رواية لعنة الخطيئة الفصل السابع والخمسون57 الاخير بقلم فاطمة أحمد


رواية لعنة الخطيئة 
الفصل السابع والخمسون57الاخير
 بقلم فاطمة أحمد
  لا خلاص من اللعنة
الحياة لا تمنح أحدًا الأمان المطلق. الخطايا تُرتكب، والخيانات تحدث ولكن في النهاية من يملك الشجاعة للمواجهة هو الوحيد الذي ينجو … حتى لو كان بثمنٍ باهظ

الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.

كان الصباح مشرقا والسماء صافية كأنها احتفلت معهم بقدوم العيد. ارتفعت تكبيرات العيد في الأرجاء تتخللها أصوات المآذن من بعيد فتمتزج مع رائحة البخور التي ملأت السرايا ناشرة البهجة والسكينة، والفوضى الجميلة...
داخل السرايا، ركضت نيجار من زاوية إلى أخرى وهي تحاول ضبط آخر اللمسات على الطاولة المليئة بحلويات العيد وشتى أنواع الفواكه لتضع طبقا هنا وتعدل آخر هناك، ثم ضيقت عينيها متفحصة الطاولة قبل أن تنتفض بعدما أبصرت زاوية فارغة :
- ايوة المشبّك نسيته.

دارت بسرعة كي تذهب للمطبخ لكنها اصطدمت بشخص قادم من الاتجاه المعاكس فتراجعت خطوة للوراء ورفعت يديها للحفاظ على التوازن مترددة :
- آسفة يا عمة مخدتش بالي.

تمالك حليمة نفسها حتى لا تقع ثم نظرت لها ونهرتها بلوم خفيف :
- في ايه يا بنتي بالراحة عليكي هتقعي ع وشك.

- زي ما حضرتك شايفة الدنيا قايمة النهارده ولازم كل حاجة تكون متضبطة قبل ما الرجالة ترجع من الجامع.

ابتسمت بغبطة وربتت على كتفها هاتفة :
- كل عيد بتبقي عامله كده بس حقك الحمد لله اللي خلانا نعيش فرحة عيد الفطر السنة ديه كمان. 

في هذه الأثناء خرجت زينب من المطبخ بخطوات بطيئة وهيتحمل صحنا من الكعك ريثما تمسح على بطنها المنتفخ بحنان لتعلق بتنهيدة :
- والله العيد ليه فرحة خاصة بس الفرحة دي مبتكملش إلا لما كل حاجة تكون جاهزة.

ضحكت حليمة ثم جلست على أقرب كرسي ورددت برفعة حاجب :
- وانتي كمان يا حلوة مش المفروض متتعبيش نفسك كتير بما انك ع وش ولادة؟ خلي مراد لما يجي يشوفك واقفة كده هيحبسك في الأوضة.

مطت شفتها ممتعضة وعقبت :
- لا وعلى ايه أصلا أنا قدرت أقنعه بالعافية عشان نجي نقضي العيد هنا، حضرتك بتعرفي أن ماما بتحب تقضيه في بيت العيلة ومراد بقى كان ناوي يخلينا نقعد في البيت عشان متعبش شكله نسي اني ممرضة وبقدر اخد بالي ع صحتي كويس ... بس لو جت سيرة المحشي هتلاقيه بيقولي قومي اعمليه ولا كأنه طلب مني ارتاح.

- من فرحته بالبيبي ياحبيبتي مراد طول عمره كان بيتمنى يعمل عيلة وربنا رزقه بيكو.
هتفت حليمة بعاطفة مستذكرة التغيرات التي طرأت على شخصية مراد اليائسة، وكيف أصبح أكثر راحة في التفاعل مع غيره وبالتأكيد سعادته بالعيش مع العائلة التي حُرم منها لسنوات.
فجأة استمعت النساء لضجة فوق الدرج وصوت خطوات راكضة فضحكت نيجار وقالت :
- اهي ليلى بتديكي نبذة مبسطة ع الحياة اللي هتعيشيها مع ابنك بعد ما يشرف.

نقلن نظراتهن إلى ليلى التي تجري خلف الطفلة الصغيرة الهابطة على درجات السلم حاملة في يدها كوبا من الحليب بينما تصرخ بمحايلة :
- رؤيا تعالي هنا ياحبيبتي تعبتيني معاكي.

- أنا مش هشرب اللبن أنا كبرت خلاص !
صدع صوتها الطفولي المشاكس وهي تركض بثوب العيد حتى وقفت خلف الطاولة مختبئة وراء زينب فزفرت ليلى بحنق وتوعدت لها :
- والله لوريكي استني لما أبوكي يجي بس.

- بابي !!
لم تصرخ رؤيا ذعرا من أبيها بل فرحة وحماسا لأنها أبصرته وهو يدخل من باب السرايا فقفزت عليه بلهفة وحملها محمد بسعادة وحب يفيضان من عينيه :
- حبيبة بابي.

تبسمت زينب وغمزت لليلى هامسة لها :
- لسه متمسكة بتهديدك ؟

تأففت باِستسلام أخيرا وهتفت بنفي :
- ديه البرينسيس بتاعته وهو في غيره مسلطها عليا ... أحيانا بتفكرني بتيتا ربنا يرحمها.

بهتت النسوة وجالت ذاكرة نيجار إلى تلك الليلة قبل سنوات عندما دخل آدم لغرفة جدته ليجدها ميتة، رحلت بهدوء فخيَّم الظلام المريب على السرايا وخاصة على قلب زوجها الذي كان متعلقا جدا بها...

تنهدت نيجار بغم لم يدم طويلا لأنها سرعان ما ابتهجت عندما وجدت جسدا صغيرا يقبل عليها بسرعة وعينيه الواسعتان مليئتان بالحماس، قبل أن يرتمي في حضنها مردفا :
- ماما أنا صلّيت صلاة العيد مع بابا.

انحنت عليه تحتضنه بحنان أمومي وتقبل رأسه :
- شطور يا روحي كل سنة وأنت طيب ربنا يخليك ليا.

- بقى أنا اللي خدتك الجامع يا سي فاروق وواقف جنبي طول الصلاة، وأول ما تدخل السرايا تجري على ماما؟ طب وأنا مليش حاجة؟
التف "فاروق" الصغير لوالده ورفع يده مجيبا ببراءة :
- كنت هقول لحضرتك كل سنة وانت طيب، بس طبعا ماما الأول.

- ماشي يا حبيب مامتك طب انت مقولتليش دعيتلنا بإيه ؟

- دعيت ان ربنا يخليكم ليا ويجيبلي حصان أبيض كبير.

ينفجر الجميع ضاحكين، بينما آدم ينحني قليلًا نحوه، ويمسك كتفه بحنان.

- حصان كبير مرة واحدة مش كتير عليك شوية؟

- لا عشان آخد بيه ماما في جولة حوالين السرايا.

ضحكت نيجار وطالعت آدم هاتفة ببسمة لطيفة وهي تتذكر عدد المرات التي ركبا فيها على الأحصنة :
- هذا الشبل من ذاك الأسد ... بس قولي يا سي آدم فين العيدية بتاعتنا ولا حضرتك نسيت.

حرك رأسه نافيا واقترب منها بخطوات واثقة ليخرج لها ظرفا من جيبه ويضعه في يدها بهدوء :
- ديه أول حاجة بفتكرها كل عيد كل سنة وانتي طيبة.

ثم التفت لزينب وليلى وقدم لكل واحدة منهما "العيدية" الخاصة بها وهي عادة كان يفعلها في السابق مع أخته فقط قبل أن يزداد عدد أفراد عائلته، فعل المثل مع عمته ومراد ومحمد والصغيرين ثم حمل رؤيا بين يديه وناكشها بحب :
- وهزود بوستين لكتكوتة خالو عشان حلاوتها ديه.

امتعض الطفل بغيرة محببة ورفع يداه الإثنتان لوالده فحمله الآخر وقبله هو أيضا :
- وديه عشان أصغر راجل في عيلة الصاوي.

بعد قليل تجمع الجميع حول الطاولة وكانت الأصوات تتداخل والضحكات تملأ المكان متبادلين أحاديث بسيطة مثل أي عائلة بعيدا عن الخطط والمؤامرات...
مراد يجلس بجوار زوجته ويملأ صحنها بالفواكه من حين لآخر وهو يمازحها، محمد يغيض ليلى عن طريق طفلتهما المدللة التي تلتصق بأبيها، وفاروق يلعب بمسدس بلاستيكي انبهر به وأصرّ على اِقتنائه...

تجولت عينا آدم على عائلته بغبطة وراحة وهو يشعر بأنه كان جديرا بالمسؤولية التي أوكلت إليه من طرف جدته ليلة وفاتها، ها هو يرى كل من يحبهم مجتمعين سويا دون بغض وأحقاد ولعلّ هذه النتيجة استغرقت فترة جد عصيبة كلفتهم الكثير من الدموع، ولكن في النهاية ظلت العائلة متماسكة.

أحسَّ آدم بوكزة في ذراعه فنظر لنيجار بتساؤل لتهمس هي بتآمر :
- الكل مشغول هنا ومش هياخدو بالهم مننا تعال نسيبهم ونروّح.

- لفين ؟

- للمكان بتاعنا ... البحيرة.

** انطلقت الخيول بسرعة وسط المروج الخضراء الواسعة والأرض تمتد أمامهما بترحيب لسباقهما الاِعتيادي حتى دخلا بين الأشجار المتلاحمة ووصلا إلى البحيرة، قفزت نيجار من فوق مهرتها وعلى وجهها ابتسامة نصر مغترة :
- ايه رأيك أنا كسبت المرة ديه.

همهم آدم بضيق زائف وردد :
- لا ده سلطان تعبان شويا فمحبيتش اضغط عليه وعشان كده قدرتي تسبقيني.

ضحكت نيجار باِستهجان ثم سحبته من ذراعه ليتمشيا معا على جانب البحيرة بصمت يغلفهما حتى تنهدت مردفة :
- اليوم ده جميل اوي أنا بنبسط اوي لما بشوف الكل متجمعين.

أومأ بموافقة بكلامها واستطرد مستدركا بتساؤل :
- اتصلتي بعيلتك عشان تهنيهم بالعيد؟ 

- أكيد وهروحلهم بكره واقعد معاهم انت عارف ان فرح سلمى قرب وهتحب تشوفني معاها.
ثم ضيقت حاجبيها وسألته بغتة :
- فاكر لما العمدة أصدر من سنين قرار جوازك انت وسلمى ؟ 

- أيوة ولو حضرتك مجيتيش للاسطبل بتاعي والناس شافونا سوا مكنش العمدة هيخليكي انتي عروستي بدل بنت عمك.

تبسمت نيجار لتلك الذكريات وأضافت مستجوبة إياه :
- طب كنت هتعمل ايه لو اتجوزتو بجد؟

- طالبة معاكي نكد النهارده ولا ايه.

- لا خالص ده سؤال بريء.

وقف آدم فجأة كأنه يفكر جديا في الموضوع ثم تابع سيره بينما يجيبها بمنطقية ومكر مستتر :
- بصراحة حسب معرفتي بسلمى فهي بنت غلبانة وملهاش في المشاكل ووجع الدماغ فكنت هقبل بعلاقتي بيها وأعاملها كويس.

تصاعد الحنق لوجه نيجار فجزت على أسنانها وهاجمته مباشرة :
- قصدك اني أنا بتاعت المشاكل اللي مبتستاهلش معاملة كويسة !!

حمحم ممثلا الاضطراب لتكمل الأخرى بتهديد صريح :
- مكنتش هسمحلكم تتجوزو أصلا عشان كنت هجي واخنقك في ليلة الفرح وأنا لسه عند كلامي لو فكرت تبص هنا ولا هنا.

طالعها آدم قليلا ثم ضم وجهها الجميل بين كفي يديه مغمغما :
- عينيا مش هتزوغ حتى لو أنا بنفسي خططت لأن مفيش ست تانية عندها شخصية نيجار تخليني احبها.

اضمحل الغضب من وجهها كاللاشيء ونضح الحب الذي تقاطر من عينيها فاِبتسمت له وهمست :
- وأنا كمان بحبك اوي، محدش قدر يوقعني على جدور رقبتي غيرك انت.

جلسا أسفل الشجرة مقابل البحيرة تماما ولاحظ آدم من تعابير وجه نيجار أنها مترددة بخصوص شيء ما فبرطم بصلابة متسائلا :
- في حاجة عاوزة تقوليها ؟

همهم معترفة بإيجاب وأردفت :
- سمعت ان رجالة المجلس عيّنوا راجل تاني للعمودية والكل وافق عليه ومنهم انت.

- ايوة صح وهيستلم المنصب بعد يومين بس ليه مستغربة.

- يعني بعد ما فضلوا السنين ديه بيحاولوا يقنعوك تاخد الكرسي افتكرتك هتغير رأيك وتوافق.

- أنا كويس ومبسوط بحياتي كده الحمد لله تجارتي عماله تكبر ومحل القماش كبر كمان وفتحناله فرعين في المدينة فمش شايف انه في داعي نرجع نفتح المواضيع القديمة.

ذاك المنصب اللعين الذي جعله يخسر الكثير، ليس من أجل المنصب ذاته ولكن بسبب الطمع والأحقاد التي أحاطته من كل صوب، ولهذا لن يعود إليه أبدا.
تأملته نيجار بحسرة وهي تعلم ما يفكر به جيدا، مرت سنوات على موت فاروق وحكمت لكن آدم لا يزال يرزح تحت وطأة ألم الفراق...

أساسا لم يستطع أحد تخطيه، حتى صفوان الذي يعتكف غرفته ولا يخرج منها إلا قليلا يعاني من كوابيس تمنعه من متابعة حياته بسلام.
لقد حاول تعويض الأهالي الذين فقدوا أبناءهم في المجزرة التي افتعلها سليمان لكي يقلل شعوره بالذنب  كما طلب السماح من آدم مرارا إلا أن هذا الأخير رفض باِستمتاتة سماع صوته حتى، وأخبرها مباشرة أنه في الأساس بذل أقصى جهده لكي لا يقتل ابن عمها ولا يستطيع تقديم أكثر من هذا....

تنهدت نيجار بتفهم ثم مررت يدها على طول ذراعه مغيرة مجرى الحديث وهي تتمتم :
- طيب بس انت مش هتقدر تنسيني اني كسبت السباق ولازم تعترف بالهزيمة.

ابتسم آدم واعتدل في جلوسه ليصبح يقابلها تماما ثم استطرد مسايرا إياها :
- ماشي يا ستي بعترف بس ديه يدوب مرة واحدة متنسيش انا كسبت كام مرة قبل كده و ياستي هنرجع نتسابق ونشوف النتيجة.

ضحكت نيجار وهي ترى حماسه لرد اعتباره لكنها هزت رأسها بنفي رافضة إعادة السباق وأردفت :
- لا معلش ديه كانت آخر مرة حضرتك مضطر تستنى كام شهر قبل ما نرجع نعيده.

قطب آدم حاجباه بعدم فهم وهمهم مستفهما ما ترمي إليه لتأخذ هي نفسا عميقا وتلتمع عيناها بلمعة خاصة جاءت همستها بعدها :
- أنا حامل ... هتبقى أب للمرة التانية.

وفي اللحظة الموالية وجدت نيجار نفسها مندسة داخل حضن آدم الذي أوقفها وضمها لصدره بقوة وسعادة مرددا :
- بتتكلمي جد؟ امتى عرفتي بقصد انتي متأكدة ؟

طبعت قبلة رقيقة على وجنته وأومأت بجزم :
- عملت تحليل من يومين وعرفت اني حامل في الشهر الأول فأجلت الخبر لليوم ده عشان فرحتنا تبقى فرحتين.

ثم مررت أناملها على دقنه وأضافت بعاطفية أكبر :
- أنا مبسوطة اوي ياحبيبي والفرحة مش سايعاني.

وضع الآخر يده على بطنها معقبا :
- وأنا كمان حاسس كأنك حطيتي الدنيا بين ايديا، الحمد لله شكرا ياحبيبتي.

تأوهت نيجار بتأثر وصرحت له :
- بحب اسمع الكلمة ديه منك متبطلش تقولها.

اتسعت ابتسامته ليغمغم بصوت أجش مغمور بالعاطفة :
- هفضل اقولهالك على طول حبيبتي ومراتي وكل حاجة حلوة في حياتي ... أنا بحبك.

- وأنا بعشقك.
همستها كانت حارة متحشرجة لكنها وصلت إلى آدم بكل قوتها وشعر بها تتخلل خلاياه وروحه، فعصف وجهه بعاطفة نادرة وكاد يتحدث بيد أن حروفه حشرت في حلقه بغتة عندما رأى عينا نيجار تحتد قبل أن تسحب خنجرا كانت تربطه على ساقها ووجهته نحوه هاتفة :
- اوعى تتحرك.

تيبس آدم ونفذ أمرها بغرابة ليجدها تضغط رأس الخنجر على قميصه وتسحب حشرة صعدت عليه عندما كانا يجلسان أسفل الشجرة فطالعها برهة ثم قهقه بصوت عالٍ، استغربت نيجار وسألته بحيرة :
- في ايه مالك.

حرك رأسه بيأس محبب وهز كتفاه مصطنعا قلة الحيلة بينما يقول :
- لسه عندك عادة انك تمشي وانتي شايلة الخناجر بس المفروض مستغربش لأن الحركات ديه مبتطلعش غير من نيجار. 

حكت نيجار طرف أنفها بحرج وخبأت السلاح ثم أحاطت خاصرتها بيديها ومالت عليه بدلال :
- اعمل ايه طيب انت حبيتني وأنا عامله كده يمكن ديه نتيجة خطيئة عملتها في الماضي وبتدفع تمن لعنتها دلوقتي، استحمل بقى عشان مش هقدر اغير من نفسي.

وضع آدم اصبعه على شفتها لتسكت ويستطيع التركيز في ملامح وجهها الناطقة بعشقها الكبير له، قبل أن يستدرك بصدق ورجولة خالصة :
- ومش عايزك تغيري اي حاجة فيكي لأني حبيتك بشخصيتك ومميزاتك وعيوبك ... ولو كان حبي ليكي خطيئة فأنا مش عاوز اخلص منها ... من لـعـنـة الـخطـيـئـه

                        تمت بحمد الله 

 لقراءة باقي الفصول من هنا

تعليقات