رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم رحمه سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم رحمه سيد


لم تكن المفاجأة وحدها من تكفلت بتثبيت جسدها مكانه، بل تلك الكراهية التي كانت ربيبتها طيلة سنوات مضت، جنحت من الظلام في قلبها للعلن في عينيها التي أبت أن تخفي أكثر فباحت بما لم تبح به قبلًا.. 
ثم صدح صوتها وهي تهتف بحروفٍ ثقيلة:
-أنت إيه اللي جابك هنا ؟ 
رفع حاجباه معًا يصطنع الدهشة، رغم توقعه مسبقًا:
-هنتكلم هنا ! على الباب كده؟! 
تغلغل عدم التصديق نبرتها التي مالت نحو السخرية بعض الشيء حين أردفت:
-أنت جايب برودة الأعصاب دي منين بجد، لتكون مستني أقولك ادخل نشرب شاي؟ 
هز رأسه ببساطة؛ وكأنه يزرع صبار في حديقة مفعمة بزهور الربيع:
-وليه لأ؟ هو أحنا مش قرايب وفي بينا دم؟! والدم عمره ما يبقى مايه. 
تدرجت كلماتها للغل المدفون في مكنونات قلبها وهي تتابع من بين أسنانها:
-لأ بقا مايه من يوم ما عملت اللي عملته. 
زفر مستطردًا بجدية أذهلتها وكادت تقنعها لوهله بحججه الوهنة جدًا:
-أنا حاولت أكفر عن غلطتي، لكن انتم فضلتوا مصممين، ورغم كده أنا جيت لكم اهوه تاني. 
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خالية من الروح، وواصلت بسخرية مريرة جمة:
-لأ كتر ألف خيرك مش عارفة هانودي جمايلك فين، بس أحنا مستغنيين، ياريت منشوفش طلتك هنا تاني. 
لم يستطع تجاهل طريقتها الفظة معه أكثر، وكرامته استعصت المثول تحت ظل الصمت أكثر، فهدر فيها بقليلٍ من الإنفعال:
-اتكلمي معايا بأدب يا بنت، متنسيش أنتي بتكلمي مين. 
وكأن نبرتها كانت تأن بوجع كصاحبتها، حين استطردت:
-ياريتني عارفه أنسى، أنا مش ناسيه ولا هنسى. 
تراجع خالد خطوتان وهو يردد في فتور لطالما كان سكين باردة على عنق "فيروز" : 
-أنا كده عملت اللي عليا، سلام. 
ثم غادر تحت أنظارها الكارهة، ليته لم يأتِ، فحين يأتي لا يفعل سوى أن يسكب على جراحهم نارًا ليزيد من عذابهم. 
أغلقت الباب بملامح مغلقة ايضًا، وكادت تعود لغرفتها، فخرجت والدتها تلك اللحظات من غرفتها وهي تغلق الخط ممسكة بهاتفها في يدها ويبدو أنها كانت تتحدث، ثم سألت فيروز بهدوء:
-مين اللي كان بيخبط يا فيروز؟ 
حاولت فيروز غسل ملامحها الموشومة بالنفور بابتسامة صافية وهي تجيبها بثباتٍ: 
-دي كارما يا ماما عايزاني أطلعلها شوية. 
عقدت والدتها ما بين حاجبيها وهي تنفي برأسها مستنكرة:
-تطلعيلها ده إيه! دي لسه عروسة جديدة، ماينفعش دلوقتي طبعًا. 
هزت فيروز رأسها تسايرها:
-ايوه منا عارفة طبعًا، واتحججت بأي حجة. 
اومأت والدتها موافقة، وكادت تتحرك فتقدمت منها فيروز بخطى سريعة لتحتضنها هكذا دون مقدمات، شعرت أنها تود أن تفعل ذلك لتوأد خيال الذكرى الذي يضج برأسها، مذكرًا إياها بالمعاناة التي عانوها بسبب ذلك الشخص الذي من المفترض أنه يربطهم به صلة دم، خاصةً والدتها ! 

هم لم يرغبوا ابدًا بأكثر من العادي، رغبوا فقط أن يجدوا في العائلة الدفئ والحماية اللذان فقدوهما مع فقدان والدها، لا أن يزيد هو من معاناتهم برميهم في صكيع قارص لم تدفئ روحهم منه منذ ذلك الحين..! 

                                   ****

حين تُلجم الدقائق روحك بلجامٍ من نار، يحرقك ويحرقك دون أن تجد ما يطفئ ذلك الحريق! 
هكذا كان حال "كارما" التي اخذت دقائق لتستوعب ما سمعته، كيف لشخصٍ أن يكن مخادع وحقير عن جدارة هكذا؟! 
حركت أقدامها ببطء شريد لتتجه نحو مرآة كانت موضوعة أمام المرحاض، وقفت تنظر لنفسها في المرآة، متفحصة ملامحها وكأنها تتوسلها اجابة... ما الذي ينقصها ؟! 
جمال؟ هي لا تنصف قبيحة رغم بساطة ملامحها القمحية، او ربما هي قبيحة بنظره من كثرة رؤية عيناه للفتنة المتجسدة في نساءٍ يترمين تحت اقدامه بسهولة! 
او ربما لأنها لا تسمع دون تلك السماعة التي كرهتها، ولكن هل كان ذلك باختيارها؟ 

حتمًا هي مَن لُعنت حين استسلمت لشعورها تجاهه، ولكن لمَ لا تنصرها أيامها لمرة؟ لمَ عليها أن تُنبذ من أكثر شخص شُغف به قلبها !! 

تحركت نحو حقيبتها بخطى آلية ملغية فيها مراقبة العقل، أخرجت احمر الشفاه، وبدأت تضع منه بيدٍ مرتعشة، ربما هي تبدو قبيحة بنظره لأنها لا تهتم بمظهرها كما يجب! 

دقيقة... ثم دُكت حصونها دكًا اسفل دموعها التي انهارت مغرقة وجهها، وبشهقات متتالية كانت تمسح احمر الشفاه الذي وضعته بهيستيرية حتى لطخت ما حول شفتاها.. 
رمته ارضًا وهي تصرخ دون أن تجد القدرة على التظاهر بالجمود اكثر، هي اضعف من ذلك.. 

خرج "عيسى" من الغرفة على صوت صراخها، واقترب منها مسرعًا يسألها مذهولًا مما يره:
-مالك يا كارما في إيه!؟ 
لم تجيبه بل جلست ارضًا دون شعور وهي تتابع بكاءها الهيستيري دون توقف، وضمت أقدامها لصدرها واضعة رأسها عليها، تبكي كطفلة ضاعت من والدتها ! 
شعر عيسى بنغزة خفية أرقت قلبه حين رآها تبكي بانهيار هكذا، 
هبط لمستواها جالسًا على ركبتيه، ثم رفع وجهها ببطء، ومد أصابعه دون شعور ليمسح دموعها، واحمر الشفاه الذي لطخ وجهها برقة بينما يهمس متسائلًا بصوتٍ حاني:
-مالك يا كرملة؟ بتعيطي ليه؟ 
كانت تنظر له لثوانٍ مذهولة كيف يستطيع أن يُغير جلده في ثوانٍ هكذا كالثعابين؟ 
دفعته فجأة بعيدًا عنها بعنفٍ ملحوظ حتى ارتد عيسى للخلف وسقط جالسًا على الأرض يرمقها بنظراتٍ مصدومة، فزمجرت فيه كارما بجنون:
-ابعد عني وبطل حركاتك دي اللي بتعملها مع البنات الشمال اللي بتعرفهم. 
-البنات الشمال اللي بعرفهم!! 
رددها والصدمة لازالت تسود الموقف، فواصلت هي دون أن تعي فعليًا ما تقول:
-ااه، اللي بتفرح بلمتهم حواليك، لحد ما بقيت آآ... 
توقف في اخر لحظة، ثم صرخت فيه متابعة وكأنها تنكر لنفسها قبله:
-اوعى تفكرني زيهم حركاتك دي هتأثر فيا. 
صمتت برهه، ثم اكملت عازمة على عدم الوقوع في بئره أكثر.... وكأنها لم تقع بالفعل! : 
-أنا عارفة أنت إيه كويس أوي. 
عقد عيسى ما بين حاجبيه وراح يردف بعصبية بدأت تطفو على سطح كلماته رغم التعجب الذي لم يزول:
-في إيه أنتي محسساني إني قواد ليه! 
لوت شفتيها في استهزاء:
-على الأقل القواد عارف إنه قواد ومش بينكر، وكل الناس حواليه عارفة كده. 
لم يسيطر عيسى على غضبه فضرب على الباب جواره بقوة مزمجرًا بانفعال:
-لأ أنتي شكلك اتجننتي ومش عارفة أنتي بتقولي إيه ومفكراني هاسكتلك، لا فوقي. 
هزت رأسها باستهانة مغمغمة:
-اه اظهر على حقيقتك بقا وشيل الوش المزيف اللي حاطه للبنات طول الوقت. 
جذبها فجأة من ذراعيها مقربًا إياها منه حتى صار وجهها امام وجهه مباشرةً، ينفث انفاس الغضب فيه، ثم استرسل بلهجة خشنة خافتة نوعًا ما رغم حدتها:
-أنتي اللي عايزه تشوفيني شيطان، عارفة ليه؟ عشان أنتي اللي بتتأثري بقربي منك أكتر من البنات، أنتي اللي لو ضغطت عليكي شوية هتدوبي في ايدي زي البسكوته. 
دفعته بعيدًا عنها وهي تنفي مسرعة:
-لأ طبعًا، أنا مش بطيقك أصلًا. 
اقترب مرة اخرى بعناد وعيناه تغوص في عينيها عازمًا على سبر اغوارها، وردد:
-كدابة. 
-لأ مش كدابة، كل ده من وحي خيالك اللي مصورلك إن مفيش واحدة تقدر تقاومك. 
صاحت فيه بقهرٍ خفي جعل قلبها يتلوى حين ادركت أنها مكشوفة تمامًا أمامه دون أي عازل يحفظ كبريائها !! 
ودون مقدمات او تفكير، كان عيسى يمسك برأسها مثبتًا إياها، ثم هبط يلثم شفتاها بقوة وعناد وكأنه يتحداها أن تثبت بعد أن بعثرها ! 
ولكنه لم يحسب حساب أن يقع هو في الحفرة التي حفرها لها، ويستسيغ مذاق شفتيها لهذه الدرجة التي جعلت عاطفة حارة تتدفق في شرايينه حتى خَفَت غضبه واشتعل ما هو ألعن منه! 

بينما هي تصنمت لثوانٍ معدودة تحاول استجماع نفسها قبل أن تدفعه بعنف، ثم باغتته بصفعة مدوية، تحرق كبريائه كما احرق كبريائها. 
ونهضت راكضة من مكانها لتدلف لتلك الغرفة وتغلق الباب خلفها، ملتقطة أنفاسها اللاهثة وهي تضع أصابعها على شفتيها تحاول استيعاب الاحداث المزدحمة في ظل الدقائق الماضية !!!! 

                                  ****

اليوم التالي صباحًا... 

كان عيسى في المتجر الخاص به، لا يستوعب أيًا مما جرى بالأمس، وكأن احدهم ضربه على رأسه بغتة، فلا يستوعب ولا يستطيع حتى الان تخمين سبب جنونها، ولا يستوعب اكثر الذي فعله، ولكن غضبه وعناده أعماه فتحرك بغريزة تلقائية دفينة داخله.. 
ثم تذكر تلك الصفعة!  
تنهد بعمق وهو يستعيد في ذاكرته كيف استيقظ مبكرًا قبل أن تستيقظ كيلا يتقابل معها اليوم تحديدًا، لأنه لا يضمن رد فعله او فعلها، فليس هو مَن تصفعه امرأة ويصمت.. 
انتبه لدخول "جاد" المتجر فامعتضت ملامحه تلقائيًا وهو يعلم جيدًا سبب مجيئه، سأله جاد وهو يدخن احدى سجائره:
-إيه الأخبار يا عيسى؟ 
سأله عيسى ببرود:
-أخبار إيه؟ 
سخر جاد:
-اخبارك يا عريس أنت وعروستك. 
ثم عادت نبرته للحدة وهو يتابع مناقضًا لحروفه المرتخية بالسخرية منذ ثانية:
-أنت هتستعبط يا عيسى ما أنت عارف أنا قصدي إيه كويس، أخبار اللي اتفقنا عليه. 
أردف عيسى في استهجان:
-هو أنا لحقت، ده أنا لسه كاتب عليها امبارح. 
سأله متهكمًا وهو يرفع احدى حاجبيه:
-اه يعني عايز كام شهر بقا ؟ 
تأفف عيسى وادار وجهه للجهة المقابلة، ثم قال بنبرة جادة:
-مش لدرجة شهور، بس برضو مش يوم أصل مش هسحرلها أنا ! فترة كده، وبعدين أنا معرفش أنت مش صابر ليه أنت عارف إني في الأخر هعمل اللي أنتوا عاوزينه. 
-ومن امتى وشغلنا فيه صبر وطولة بال؟ ما أنت عارف، يا تلحق يا متلحقش. 
استطرد جاد بثبات يسحق اعتراضه، فهز عيسى رأسه:
-عارف مش محتاج تقولي، متقلقش مش هطول. 
هز رأسه موافقًا على مضض:
-ياريت عشان نخلص، أنا كل اللي شاغل تفكيري حاليًا العملية دي. 
غمغم عيسى بشرود طفيف:
-منا عارف هانت. 
وهو ايضًا يريد حقًا أن ينهي كل شيء سريعًا، ولكن صبرًا.. وبالتأكيد سينال ما يريد. 

                                    ****

كانت فيروز جالسة جوار كارما في عش الزوجية الجديد، وكارما تقص عليها ما حدث بالأمس بينها وبين عيسى، فهتفت فيروز غاضبة:
-وسكتيله بعد ما سمعتي كلامه الهباب؟ 
هز رأسها نافية:
-لأ طبعًا. 
هزت فيروز رأسها والرضا يتخلل نظراتها:
-جدعة يا كوكي، عملتي إيه؟ 
-عيطت! 
نهضت فيروز وهي تصيح بنبرة شرسة مصدومة:
-نعم ياختي؟ بدل ما تخليه يعيط على وسامته اللي فرحان بيها !!
جذبتها كارما من يدها وهي تتابع مهدئة إياها:
-استني مهو الموضوع مانتهاش على كده. 
غمغمت فيروز بصوت مكتوم:
-اممم اشجيني. 
صمتت كارما وهي تعض أظافرها بقلق من القادم، فضيقت فيروز عيناها في توجس:
-أنا حاسه كده إن اللي جاي مش هيعجبني. 
-هزقته ومسحت بكرامته الأرض. 
حثتها على المتابعة بترقب:
-حلو وبعدين. 
فجرت قنبلة الحدث بوجه فيروز وهي تخفي وجهها بأصابعها كمن تخشى تناثر شظايا ذلك الانفجار عليها: 
-باسني. 
تتالت الصدمات على وجه فيروز التي تصنمت مكانها وقد تلقت صدمة اكبر من سابقتها:
-إيـــه!
أردفت مسرعة:
-بس أنا ماسكتش والله. 
سألتها فيروز بغيظ دفين:
-عملتي إيه بقا ؟ 
قالت بفخر: 
-ضربته بالقلم. 
تدرجت الابتسامة شيئًا فشيء لثغر فيروز التي ضربت على صدرها برفق مرددة:
-تربيتي. 
أوقفت كارما راحتها النفسية على الأبواب حين استرسلت:
-بس في مشكلة بقا. 
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-مشكلة إيه تاني هو مش خلاص كده؟ 
باحت كارما بمخاوفها بعد أن بللت شفتاها في توتر جلي على محياها:
-بصراحة أنا خايفة أقعد معاه لوحدي ليقوم يردلي القلم اللي ادتهوله، ما تباتي معايا يا فيروز؟ 
رفضت فيروز دون تردد:
-أنتي مجنونة، يعني عشان أنتي خايفة تاخدي قلم عايزاني أنا أخد حفلة اقلام من امي، إيه الأنانية دي يا كارما ! 
صمتت برهه ثم واصلت بصلابة:
-خليكي جريئة وإتحملي نتيجة أفعالك. 
سألتها كارما في حيرة حقيقية:
-أعمل إيه يعني؟ 
-أول ما يجي إقفلي عليكي باب الأوضة. 
رمقتها كارما بنظراتٍ مستحقرة وكأنها ستقتلها في التو، فتابعت راسمة الشجاعة الزائفة التي لا تمتلكها في تلك اللحظات:
-مش عشان أحنا خايفين منه لا سمح الله، عشان لازم تتجاهليه وتأدبيه.  
حكت كارما ذقنها مفكرة:
-بس كده لو مدانيش القلم عشان يردهولي هيدهوني عشان طرداه من اوضته وبنيمه على الكنبة. 
هدرت فيها الاخرى بنفاذ صبر وهي تنهض لتغادر:
-كارما أنا قايمة أمشي ولعوا في بعض ده إيه العلاقة القذرة دي. 
أوقفتها كارما مستنكرة:
-استني بس يا فيروز، هو أنتي مش أختي! 
استطردت فيروز بتبجح درامي فاحت منه الفكاهه التلقائية:
-هو أنا عشان صاحبتك 10 ولا 15 سنة وكلنا عيش وملح مع بعض، وبيتنا عند بعض بقيت اختك خلاص؟! 
لم تجد كارما ما تنطق به وهي تراقب فيروز التي تحركت نحو الباب وهي تكمل :
-يلا ماعطلكيش لو اتضربتي اتصلي بيا هطلعلك الولا زياد على طول. 

                                   ****

اليوم التالي، في الشركة.... 

وقفت "فيروز" ممسكة بالصينية التي تحمل كوب القهوة، تنظر لها كل ثانية تقريبًا وكأنها تناشدها لتنقذها من حيرتها، فهي قد أعدت هذه القهوة "لفارس" بعد أن استشفت غضبه اليوم بعد وجود خطأ في احد المشاريع، فقررت تقديم القهوة له كنوع من أنواع التودد والمواساة في لحظات غضبه، بعدما ازدادت جرأتها منذ اخر لقاء بينهما في منزله، والوجه الآخر له الذي أراها إياه. 

حسمت أمرها وهي تأخذ نفسًا عميقًا، ستفعلها، وإن لم تجدي بنتائجها ورفضها مثلًا.. لن تخسر شيء، ولكن المحاولة تكفي، علها تقتنص مسافة ملحوظة في طريقها الذي يأبى القِصر..! 

وبالفعل تقدمت نحو مكتب "فارس" طرقت الباب ودخلت بعد أن اذن لها بالدخول، فوجدته ينظر لها متفحصًا وعلامات الإرهاق تمزع صلابة ملامحه، تنحنحت ثم هتفت برقة:
-أنا كنت بعملي قهوة فقولت أجيب لحضرتك معايا. 
صمت فارس برهه وكأنه يحسبها في عقله، ثم هز رأسه شاكرًا إياها بنبرة خافتة:
-شكرًا يا فيروز، أنا فعلًا كنت محتاجها. 
وضعتها على المكتب وهي تنحني برأسها قليلًا، وإنفلتت خصلاتها البرتقالية الناعمة لتغطي جانب وجهها، فبدت وكأن لوحة جمالها المميز اُضيف لها لمسة محترفة فازداد توهجها.. 
شعر بالغبطة من جمالها المميز الذي يأبى أن يخبو، فوجد لسانه دون سيطرة منه يترجم تفكيره بصوت أجش:
-لمي شعرك. 
رفعت رأسها له فجأة متصنمة مكانها وكأنها لم تتوقع جملته او لا تصدقها، بينما هو يلعن لسانه الذي إنفلت عيار تعقله، وفيما كان يضع يده في جيب الچاكيت، كان يضغط برفق على "طوق الشعر" الخاص بها الذي نسيته اخر مرة في حديقة منزله حين تبللت خصلاتها.. 

وعقله يجري حسبة سريعة متسائلًا هل يُخرج ذلك الطوق ام لا، ولكن مع إعلانها التعجب بوضوح في قمم عينيها، اضطر للتبرير مسرعًا وهو يُخرج ذلك الطوق ويضعه على مكتبه:
-أنتي نسيتي التوكة بتاعتك المرة اللي فاتت في الجنينة. 
-بجد! 
غمغمت بها دون تصديق، ونظرت للطوق تارة وله تارة اخرى، وإن كان تعجبها قيراط فهو الان الضِعف، وداخلها يتجمهر مطالبًا بإجابة، لما عساه يحتفظ بطوق الشعر الخاص بها ويُحضره معه؟! 
بينما فارس ضغط على خصلاته بعنف وكأنه يود أن يقتلعها، ولأول مرة يشعر بهذا العُطل العقلي وعدم القدرة على التصرف الصحيح! 

ولكن في حضرتها... ينعوج الصحيح ويهتز الثابت، وكأنها تملك مقاليد روحه بسحرٍ خفي خاص يجهله حتى الان!! 
أردفت فيروز مغيرة الموضوع حين راقبت إنفعاله المكتوم:
-متهيألي حضرتك مضغوط جدًا وهي بسيطة وهتتحل إن شاء الله. 
هز فارس رأسه دون أن ينطق، فاستطردت هي:
-لو غسلت وشك وشربت القهوة دي هتدعيلي بقا. 
-تمام. 
غمغم بها مسرعًا وهو ينهض متوجهًا صوب المرحاض، ممتنًا لها لأنها منحته فرصة للهرب ومراجعة نفسه التي تصدر تصرفات بلهاء لا تليق به بتاتًا. 

راقبته فيروز يغلق باب المرحاض عليه، فتحركت بلهفة نحو الجهاز اللوحي الخاص به الذي كان مفتوح، وبدأت تتفقده لتتأكد من حدوث الشيء تخطط له. 
ولكن استوقفها تسجيلات صوت، فتحتها بسرعة وهي تُخفض الصوت، فوجدته صوته بحروف متشققة ورنين الألم يصدح بينها، ولكن حين أنصتت السمع لتفسر ما يقول كان فارس يخرج من المرحاض، وهو ينظر لما تفعله بنظرة ثاقبة حادة انبأتها أنها تخطت الحد المسموح به.... 
-أنتي بتعملي إيه ؟!! 

الفصل السادس : 

استغرقت دقيقة تقريبًا لتستوعب المأزق الذي ألقاها به القدر دون مقدمات هكذا مجردًا إياها من كافة الحجج الممكنة! 
ثم تراجعت خطوتان للخلف، وعدلت من خصلاتها وهي تبتلع ريقها بتوتر باحثة بين أرجاء عقلها الجاف عن كذبة جديدة، ثم هزت رأسها نافية بخفوت:
-مبعملش. 
ازداد انعقاد حاجبيه الذي أكد لها غضبه الذي يزداد شيئًا فشيء:
-امال ماسكة اللاب بتاعي ليه؟ 
أفصحت عن كذبتها حين رددت بهدوء قارب على الخفوت:
-لاقيته طفى فقولت أشوفه عشان لو كده أحطه على الشاحن. 
ثم مدت يدها نحوه تقربه تجاه فارس وهي تتابع بصوت حاولت جعله ثابت:
-خده اهوه شوف معملتش حاجة. 
قبض فارس على كف يدها بقوة متعمدة، واقترب منها اكثر حتى صار امامها مباشرةً، قائلًا من بين أسنانه في تحذير:
-طب بعد كده إتحكمي في فضولك، عشان مبحبش أي حد يمد إيده على حاجة تخصني. 
تغضنت ملامحها بألمٍ طفيف في كف يدها، وسحبت يدها من بين قبضته وهي تردف مستنكرة:
-إيه المستدعي كل ده! في إيه حضرتك؟ 
-في إني فاهمك كويس أوي. 
قالها بصوت صلب، وعيناه تستبيح عقر عينيها التي اهتزت وهي ترمش متساءلة بصوت خرج مفعمًا بالتوتر:
-فاهمني إيه!؟ 
لم يتحرك ولو إنش، ولم تتغير ملامحه وهو يسترسل بنفس الصلابة والنظرات الغائرة:
-يعني فاهمك، وعارف امتى بتقولي الحقيقة وامتى بتكذبي. 
تكذب إن أنكرت الانسياب الواضح لخلاياها في غمرة طوفان كلماته التي ترصدت أعماقها المظلمة المجهولة....
ولكنها ابتلعت ريقها رافضة الاستسلام، مستطردة بشجاعة لا تمتكلها حاليًا:
-أنا مش بكذب على فكرة. 
مد فارس يده ورفع رأسها التي كانت تنظر في اتجاه اخر، وأردف بصوت أجش واثق:
-طب اعدلي اتجاه راسك، وظبطي نَفَسك وعَلي صوتك، وبعدين قولي مش بكذب. 
عقدت ما بين حاجبيها بانزعاج، ولكن ليس من استنتاجاته الدقيقة التي أكدت لها ذكاؤه الشهير، بل من لمسة أصابعه لجلد وجهها الناعم، لا تدري لما استلطفت لمسته ولم تنفر منها، بل شعرت أن تلك اللمسة الرقيقة المداعبة لباطن روحها لا تناسب كلماته التعنيفية اطلاقًا..! 
وهو الاخر نبتت بسمة صغيرة لم تدم سوى ثوانٍ وهو يجدها ترفرف بأهدابها على عينينها الفيروزية الناعسة، الناعمة ككل شيء فيها ! 
أبعد يده واضعًا إياها في جيب بنطاله ضاغطًا عليها بقوة وكأنه يعاقبها، فحمحمت هي قائلة بشيء من الاستنكار المرح لتغير الموضوع:
-هو أنت صاحب شركة ولا دكتور نفسي!
اقترب منها فارس قليلًا حتى تقارب وجيههما بابتسامة صفراء لم تظهر اسنانه، وتشدق بنبرة سمجة:
-صاحب شركة الصبح، ودكتور نفسي بعد الضهر، احنا هنهزر ولا إيه؟
في تلك اللحظة قطع صمتهما فتح الباب ودخول "نغم" طليقته السابقة، بعد أن أفرغت شحنة غضبها الأهوج في وجه السكرتيرة التي لحقت بها تحاول منعها مرددة في حنق:
-يا أستاذة مينفعش كده. 
تجاهلتها نغم التي انتبهت لتقارب فارس وفيروز، اللذان تفاجئا بتواجدها، ونست سبب غضبها من تلك السكرتيرة التي دعست كبريائها المهووسة به، أشار فارس للسكرتيرة بالمغادرة:
-اتفضلي انتي يا هويدا. 
فيما اقتربت نغم منهما وهي تسأل دون تردد مشيرة بعينيها تجاه فيروز:
-مين دي؟
رفعت فيروز حاجبها الأيسر مستنكرة سؤالها، فمَن هي لتسأل اصلًا؟!.. في حين رمقها فارس بنظرات حملت مقتًا مستقر داخله منذ القدم، واستحقار لسؤالها الذي لم يكلف نفسه عناء الرد عليه. 
فتابعت نغم رافعة وجهها بترفع:
-هنتكلم كده قدامها؟ 
نظر فارس تجاه فيروز، متمتمًا بهدوء وجدية:
-اتفضلي يا فيروز تقدري تروحي تشوفي شغلك. 
انتفخت اوداج فيروز بالغيظ الحقيقي حين طالبها بالخروج، مما يعني أنها تمثل سلطة في حياته لذلك استجاب لما تريد!؟ 

تحركت لتغادر على مضض، تحت أنظار نغم المنتصرة المراقبة، وداخلها شيء يخبرها أن هنالك أمر مجهول، وأن تلك الفتاة ليست مجرد موظفة! 
خرجت فيروز وهي تحاول خبت لهب الغيظ الذي وجد مكانه بين ضلوعها، مَن تكون تلك المغرورة، كم ارادت أن تجذبها من خصلاتها الملونة البشعة! 
ولا تدري سبب تدفق ذلك الغيظ والغضب داخلها، ولكن ربما بسبب غلاظتها معها. 
حين خرجت امام السكرتيرة، لم تستطع السيطرة على السؤال الذي اندفع متحررًا من لسانها:
-هي مين دي؟ 
اجابتها 'هويدا' والنفور ينضح من ملامحها:
-دي طليقته. 
وقع المفاجأة على فيروز كان ظاهرًا للعيان، ولكنها أجبرت نفسها على التحرك، وقد أدركت سبب ثقة تلك المغرورة، وصوت خبيث منخفض داخلها يصدح أنها تكتسب تلك الثقة بسبب العشرة السابقة بينهما، وربما الحب ايضًا !! 
هزت رأسها تنفي المستوى الذي انحدر له تفكيرها، وتغمغم بصوت مكتوم لنفسها:
-ميخصنيش، حتى لو مراته، مش من حقها تتعامل معايا كده. 

                                  ****

كانت "كارما" جالسة أمام التلفاز وهي تتناول الطعام، مستغلة غياب "عيسى" عن المنزل، لتقضي على الملل الموحش الذي استحل حياتها مؤخرًا، وقد كانت تتحاشى مقابلته بعد ما حدث بينهما، وحين كانت تعير الفيلم انتباهها وهي تضع الطعام بفمها، فتح عيسى الباب ودخل دون مقدمات، فتصنمت مكانها فجأة لا تدري ماذا تفعل، وتوقف الطعام بحلقها وبدأت تسعل من المفاجأة..
فاقترب عيسى منها، وبدأ يربت على ظهرها بخفة متمتمًا بنبرة ماكرة ذات مغزى: 
-انشفي شوية روحك مش هتطلع دلوقتي اما اطلعها أنا. 
نظرت له في حنق مكبوت وهي تحاول ابتلاع الطعام بفمها، لاعنة انسجامها الذي لم يجعلها تشعر بمجيئه، فتابع عيسى ساخرًا: 
-إيه كلامي لسعك على خدك ولا إيه؟ 
بتلقائية وضعت يدها على وجنتها وهي تنظر له بشيء من القلق متذكرة صفعها له، ثم ابتلعت ريقها وهتفت بحروف متلجلجة بعض الشيء:
-ما هو برضو يا عيسى محدش يعمل اللي أنت عملته. 
استدار للجهة المقابلة حتى أصبح أمامها، متسائلًا وهو يضغط على كل حرف من حروفه بعبث صبياني استطاعت رؤيته يتراقص بعينيه:
-عملت إيه بقا ؟ 
غمغمت مغتاظة من طريقته العبثية الشهيرة:
-أنت عارف أنت عملت إيه. 
هز رأسه نافيًا وأكمل مُصرًا:
-لا مش عارف عرفيني. 
تأففت كارما في غيظٍ:
-بقولك إيه، طريقتك دي بتعصبني. 
هز عيسى رأسه بلامبالاة يهاودها متسائلًا:
-طريقتي اللي بعملها مع البنات صح؟ 
أكدت جاذبة خيوط الجراءة نحو حروفها:
-ايوه، مفكر كل البنات واحد، لأ طريقتك دي مش هتأكل عيش معايا. 
تهكم عيسى قاصدًا مشاكستها:
-هما فين البنات دول؟ 
أعادها لبقاع ذكرى ذلك اليوم المُحرقة، التي جعلت احشاءها تتلوى بالغضب من جديد، فتشدقت بصوت يفوح منه دخان ذلك الغضب:
-اه نسيت إن جنابك مش معتبرني بنت زيهم اصلًا، وإن مش من قلة البنات هتبص لي. 
اوقفها عيسى مستنكرًا بشدة:
-ثانية، أنا قولت كده؟
-أيوه قولت كده عليا إيه هتنكر؟ 
هز رأسه نافيًا دون تردد، وبجدية تابع:
-أيوه هنكر عشان مقولتش كده عليكي اصلًا، قولت امتى؟ 
أجابته متحدية إياه لينكر:
-قولت لما كنت في الاوضة وسمعتك بتتكلم في التليفون.
تأهبت حواس عيسى وهو يعود بذاكرته لذلك اليوم، وبدأت عيناه تلمع بالوعيد وهو يردف مدققًا في كلماتها: 
-ثانية بس عشان لو طلع اللي في دماغي صح هتزعلي، أنتي عملتي حركاتك الجنان دي لما سمعتيني بقول كده في التليفون؟ 
اماءت برأسها دون تردد هي الاخرى:
-أيوه. 
هدر فيها بانفعالٍ غير مصدق:
-أيوه! ده أنتي ليلتك سوده انهارده، بقا أنا أتهزق وأتلطش قلم عشان شتمت داليا مقشات!! 
انبسط الاذبهلال على قسمات وجه كارما، التي أخذت ترمش بعينيها وكأنها تحاول تكذيب الحقيقة التي تزحف رويدًا نحو مقر استيعابها:
-داليا مقشات مين؟!
أضاف موضحًا بقليلٍ من السخرية ليذكرها بتلك الفتاة التي سكبت عليها المياه:
-داليا مقشات البت المايعه اللي بتقعد تنط لي في المحل زي عفريت العلبة. 
رفعت كارما حاجبيها مصدومة وراحت تقول بنبرة درامية:
-احلف! طب مش تقول يا راجل. 
ضيق عينيه وهو يهز رأسه مرددًا من بين أسنانه بغل:
-اقول، هو انتي ادتيني فرصة أقول، ده أنتي نزلتي عليا زي القضا المستعجل وهاتك يا تهزيق. 
نهضت كارما مبتعدة عنه قليلًا وهي تحاول ايجاد كلماتها التي هربت منها:
-يعني... يعني... يعني مهو برضو يا عيسى آآ... 
قاطعها: 
-استاااااذ عيسى، وإلا ورحمة أمي لأخلي وشك شوارع بدل القلم اللي أخدته. 
هزت رأسها نافية، ورسمت ابتسامة ظاهرية مملوئة بالتوتر:
-لا لا أنت رجولتك وشهامتك مش هيسمحولك تعمل كده. 
ضحك عيسى ساخرًا دون مرح، وراح يستطرد مذكرًا إياها بكلماتها السابقة:
-رجولتي! اسكتي، مش أنا طلعت قواد؟ 
-إيه ده! متقولش على نفسك كده. 
زمجر فيها مهتاجًا، يشعر أنها تدفعه دفعًا نحو هوة الجنون:
-بت! أنا هرتكب فيكي جناية انهارده. 
أشارت له كارما مغمغمة:
-اهدى بس كده يا استاذ عيسى وعفا الله عما سلف. 
-وديني ما هسيبك يا مختلة. 
تراجعت راكضة بعيدًا عنه بسرعة وهي تصيح:
-أنت بتتحول ولا إيه!
باغتها قائلًا بوجوم وهو يقترب منها:
-اعتذري. 
ابتلعت ريقها واكملت بتوتر:
-أنا أسفة يا استاذ عيسى. 
هزت رأسه نافيًا، معترضًا في غرور متعمد أغاظها:
-لا لا مش حاسسها. 
-نعم! احنا هنهزر؟ 
رفع حاجبه الأيسر يتحداها:
-إيه عندك اعتراض؟ 
استعانت بنفس الابتسامة المذبذبة السمجة وقالت مجبورة من بين أسنانها:
-أنا ؟ لا خالص، أنا أسفة يا استاذ عيسى. 
أردف عيسى مشيرًا لوجنته:
-تمام بما إنك ضربتيني بالقلم على خدي، اديني بوسة على نفس الخد. 
إتسعت عيناها ذهولًا من وقاحته:
-نعم! دي كده قلة ادب. 
جذبها عيسى نحوه بحركة مباغتة وهو يرفع يده في وجهها متظاهرًا أنه سيضربها:
-صح، بلاها قلة أدب وأخد حقي بإيدي. 
فسارعت تضيف دون وعي:
-استنى بس أنا أصلًا بموت في قلة الأدب. 
ابتسامة تقطر عبثًا ومكرًا لاحت على ثغره وهو يردد غامزًا إياها بطرف عينيه:
-أنا كنت عارف يا خلبووووصة، يلا بقا. 
ابتلعت كارما ريقها، وحاولت استجماع شجاعتها الهاربة، ثم اقتربت منه قائلة بصوت يكاد يسمع:
-ماشي غمض عينك طيب. 
استجاب عيسى دون عناء وبالفعل أغمض عينيه، وبحركة سريعة طبعت قبلة خاطفة على وجنته وركضت من أمامه قبل أن يبدي أي اعتراض، ففتح عيسى عينينه مبتسمًا رغمًا عنه على براءتها وسذاجتها اللذان صار يحبهما...

                                     ****

بعد خروج فيروز باغت فارس نغم بالهجوم:
-مين اداكي الحق إنك تيجي هنا وبتسألي كمان بكل بجاحة مين دي؟
عاتبته برقة مستفزة:
-مالك يا فارس أنت لسه متنشن مني؟ سوري لو ضايقتك ده كان سؤال عادي يعني. 
-لا والله! 
غمغم فارس بسخرية جمة وهو يلوي طرف فمه، فيما واصلت نغم بنبرة ذات مغزى:
-بس في حاجة غريبة من امتى يعني وفارس اللي بيحط حدود مع كل الموظفين سايب موظفة واقفة معاه كده في مكتبه وبينهم كام سنتي بس. 
اخشوشنت نبرته وهو يسألها محتدًا:
-جايه ليه يا نغم؟ 
تراجعت نغم في وقفتها، ثم تنحنحت قائلة بخفوت:
-بصراحة يا فارس، أنا حاسه إننا نهينا علاقتنا بطريقة ماتليقش بالعِشرة الطويلة اللي كانت بينا، عشان كده جيت أعتذرلك عشان لو لسه شايل ليا في قلبك حاجة، واتمنى إننا نقدر نكون فريند. 
من خلال معرفته الطويلة بشخصيتها، يدرك جيدًا أن "نغم" لا تغير جلدها دون سبب قوي، لذا تعمق بالنظر لعينيها التي حافظت على ثباتهما في قوة عهدها بها، ومن ثم هتف ببرود:
-لا اتطمني أنا مش شايل في قلبي ليكي أي حاجة. 
اقتربت منه قليلًا، ثم أمسكت ربطة عنقه تلفها ببطء حول أصابعها وهي تسأله ببسمة صغيرة التوت بها شفتاها:
-يعني بجد مش زعلان مني خلاص؟ 

قبل تلك اللحظات بقليل، كانت فيروز تحوم حول الغرفة في انتظار مغادرة تلك المقيتة، فاقتربت منها السكرتيرة تستمحها:
-فيروز لو سمحتي ممكن تدخليلها القهوة، عشان دي ست متكبرة وأنا لسه متخانقة معاها ولو عملت أي حركة من حركاتها دي مش ضامنة رد فعلي. 
بللت فيروز شفتيها وهي تفكر في القبول او الرفض، ثم اماءت برأسها موافقة على مضض:
-ماشي يا هويدا هاتي، مع إني أنا كمان مش طيقاها. 
-ان شاء الله تطفح قهوتها وتغور بقا. 
تمتمت فيروز بحقد وهي تلتقط منها صينية القهوة:
-ان شاء الله. 

لحظة تقارب تلك العقربة من فارس تزامنت مع فتح فيروز الباب بتلقائية فصفعها المشهد الماثل أمامها، وتجهمت ملامح وجهها على الفور بضيق لم تسيطر على زمامه، فاقتربت منهما ثم وضعت صينية القهوة على المكتب، وغادرت دون أن تنطق بكلمة، ولكن نظراتها كانت ترشق بهما كالسهام... 
خاصةً فارس الذي بوغت بفعلة نغم ثم دخول فيروز، وكاد ينفعل على نغم ولكن تسمر مكانه حين تحركت مسرعة لتضع الصينية وتغادر، ولا يدري لما شعر بالضيق، وود أن يرى رد فعلها ! 
أبعد نغم عنه بحدة بعد خروج فيروز، وزمجر فيها بغضب بدأ يطفو على سطح كلماته:
-إيه الحركات دي أحنا في مكان شغل. 
تمتمت نغم كقطة وديعة:
-سوري يا فارس مش قصدي، أنا اتصرفت بتلقائية. 
-طب اتفضلي بقا عشان عندي شغل. 
تشدق بها وهو يتحرك متوجهًا لكرسي مكتبه ليجلس عليه وهو يزفر بعمق، فانتشلت نغم حقيبتها وهي تغادر بالفعل مغمغمة ببرود:
-اوكيه، باي. 

على الجهة المقابلة، وقفت فيروز في المرحاض أمام المرآة، تبحث بين جنبات وجهها عن القنبلة التي فجرت ذلك التجهم والضيق، تسأل نفسها المتلوية بالحنق، مَن الذي وهبها حق الاعتراض؟
لما انحرفت عن طريقها ؟! 
لا تجد أي اجوبة داخلها، تشعر أنها وسط ضوضاء كبيرة وظلمة حتى تاهت وسطها ولم تعد تدرك أي شيء.. 

                                 ****

صباح يوم جديد... 

توجهت كارما نحو المتجر الخاص بعيسى، لتأخذ بعض نواقص الطعام بعد أن هرعت متلهفة للفرصة التي جاءتها لتخرج من المنزل الذي بدأت تشعر أنه سجنها الجديد.. 
في نفس الوقت، كان جاد يتحدث مع عيسى في المتجر، فنظر عيسى حوله جيدًا يتفحص إن كان احدهم بالجوار ام لا، ثم سأله:
-إيه اخبار الشحنة الجديدة جهزت؟ 
أكد جاد بثقة:
-طبعًا جهزت. 
اقترب منه عيسى أكثر متابعًا اسئلته:
-كام تمثال؟ 
لمعت عينا جاد بالجشع، وبرزت أنيابه خلف ابتسامته البشعة وهو يرد:
-كتييير، ومش بس كده.. 
قاطعه عيسى بابتسامة هادئة مشابهه:
-لاقيتوا مشتري؟ 
اومأ جاد مؤكدًا:
-وخواجة تقيل. 
هز عيسى رأسه وكاد ينطق، ولكن استوقفه ظهور "كارما" التي كانت متجمدة مكانها، ويبدو أنها قد سمعت ما تحدثوا عنه......! 

تعليقات