طفل
الوقت الحاضر
وأخيرا عاد للواقع وانتهت الذكريات المؤلمة فأوقف السيارة بقوة أثارت غبار كثير حوله والغضب وصل لذروته من الذكرى التي توالت داخله ومن هروبها من المزاد ومنه ولكنها لن تفر للأبد، لديه العديد من الأسئلة وعليها أن تجيب، ما زالت زوجته ولن يمكنها إنكار ذلك ولكن ألم ينكر هو ذلك الزواج طوال تلك الشهور؟ بل وكان يتهرب من شعوره بالفراغ بدونها؟ كان يهرب من ذكرياتها معه ويرفض حتى رؤيتها بأحلامه ولو فعل يرفض تذكر الحلم ولكنه كان يعلم أنها لم تهتم برحيله، لم تحارب من أجله كما ظن بل رحلت هكذا بمجرد أن وضع النهاية، كثيرا ما تساءل ماذا كان بينهم كي ينتهي بتلك السهولة؟ ولكنه لم يجد إجابة لأنه يهرب من حقيقة أن ما بينهم لم ينتهي على الأقل بالنسبة له ولكنه لم يعترف بذلك
عندما وصل لبيتها اندفع خارجا من السيارة بلا تفكير ودق على الباب بقوة جنونية مرة وراء الأخرى وهو يصرخ "ليل افتحي، ليل افتحي الآن قبل أن أكسر هذا الباب"
وعاد يدق مرة أخرى وهو يفكر بالكثير من عدم رغبتها برؤيته أو سبب فرارها منه، أو ماذا تفعل هنا وحدها أو كيف عاشت بدونه؟ الكثير والكثير حلق حوله بلا إجابات
عاد للدق بجنون حتى انفتح الباب ورآها أمامه بنفس الملابس التي كانت بها بالمزاد، لم يتبدل أي شيء، نظراتها فقط هي ما اختلفت، رحلت الدموع، بماذا فكرت؟ لقد رفضت الرجل السمين بالمزاد وهو نفذ وأطاح به بلحظة جنون كعادته عندما يمسها الأمر، دفع الكثير دون أن يرمش من أجلها وهي فرت هاربة فهل ظنت أنه سيتركها؟
تراجعت وقالت بقوة لم يعرفها بها من قبل "ماذا تريد مني؟ ابتعد عني أنا لا أريدك"
توقفت ولكنه لم يفعل كانت تظن أن كل شيء انتهى، بل كل شيء انتهى بالفعل وهو من أنهاه، تألمت بما يكفي ولا تريد أن تعود للماضي مرة أخرى لقد اكتفت هو لا يعرف بأي جحيم مرت بعد أن ألقاها دون النظر خلفه، لكنه لم يكن هنا ليتركها بل تحرك بالغضب الذي يسكنه وقبض على ذراعها ككل مرة وانطلق الغضب من عيونه يكاد يصعقها وهو يقول
"وكأنك نسيت أن لا حق لكِ بإخراجي من هنا"
هزت رأسها وتناثر معها شعرها وهي تهتف "من هنا؟ بلى، لي كل الحق لأفعل ليس فقط من هنا بل من حياتي كلها"
شد على ذراعها وكلماتها تندفع كالسهم الحاد مخترقا عضلاته الصلبة لتحرق صدره وتغاضى عن كلماتها عن حياتها وخروجه منها وقال "لا، ليس لكِ الحق بأي شيء، هذا أصبح بيتي ولن يمكنك إخراجي منه ولن تخرجي منه بسهولة كما خرجتِ من بيتي من قبل"
لوت شفتيها بابتسامة ساخرة مُرة وهي تقول والألم ينبض بكل كلمة "لابد أنك نسيت سيد عامر إنه أنت من أخرجني ولم يكن الاختيار لي"
صمت سقط عليه وهو يذكر ذلك اليوم بداية السواد الذي ظلل حياته من بعده ولم يستطع إزالته بل دهس نفسه بمفرمة العمل كي لا يفيق للألم ولكن الآن، الآن كل شيء تبدل وكأن الجدران تستبدل نفسها من حوله
نفضت ذراعها منه وابتعدت للداخل واستوعب كلماتها، كلماتها عن الحقيقة ألم يطردها من حياته؟ شيك؟ هي كانت تساوي ذلك المبلغ من المال الذي لم تمسه أبدا، لم تأخذ الشيك بل لم ترى كم كتب به كل ما فعلته أنها تركته مكانه ورحلت، رحلت من المدينة كلها فهي ليست مكانها وهو لم يبحث عنها رفض تتبع أوامر قلبه الذي كان يدفعه لها ووافق عقله بأن ما فعله هو الصواب فلماذا كان يتألم إذن؟
تحرك بلا هدى وهو يدرك الدمار الذي يحيط بالبيت كما كانت حياته وجذب نفس ليستعيد هدوئه وقال "لم تخبريني أن لكِ أم وزوج لها خاصة غني مثل الألفي"
سخرت وهي تمنع دموعها "لكنت أبقيتني زوجتك وأعلنتني للجميع"
حدق بظهرها الذي يواجه وقال "ما زلتِ زوجتي بالفعل"
صمتت، لم تهتم ما إذا كان أبقاها زوجة أم طلقها، لم تهتم بأي شيء وهي تترك له كل شيء وترحل، أرادت الابتعاد عنه لأقصى مكان لتنسى، ولكنها لم تنجح أبدا بالنسيان
تحرك حتى وقف أمامها ولم تنظر له، كانت تعلم قلبها، كانت تدرك ضعفها ولكنها أيضا كانت تذكر الحزن والألم الذي عاشت فيهم فلم تنظر له وهو يقول
"أنا لم أحررك ليل، أنتِ حتى لم تأخذي الشيك كيف كانت حياتك؟"
ظلت عيونها بمستوى بعيد عن وجهه وذهنها عاد لشهور مضت وقالت "غريبة، حياتي كانت غريبة ولكن لا أظن أنها تهمك، اسمع سيد عامر أنا أعلم أن لي مهلة أربع وعشرين ساعة قبل أن أترك البيت وأنا أعدك.."
هتف بغضب "اللعنة ليل هل تظنين أني سأطردك من هنا؟"
هتفت هي الأخرى "وماذا تفعل هنا إذن؟ فقط اتركني لحالي"
صوت صراخ سمعه من مكان ما، انتبه، هذا ليس صراخ أنثى كالمرة السابقة، الصراخ عاد مرة أخرى فرفع رأسه للأعلى وشحب وجهها وهي تقول بتعثر "سيد عامر من فضلك"
رفع يده ليوقفها عن الحديث وعيونه تركز على الأعلى والصوت يعود فقال "ما، ما هذا الصوت؟"
وتجاوزها تجاه السلم ولكنها تحركت بسرعة لتقف أمامه لتوقفه وتقول "إنه لا شيء، ربما الجيران فقط"
قاطعها الصوت مرة أخرى وتأكد له أنه من الأعلى وسيكون كلب شوارع لو لم يكشف ماذا يكون، دفعها بيده وهتف "دعيني أرى ذلك بنفسي"
وصعد ولكنها لحقت به وأمسكت ذراعه وهي تهتف "ليس من حقك"
رفع يده بتحذير وعيونه أظلمت فجأة والشيطان صور له الكثير والصوت يعود مرة أخرى فأبعدها وهتف "من حقي كل شيء"
وتجاوزها مرة أخرى وتحرك للممر ولكنها تخطه بكل ما تبقى لها من قوة وتوقفت تسد الباب المفتوح بذراعيها والتقت بعيونه التي تلونت بالأحمر وقد كان الصوت صراخ واضح ودموعها وصوتها يختلط به وهي تهتف
"فقط دعني وشأني"
ظل يحدق بها بنيران مشتعلة بعيونه وهو يقول بنبرة نارية كادت تحرقها "ابتعدي من أمامي ليل، الآن"
وعندما لم تتحرك وهي تهمس بدموع "أرجوك، فقط اتركنا"
ولكنه لم يفعل والصراخ يعلو وهو يدرك الصوت جيدا ويبعدها بيد من حديد وقد رأى مهد الطفل الصغير بمنتصف الغرفة وعندما تقدم كان هناك مصدر الصراخ، طفل لا يتعدى عمره شهور قليلة
صراخ الطفل زاد وهو يحاول أن يستجمع نفسه، هو لا خبرة له بالأطفال، ليس هناك أطفال بالعائلة، ليس له أصدقاء ليكون لهم أطفال
الصدمة كانت أقوى عندما رأى وجه الطفل، عيون مليئة بالدموع وجه مثل وجهه، نفس الخصلات البنية نفس الملامح التي تقريبا يعرفها
يداها امتدت داخل المهد لتلك الأذرع التي كانت تتحرك بالهواء وأرجل ترفس معترضة على التجاهل، حملته بين ذراعيها وبلحظة سكن الطفل بين ذراعيها وانتحب قليلا وسقطت شفته السفلى نتيجة بكاؤه واستقرت يده على صدرها وهي تربت على الطفل بحنان وتهتف بهدوء
"لا تبكي حبيبي أنا هنا، هل تهدأ، أنت شجاع أليس كذلك؟"
سكن الطفل بالفعل بين ذراعيها وظل هو مصدوم لا يعرف ماذا يقول أو يفعل، من هذا الطفل؟ كيف؟ متى؟ هل أصبحت أم؟ إنها أصغر من أن تكون
استدارت وقالت "ارحل، أريد إطعامه"
وبالفعل استدار بصمت ونزل خارجا من البيت وركب سيارته ودهس التراب تحت عجلاته وهو يبتعد عن هنا لأبعد مكان يمكن أن يصل له، غيامه كانت تمر أمام عيونه، طفل، هي لديها طفل؟
ودوى صوت إسماعيل بأذنه "عاهرة؟" "بماذا وعدتك؟" ضرب المقود بيده بقوة من شياطينه التي ثارت حوله وجعلته يتخيلها مع هذا وذلك
لم ينتبه للسيارة التي كانت بالطريق المواجه إلا عندما فزع من صوت البوق فلف المقود ليبتعد وتفاجأ بالرصيف حيث لم يستطع تجنبه وهو يصعد عليه والمارة يصرخون مبتعدين بفزع لتجنب الاصطدام بالسيارة وهو يضغط الفرامل بقوة حتى توقفت السيارة فوق الرصيف وهو يشعر بألم بقبضته يعادل ألم صدره
سقط رأسه على المقود ويداه تقبض عليه بنفس القوة المؤلمة وهو يغمض عيونه وأشباح، خيالات لها بين الرجال، لا، صرخ قلبه بقوة رافضا تصديق ذلك وانتبه للواقع عندما أصوات صرخت به من الخارج تسأل عن سلامته
انفض الجميع من حوله عندما اتضح أنه بخير، استعاد نفسه وهو لا يصدق ما يحدث له، أدار السيارة القوية وأطاعته وهو ينزل من على الرصيف ويتحرك مبتعدا وهو يرى وجه الطفل، وجه يراه كل يوم أمام المرآة وقت أن يغسل وجهه بالصباح أو عندما يحلق ذقنه، وقتها أدرك كل شيء فضغط على الفرامل ولم يهتم بما خلفه وهو يستدير بالسيارة ويعود
دقات الباب جعلتها تفزع خاصة بعد أن استكان طفلها ونام بأحضانها وخشيت أن يستيقظ مرة أخرى، وضعته بالفراش الصغير والدق يعود فنزلت مسرعة وتوقعت المحامي كي ينهي الإجراءات ولكنها تراجعت عندما رأته يستند بذراع على الحائط ويضع يده الأخرى بجانبه وبدا بحالة لم تراها عليه من قبل
لم تتحدث وهي تفاجأت حقا من عودته، تركت الباب ودخلت لتقف بنفس المكان عاقدة ذراعيها أمامها وقد رأى عيونها الباكية
تقدم وأغلق الباب خلفه وقد هدأ غضبه كي يمكنه الحصول على إجابات، وصل لها وقال من خلفها "طفل من؟"
التفتت له وعيونها تنطق بالكثير مما يعرفه ولكن لا يصدقه وهي تهتف "ماذا؟"
اقترب منها وهي ترفع وجهها لتواجهه وهو يقول "سألتك طفل من هو؟"
انشق صدرها بخنجر حاد أصابها بالصميم وبلا رحمة، هل يسأل؟ لمعت عيونها بالدموع ومع ذلك أوقفتها وهي تقول "هل حقا يهمك الأمر؟"
اقترب وحاول ألا يثور ويغضب ككل مرة، ليس الآن، ليس بعد ما سقط داخل عقله فقال "ماذا تظنين؟"
لوت فمها وقالت "معك لا يمكنني أن أظن أي شيء، توقفت عن فعل ذلك منذ انتهى أمرنا"
ظل أمامها ونفس الياسمين يصل لأنفه ويا الله بدت جميلة، بتلك اللحظة لم يرى سوى صغيرته التي سلبته عقله بيوم ما، فتاة الغرف التي جعلته ينسى العالم ولا يذكر سواها، تلك الأيام القليلة التي كانوا فيها سويا ومن بعدها فقد أي متعة بالحياة
بلحظة بل بنظرة بتلك العيون الزيتونية الآن وجد نفسه حبيس ذكراها ورغب بشيء واحد، شيء واحد أراده منذ رآها ورفض أن يفكر أو ربما توقف عقله عن التفكير وهو يلف ذراعه حولها ويجذبها له ويقبلها
نعم قبلها بقوة ورفعت يداها على صدره لتدفعه بعيدا وقاومت والدموع تسقط أخيرا متحررة ولكنه لم يتركها بل طالب بشفتيها بقوة أكبر حتى توقفت عن المقاومة وتركت شفتاها تستجيب له بل وبادلته القبلة
اشتياق بدا بينهما، نفس الرغبة، نفس الجاذبية مختلطة بالشوق ثلاثة عشر شهرا وعشرين يوما هما أكثر الشهور والأيام اللذين مروا عليه بحياته صعوبة وطولا بل وألما لذا والآن وهي بين ذراعيه لا مجال لأي عقل ولا أي شيء سيوقفه
الحرارة ارتفعت بجسدها، أعادتها للحياة هو فقط من يملك تلك السعادة التي تشعر بها بقبلته وبضمة ذراعه ولكن فجأة ضربتها الذكرى، الذل والمهانة التي تركها بها لذا كورت يداها ودفعتهم بصدره لتبعده وهي تهتف
"لا"
بدا لاهثا وهو يتراجع من دفعتها والذهول يغطي وجهه وأنفاسه متلاحقة وقد كانت من لحظة تستجيب له فهتف "لا!؟"
صوتها خرج قويا رغم الألم، جريئا رغم الانكسار وهي تقول "نعم لا، لا عامر أنا لم أعد تلك الفتاة الصغيرة التي تعميها بقبلاتك، لا لم أعد كذلك"
ضاقت عيونه وهو يردد "ليل أنتِ"
ولم يكمل والجنون من رفضها له يعتصره يحوله لشيطان بلا عقل وهو يهتف "وماذا أصبحتِ إذن؟ امرأة لكل رجل! كم الثمن إذن؟"
تلك المرة لم يستطع وقف يدها التي صفعته بقوة رغما عن رقتها وهي تصرخ بألم "كفى"
ظل جامدا مكانه وهو يواجه وجهها المحترق من الدماء والمغسول بالدموع وصوتها الصارخ "أنا أكرهك، لماذا عدت لحياتي؟ ألم تكفيك مرة واحدة لتدميري فعدت لتكمل على البقية الباقية، ابتعد عني لأني أكرهك، أنا لا أريد رؤيتك، ابتعد عني"
وغطت وجهها الباكي بيداها وهي لا تستطيع التوقف ورفع هو يده لشعره محاولا السيطرة على نفسه التي فقدها ولكن ليس معها وإنما عليها ونسي من كانت ومن تكون، لقد كانت تلك الفتاة البريئة التي منحته نفسها دون تردد وهي زوجته التي يطعنها بشرفها، أين عقله الذي لم يفقده يوما؟
أين الرجل الذي لم يخسر صفقة واحدة طوال خمسة عشر عاما؟ كيف يخسر المفاوضة الوحيدة والأهم بحياته للمرة الثانية؟
عاد لها وتحرك ليمسك يداها ليبعدها عن وجهها وقال "اهدئي ليل أنا فقط أحتاج لإجابات وأنت تجعليني أرقص على الجمر المشتعل فأين سيكون العقل؟"
تركت يدها بيده بلا اهتمام ولم ترفع وجهها له وهو يتحدث بنبرة مختلفة "كم عمره؟ ذلك الطفل؟"
لم تنظر له وهي تقول باستسلام "مازن، اسمه مازن"
رفع يده لوجنتها ليمسح دموعها الغزيرة وقال "وكم عمره ليل؟ كم عمر.. مازن؟"
وعادت له بعيونها المحترقة من الدموع وهي تعلم أنها بالنهاية ستتحدث لذا قالت "أربعة أشهر"
ظل يحدق بها حتى تنفس بقوة وترك يدها والتف حول نفسه وهو يرفع يده لشعره مرة أخرى وقد عرف الإجابة وهمس "الاسم بشهادة الميلاد ليل؟"
عندما لم ترد التفت لها وعيونها الباكية تصدق على أفكاره فتحرك لها وهو يردد "مازن عامر دويدار، ابني أليس كذلك؟"
لم تتوقف دموعها وهي تقول بنبرة حادة كالموس "تراجعت برأيك بي سيد عامر؟"
لا يعلم كيف سمع صوت ساهر يقول "عليك باختبارات الابوة، ليس كل واحدة تدعي أنها أم ابنك تصدقها"
لكن ذلك مع النساء التي يعرفها ساهر وليس مع ليل، الفتاة التي كانت كالحليب النقي وهو من عكر صفوها، ظل صامتا وهو يبتعد مرة أخرى، ما زال يحتاج للهدوء والتركيز، هذا قرار مصيري، أي مصير الذي يتحدث عنه؟ الطفل صورة منه، هو رأى ذلك أي أحد سيراه سيدرك من أول لحظة ابن من هو؟
جلست وقد شعرت بتعب يجتاح كل جسدها، الاسود خلعته منذ اسبوع ربما تعود لطبيعتها، الشهور الماضية كانت هلاك، منذ عادت لبيت الألفي وهي تحيا بتعب وإرهاق ولم تنال الراحة، كانت ممرضة فقط، حامل وتقوم بالتمريض لشخصين تخلا عنها بوقت ما لكن هي لم تستطع التخلي عنهما وقت المرض
سمعته يقول "نجري اختبارات الابوة؟"
صعقها الحديث ورفعت وجهها له وتدلت شفتاها من الذهول وهو رأى ذلك وأدرك أنه يفقد الأمور أكثر هل عاد للعشرينات والمراهقة وعدم التعقل مع الأمور؟ هل جن جنونه برؤيتها وفقد عقله؟
هتفت بتعب واضح "حقا؟ هذا ما تريده؟ ولكن إليك ما أريده أنا، أنا لن أفعل أي شيء لك ولن أسمح لأحد بوخز ابني بإبر مؤلمة لأنك لا تدرك ماذا تقول، أنا لا يهمني ما تفكر به فقط ارحل واتركنا فأنا لم أطالبك بأن تكون والده"
كانت على حق، أربعة أشهر بل ومن قبلها تسعة حمل وهي حتى لم تظهر بحياته بهم ولم تخبره بشيء عن الطفل، فما الجنون الذي تحدث عنه؟
تحرك بعيدا ليتمالك نفسه، هو أيضا سقط بموقف لا يعرف كيف سقط به لذا عليه فقط أن يهدأ ويفكر ثم يقرر لذا التفت ولم يجد أي كلمات وهو يتحرك خارجا للسيارة للمرة الثانية ويركبها ويقود بنفس الجنون وتلك المرة عاد للفندق وقذف الجاكيت بعيدا وربطة العنق لحقت به وخرج من كل ملابسه وتحرك للحمام وسقط تحت المياه الباردة مغلقا عيونه وهو يحاول إطفاء اللهيب المتقد بكل جزء بجسده وربما بعدها يجيد التفكير
ظل جالسا بالشرفة دون أن يفعل أي شيء، أغلق هاتفه ورفض تلقي أي مكالمات وظل فقط مع نفسه، كل عقله بالطفل، عيونه وجنته فمه كل شيء به ينطق بمن هو، مع ذلك ما زال الجنون يمسه وكلمات المجنون إسماعيل تضربه
بالمساء فتح هاتفه فهاتفه المحامي وأخبره أن البنك منحه صكوك الملكية للمجموعة والبيت وعندها تذكر البيت، هل سترحل؟
تململ بمكانه وقال "وليل؟"
قال المحامي "ظننت أنها معك، أنت أخبرتني أنها.."
كان يعلم ما قاله فنهض واقفا وقال "أنا أسأل عن البيت"
قال الرجل "لها حتى صباح الغد، هي تعلم ذلك"
ضاقت عيونه وقال "منذ متى تقيم به؟"
أجاب المحامي "منذ ثمانية أشهر تقريبا لا أعلم بالضبط، الألفي كان مريض وقتها وهي كانت تقوم بتمريضه هو ووالدتها وأظن أنها كانت حامل"
عاد الغضب يعتلي قمة مشاعره وهو يقول "وذلك المدعو إسماعيل هل كان يعرفها؟"
"إسماعيل يريد كل شيء ليكون الزعيم، كونه لم يعرف من هو زوجها جعله يطلق عليها الكثير من الأقاويل ولكننا لم نرى منها إلا الجدية والانضباط"
لم يجيبه ومكالمة أتته على الانتظار وكانت من والدته فأنهى حديثه مع المحامي وأجابها "أهلا ماما، كيف حالك؟"
صوتها الهادئ يمنحه الراحة وهي ترد "بخير حبيبي افتقدتك، هل أنت بخير؟"
اندهش من سؤالها فهي بالعادة لا تسأل هكذا سؤال، تحرك لسور الشرفة وظل يحدق بالليل وقال "نعم ماما أنا بخير ربما هناك ما يؤرق تفكيري"
شعر أنها تبتسم وهي تقول "ولكني أعرف أن ابني الكبير سيجيد التفكير ويفعل الصواب ويختار ما يريده قلبه"
رفع رأسه والدهشة تلفه من كلماتها وردد "قلبي! ولكن ماما الأمر لا"
قاطعته "الأمر كما يكون حبيبي فقط افعل ما يمليه عليك قلبك قبل عقلك"
كان يعلم أنها تحب والده والشيء الجيد الوحيد بوالده أنه يحب زوجته بحق، كلهم يعرفون ذلك لذا عندما هي تتحدث عن القلب فلن يوقفها أحد ولا ينسى بتلك الحفل منذ سنة تقريبا عندما عرضت عليه عروسة من أسرة ورفض فابتسمت وربتت على كتفه وقالت
"لو كنت ستجعل عقلك هو من يختار لك فتلك الفتاة الأفضل لكن لو منحت قلبك الحق فلن يوقفك أحد وأنا سأكون بظهرك"
وقتها شعر بالندم لأنه ترك زوجته ترحل، كان عليه إخبار أمه ولكنه تأخر كثيرا ففي نفس اليوم عرف أنها رحلت وتركت له الشيك والملابس وكل ما منحه لها وكأنها تصفعه بقوة على وجهه أو تضربه بعصا غليظ على عنقه لتوقظه من الوهم الذي سقط فيه..
تنهد وقال "اختيار القلوب لا يصيب دائما سيدتي الجميلة"
ضحكت برقة وقالت "معي كان الأفضل وكنتم خير دليل"
لم يرد وهي لم تتحدث بالمزيد وكانت واضحة وكأنها أتت بالوقت المناسب لتخبره أن ما فعله كان خطأ وأن ما سيفعله هو الصواب، حل مؤقت حتى يصل للحل النهائي ولكن بوقته
بالسابعة صباحا كان يركب السيارة المؤجرة بعد أن أجرى اتصالاته الضرورية وانطلق لنفس البيت، لقد قضى الليل يفكر حتى وصل لقراره مع أول شعاع للشمس
عندما فتحت بدا عليها التعب والإرهاق، عيونها المتورمة عنت عدم النوم والبكاء، الروب كان يلف جسدها الصغير وتركت شعرها على أكتافها وبدت بحالة سيئة
تركت الباب وتحركت للداخل وهي تقول بتعب "هل عدت لتجري اختباراتك لأني لن أسمح لك؟"
قال بهدوء "لا"
التفتت له وسقطت يداها بجوارها ورددت "لا!؟ وفيم وجودك؟"
تحرك تجاهها حتى وقف أمامها ونظر بعيونها وقال "هو ابني؟"
بقدر ما كان متأكد من الإجابة بقدر ما أراد كلمتها وهي ظلت تحدق به حتى تنهدت وقالت "أنت لا تثق بكلمتي"
أحنى رأسه وقال بنبرة هي تعرفها "تعلمين أني أفعل"
تاهت بعيونه وهي تذكر الليل الطويل الذي أمضته تحاول التخلص من ذكرى رؤيته وقبلته وضعفها وأحزانها حتى توقفت وصدت باقي الذكريات عنها فقالت "وما الهام بالأمر؟ هل ستقبله لو أخبرتك أنه ابنك؟"
لم يتراجع عنها وهو يجيب بنفس الهدوء وقد استعاد نفسه "الهام أني لست جبان لأترك ابني خلفي والأهم أني نعم ليل، نعم سأقبله وسأعترف به"
ابتلعت ريقها وتابع حركة عنقها الأبيض وتذكر وقت كان يقبله بلهفة وجنون وكم كان ناعما ومثيرا، عاد لعيونها وقال "ابني؟ كنا معا لشهر تقريبا وتركتني منذ ثلاثة عشر شهرا تسعة حمل وأربعة هم عمره أليس كذلك؟"
رفعت رأسها باعتزاز وقالت "منذ تركتني أنت عامر لا تخلط الأوراق"
ظل ينظر لها ثم التفت هاربا من مواجهتها وقال "كنت متعب وقتها والعمل ومشاكل تلفني وأخبرتك أن الفيلا لكِ، كنت سأعود لكنك اخترت البعد"
قالت بتعب من الجدال المستمر منذ الأمس وعدم النوم "لا، أنا اخترت البعد لأني كنت أعلم أنك لم تكن ستعود لقد جعلتها واضحة عامر، لو لم تفعلها بلسانك فأموالك فعلت"
التفت لها فلم تفر من مواجهته وأكملت "أنت أخفيتني بتلك الفيلا بعيدا عن الجميع، جعلت زواجنا بالسر كي لا تواجه العالم بأن زوجتك فتاة رخيصة فقيرة، عاملة غرف، لم يكن بإمكانك مواجهة الجميع، أسرتك، إخوتك، لا تندهش الميديا تهتم بأمثالك وأمثال إخوتك، آل دويدار الذين لم تخبرني عنهم أي شيء، لقد كنت بالنسبة لك نزوة وانتهت، رغبة وأشبعتها لذا كان لابد أن ينفض كل شيء والشيك كان هدف رائع جعل المباراة تنتهي بالفوز، فوزك"
كانت هادئة وهي تحكي ما كان بداخله وجعلته بلحظة كالمشلول عقلا ولسانا، نفت كل خططه التي جاء بها وجعلته عاجزا عن الحديث وإعادة التفكير، هي ليست الطفلة الصغيرة التي ظنها، بل امرأة ناضجة تحاور وتجادل وتفهم جيدا كل ما يدور حولها لقد قلل كثيرا من شأنها
تحركت لتقف أمامه وقالت "أنت اليوم تعيد المباراة من جديد ولكني لن يمكنني اللعب تلك المرة فأنا حقا لا أهتم"
وتحركت لتبتعد ولكنه أمسك رسغها برفق ليوقفها وهو يقول "تلك المرة مختلفة ليل، هناك طفل"
نظرت له وقالت "مازن، اسمه مازن، ولا، الأمر ليس مختلف وأنا لا أطالبك بأي شيء"
أكمل وكأنه لم يسمع منها شيء "ابني؟"
للحظة صمتت ثم قررت وقالت "نعم ابنك، أنا لم أكن لسواك بأي يوم"
أغمض عيونه وثقلت أنفاسه، أن يخمن الحقيقة شيء وأن تُلقى بوجهه شيء أخر، جعلته يتألم لأنه لم يكن موجود بأي شيء يخصه وما كان يجول برأسه أن له وريث، الكل يعلم مدى ثراؤه، مال منفصل عن مال والده الملوث، مال خاص به من تعبه ونجاحه على مر السنوات وكثيرا ما قالت أمه أن عليه إيجاد من يحمل اسمه ويرث أمواله فهل حقق ما كان؟
فتح عيونه ليراها تحدق به فقال "سنعود القاهرة بعد ساعتين، لن تبقي هنا بعد الآن"
ظلت جامدة أمامه وعيونها فارغة، تلك النظرة الباردة يكرها تجعله لا يجد الفتاة التي جذبته بل امرأة محملة بأثقال لا نهاية لها، تحدثت أخيرا "لا، لن تفعل بي ذلك مرة أخرى ليس لي ولا له، كلانا لا يستحق ذلك"
رفع يده وملأ براحته وجهها وهو يقول بحزم "لن أفعل ما يؤلمك مرة أخرى، فقط نعود وهناك سنفكر جيدا بما سنفعل، ذلك الطفل، مازن ابني ولن ينشأ بعيدا عني ولا عن أمه هو بحاجة لنا معا"
لمساته وكلماته تفتتها لشظايا لا أمل فيها، تثني قوتها عن الظهور وتمنحها الضعف، وهي لم تكن بوعيها الآن، وجوده، كلماته، ما يريده كل ذلك جعلها تتيه ولا تشعر به وهو يجذب وجهها بقبلة أخرى مجنونة جعلت كلاهم يلهث على شفاه الآخر حتى توقف دون أن يبعد وجهه عن وجهها المحترق وهمس
"ما زالت قبلتك تدفعني للجنون صغيرتي"
تلاحقت أنفاسها ولو كانت بالماضي لطار قلبها من لقب صغيرتي لكن الآن الأمر اختلف والألم لم يرحل فقالت برجاء "دعني وشأني عامر وأعدك ألا تسمع عنا، يومان وتعود لعقلك وسنعود لنفس النهاية، فتاة الغرف"
تخللت يده خصلاتها وما زال يسند رأسه على جبينها وقال "لم يعد هذا يعني شيء الآن ليل، هناك طفل، طفل يحتاج لنا سويا، لن أسمح بأن ينشأ ابني بين أبوين منفصلين ويعاني بحياته، لن يكون"
كانت تضعف لأنها تريد الأفضل لابنها ولكن بالأساس عودتها له كانت تعلن عن أشياء داخل قلبها، ما زالت تحبه رغم كل شيء
خافت من قلبها ومن نفسها فحررت جسدها منه، لم تعد تلك الطفلة المبهورة بكل شيء، عيونها واجهته وهو يحدق بها فقالت "ولكنك لن تواجه العالم به لن تعود وتخبرهم أن لك زوجة وطفل، هكذا وفجأة؟"
كان يعلم أنها على حق وهو فكر بكل ذلك، لم يعد الجنون يسيطر عليه لذا رفع يده لشعره وقال وهو يدفعه للخلف "لا، لن أخبرهم بالأمر هكذا، بالبداية سنعود ونستقر وبعدها سأخبر الجميع فقط نحن بحاجة لبعض الوقت كي أعتاد ما يحدث حولي"
هزت رأسها بالنفي وقالت "لا، أنا لا أريد العودة معك لأي مكان، فقط دعني هنا يمكنني تدبر شؤوني ومازن موجود يمكنك رؤيته بأي وقت أو على الأقل حتى تأخذ وقتك وترتب أمورك"
ضاقت عيونه البنية وشعرت بأن صدره زاد عرضا عما كان لكن ما زال أكثر الرجال قوة وجاذبية ولم يقل وسامة عما كان، قال بتأني "أنتِ ترفضين العودة معي ليل؟ ترفضين وأنتِ تعلمين أنكِ ما زلتِ لي ولديكِ طفلي، طفلنا؟"
عادت الدموع ترتفع لعيونها وهي تبتعد من أمامه وقالت "أنا أرفض تكرار ما كان عامر، وجودي بحيادتك كان خطأ ولن نعيده مرة أخرى، لن يمكنك تبديل أي شيء حولي ولن يمكنك مواجهة الآخرين بالواقع.."
هتف بقوة "أنا لست بحاجة لأفعل أي شيء لأحد، حياتي أمر يخصني وحدي ولا شأن لأحد بي"
التفتت له بنفس الدموع وقالت بمرارة تنبض من ألم الجرح الذي كان هو سببه "كان لهم شأن يوم واجهتني بأنك لن تكمل ومنحتني ثمن ما كان بيننا، صنعت مني عاهرة تعمل بالأجر، امرأة أمضيت معها يومان ومنحتها ثمنهم لتعود لحياتك واليوم تريدني أن أعود معك وكأن شيء لم يكن، لا عامر، كل شيء تغير إلا أنت وأنا، إنه أنت نفس الرجل وأنا نفس الفتاة ولكن موصومة بما فعلته بي عامر لذا لا أستطيع تكرار ما كان، لا أستطيع"
ظل يتأملها ويردد كلماتها وهو يدرك صحة ما قالت ولكنه استنكر ما صورته من تصرفه فقال "لا ليل، أنتِ لستِ تلك العاهرة التي تتحدثين عنها وأنا أعلم ذلك جيدا، الشيك كان نوعا ما من الاعتذار عما سببته لكِ وكي لا تحتاجين لأي شيء بغيابي، لم أفكر بتلك الطريقة وقتها، ليل ربما تعرفين الكثير عني ولكن هناك أيضا الكثير مما لا تعرفيه لذا من الصعب وضعك الآن أمام الجميع والقول بأن الأمر هكذا، أنا فقط أحتاج لوقت كي أتخذ كل ما يمكن اتخاذه قبل التصريح بشيء لكني لن أتركك خلفي مرة أخرى لا أنتِ ولا هو لابد أن أهتم بكما سويا فامنحيني الفرصة مرة ثانية ولن يخيب ظنك"
ظلت جامدة والنظرات لا تظهر بواطنها، الخوف، القلق، كل ما يمكن التفكير به هو أنها لا تريد ذلك الألم مرة أخرى، كانت متعبة، متعبة لأقصى حد وعقلها يكاد لا يستوعب كل ذلك، منذ أقل من شهرين فقط رحلت أمها ومن قبلها كان رحيل الألفي وكلاهم رحل بعد صراع قصير مع المرض مما جعل الألفي يستدعيها ليعتذر منها عما فعله بها واعترف بذنبه وكانت ابنة جيدة ولكن الألفي كان ينهار ماديا وجسديا وهي..
صوته جذبها من قعر الذكريات "ليل، لابد أن نذهب"
رفعت عيونها الباكية له وقالت "سأندم"
اقترب منها حتى وقف أمامها ولم يقطع نظراتهم وقال "لن تفعلي، أنا لن أترك ابني خلفي ولا زوجتي وحتى لو كنتِ فقدتِ رغبتك بي إلا أنكِ لن تتركي ابننا يلقى مصير التمزق بين والدين منفصلين لذا لابد أن نكون سويا، ثلاثتنا"
تألمت أكثر، هل فقدت رغبتها به حقا بأي يوم؟ هذا هو الجنون فهي لم ترغب بسواه ولن ترغب بسواه أبدا، هو أول وآخر رجل دخل وسيدخل حياتها، رجلها الثاني هو ابنها، هي لم تسطع يوما إخراجه من حياتها ولا تظن أنها ستستطيع
يداه أحاطت ذراعيها لأنه كان يرى الخوف بعيونها والتردد من أن تتبعه مرة أخرى، أراد لكم نفسه بوجهه لأنه سبب ذلك الخوف، بيوم ما كان هو سبب ضحكتها وسعادتها ومحل ثقتها لكن اليوم هو لا يرى سوى الخوف والألم بعيونها
عاد يقول "فرصة أخرى، فرصة بلا ألم ولا حزن ليل فقط نرسم حياة سعيدة لابننا هل نفعل؟"
لم يكن بإمكانها الرفض، سيكون من السهل عليه أخذ طفلها منها، لو رفع دعوى قضائية وذكر بها حالتها من الفقر وبجيش من المحامين وسيكسب الدعوى من أول جلسة وهي، هي نفسها لا تريد لابنها أن يعاني الفقر والجوع، تريده أن ينال السعادة في ظل والده ويكون جزء من آل دويدار
هزت رأسها بالموافقة وقلبها ينبض بقوة عندما سقطت نظراته على شفتيها وهي تدرك تلك النظرات فتراجعت للخلف، لا لن تضعف مرة أخرى، هو أراد ابنه وهي معه كأم لكن كزوجة هي لم توافق بعد، سقطت يداه بجواره وهو يدرك ابتعادها وفهم رسالتها جيدا..
الفصل الثامن
مرض
الفيلا لم تتبدل نهائيا، فقط كانت نظيفة كما لو لم يمسها أحد، الذكريات أيضا لم يمسها أحد، ما زالت تسكن بكل مكان هنا، المائدة حيث وضع الشيك، الأريكة حيث جلس ونظر لها من الأعلى، احتضنت طفلها بين ذراعيها وقد نام أخيرا بعد وقت صعب ما بين حزم الحقائب بيد والأخرى تحمله، عامر انتظرها بالأسفل لم تسمح له بمشاركتها بشيء وهو لم يعرض حتى أخذ مازن وهي لم تكن لتفعل دون طلبه
كانت ترى نظراته لها وهي تحتضن مازن وتجلس بجواره بالسيارة منهكة وتكاد لا تفتح عيونها، بالطائرة لم تتبدل حالتها، المضيفة داعبت مازن واستجاب لها فحملته عنها وهي تتناول إفطار سريع من الجبن المعلب والمربى وتوست صغير، هو لم يتناول شيء فقط القهوة هي كل ما تناوله ولكن عيونه كانت تتنقل ما بين مازن يلعب مع المضيفة وبين زوجته الصامتة بجواره
لم يجرؤ الطاقم الذي لا يعرفه على السؤال عن من هم ولا أي سؤال من شأنه أن يخنقه قبل أن يجيب
كانت غرفتهم آخر مكان تريد دخوله لذا تحركت لغرفة أخرى بالطبع فهي تحفظ البيت، بوقت ما كانت تتحدث مع جدرانه وتشكو لهم وحدتها..
لم يعترض ولم يتحدث معها بأي كلمات، وضعت مازن على الفراش وأحاطته بالوسائد ولكنه أعلن عن رفضه بُعدها فتمددت بجواره ليعود للنوم
كان الليل قد هطل بل بعد منتصف الليل بكثير عندما خرج من مكتبه وقد انتهى من مراجعة الهام من الأمور مع سكرتيرة مكتبه على الجهاز وأيضا لم يهاتف إخوته ولا العجوز كي يخبره أنه اشترى المجموعة لنفسه لا يهم وهو أصلا لم يسأل فلم يفعل هو؟
الصمت جاء من الأعلى، هل نامت كل ذلك الوقت؟ رفع نظره لأعلى وهو يذكر عندما تخطت باب غرفتهم لباب آخر وفتحته ودخلت ولم تهتم حتى به وهو يضع الحقائب، هي تخبره بكل وضوح أنها لن تعود تلك الزوجة وأنه خسرها، هو يعلم أن لا شيء مما يحدث صواب وكل ما عليه فعله هو أن يرفع هاتفه ويهاتف أمه ويخبرها أن ابنها الكبير حقق أمنيتها بزواجه ولكن بطريقته كما وأن لها حفيد لن تصدق عندما تراه وتدرك أنه نسخة منه
تحرك للأعلى وتوقف أمام بابه للحظة ثم تحرك لباب غرفتها وحاول أن يسمع حتى صوت الصغير ولكن لا شيء، منذ العصر وهم نيام، نعم هي كانت متعبة ولكن مازن، ماذا بخصوصه؟
تحرك عائدا ولكن صوت من الداخل أوقفه، كما لو كان صوت مازن، بكاء، نعم هو بكاء وأين هي؟
لم يفكر وهو يدفع الباب للداخل ليجد مازن على طرف الفراش يبكي وقد دفع الوسادة من حركة قدمه وذراعه وكاد يصل للطرف وهي، أين هي؟
سقطت الوسادة فلم يفكر وهو يسرع للطفل وتجمدت يداه بالهواء والطفل يبكي ويلوح بذراعيه وقدماه الصغيرة تدفع هنا وهناك
لم يستمر كثيرا وهو ينحني ويرفع الطفل بين ذراعيه لأول مرة وضربته مشاعر لا يفهمها، الأبوة لا تولد مع الطفل لكنها تُكتسب مع الوقت وعليه أن يفعل، أن يكتسب محبة ابنه وريثه جزء منه، رائحة الطفل جميلة، عيونه تحدق به بنظرات استفهامية ولكنه لم يرفضه بل هدأ واستكان وكأنه يعلم أنه والده ولكنه لم يتوقف عن الحركة وهو يلقي بيده الصغيرة على وجه عامر الذي استعاد وعيه من نعومة أصابع الطفل على بشرته ودق قلبه بقوة وهو يحدق بالعيون التي تشبه عيونه المليئة بالدموع الصغيرة وبدا أنه مندهش من الغريب الذي همس
"مرحبا، كيف حالك يا بطل؟ هل تعرف من أنا؟ أنا والدك على ما يبدو، ماذا؟ هل أنت منزعج؟"
سقطت يد الطفل مرة أخرى على وجه عامر الذي ابتسم وقال "لك يد قوية كيد أعمامك يا فتى"
صوتها جعله يستدير وهي تقول بضعف "عامر"
عندما استدار وجدها تقف بضعف شديد أمام باب الحمام وجهها شاحب وعيونها محلقة بالسواد وبدت وكأنها تترنح من الإعياء
بدون تفكير وضع مازن على الفراش ووضع الوسائد بجواره وأسرع لها وهي تمسك بالباب بقوة حتى وصل لها وهتف "ليل!؟ ليل ماذا بكِ؟"
ما أن لفها بذراعه حتى استسلمت للظلام وتركته يعتني بها بأي شكل فقد قاومت التعب والإغماء ولكن الآن لم تعد تستطيع..
عندما فتحت عيونها كان على ألم معدتها مرة أخرى، اللعنة تلك الوجبة بالتأكيد هي السبب أو ربما نالت بعض المرض من جارتها التي زارتها منذ يومان
نهضت بصعوبة لتشعر بدوار مرة أخرى ولكنها تماسكت حتى وصلت للحمام وسقطت بالأرض لتلقي عصارتها الصفراء بالمرحاض
لم تعرف متى دخل ووصل لها ولكنها شعرت بيداه على ذراعيها وهو يقول "هل انتهيتِ؟ الطبيب قال أن القيء سيتوقف بعد وقت"
كانت متعبة لدرجة أنها لم تستطع السؤال أو الرد، عادت تلقي بأي شيء خارج معدتها المتألمة وحلقها يؤلمها وصداع قوي يضربها حتى انتهت وما زال يحيطها بيده
هتف برقة "هل هناك المزيد؟"
هزت رأسها مرة من الصداع بالنفي فابتعد ثم عاد بمنشفة صغيرة مبللة وغسل بها وجهها المتعرق وفمها وهمس "أفضل؟"
حاولت أن ترد وقالت بضعف "نعم"
كادت تتمسك بأي شيء لتنهض ولكنه لم ينتظر وهو يحملها فلم تعترض وهي تتشبث به وهو يضعها بالفراش وقال "فقط نامي وستكونين بخير"
نظرت له من بين الغيوم المحيطة والضعف يسيطر عليها وهي تقول "مازن؟"
رأته يبتسم وهو يقول "هو بخير، نحن الاثنان نتعامل"
لم تستطع مقاومة رموشها التي غطت عيونها وعادت للظلام مرة أخرى دون قدرة على المقاومة
عندما استيقظت مرة أخرى كانت تحاول إدراك مكانها حتى جلست بمنتصف الفراش وهي تشعر بالعرق يجعل بلوزتها تلتصق بجسدها وتذكرت المرض والقيء
الآن هي أفضل رحل ألم معدتها وحرارتها اعتدلت، رأت الدواء بجوارها، متى تناولته ومن منحها إياه، هي لا تذكر سوى عندما حملها من الحمام و.. مازن؟
التفت بالحجرة فلم تجده، بالطبع جائع، أين هو؟ سقط قلبها بساقيها وهي تدفع الغطاء بعيدا وتنهض ليضربها الدوار، ما زالت ضعيفة، سقطت جالسة على طرف الفراش تستعيد نفسها حتى رحل الدوار وبدت متماسكة ولكن ما زال قلبها يدق بعنف على ابنها، ماذا فعل عامر معه؟ كيف أطعمه أو بدل حفاضته أو..
نهضت وتماسكت وتحركت للخارج وبمساعدة الحائط أمكنها أن تصل للسلم ونزلت بحذر وهي تسمع صوت عامر بالمطبخ بدا وكأنه يتحدث مع أحد لكن لا أحد يجيبه، كان النهار يضرب كل الفيلا، الساعة على الحائط أعلنت الرابعة عصرا هل نامت يوما كاملا؟
توقفت بنهاية السلم وهي ترى ابنها يجلس بذلك المقعد المخصص للأطفال وأمامه لعب صغيرة يلعب بها ويضحك ورأت عامر لأول مرة بملابس بسيطة؛ عندما كانا معا كان يبقى فقط بسروال قطني بصدر عاري لكن اليوم هو يرتدي تي شيرت أبيض عليه رسم رجولي لا تفهم معناه وسروال رياضي أسود، شعره مبعثر وهو يتحرك بالمطبخ يطهو شيء وأدركت أنه كان يتحدث مع مازن
"هل أعجبتك اللعبة؟ هناك أخرى بغرفتك ستعجبك فقط ننتهي من عملنا حتى نصعد سويا"
دموع ضربتها على الفور، هل حقا هو يفعل ذلك؟ يهتم بكل شيء، ابنه، طعامه، لعبه الخاصة، إنه حتى استبدل له ملابسه، الرجلين الذين يملكون حياتها هنا ومعا فهل سيظل هذا للأبد؟
مسحت دموعها وتحركت تجاههم، صرخ الطفل بقوة عندما رآها مما جعله يلتفت مستفسرا عن سر صرخاته فأدرك وجودها وهي تتحرك لطفلها وتقول
"مرحبا حبيبي، هل افتقدتني؟"
يد الطفل الصغيرة كانت تلوح بالهواء وضحكاته كانت تحيي قلبها حقا، أمسكت يده وقبلتها بحنان دون أن تحمله ما زالت تشعر بالضعف ولم تشعر به وهو يقترب منها وقال
"هو بخير ماذا عنكِ؟"
كانت تعلم أنها ما زالت متعبة ولكن لن يحرمها المرض من كل هذا، رفعت وجهها الشاحب له وقالت بامتنان "بخير شكرا لاهتمامك به، بنا"
ظل يحدق بها وكلماتها تؤلمه، هي زوجته وهو ابنه، عائلته التي وجد نفسه سعيد بها وترك عمله ومكتبه وكل شيء خلفه فقط ليعتني بهم، هز رأسه وقال وهو يبتعد "أنا والده وأنتِ زوجتي"
زمت شفتيها وقالت بعيدا عن الحقيقة التي يحاول تذكيرها بها وكأنها نست "ماذا فعلت معه بشأن الطعام؟"
كان يهتم بالطعام الذي على الموقد وقال "سألت طبيب أطفال صديق لي وأشار لنوع من اللبن المجفف وكان الأمر وقد رضي هو به"
هزت رأسها وقد أدركت أنه أحسن التصرف فقالت "آسفة بسبب الفوضى التي سببتها لك"
التفت ونظر لها بعيون صامتة وقال "لا أسف على المرض ليل، فقط نحتاط منه، بدى أنكِ تناولتِ شيء فاسد مع برد واضح، هيا اجلسي، الحساء انتهى، أنتِ بحاجة للطعام"
لم تعارض وهي تجلس بجوار الطفل ولم تترك يده الصغيرة وقالت "أنت تطهو؟"
لم ينظر لها وقال "لم أجد طباخ بهذا الوقت والنت يساعد كثيرا"
كانت الرائحة شهية حقا وهو يضع الأطباق باهتمام وأكمل "اعتدت على فعل بعض الأشياء لنفسي"
رفعت وجهها له وهو يضع الحساء بطبقها وبدا جميلا، وسيما جدا، الشهور لم تفعل به شيء إلا أنها زادته جمالا وجاذبية، نفس الرجل المنظم والدقيق بكل شيء دون إزعاج لمن حوله
أبعدت عيونها ليده القوية التي تضع الطعام بطبقها وتذكرت تلك اليد التي كانت تمر على جسدها برقة ورغبة فتحرك شيء داخلها، شيء كانت قد دفنته عميقا لأنها لم ترغب به بحياتها مرة أخرى الآن تدرك أنها كانت تهزأ من نفسها
ابتلعت ريقها بصعوبة من الألم بحلقها وقالت "ألا يوجد من يصنع لكم الطعام؟ أعلم أن والدتك موجودة"
طوال فترة زواجهم لم يتحدث أيا منهم عن حياته وعائلته وهي من الأمور الغريبة ولكن ربما كلاهم كان يكتفي بالآخر وكل ما عرفته بعد ذلك عنه أن له إخوة رجال يعملون سويا تحت قيادته بشركة استثمارات كبرى تجمع أكثر من تخصص وأنه كرجل أعمال ناجح يمتلك سمعة كالذهب اللامع لا تشوبها شائبة، لا نساء ولا طريق خطء والجميع يسعى لشراكته بلا فائدة فليس له شركاء سوى إخوته
ابتعد وقال "نعم ماما موجودة ولكني لا أقيم بالقصر بالإسكندرية بل لي بيت مستقل هنا، كلا منا أنا وإخوتي له بيت مستقل ما عدا إخوتي البنات"
شعر وكأنه غريب عن نفسه، هو بالعادة لا يتحدث عن عائلته مع أحد ولا حتى هي وها هو الآن يفعل دون استياء، صرخ الصغير بمرح فابتسم وهي قالت "يبدو مستمتع، هذا المقعد؟"
وضع طعام لنفسه وجلس أمامها وقال "وصل بالصباح مع عدة أشياء طلبتها بالأمس من أجله"
ظلت تنظر له وهو يرفع الشوكة لفمه فالتقى بعيونها فقالت "أشياء من أجله؟"
وضع قطعة اللحم المشوي بفمه وقال "بالطبع، أعلم أنكِ أحضرتِ كل ما يخصه ولكن سأمنحك نظرة على ما وصل بعد الغداء"
تناولت الحساء بالخضار وقطع اللحم المسلوقة بداخله ثم رفعت رأسها وقالت "إنه شهي جدا"
ابتسم وهو يتناول المكرونة الخاصة به، وجبته المفضلة شرائح اللحم المشوي مع الإسباجيتي بالصلصة
عندما انتهوا أعلن مازن عن تذمره فقالت "أحتاج لإطعامه"
هز رأسه وقال وهو يتحرك تجاهها "نعم هو كذلك"
وقبل أن تتحدث كان يحملها فهتفت معترضة "أنا بخير عامر، اتركني"
ولكنه لم يفعل وهو يستنشق الياسمين الملتصق بها وسعيد بجسدها اللين بين ذراعيه، هو كان يحمل أضعاف وزنها وكأنهم لا شيء بالتمارين لذا قال "اهدي صغيرتي، أنت لستِ بخير بعد"
لا هي بالفعل ليست بخير ليس وهي بين ذراعيه وبهذا القرب منه ومن أنفاسه الدافئة، ليته يتركها ويبعدها عنه فهذا أفضل بكثير من هذا القرب المدمر
تفاجأت عندما دفع باب غرفتهم بقدمه ودخل فقالت بغضب "ليس هنا عامر"
قال وهو يضعها بالفراش ولا يسمح للغضب بأن يتملكه "بل هنا ليل"
وتركها وعاد للأسفل وصراخ مازن يجعله يسرع حتى عاد به وتأملته وهو يحمله وكأن له شهور يفعل ثم وضعه بين ذراعيها وقال "سأعود بعد قليل"
وخرج مانحا لها خصوصية إطعام صغيرها الذي تشنج بين ذراعيها معترضا على تركه فأبعدت دمعتها الفارة من عيونها ومنحت صغيرها صدرها والتفت عيناها بالغرفة، غرفتهم، فراشهم، ما زال عطرهم ممتزج ورائحته تملأ المكان، الغرفة نظيفة ومرتبة وبدا أنه لم ينام بها
نام الصغير بعد أن تجشأ على كتفها وما أن انتهت حتى رأته يدخل وهو يقول "هل نام؟"
هزت رأسها فتحرك لها وجذبه برقة من بين ذراعيها وقال "سأعود من أجلك"
ولكنها قالت "أخبرتك أني بخير"
نظر لها والطفل مستكين بين ذراعيه ليحذرها من إيقاظه فهو كان يغط بنوم هادئ بين ذراعيه وكأنه يشعر بالأمان مع الرجل الذي أحضره للدنيا، قال بهمس "العناد قد يصل بنا لنتيجة غير مرضية، أنتِ بحاجة للاغتسال والدواء والعودة للنوم"
وخرج وظلت بمكانها وهي تحاول التركيز بما يحدث حولها وذلك الرجل الذي تبدل لرجل آخر، مهتم نعم هو يهتم بكل شيء، هي، الطفل، كل ما كانت تحلم به وتتمناه يحدث حولها فهل يمكنها أن تصدق؟
لا لن تفعل، لن تأمن للقدر مرة أخرى حتى لا تكن صفعته قوية ككل مرة عليها أن تكون مستعدة كي لا يعود الألم مرة ثانية
عندما طارت رائحة عطره إليها فتحت عيونها لتراه يدخل ونظراته ثابتة عليها فاعتدلت وقالت "أين مازن؟"
كان قد وقف أمامها وقال "بغرفته، عندما تتحسن صحتك ستذهبين إليه"
وانحنى وحملها مرة أخرى ولم تعارض لأنها تدرك أنه لن يستمع لها ولكنها تحولت بنظراتها له تتأمل ملامحه التي كانت تعشقها وتفتقدها، عيونه الجميلة، فمه الذي قبلها كثيرا وسمعت منه أجمل الكلمات وأيضا أكثرها قسوة
أنزلها بالحمام دون أن يبعدها وهو يحدق بها وهي أيضا تنظر له، يداها انسحبت حتى كتفيه الصلبة تحت نعومة يداها وتسرب الضعف له ولها ولكنها تراجعت وهي تقول
"لن أحتاجك هنا، شكرا لك"
ضغطت يده على خصرها وقال "الدوار قد يصيبك مرة أخرى"
فلتت منه وقالت بإصرار "لا، لا تقلق"
كان يرى الرفض بعيونها مما جعله يتراجع هو الآخر، لن يجبرها أبدا على أن تذهب معه للفراش، لن يكون هذا هو الحل لنسيان ما كان أو حل ما بينهم، رفع يداه الاثنان باستسلام وقال
"حسنا، ملابسك بالخزانة حيث كانت"
وتحرك خارجا فأطلقت أنفاسها وأغمضت عيونها ووضعت يدها على صدرها لتوقف قلبها عن الهرولة في دقاته وتنظيم أنفاسها الضائعة
لم تطيل الحمام خوفا من الدوار لكنها تأكدت من نظافتها بعد يومين من التعب والعرق والقيء، نظفت أسنانها وغسلت شعرها بما كانت قد وضعته منذ كانت هنا، كل شيء ما زال موجود دون أي تغيير
التفت بالروب وتأكدت من أنها بخير وخرجت للخزانة وظلت تحدق به والذكريات تتسارع أمامها عندما كان جالسا يشاهدها وهي تجرب الملابس عليها واليوم هي هنا تستعيد كل شيء ولكن ليس بنفس اللهفة وإنما بألم وحزن وقلقل من القادم
انتقت ملابس مريحة وخفيفة وتركت شعرها المبلل على أكتافها، حلقها ما زال يؤلمها وتشعر بالضعف ولكنها تريد رؤية مازن، تحركت لمنتصف الغرفة عندما رأته يدخل وبدا أنه فعل المثل من شعره المبلل وملابسه المختلفة بنفس الطراز، كانت تعرف طرازه جيدا ولكن تلك ملابس جديدة لم تراها من قبل تمنحه مظهر مبهر ومثير، كان دائما بملابس العمل ولم يمنحها وقت أكثر من الليل
توقف على باب الغرفة مستندا بكتفه على جانب الباب وعقد ذراعيه أمام صدره وعيونه تتجول عليها، نحف جسدها قليلا وامتلأ صدرها ليجعله مثيرا خلف القميص الطويل، السروال القطني كان محكم على ساقيها حتى ركبتها مما جعلها تعود لتلك الفتاة التي عرفها أول مرة
ظلت تنظر له إلى أن قالت "أريد رؤية مازن"
اعتدل ليسمح لها بالمرور فتحركت وقلبها يدق بقوة، هذا ما يفعله وجوده معها بأي مكان، ما زال له نفس التأثير عليها، لم تملك أي شجاعة أمامه
توقفت بالقرب منه كي يبتعد وتمر ولكنه لم يذهب وظل ينظر لها وكأنه يتحداها فقالت وهي تبعد عيونها "هل ترشدني للطريق؟"
أشار بيده للممر وقال بنظرة غير واضحة لكنها تفهمها "ها هو، النساء أولا"
أخذت نفس عميق وهي تدرك أنه لن يتحرك بل يجبرها على ذلك، أن تكون قريبة منه هكذا مرة أخرى، جسدها يلمس جسده، أنفاسهم تتقاطع، أرواحهم تتقابل، كل ذلك لم يكن مما تريده ومع ذلك هو يتحداها أن تفعل، يعلم ضعفها بقربه ورغبتها التي تشتعل بمجرد أن يلمسها ولكن ليس بعد ما كان لذا عليها أن تؤلمه كما جعلها تتألم، تجعله يدرك أن وجوده لم يعد يهزها كما يظن ولكن هذا يتطلب الكثير والكثير من القوة وربط النفس
مرت بجانبه ولم تستطع منع نفسها من رفع عيونها له رغم ما كانت تصر عليه إلا أن بمجرد تلامس أجسادهم تنهار وتتلاشى عزيمتها ولكنه تركها تمر دون أي محاولة للتأثير عليها ثم تبعها وهو يقول
"هنا"
تنفست بقوة ورفضت الضعف الذي يحاول السيطرة عليها وتجاهلت قوته الظاهرة من خلف ملابسه ووسامته الواضحة ورجولته التي تعلن عن نفسها وهي خارجة مبتعدة عنه وهو يتبعها ويشير للباب المجاور
كانت الغرفة المجاورة لغرفتهم تماما، سمحت له أن يفتح الباب ورأت الغرفة التي كانت ساكنة منذ شهور ولا أحد ينام بها لكن الآن تحولت لغرفة أطفال رائعة، الجدران باللون السماوي فراش يكفي فرد مناسب للأطفال وعليه شراشف برسومات كارتونية، مهد خشبي سماوي بمنتصف الغرفة مزين بلعب كثيرة وبعضها معلق أعلاه، دولاب صغير مزين بنفس الرسومات كرسي مريح بجوار النافذة، وأخيرا عادت للمهد حيث استقر طفلها
التفتت له وهو يقف بجوارها هادئا كعادته وكأن شيئا لم يتبدل، واجه نظراتها فقالت "متى، متى فعلت كل ذلك؟"
تحرك للداخل وتوقف أمام الطفل واطمئن على أنفاسه المنتظمة وقال بصوت منخفض "البعض ونحن بالبحر الأحمر والباقي هنا، الأمر انتهى بظهر اليوم"
ثم التفت لها وقال "وأنتِ نائمة"
ظلت تنظر له ولا تصدق أنه فعل كل ذلك بتلك السرعة وبهذا الجمال، أبعدت عيونها وتحركت للداخل حيث استقر طفلها وقد بدا مرتاح فقالت "من، أقصد ملابسه وحفاضه؟"
لمس لعبة مدلاه من المهد وقال "لن أجد مربية بيوم وعليكِ أنتِ اختيارها لا أنا لذا كان علي أن أفعل"
حدقت به مرة أخرى وهي لا تصدق كل ما فعله، هل حقا اهتم بالطفل بتلك الطريقة؟ هتفت "لا"
رفع حاجبه وردد "لا!؟"
أبعدت وجهها وقالت "أنت لم تكن هكذا؟"
تحرك ليقف أمامها ورفع وجهها له بإصبعه ليواجه عيونها المثيرة والتي يعلم أنها تأسره ومع ذلك أراد مواجهتها وهو يقول "وماذا كنت صغيرتي؟"
وانحنى دون أن يترك وجهها ودون أن يمنحها فرصة للتراجع ونال شفتيها بقبلة رقيقة ولم ترفض وهي تشعر بالضياع متاهة سقطت بها، لغز حائر لا تعرف كيف تفك رموزه لكنها استمتعت كما كانت دائما، التفت ذراعه حولها ويداها استقرت على صدره، قوي، صلب كما اعتاد أن يكون
تعمقت قبلته أكثر ورائحة الياسمين تصل لعقله فتديره، لم يفقد رغبته بها بأي يوم، حتى عندما رحلت كان يذكر كل لحظة لهم سويا، كان يفكر بقبلتها وابتسامتها ولمساتها، كانت هي، دائما كانت هي من يفقد سيطرته معها
اهتزاز هاتفه جعلهما ينفصلان بفزع وتراجعت هي مستنده على الفراش الصغير بينما أخرج هو الهاتف ورأى اسم ساهر فأعاد الهاتف لجيبه والتفت لها ولم يرى ملامحها من الظلام بالغرفة ولكنها كانت تغرق باللون الأحمر
لمس ذراعها ولكنها تراجعت فنفخ بقوة من تراجعها، بلحظة تكون ضائعة بين ذراعيه وبالأخرى تقذف به لكوكب آخر بعيدا عنها، تنفس بعمق محاولا ضبط نفسه وهو يقول "ليل هيا لابد من تناول الدواء"
كان هذا هو الأفضل، تناول الدواء والابتعاد عن تأثيره القاتل، تحركت بقوة زائفة للخارج وتبعها هو بنظراته ويعلم أنها تستجيب له ولقبلته ويدرك أنها ما زالت تريده كما كانت دائما لكنها فقط غاضبة منه على ما كان وهو يدرك أن الوضع لم يتغير بعد ولا يعرف متى سيمكنه مواجهة العالم بها وبابنه