقت لكِ"
ومن قبلتهم أدركت ما سيلي ذلك وهي لم تمانع بل جعلته يشعر أنها حقا سعيدة بما بينهم وهو بالفعل أدرك ذلك
عندما خرج من الحمام لم يجدها وتوقع أنها مع مازن، هاتف ضي فأجابت وعرف منها بتحسن والدتهم ومع ذلك لم يطمئن، ارتدى ملابسه وتحرك للأسفل حيث وجدها مع أم حسن تعد الإفطار
تحرك لمازن الذي طوح ذراعيه بالهواء ضاحكا عندما رآه، ابتسم لابنه وطبع قبلة على وجنته وهو يقول "كيف حالك يا بطل؟"
التفتت له وقد بدت متوردة وشعرها الفوضوي يحيط بوجهها، القميص الزهري مربوط من الأمام يظهر جزء من معدتها، الجينز كان محكم على ساقيها، لو لم يكن راحل لوالدته لأعادها لفراشه بالحال
ابتسمت وهو يقول "صباح الخير أم حسن"
يده لمست خصرها العاري فابتسمت وأم حسن تجيب بينما سألته "ألن تتناول الإفطار"
لم ينظر بعيونها وقال "لا وقت، لابد أن أذهب"
تحرك فتبعته وهي تقول "عامر"
توقف أمام الباب وهو يدرك أن لديها الكثير لتسأل عنه، هو لا يفضل الحديث عن أي شيء الآن وبالأعلى فر منها لكن هي لا تقبل بذلك
توقفت أمامه وقالت "ألن تخبرني ما سبب رحيلك فجأة بالأمس وعدم ردك على اتصالاتي؟"
أبعد وجهه لحظة قبل أن يعود لعيونها الحائرة وقال "أنتِ تعلمين ظروف العمل ليل، بالنهاية كنت هنا عندما انتهيت"
قالت بعد وهلة "لماذا أشعر أنك تخفي عني شيء؟ أنت تتعمد وضع الحدود"
ظل يحدق بها وقلبه يعود للألم بسبب ما يحدث قبل أن يجيب "لا سبب يدعوكِ لذلك الشعور ولا توجد حدود بيننا ليل"
قالت بتردد "ولا حتى تلك الأقاويل عنا بالميديا؟"
الصمت لفه وقد نسي الأمر منذ الأمس وظن أن غيابه محى ما كان ولكنه هنا، هي موجودة، ولا تفوت شيء، وضع يده بجيبه وواجه نظراتها وقال "كان متوقع صغيرتي، نحن كنا أمام الجميع"
لم تتبدل ملامحها وقالت "أنت لم تمنح أي رد"
رفع حاجبه وقال بجدية واضحة "ولماذا أفعل؟"
تراجعت والدهشة تبدو واضحة بعيونها وقالت "لأنهم يتحدثون عنا، عني عامر وأني فتاة تحاول جذب الملياردير بأمواله من الكهف لها، أنا أبدو كالساعية وراء الأموال"
أحنى رأسه وقال "ولو أجبت سيغير هذا من شيء؟"
الغضب بدأ يحل محل الدهشة وهي ترد "هذا يتوقف على ردك عامر"
كانت ينتظر المغزى وراء كلماتها الغاضبة ولم يكن لديه نية بالوصول لأي ترضية الآن فقال "بمعنى؟"
لم تخفى عليه عصبيتها الواضحة وهي ترد "بمعنى أنك قد تخبرهم أني لا ألاحقك وأني لم أسعى يوما لأموالك أم تعجبك اللعبة وستتركهم يلهون على حساب كرامتي؟"
أدرك أن الأمور تتسع وما تريده لا يمكنه منحه لها الآن لذا تمهل قبل أن يقول "أنا لدي فكرة أفضل، أن تفكري بي أنا وأني واثق من أنكِ لستِ تلك الفتاة بل ولديكِ الآن رصيد باسمك بالبنك بعد المزاد الذي تم ولستِ بحاجة لمطاردتي أليس هذا أفضل؟"
الصمت لفها وهي تردد "رصيد؟ أنا لدي رصيد؟ هل وضعت أموال باسمي كي.."
لم يبعد وجهه عنها وقاطعها بهدوء "أنا لم أفعل أي شيء من ذلك، المديونية كانت خمسة مليون وأنا اشتريت بسبعة خمسة ذهبت للبنك والاثنان حقك، أنتِ كنتِ المالك الرسمي للمجموعة"
كانت تنظر له بذهول وهو أكمل "لو استمروا بالبحث سيصلون إلى أنكِ ابنة زوجة الألفي وباقي القصة وهذا يعني أن أنتِ لستِ من طاردني وإنما أنا من فعلت هل هذا يشعرك بالتحسن؟"
كيف فعل ذلك؟ كيف قلب كل شيء لصالحها؟ لا بل لصالحه؟ لا، هي لا تفهم ماذا يحدث، رفع يده لوجنتها وقال "لا تهتمي كثيرا بالميديا والصحافة ليل لأن طريقهم ليس سوي ومليء بالأشواك التي تجعلكِ لا تشعري بأي راحة بحياتك"
ثم التفت ليذهب وهي لا تجد كلمات ترد بها، هو ألقى كلماته بوجهها وجعلها تتوه عما كانت تريد، هو لم يجعل الصورة أفضل، فقط بدلها بأخرى وبالنهاية لا زواج ولا ابن ولا أي شيء بالنسبة له
سقطت دموعها بلا رغبة منها فمسحتها وهي ما زالت تحاول أن تجد أفكار أفضل لما تعانيه ولكن الضياع هو النتيجة التي وصلت لها..
والدته كانت أفضل بالفعل وابتسمت عندما قبل وجنتها وقالت "كان لابد أن أمرض كي أراك يومين متتاليين حبيبي"
جلس أمامها وبالفعل السفر من مصر للإسكندرية كان مرهق ولكن من أجل والدته لا شيء صعب، قال "ألف سلامة عليكِ ماما، أنا موجود فقط اطلبيني وسأكون عندك بالحال تعلمين ذلك"
شحوب وجهها لم يرحل وقالت "أعلم كما أعلم أنك لا تحب التواجد هنا أنت تأتي من القاهرة حبيبي لذا لا أريد إجبارك على شيء"
أبعد وجهه لإثارة الموضوع الذي لا يحبه ولم يرد فقالت "ماذا عن تلك الفتاة؟ ضي تقول أنها جميلة، هل تفكر بها جديا؟ من أسرة جيدة؟"
التفت لها وأدرك أن الوقت حان ولكنه وجد نفسه يقول "كان عشاء ماما لا تجعلي منه شيء"
لم تمنحه ملامحها أي شيء ولكنها قالت "ظننت أن لديك جديد"
نهض واقفا وقال مبعدا عيونه عنها "الجديد سيكون بين يديكِ عندما يتوفر"
دق الباب ودخلت نور وقالت بمرح "أخي الكبير إنها لسعادة رؤيتك اليوم"
انحنى وقبل أخته وقال "ورؤيتك نور، كيف العمل؟"
تحركت لوالدتها وقبلتها وجلست بجوارها وقالت "العمل هو العمل أخي وأنت أكثر من يدرك ذلك بالمناسبة ألا عمل لك اليوم؟"
هز رأسه وأدرك أن عليه الذهاب قبل أن تتطور الأمور فقال "أنتِ باقية؟"
قالت بمرح "أجازة رسمية من مدير المشفى شخصيا وجاسم وحمزة بالطريق، لا داعي لوجودك"
لم يعارض وهو يقبل والدته وأخته ثم يرحل بهدوء والأفكار تضربه والألم ينشر صدره ويؤنب عقله على أفعاله الخاطئة
لم يتأخر كثيرا بالعمل وقد كان عقله غير صافي وربما مرهق، كان يريد العودة للبيت، لها، لم يفكر بأن يكون بعيدا مرة أخرى وحتى لو كان كما قال فاقد السيطرة إلا أن ذلك لم يعد يضايقه بل أراد أن يضيع فيها وينسى كل شيء
كانت تجلس على الأرض بجوار مازن الذي كان يجاهد باللعب ولم تشعر به عندما دخل وتوقف وهو يتابعها مع طفله، كان مندهش للأمر بل سعيد بوجودهم معه بوجود ناس يعلم أنهم ينتظرونه بالبيت وتجمعه معهم أصبح كل ما يريده
تحرك مقتربا فانتبهت له ورفعت وجهها له، أرادت تناسي ما كان بالنهار معه، كانت تشعر أنها هي من تريد الكثير مما لا يمكنها الحصول عليه أو ربما عليها أن تكتفي بأنه اعترف بابنه وهو لم يتخلى عنهم بل جعلهم هنا معه تحت رعايته وعليها تقبل الوضع من أجل طفلها على الأقل يحظى بأب يمنحه الحنان والأمان ولا يهم ما دون ذلك، هو طلب بأن يبدأ من جديد كما وأنها تريده هو، وجودها معه للأبد فقلبها يأبى فراقه وربما لن تتحمل تركه مرة أخرى
صوته جعلها تدرك أنها كانت شاردة "هل أنتِ بخير ليل؟"
انتبهت له وقالت دون أن تنهض "ماذا؟ آه، نعم بخير، لم أظن أنك ستعود مبكرا"
الطفل ظل يلوح بيده لوالده فقطع عليهم التساؤلات والنظرات فانحنى وحمل مازن وهو يبتسم له بحنان وقال "مرحبا يا بطل كيف حالك اليوم؟"
نهضت هي الأخرى وظلت تتأمله وهو يداعب الطفل وسأله "يبدو أنك أزعجت ماما اليوم فهي تبدو متعبة"
ظلت واقفة مكانها فاقترب منها وهو يرى نظراتها الضائعة وتذكر حديثهم بالصباح ما زالت تنتظر أن يعلن زواجهم وهو أراد ذلك لكن مرض والدته جعله يتراجع لن يسبب لوالدته أي مشاكل نفسية على الأقل حتى تجتاز الأزمة
تداركت نفسها ورفعت خصلاتها خلف أذنها ولم تنظر له وهي تقول "لا، لقد نام كثيرا وحصل على حمام رائع وطويل وأم حسن لعبت معه كثيرا حتى تعبت وطلبت منها أن تذهب لتنام، هل تناولت أي طعام؟"
قال "لا، أنا جائع بالفعل"
قالت باهتمام "سأضعه بالفراش وأعود"
ظل يحمل الطفل وقال "بل سأضعه أنا في الفراش حتى تعدي العشاء"
لم تعترض وتركته يصعد وتحركت للمطبخ، أم حسن أعدت وجبات جاهزة فقط تحتاج للتسخين، الحياة هنا منحتها الراحة بعد المعاناة التي عاشتها كثيرا، زواجها من رجل مثل عامر منحها مميزات كثيرة ولكن من داخلها لم تكن تريد كل ذلك هي فقط تريد النور لا العتمة
وضعت الطعام بالميكروويف وقطعت بعض السلطة والتفتت لتحضر الطبق لتسقط بين ذراعيه فتصرخ من الفزع ولكن قبلته أوقفت صرختها وهو يهيمن على فمها
لان جسدها بين ذراعيه وشعرت بقلبها ينتفض داخل صدرها وهي تترك يدها على صدره الذي سكن تحت تي شيرت خفيف
أبعدها لالتقاط الأنفاس وقال "اشتقت لكِ ليل، أشتاق لكِ بمجرد خروجك من بين ذراعي"
لم تنظر له وهي تلتقط أنفاسها ووجههم متقارب وقالت "لو تركت الأمر لي ما جعلتك تخرج من البيت"
أعلن الفرن عن انتهاء التسخين بصافرة مزعجة فأفلتها وهي تقول "أم حسن أصرت على صنع تلك الوجبات"
جلس على المقعد ووضعت الأطباق أمامه وهو يرد "ربما نحصل على مربية بنهاية الاسبوع"
رفعت وجهها له وقالت "لا أحتاج لها، ليس لدي ما يشغلني عنه وأم حسن تساعدني ومازن ليس طفل مزعج"
هز رأسه ولم يعترض وجلست أمامه تتناول الطعام والصمت لفهم بدون سبب، لا بل هناك سبب وكلاهم يدركه ولكن يفر منه
كان عليه قطع الصمت الثقيل فقال "سنذهب بالصباح لطبيب أطفال لفحص مازن وليكون هو طبيبه المختص ما رأيك؟"
لم تنظر له وقالت "كما تشاء، أنا أعلم أنه بخير لكن لا ضرر من زيادة الاطمئنان"
انتهت ونهضت بالأطباق خاصتها والتفتت لتراه مرة أخرى خلفها ولكنها لم تفزع وهي تلتقي بعيونه وهو يقول "سأقتبس منكِ السؤال، ماذا بكِ؟"
ظلت تنظر له وهي تراه رجل مختلف بملابس البيت وهو وسيم بكل حالاته ولا يفقد جاذبيته بأي وقت، لم تترك عيونه وقالت "ماذا بي؟"
من داخلها الأسئلة وقفت على أبواب لسانها ولكن قلبها منعهم من الخروج، لم تشأ فقدان كل ذلك والأهم فقدانه هو، لم يعد لها سواه، الأموال التي تحدث عنها لم تعني لها أي شيء كل ما تمنته هو تلك الحياة هو ومازن فقط..
أصابعه رحلت لوجنتها وإبهامه يرسم دوائر حول فمها وقال برقة "غاضبة مني؟"
عيونه كانت حارة تطلق لهيب يحرق بشرتها، أنفاسه القريبة كانت تسكرها برائحتها العطرة، لمسة يده على وجهها تخدرها توقفها عن الوعي، لم تعد تريد سواه وهي تدرك أنها تسقط فريسة له وسطوته تهيمن عليها وتمحو أي شيء من ذهنها فلا يبقى سواه
ببطء هزت رأسها بالرفض فلم يضيع وقت وهو يأخذ شفتيها ويقبلها ببطء ورقة حتى لف ذراعه حولها وجذبها له فأحاطته بذراعيها وهو يخترق شعرها بيده وتحول للقوة وتلك الرغبة تزداد داخله، تلك الحالة البدائية التي تلتصق به عندما يكون معها، جسده الذي يريدها بقوة، أنفاسه التي تضيع معها عقله الذي يختفي بمجرد أن تكون بين ذراعيه ولكنه لم يعد يهتم ولا يفكر وليذهب كل شيء لجهنم طالما هي معه
الليل كان طويل لهم، فقط مازن هو ما كان يجعلها تخرج من الفراش لإطعامه لتعود له مرة أخرى لم يتحدثا كثيرا وكأن الصمت كان لغتهم الأولى
انتهت من إطعام مازن وقد أوشك الفجر على الظهور وكانت تندهش من أن زوجها لا ينام ولا يكتفي منها، عادت غرفتهم فوجدته يقف أمام النافذة يتناول زجاجة بيرة وهي طبعا تعرف أنها مشروبه المفضل وهو لم يتحدث عنه حتى، هي فقط استنتجت
تحركت تجاهه حتى وقفت أمامه فنظر لها وشعرها المبعثر يحيط بوجهها، عيونها ناعسة ومثيرة، شفاهها تعلن عن قبلاته، ابتسم وقال "هل نام؟"
أجابت "نعم، لماذا البيرة؟"
لف وجهه للنافذة وقال "رفيق دويدار اعتاد على تناول كل أنواع النبيذ والويسكي وما سواها وعندما بدأنا نعي ما حولنا كان على هدى أمي اتخاذ الحل الأفضل وهو البيرة بدلا من كل ما كان يجلبه وقد وافق على ذلك وبالطبع لم نكن لنتناولها أمامها لكن هي تعرف أننا نفعل بالخارج"
قالت بتساؤل ربما يفتح لها الأبواب "نفعل هذه تعني أنت وإخوتك؟"
التفت لها وقال وعيونه تواجه عيونها "أنا وحمزة وساهر وجاسم، آل دويدار بالإضافة لنور وضي"
لأول مرة يذكرهم فشعرت براحة من أنه فتح لها الأبواب فقالت "عرفت أنكم مترابطين بمجموعتكم الاستثمارية"
سقطت عيونه عليها وهو يدرك أن عليه إخبارها بالكثير مما لا تعرفه عنه، ألم تفعل هي؟
تناول البيرة وتحرك للمائدة وترك الزجاجة ولم ينظر لها وهو يقول "نعم نحن كذلك، كان علينا أن نفعل، عندما تركت البيت لم أظن أنهم سيتبعونني وعندما اكتشفت ما فعلوا كان لابد أن أجمعهم، كلا منهم كان له حلم بالحياة جمعنا أحلامنا بالشركة الخاصة بنا برأس مال مما جمعناه على مدار سنواتنا السابقة حتى نشأت المجموعة وازدهرت"
تحركت وهو جلس على الأريكة فتبعته وجلست أمامه وقالت "ليس لدينا هنا تقليد الاستقلال عن الأسرة"
هز رأسه وهو ينظر للفراغ أمامه وقال "لا، هو ليس تقليد هو اعتراض على وضع لم يمكنني قبوله، لأصدقك القول هو أمر ليس بجيد وجود العائلة معا مترابطين هو أمر لا يمكن الاستغناء عنه ولا أنكر أني افتقدته بشدة لكن بالنهاية تأقلمت"
صمت وترددت قبل أن تسأل وفتحت فمها لتفعل لكنه أكمل "ولكني لم أظن أن إخوتي سيتبعون خطاي كما أخبرتك ولكنهم فعلوا، البداية كانت عندما كنت بالثانية أو الثالثة والعشرين كنت أشغل منصب هام بمجموعة دويدار هو منحني ذلك منذ الصغر، أراد أن يكون ابنه الكبير هو كل شيء من بعده، كان يقول أني أملك موهبة بالعمل لا تتوفر لدى الكثيرين ولكني لم أصدقه، العمل أخذ مني الكثير لأني لم أملك سواه كلا من إخوتي بذلك الوقت كانوا ما بين عمل ودراسة وتجنيد، كنت لا أهتم سوى بالعمل دويدار صنع مني آلة كما أخبرتك، آلة لا تتوقف عن العمل كي أتعلم كل شيء بأقصر وقت وقد كان لأني كما كان يقول لدي ملكة بذلك أو موهبة خاصة بالتفاوض والنقاش، لم أخسر واحدة أبدا، حتى سقطت بيدي أوراق وضعها لي أحدهم لأعرف الحقيقة"
نطقت مرددة "حقيقة؟ أي حقيقة؟"
لف وجهه لها وقال "رفيق دويدار رجل الاستثمارات الأول ورجل الخير الشهير ما هو إلا تاجر آثار"
رفعت يدها على فمها لتوقف صرخة دهشة وأبعد هو وجهه وملامحه جامدة وأكمل "بالبداية لم أصدق، مثلي الأعلى ينهار لذا بحثت كثيرا حتى عرفت أنها الحقيقة، هو تاجر آثار كبير يهربها خارج مصر ويكسب بلايين من وراء ذلك غير ما يدهسه بطريقه لتحقيق ذلك، ثرت وغضبت ولكنه كان كالجبل الصلب لا يهتز، لا شيء يمكن إثباته عليه، حتى الشرطة لا تستطيع أن تفعل ولكني لم أكن لأقبل البقاء معه تحت سقف واحد ومشاركته أمواله الملوثة، ساهر كان يستمع للجدال وبالطبع أبلغ إخوتي وعندما رحلت كانوا خلفي"
ترددت قبل أن تقول "ووالدتك؟"
نظر لها ورقت نظراته عند ذكرها وقال "هي الجذر الذي يربطنا سويا هي الشريان الرئيسي بحياة كلا منا، نحن نحافظ على علاقتنا به من أجلها، لا أحد منا يجرؤ على إغضابها أو رفض أي طلب لها"
ابتسمت وشعرت بالفضول لرؤية تلك المرأة التي أنشأت هؤلاء الرجال بتلك الطريقة حتى أنهم نبذوا أموال والدهم بلا اهتمام
قالت بهدوء "هي امرأة عظيمة بالتأكيد"
أبعد وجهه عنها وهو يذكر والدته وقال "هي لا ترى ذلك بل تشعر أنها فشلت معنا لأننا لم نعد نجتمع حولها كما كنا"
أدركت مشاعر المرأة وتعاطفت معها وقالت "هي فقط حزينة لأنكم بعيدا عنها، ألم تفكر بالعودة والاستقلال داخل البيت؟"
رفع خصلاته للخلف وقال "هذا أمر انتهى منذ القدم أكثر من ثلاثة أو أربعة عشر سنوات بعيدا عن البيت كافية لعدم التفكير بالعودة"
تأملت أصابعها للحظة قبل أن تقول "وبيتك الآخر؟"
ضاقت عيونه وهو يعود لها ولكنها لم تكن تنظر له وظل يفكر لحظة حتى قال "ماذا عنه؟"
رفعت وجهها له وقالت "ألا يتساءلون عن عدم وجودك به حاليا؟"
تذكر أن أخته سألته بالفعل عن ذلك وهو فر من الإجابة، ظل يواجها قبل أن يقول "لا لأن الهاتف يفي بالغرض"
هو يعلم الغرض من السؤال فاعتدل وانحنى للأمام وقال "كنت أخطط لأشياء كثيرة بالأيام الحالية ليل ولكن هناك أمور استجدت جعلتني أبدل الخطط"
قالت بتساؤل "أمور؟ أي أمور؟"
كيف يخبرها أن أمر زواجهم قد يؤثر على صحة والدته المريضة؟ كيف ستفسر هي ذلك وهي تضع برأسها تلك الأفكار عن الفقر وعدم رغبته بها من أجل العائلة وتلك الأمور التافهة؟
نهض وقال "أشعر بصداع، هل ننام؟"
ظلت تنظر له وأدركت أنه لا يرغب بالمزيد عن أسرته أو عنهم ولم يكن لديها ما تقوله أو تفعله، هي ليس لديها الخبرة الكافية للتعامل مع مثل تلك الأمور، ليس مع رجل مثله لا يخسر أي نقاش بل هي ليست مستعدة بعد لتخسر تلك الأسرة التي نشأت منذ أيام قليلة، مازن سعيد بوالده والثنائي يمثلان شيئا رائعا معا وهو ما لا ترغب بضياعه منها
نهضت وقالت "نعم"
تقدمت وتبعها للفراش ولم يكن هناك ما يقال عندما تمددت وجذبها لأحضانه واستسلم كلاهم للنوم
بالعاشرة كانا يتحركان تجاه المبنى الجديد الذي يقع به المركز الطبي الذي ستجري به الفحوص، قبل أن يخطو للداخل رن هاتفه فتوقف وأخرجه ثم التفت لها وقال
"هل تدخلين وتبلغين عن وجودنا حتى أنتهي؟"
كانت تحمل مازن على حمالة الصدر والطفل سعيد بما حوله فابتسمت وتحركت للداخل حيث موظفة الاستقبال وقالت "صباح الخير لدي حجز باسم مازن عامر"
راجعت الفتاة الاسم على شاشة الجهاز ثم قالت "نعم مدام قسم الأطفال بالدور الأول، المصعد من هناك"
وأشارت لها فتحركت تبعا لإشارتها وركبت المصعد للدور الأول حيث وجدت المكان المخصص وممرضة تقف خلف مكتب كبير محاط بالزجاج وجهاز آخر أمامها فتحركت لها وقالت
"لدي حجز باسم مازن عامر"
راجعت الفتاة الجهاز وقالت "نعم، الحجز برقم أربعة وما زالت الحالة الأولى بالداخل"
منحتها ورقة وتحركت تبحث عن مكان للانتظار ولم تجد سوى مقعد بعيد بجوار باب غرفة فجلست وما هي لحظات حتى انفتح الباب الجانبي وجاء صوت أنثوي لها، لم تهتم بالحديث لكن اسم يشبه اسم زوجها لفت انتباهها
"أخي عامر لم يذهب اليوم لذا لابد أن أعود أنا"
هناك الآلاف وربما أكثر باسم عامر فلماذا تهتم؟ داعبت مازن الذي لم يعجبه الجلوس ورغب بالحركة ولكن المرأة الثانية قالت "أنا لا أصدق أن أخيك ترك عمله ليتواجد معكم يومان هي ليست عادته"
عاد اهتمامها بالحديث والأولى تقول "نعم ولكن ماما تعني له الحياة والحمد لله لقد تحسنت حالتها بالفعل وضي لا تفارقها وها أنا اليوم لم أذهب المشفى فقط كان عليّ المرور من أجل العينة ولو عرف أني بالقاهرة ولم أهاتفه سيغضب"
اسم ضي جعلها تنتبه، هي تذكر اسم أخته ضي، قالت الأولى "أكاد أسقط فاقدة للوعي من الإعجاب عندما أرى أخيكِ، لن تتخيلي كم كنت حاقدة على تلك الفتاة التي كانت معه بالصورة منذ يومين، حقا هل هناك شيء بينهم؟"
جف حلقها وتحجرت عيونها على الفراغ ولم تجرؤ على النظر لهما حتى ضربات مازن بيده الصغيرة على وجهها لم تجعلها تعود لطبيعتها، هي بالفعل تتحدث عنهما هي أخت عامر، نور وهي هنا بجوارها ولا يمكن أن تتحدث معها وتخبرها أنها زوجة أخيها وذلك ابنه
قالت نور "لا، هو أخبر ماما أنه مجرد عشاء وهي مجرد فتاة عادية ولو كان هناك شيء جاد لأخبرها، ماما كانت تأمل أنه ربما وجد المرأة التي تخرجه من وحدته ولكنه جعلها تشعر أن تلك الفتاة لا معنى لها بحياته"
سقطت دموعها دون أن تحرك حتى رموشها، هكذا هي بالنسبة له، فتاة لا معنى لها، فراش يعود له وقت الرغبة، ابن سيرثه بالمستقبل، غير ذلك أو ربما لا وهي لا شيء بالنسبة له
الفصل الثاني عشر
خطأ
عادت للواقع من حولها بصوت الفتاة الذي جعلها تبعد وجهها وتوقف أفكارها وتمسح دموعها ونور تقول "لابد أن أذهب بلغي دكتور يحيى شكري الخاص، إلى اللقاء"
ما أن خرجت نور حتى عادت تتابعها بعيونها كانت بجسد جميل حقا وشعر طويل أسود وترتدي بدلة أنيقة زرقاء وتحركت برشاقة للمصعد وما أن دخلت حتى انفتح باب المصعد الآخر وخرج عامر منه، مسحت دموعها وعادت لمازن الذي بدأ يتذمر من عدم اهتمامها وسمعت صوت عامر يقول
"ماذا هناك؟ لماذا يبدو غاضبا؟ هل هو جائع؟"
من أين تأتي بالشجاعة لمواجهته بما سمعته؟ هل هنا هو المكان المناسب؟ وماذا لو واجهته فيما بعد ماذا سيكون الرد؟
تماسكت ويبدو أنه لم يلاحظ دموعها الجافة وقالت "هو لا يعجبه الانتظار"
خرجت فتاة من الغرفة المواجهة وقالت "مازن عامر؟"
انتبهوا للاسم فنهضت وتبعها هو لداخل الغرفة وصفت ذهنها لما يحدث لطفلها وكلمات وتوصيات الطبيب الذي أبدى ارتياحه لصحة الطفل ولم يجد به ما يقلق
عندما خرجا للسيارة كانت تريد إخباره بما سمعت ومرض والدته وأنه لم يخبرها وكل شيء ولكن هاتفه عاد للرنين ومع ذلك تولى وضع مازن بمقعد السيارة الخاص به بالخلف والذي اشتراه مخصوص له وربط حزام الأمان ثم ركب بجوارها وقاد وهو يجيب الهاتف وبدا مشغول حتى وصلا البيت وقد انتهى تقريبا فقالت
"لن تأتي؟"
عبث بالهاتف باهتمام وقال "لا ليل لابد أن أعود المكتب كما تسمعين هناك مشكلة ولابد أن أتواجد وربما أسافر السخنة لذا لا تنتظرين عودتي بالمساء"
لفت رأسها له وفتحت فمها لتتحدث ولكنها أغلقته مرة أخرى وعيونه تواجها بهدوء وهو لا يعلم أنها تحترق داخليا مما سمعت وتمنت لو تحدثت معه ولكن لا شيء مما أرادت كان
هزت رأسها وقالت "حسنا"
التفتت لتنزل ولكنه أمسك يدها ليوقفها فنظرت له فقال "ماذا بكِ؟ منذ كنا بالمركز وأنا أرى أنكِ لستِ بخير والصمت يلفك هل حدث شيء أم متعبة أم ماذا؟"
لم يكن هناك مجال للحديث لذا قالت "لا شيء، أنا فقط أرى انشغالك ولا أريد تأخيرك"
وأفلتت يدها منه ونزلت، أخذت مازن النائم من مقعده ولم تتحدث وهو يتبعها بنظراته ويشعر بتغيير بها ولكنها لا تتحدث وهو يحمل هموم كافية ولا يريد زيادتها
كان عليها اتخاذ القرار وجودها بحياته أصبح نهائي ولكن بالسر، ما الاختلاف بينها وبين الأفلام التي تراها بالسينما، كم من زيجات تتم بالسر فما الذي ستختلف فيه؟
ربما كانت تظن أنها تمثل له أكثر من مجرد رغبة لكن من الواضح أن الأمر لم يتخطى ذلك لابد أن تتعايش مع تلك الحقيقة، وقد يأتي يوم ويعيد الكرة عندما تنتهي رغبته، لا، هو يريدها كزوجة ألم يصر على إعادتهم معه هنا وتولى أمرهم بنفسه؟ هو يريدها زوجة ويرغب بابنه حتى لو كان هذا مبرر من قلبها لأنها تحبه ولأن هذا هو السبب في أنها تقبل تلك الحياة وستظل دائما تتذرع له الأسباب إذن لتتحمل نتيجة حبها وقلبها..
ما أن دخل مكتبه حتى تبعته السكرتيرة الخاصة وقالت "السخنة تحتاج لاهتمامك لأن المهندس ساهر غير موجود"
هز رأسه وقال "نعم أعلم، ربما أنتهي من الاجتماع الحالي وسأرحل لهناك"
الاجتماع استهلكه بالفعل حتى انتهى ونزل طالبا السائق الذي قاد به فهاتفها حتى أجابت فقال "نائمة؟"
كانت قد انتهت من حمام مازن فقالت "لا، كان حمام مازن ووضعته نائما بالفراش، من الغريب أن تهاتفني أثناء اليوم!؟"
ضغط على الهاتف وهي تمنحه كلمات ذات معنى وهو بالطبع يدرك ما تقول فقال "لدي مساحة من الوقت ليل أنا لا أهمل وجودك بحياتي"
جلست بالحديقة وقالت وهي لا تصدق كلماته "لا؟"
شعر برغبة بالعودة للبيت ومواجهتها بما تخفيه عنه ولكن للأسف لا يملك تلك الرفاهية الآن لذا قال "كلماتك هذه تعني الكثير ليل وبالأخص منكِ"
ظلت صامتة تفكر ثم قالت "لا، هذا لا يعني أي شيء فقط سعيدة لأنك هاتفتني"
أغمض عيونه وهو يدرك أن هناك شيء تخفيه عنه لكنها لا تريد أن تتحدث عنه وهو لا يفهمه، هو يدرك أنها تغيرت ولم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي تنبهر باللمعان من حولها بل أصبح هناك الأهم وهو ليس لديه ذلك المهم حاليا لمنحه لها
كانت تعلم أنها خطأ وأنها تخسر كل شيء بالاستسلام لكن لو أرادت كل شيء فعليها التخلي عن كل شيء صواب لها وهو ما لا ترغب به من أجل مازن، أن ينعم بحياة هادئة مستقرة بين أبوين هو ما يهمها أو ما تقنع به نفسها
فتح عيونه وقال "حسنا ليل ربما عندما أعود نتحدث"
كانت تعقل الكلمات قبل أن تنطق بها، معه كبرت كثيرا لم تعد تلك الفتاة البريئة التي كانت تتلعثم لمجرد رؤيته، هو من صنع تلك المرأة وهو السبب بكل ما تعاني منه الآن
تحدثت أخيرا "فقط لا تسبق الأحداث عامر لتعود أولا ثم لنرى ما سيكون من القدر"
نبرة صوتها وكلماتها كانت غريبة بالنسبة له ومع ذلك هي لا تتحدث وربما كما قالت ليس عليه أن يسبق الأحداث ولكنه ما زال يشعر أنها مختلفة لذا قال "ألا تظنين أنك اليوم مختلفة بكلماتك وتصرفاتك؟ أكاد لا أفهمك حقا"
كانت تعلم أنها كذلك لكن هذا هو ما اختارته فقالت وهي تعلم أنه على حق ولكنه ليس الوقت المناسب للجدال "أنا لم ولن أكون لغز كي لا تفهمني عامر أنا ما زلت صغيرتك"
الآن الصمت حليفه لأنه ليس على أرض صلبة، هو لا يراها أمامه ولا يعرف ماذا تخفي عنه ولا الخطط التي قد تكون وضعتها دون علمه فقال "هذا يعني انتظارك لي عند عودتي"
بالتأكيد تملكه قلق من أنها قد ترحل مرة ثانية وهو ما لن يقبل به ولكنها قالت "هل تشك بأني قد أرحل؟"
أجاب بقلق "أنا لم أعد أعرف ما الذي أشك به وما يمكنني الوثوق به وهذا شيء أكرهه ليل"
كانت تعي ما يقول وهي السبب لذا قالت "متى ستعود؟"
تغيير الموضوع ليس بشيء جيد بذلك الوقت ومع ذلك قال "بالصباح، ربما، لا أعلم، بحق الله ليل، هل تظنين أن طريقتك هذه عادية؟"
تنفست بقوة وهي تتذكر أخته وكلماتها وإخفاؤه مرض والدته وبالتأكيد قد يكون هذا سبب إخفاء زواجهم، خوفه على والدته من حقيقة زوجته، تألمت، تألمت من كل شيء والغريب أن ذلك ما استطاعت فعله مجرد كلمات وليتها تعبر عن الألم النابض بقلبها
أجابت بهدوء لم يجعله يدرك الغرق الذي كانت تقاومه الآن والعذاب الذي تعاني منه ولا تستطيع النجاة بنفسها "عادية عامر، أنا عادية جدا فقط أنت من تشعر بالخطأ ربما لأن هناك خطأ بالفعل"
ضاقت عيونه وهو يردد "خطأ؟ أي خطأ؟"
أغمضت عيونها ووضعت يدها على قلبها المتألم وهي تريد إنهاء الحديث الذي لا معنى له "أنا أتحدث عنك عامر، أنا أمنحك مبرر لإحساسك وعليك أن تسأل نفسك قبل أن تطالبني بأي إجابات لأن ليس لدي أي واحدة"
كان يرى أنها تلف معه بحلقة مفرغة لا خروج منها، ماهرة بالجدال مثله وربما تفوقت عليه رغم صغر سنها، كلاهم يلعب لعبة ويظن أنه الأذكى وأنه من سيفوز لكن كلاهم تائهة بلا نور هادي للصواب، عليه الانتظار حتى يعود ووقتها سيتواجهان سويا ويخرج ما لديه لذا لم يجادل أكثر وقال
"ربما عندما أعود نجد الإجابات سويا"
"ربما"
وكانت تلك الكلمة بمثابة إنهاء للحديث وأغلق كلاهم الهاتف ولف وجهه للطريق الخارجي وكل ما يفكر به هل ستنتظره حقا أم قد ترحل مرة أخرى وهذه المرة ليست وحدها ولكن بابنه أيضا؟؟
لم يكن يومها أفضل من السابقين بل قضته مع مازن وقد استهلكها ما بين الطعام واللعب وأخيرا النوم واندهشت أنه يظن أنها قد ترحل وهي لم تفكر بذلك حاليا ليس بعد أن عرف مازن والده وتعلق به ولكن من يعلم؟
باليوم التالي لم يهاتفها وهي لم تفعل، هو لا يجيب اتصالاتها بالأساس فلم تفعل ربما يجدها غير هامة كما ألمحت له وربما هو مشغول وربما أسباب كثيرة هي ستمنحها له كأعذار من أجل هذا اختارت ألا تفكر وشغلت نفسها بمازن ومر اليوم حتى الثامنة مساء عندما كانت بالحمام وخرجت بالروب على رنين هاتفها لترى اسمه
ظلت تنظر له ثم أخذت نفس عميق وأجابت "عامر"
كان يقف أمام المباني بالقرية الجديدة وما زال العمال بالموقع حتى الآن، لف حول نفسه عندما أجابت وقال "لم تجيبي مكالماتي؟"
جففت بعض قطرات المياه من على وجهها وقالت "كنت بالحمام ولم أسمع الهاتف"
رفع شعره بيده من الهواء المنتشر حوله من البحر الذي يدفع الرياح الخفيفة المحملة برائحته له وقال "كيف حالك وحال مازن؟"
جلست أمام مائدة الزينة وقالت "نحن بخير وأنت؟"
سؤالها كان تلقائي ليس به لهفة تلك الفتاة الصغيرة التي عرفها وتزوجها وتركته ثم أعادها، نبرتها باردة من أي عاطفة كانت تهبها له، حاول إيقاف شكوكه وقال "بخير، العمل هنا ليس على ما يرام لذا لم أستطع العودة ربما غدا"
كانت هادئة أيضا وهي تجيب "نعم أرى ذلك"
السؤال على طرف لسانه ولكنه توقف لأن لا فائدة من نقاش لن يحصل منه على شيء
تحدث بهدوء "هل تمضين وقت جيد؟"
وقت جيد؟ من أين لها بهذا الوقت؟ منذ ذلك الشهر الذي أمضته معه كزوجة لم ترى يوما سعيدا وحتى عندما عاد بها هنا لم تجد أي وقت جيد، ما الفارق ما إذا كانت هنا ببيته أو حيث كانت بالبحر الأحمر؟ فقط تخلصت من الديون لكن بالنهاية هي وحدها مع ابنها وكأنها لا مكان لها بالدنيا
قالت "نعم"
كانت كاذبة وهي تعرف ذلك لكن لن يمكنها الخوض في حديث هي لن تكمله ولكنه لم يتركها وهو يقول "كيف؟ أقصد ماذا تفعلين؟"
أجابت بلا تفكير "وهل لديك وقت لأشياء تافهة كهذه؟"
نفخ من طريقتها الجديدة التي بدأت منذ الأمس وقال "ما يخصك ليس تافه ليل، أنا لا أعرف ماذا أصابك منذ الأمس؟"
لم تحاول تصحيح أي شيء وكأنها فقدت الفارق بين الصواب والخطأ فقالت "ما الذي أصابني؟"
بدت العصبية تتحكم بنبرته وهو يقول "ألا تجدين أن هناك اختلاف بتصرفاتك وكلماتك منذ الأمس؟ إن نبرة صوتك نفسها مختلفة وكأنك لستِ ليل التي أعرفها"
صدمه ردها وهي تسأل بهدوء مماثل له "هذا على أساس أنك تعرفني جيدا عامر؟"
لف حول نفسه من سؤالها وشعر بقبضة توجه لمعدته وهو يقول "هل تسألين؟ أنتِ زوجتي"
لم ترد وهو انتظر أي كلمة منها ولكنها لم تشأ بالنطق وإلا لقالت هل أنا فعلا كذلك؟
صمتها زاد من جنونه فقال "صمتك هذا يؤكد ظنوني متى ستتحدثين؟"
كانت تحاول التحكم بغضبها الذي لم يتركها وقالت "أنت واثق أن هناك حديث؟"
بلا تفكير أجاب "نعم ليل، نعم هناك حديث وعليكِ أن تستعدي له عندما أعود لأني لن أقبل بسواه"
وأغلق الهاتف وقد فاق غضبه الحد الذي يمكنه التحكم به ولم ينتظر إجابة أخرى وهي ظلت جامدة مكانها، هذا ما كانت تسعى له وتريده؟ نفس الموضوع هي كاذبة إذ ظنت أنها تستطيع أن تعيش بالخفاء..
باليوم التالي أيضا لم يعود ولم يهاتفها بالطبع وهي لم تفعل كانت علاقتهم الآن لا مسمى لها، لا هم كما كانوا قبل عودتها ولا منفصلين ولا تعرف بعودته ماذا ستقول وهل عليها مواجهته بما تريد؟ نعم هي تريد ذلك، هي تريد أن تكون زوجته أمام الجميع، أن يعرف بها أهله ورجاله وإخوته وكل العالم، هذا حقها الذي لم تدري يوم تزوجته أنها تنازلت عنه
بموعد غداء اليوم التالي كانت تتحدث مع أم حسن وتضع طبقها الخاص عندما سمعت سيارته تدخل، تجمدت يدها على الطبق ورفعت وجهها للباب وأم حسن تهرع للباب وتقول
"هذه سيارة سيد عامر"
تابعتها بعيونها وهي تفتح الباب وتراه يدخل، كم اشتاقت له، ما هذا الجنون منذ لحظة كانت غاضبة منه ومنذ ليالي تعد لمواجهة معه والآن أرادت أن ترحل له وتلقي نفسها بين أحضانه وتخبره كم اشتاقت له
كان عليها التحرك له من أجل أم حسن وهو ما فعلته وعيونه تتحرك لها بعد تحية أم حسن، طبع قبلة على وجنتها أدركت أنها باردة، ذكرتها بيوم رحلت من هنا، هي أيضا لم تكن بالحرارة التي كانت عليها معه
أم حسن عادت للمطبخ وقالت "عشر دقائق والغداء يكون جاهز، يمكنني الاستغناء عنكِ مدام"
كانت تتحرك بجواره ولم ترد على أم حسن وقالت "تبدو متعب؟"
كان كذلك بالفعل، تلك الأيام بالسخنة كانت تمثل التعب والإرهاق، جلس على الأريكة وجلست أمامه، نفس المكان فهل سيكون نفس الحديث؟
فك ربطة العنق وزر القميص العلوي وقال "لا مجال للراحة هناك، ومكان الإقامة يجعلك لا تريدين النوم"
كانت تتأمل وجهه المتعب وعيونه التي بدا عليها عدم النوم فأشفقت عليه وقالت "لم لا تصعد وسأجلب الغداء لغرفتنا؟"
كان يرى نظرة غيرة متوقعة بعيونها، نظرة لا تتناسب مع برودة اللقاء لذا نهض وقال "هذا أفضل، أنا بحاجة لحمام"
تابعته وهو يصعد للأعلى، بالتأكيد لن يكون بينهم أي نقاش وهو بتلك الحالة من الواضح أنه لم يذهب لبيته القديم بل أتي إلى هنا حيث هي وابنهم وهذا يعني لها الكثير
عندما دخلت بالطعام كان قد ارتدى التي شيرت وتابعها وهي تضع الطعام فتحرك له وقال "بعيونك كلام ولا أظن أن لديكِ رغبة بالانتظار"
جلست ورفعت وجهها له وقالت "ليس لدي أي شيء عامر هل تجلس وتتناول الطعام كي تنام؟"
ظل واقفا يتابعها ولا يفهمها ثم قال "هذه ليست أنتِ ليل، هناك خطأ ولابد أن أعرفه"
أخفضت وجهها وقالت "ألا تريد تأجيل الحديث لبعد الراحة؟"
ابتعد وقال بعصبية "ومن أين تأتي الراحة وأنتِ تتصرفين بشكل غريب منذ كنا بالعيادة"
وقفت وقالت بلا تردد "أنا رأيت أختك نور"
التفت لها من المفاجأة ونظراته تقدح بشرر غريب، هل ذهبت لها وأخبرتها بزواجهم كي تهدده او..
قطعت أفكار الشيطان داخله وهي تقول "لم نتقابل بشكل شخصي أو صريح، وقت تركتني بالمركز لتجيب الهاتف جلست بمكان أنتظر وإذا بي أسمع فتاتان يتحدثان وتم ذكر اسمك بالحديث مما لفت انتباهي"
تحرك حتى وقف أمامها وتبدلت نظرات الغضب لعدم فهم وهو يقول "نور لا تأتي القاهرة إلا نادرا ولو فعلت تهاتفني"
نظرت لأصابعها التي كانت تفركها ببعضها وقالت "كانت تتحدث مع طبيبة أخرى وقالت أنها لم تخبرك بوجودها، كانت هنا من أجل نتيجة عينة لا أعرف عنها شيء"
قبض على ذراعها وعاد الغضب يغلب الحيرة وهو يقول "لقد كنت معكِ ليل ولم أتغيب كثيرا، ماذا تبغين من تلك الكذبة؟ هذا لن يؤدى بنا لشيء ليل لن يجبرني على شيء لا أريده حاولي أن"
اوقفته والدموع تنطلق لعيونها "كانت تتحدث عن مرض والدتك وأنك سافرت لها يومين متتالين وأنها سألتك عن الفتاة التي تحدث عنها الجميع"
توقف غضبه عن التصاعد ونفدت منه الكلمات، كانت كلماتها حقيقة لا يعلمها سواه واخوته البنات وأمه، كلماتها تبدو حقيقية
ترك يدها وابتعد فقالت والدموع تهوي غصبا عنها "أنا لا أكذب عامر، لقد قالت أنك أخبرت والدتك أنه كان مجرد عشاء ولو كان هناك شيء جاد لأخبرتها، هي قالت أنك جعلت والدتك تشعر أنني لا معنى لي بحياتك"
هو بالفعل نطق بكلمات تمنح نفس المعنى، هي كلماته التي قالها لأمه، لا يمكن أن تكون رأت أمه، إذن هي لا تكذب، لم تتركه وهي تقول "هذا هو السبب عامر، حاولت أن أتجاهل ما سمعته، أن أكون ما تريدني أن أكونه، الفتاة التي لا وجود لها إلا بفراشك فقط، الفتاة التي أحضرتها هنا لتكون لك وتخفيها عن العالم، عالمك أنت، أنا لا أطالبك بأي شيء عامر، أنا بالأساس لم أطلب منك أن تعيدني ولكنك فعلت وتريد مني أن أمنحك كل شيء ولكنك لا تريد أن تمنحني أي شيء"
ظل صامتا فقط يسمعها وهو يعلم أنها على حق، هو يريد منها كل شيء، يريد الزوجة والابن والبيت والأسرة ولكن داخل قوقعة لا تخرج منها ولو خرجت لا يذكرها أحد
التفت لها ووجدها حيث كانت والدموع فقط هي ما تبدل بها، لم يتحرك وقال "مرضها أوقفني عن إعلان زواجنا"
الطعنة التي انتظرتها، الألم الذي حاولت الفرار منه كل ما رفضت تصديقه يحدث، جلست على المقعد مرة أخرى، قدماها تتهاوى تحت ثقل أحزانها، عارها، يأسها
تحرك وهو يرى رأسها ينخفض بخزي من تلميحاته، جلس بجوارها وقال "الأمر ليس كما تظنين ليل"
رفعت عيونها الباكية له فتألم من منظرها وشعر بالذنب يكاد يذبحه بسكين بارد، جذب يدها بين يده وهي لم تمانع وهو يقول بحنان حل محل الغضب "ليس لأني أخجل منك ومما كنتِ فهذا لا يهمني، فقط، فقط والدتي تعني لي الكثير، هي الحياة بالنسبة لي، الشيء النقي بحياتي، لأول مرة تسقط مريضة، انهيارها هذا كان بمثابة انهيار لي لم أكن أقبل به لذا كل ما اهتممت به أن تشفى وتعود، الطبيب نهى عن أي ضغوط نفسية ولم أعرف هل خبر زواجنا سيكون له أثر جيد أم سيء عليها لذا اخترت الصمت"
كانت تصدقه أو تريد تصديقه ومع ذلك قالت "ولكنك لم تشركني حتى بالأمر، أنا لا أعرف ماذا نعني لك أنا ومازن عامر؟ أنا أحيانا أتساءل لماذا أحضرتني هنا وحمّلت نفسك همّنا؟ أنت لست بحاجة لنا هنا"
لم يترك يدها وهو يهز رأسه بالنفي مع كلماتها يستنكرها وقال "لا ليل، أنا حقا أردتكم هنا، أردت عائلتي الصغيرة، أردت ابتسامتك وقت عودتي، أحضانك وقت التعب، أحببت الاهتمام بمازن واللعب معه وإحساس الأبوة وكنت أشعر بالفخر عندما أنجح بإنجاز أمر يخصه ويسعده، أنا كنت أحتاج لتلك الحياة ليل"
ظلت تنظر له وهي لا تعرف سوى أنها تصدقه ولكن هناك الكثير مما تريده فقالت "ونحن أيضا نحتاج للكثير عامر، ليس المال والطعام والملابس هي كل شيء"
أدرك كلماتها فأخفض وجهه وقال "تعلمين أني أحتاج للوقت، لا شيء يأتي مرة واحدة"
لم تترك يده فعاد ينظر لها وقال "ستبقين؟"
تألم قلبها لنظرته ونبرته وسقطت دموع أخرى من عيونها لأنها لا تستطيع الخضوع لعقلها لأن قلبها يفوز وهي تقول "أنا كنت غاضبة عامر، غاضبة لأنك أخفيت عني أمر والدتك، غاضبة لأنك جعلتها ترى أنني لا شيء، لم أملك شيء يهدئ غضبي، حاولت ألا أجادل وأنت بعيد ولكنك لم تترك الأمر يمر"
رفع يده لوجنتها محاولا مسح الدموع وقال بحنان "لم أتحمل فكرة رحيلك مرة أخرى خاصة وأنا غير قادر على التواجد هنا ومنعك من الذهاب"
قالت بجدية رغم الدموع "أنت دائما تختار العمل وتنسى أن هناك ما هو أهم من العمل"
كانت أيضا على حق وداعب وجنتها بإبهامه كعادته وقال "هل تخبريني كم عمرك يا فتاة الحكمة؟"
وجذب وجهها له ليقبلها برقة ثم أبعد شفتيه دون أن يبعد وجهها وقال "فقط أحتاج للوقت ليل، وجودك بحياتي لن يمكن تبديله لأي سبب، أنتِ ومازن لا يمكن خروجكم من حياتي أبدا ليس بعد أن عرفت معنى أن تكون لي عائلة خاصة بي"
لم ترد وتركته يقبلها بحنان وتركت قلبها يستمتع باللحظة ولكنها لم تستطع وقف عقلها من إلقاء تحذيراته بوجهها بلا توقف ولكنها منعت نفسها من الاستماع لتحذيراته..