
رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل السابع عشر17 والثامن عشر18 بقلم رحمه سيد
المفاجأة المدسوسة بالخوف سلبت الصرخة من أعماق جوف "كارما"، قبل أن تجبرها على التجمد أمامها، لا تعطي رد فعل اخر، فقط تحدق بعينيه اللتان كانتا ترمقاها بذهول..
بينما "عيسى" كان منحني عليها دون أن يمس جسدها، ويده ممسكة بيدها التي تقبض على السكين، همس اخيرًا بحروف متلكأة مدهوشة من هجومها:
-كارما!
قرأت بين سطور عيناه ما لم يبح به لسانه، فكان ذلك كالتميمة التي أنتشلتها وفكت تعويذة الصدمة، فدفعته بعنف بعيدًا عنها وهي تصيح فيه بشراسة:
-اوعى سيبني.
تركها بالفعل، ولكن عيناه لم تترك ملاحقة السكين التي لم تفلتها من يدها، هتف وكلماته تقطر تعجب:
-أنتي بتهدديني بسكينة فعلًا؟
ابتسامة شاحبة مزعت عبوس شفتيها وهي تخبره متهكمة:
-لا ابدًا، ده دفاع عن النفس ضد أي حد غريب يفكر إنه يقتحم البيت من غير ما أحس.
كان أكثر أفعاله حماقة حين ردد باستنكار تلقائي لم يستأذنه:
-حد غريب! بسرعة كده بقيت غريب؟!
عقدت ما بين حاجبيها، ثم نظرت لأصابعها تتظاهر بالعد عليها وهي تتابع:
-استنى كده، امممم 15 يوم، تصدق فعلًا بسرعة، ياااه قد إيه أنا غدارة.
رفعت عيناها له فكانت مُخضبة بالغضب والنفور، تروي له شناعة فعلته لتُريه جانبه المظلم من منظارها هي:
-أنا خليتك نايم وأخدت اللي تملكه وسبتلك ورقة إننا هنتطلق وهربت ومسألتش فيك ولا اهتميت باللي هيحصل او الناس هتفكر فـ إيه او أنت هتعمل إيه وأنت عايش لوحدك.
كانت شفتاه مزمومة، والاجابة منقبضة بينهما، تحاول الفرار ولكنه يُحكم قبضته عليها، ثم خرج صوته به بحة متحشرجة تشرح خنقته:
-أنتي مش فاهمة حاجة.
هزت رأسها في استهانة واضحة وهي تتشدق:
-أنا مكنتش فاهمة فعلًا، بس فهمت، فهمت إنك متستاهلش أي حاجة حلوة في الدنيا دي، فهمت إني كنت صح لما كنت ببعد عنك.
هدر فيها بحدة، لم يعد يحتمل عبء الاتهامات الثقيل الذي يحمله على كاهله:
-أنا مش خاين ومش غدار ومش حرامي، ده كان غصب عني.
ضحكت، ضحكت بصوتٍ مسموع ملئ شدقيها وراحت تضرب كفًا على كفٍ مرددة:
-أنت بجد؟! ملاقيتش أي سبب في الدنيا غير ده، غصب عنك! هو إيه اللي غصب عنك بالظبط؟
وفر التراخي من حروفها الساخرة، ليحل محله حدة كطرف السيف وهي تواصل بصوت أجش:
-غصب عنك إنك نصبت عليا وأخدت اللي أملكه، ولا غصب عنك إنك خلتني أفقد الثقة في اللي حواليا، ولا غصب عنك إنك صدمتني، ولا غصب عنك إنك خلتني عايشة في رعب وخوف، غصب عنك إيه بالظبط؟
ملامحه في تلك اللحظات كانت مرآة عكست انقباض صدره الذي اختلجت المشاعر به ما بين غضب من نفسه وألم فاتك، وهو يدرك في أي حفرة تركها عالقة!
اقترب منها خطوتان، وأردف بنبرة نالت نصيب العالم أجمع من الأسف:
-كل حاجة إتسببت فيها كانت غصب عني، أنا اتجبرت أعمل كده، اوعي تفتكري إني كنت مرتاح او مبسوط ولو لحظة واحدة.
للحظات استطاع رؤية هيكل الغضب يهتز داخل عينيها بفعل كلماته التي كانت مغموسة بصدق قلبه، ولكنها أعادت تثبيته حين استطردت بجمود:
-المفروض أصدق بقا على طول؟ اطلع برا.
-كارما.
تمتم بأسمها راجيًا، فصرخت فيه بعصبية بدأت تتقافز لسطح كلماتها:
-قولتلك أطلع برا مش عايزه أشوف وشك قدامي.
حين أدرك جزئيًا أنه سيفقدها -فعليًا- اضطر لسحبها معه لعمق بحر أسراره، متمنيًا ألا تغرق فيه، حين اكمل مستسلمًا:
-اسمعيني هحكيلك كل حاجة وهتفهميني أكيد.
للحظات لم تبدِ رد فعل، ثم عقدت ذراعيها متمتمة بقنوط:
-سمعاك.
تنحنح قبل أن يبدأ بقص كل ما حدث عليها، ويعود بذاكرته لذلك اليوم...
فتح باب الشقة متأففًا بعد طرقات مُصرة عليه، ليجد امامه اخر شخص توقع رؤيته، حيث لم يكن سوى "إيهاب" من اكبر تجار الاثار الذين كان يعمل معهم هو وجاد، لم يخفي ربكته اللحظية وهو يسأله:
-في إيه! جاي هنا ليه ؟
قال الاخر بنبرة باردة تجانست مع ابتسامته المقيتة :
-قولت بلاش أتعبك وجيتلك بنفسي، ولسه هنتقابل كتير، أنا اجيلك مرة وأنت تجيلي مرة.
اشتدت لهجة عيسى وهو يسأله مستنكرًا:
-نتقابل كتير ليه؟ إيه اللي يخلينا نتقابل؟!
إتسعت تلك الابتسامة وأشار بيده وهو يضيف:
-كتير، خصوصًا بعد اللي حصل، ده أنت لما تعرف اللي هقوله، أنت اللي هتيجي ورايا من هنا لهنا.
استفزت عيسى تلك النبرة الواثقة، المتشفية التي يعلمها جيدًا، فاسترسل بأعصابٍ مشدودة وهو يكز على أسنانه:
-ياريت تقصر يا إيهاب وتقول جاي ليه في نص الليل؟!
تنهد المدعو "إيهاب" قبل أن يطرح سؤال خبيث شيطاني كان كثعبان يلتف حول عنق عيسى:
-الا قولي يا عيسى، هو فين سلاح الجريمة، اللي اتقتل بيه جاد؟
لوى عيسى شفتاه في شبه ابتسامة سمجة وهو يرد:
-روح اسأل البوليس وهو يقولك.
تأتأ في استنكار بارد حارق لأعصاب الاخر الذي كان يقف على صفيح ساخن:
-لا كده هبتدي أشك في ذكائك الشديد يا عيسى.
نظر في عمق عينيه وتابع بنبرة صلدة:
-السلاح معايا.
هز عيسى كتفاه بلامبالاة:
-مايخصنيش، روح سلمه للبوليس.
حك إيهاب ذقنه وهو يهز رأسه كعلامة على التفكير الوهمي، ثم قال بمكر:
-بس اعتقد ده مش هيكون رأيك لما تعرف إن السلاح ده، او بمعنى اوضح المطوة دي عليها بصماتك.
ثم ضحك بذات السماجة وتابع:
-ما هي بتاعتك اصلًا، طبيعي يبقى عليها بصماتك امال هيبقى عليها بصماتي أنا مثلًا ؟!
اخترق الادراك عقل عيسى كرصاصة غادرة أصابته في مقتل، فها هو سيف جديد باتر يُوضع على رقبته، وطرفه في يد أشر البشر حقدًا وخباثة..!
ثم سرعان ما إنقشعت قشور الصدمة وهب كالليث يمسكه من ملابسه بعنف وهو يزئر بوجهه:
-يا بن ال**** عملت كده ليه عايز مني إيه؟
أبعد يداه عنه ببرود، وهز رأسه نافيًا، بهدوء كان كزيت يُسكب على أعصاب عيسى التي صارت كالنيران:
-لا لا، عيب كده يا عيسى، إنفعالك ده مش في مصلحتك ابدًا، لازم تهدى وتسمعني كويس، عشان مازعلش وأنت عارف إن زعلي وحش.
تقهقر غضب عيسى رغمًا عنه، وراح يستفسر بنبرة غليظة:
-اخلص، عايز إيه؟
هز كتفاه ببساطة قاتلة:
-حاجة بسيطة جدًا المفروض أنت كنت نفذتها من بدري، الأرض بتاعت مراتك عشان الاثار اللي فيها كتير و تخصني، والبيت عشان ماتشكش ويبان إنه مجرد عملية نصب.
سأله عيسى بأنفاس عالية تهب كرياح غاضبة عاتية:
-قتلته ليه؟
اجابته كانت منغلقة كملامح وجهه الجامدة يخالطها نفس البرود:
-ماتسألش اسئلة ماتخصكش وأعمل اللي بيتقالك بس، عشان تريح وتستريح.
ثم أشار بإصبعيه مواصلًا بصوت ثلجي:
-مستني منك خبر بأسرع وقت، سلام.
وبالفعل غادر "إيهاب" تحت نظرات "عيسى" الحارقة التي ودت لو تحرق الأخضر واليابس..
...................................................
عاد "عيسى" لواقعه، بعدما قص كل ما حدث على مسامع "كارما" التي لم تعطي رد فعل حتى الان، وكأنها تدرس خطة دفاعية في عقلها لا تجعلها تخسر حربها معه من جديد!
ثم سألته بكلمات مقتضبة غير مفسر محوى مشاعرها:
-يعني مقالكش حاجة على الطلاق؟ إيه اللي غصبك بقا؟
تنهد عيسى بعمق، قبل أن يخبرها بنبرة شغوفة يبثها الصدق الذي يغلف قلبه:
-خوفت عليكي، خوفت عليكي أكتر من أي حاجة في حياتي يا كارما، أنا طبعًا مش هديهم اي حاجة ولازم اتصرف واخد المطوة بتاعتي، وماقدرش أخاطر بوجودك جمبي وأنا فجأة لاقيتني في حوارات كتير اول مرة تحصلي، ومتدبس في جريمة قتل، وبتعامل مع شياطين ماقدرش أتوقع ممكن يعملوا إيه.
عكست ملامحها اختلاج مشاعرها المبعثرة أطرافها، طرف يجذبها نحو تصديقه، وطرف يحذرها من تكرار نفس الخطأ، وما بين ذلك وذاك تكاد تُمزق!
ثم خرج صوتها مرتعشًا أخبره أنها على حافة البكاء:
-يعني لما تبقى معايا مش هكون في أمان، ولما تبعد عني كده هكون في أمان؟!
هز رأسه مغمغمًا بقلة حيلة:
-ده اللي فكرت فيه، عشان مياخدوكيش نقطة ضعف ليا.
ترقرقت الدموع بعينيها، وأضافت بقلبٍ مفطور:
-وهو أنا امتى كنت نقطة ضعف ليك اصلًا؟
أدرك من سؤالها أنها تظن أنها لا تملك مستقرًا لها بين جنبات قلبه، فقط لأنه لم يصرح بذلك!
فاقترب منها أكثر، وأكد بصوت بُح من غزارة ما به من مشاعر:
-من بدري، من ساعة ما اتجوزتك وأنتي بقيتي نقطة ضعف ليا.
لم يُفرحها ذلك الاعتراف، وظنت أن ذلك فقط لأنها صارت زوجته، وهمت بالاعتراض لولا أن وضع إصبعيه على شفتيها قاتلًا ذلك الاعتراض في مهده، وأضاف:
-أنا اللي شوفت بنات ياما، مفيش واحدة فيهم عرفت توقعني غيرك يا كرملة، ملكتيني وخلتيني مش شايف غيرك، فجأة لاقيت إنك بتوحشيني، وإني ممكن أقتل أي راجل يقرب منك، ولما بعدت عنك الاسبوعين دول فهمت إني مش هقدر أعيش بعيد عنك مهما حاولت، وحشني الدبش بتاعك وحتى خناقنا وحشني وكل حاجة فيكي وحشتني.
رفع أصابعه يتحسس عيناها المُلبدة بالدموع والتي أغلقتها مستسلمة لاعترافه الذي ينساب لدواخلها فيُصيبها بخدر عاطفي، واكمل:
-وحشتني اللمعة اللي بشوفها في عنيكي دايمًا وأنتي بتبصيلي، وكنت مفكر إن ده عادي وإني متعود على كده من البنات بما إني وسيم يعني! بس لا، النظرة دي وقعتني على جدور رقبتي.
وهبط ببطء مثير لملامحها، هامسًا بنبرة تفيض شغفًا:
-وحشتني ملامحك اللي عشقتها من غير ما أحس.
واخيرًا وصلت أصابعه بنفس البطء لملاذه وأكثر ما يحب... شفتاها.. فشعر بالرعشة التي ضربتها، وهنا ابتلع ريقه متمتمًا بصوت مبحوح:
-وحشوني دول، اللي لما بلمسهم بحس كأني لامس جزء من الجنة اللي ربنا حَللها ليا أنا بس.
ثم رفع نظراته لعينيها التي يعشق، وأكد بخشونة مفعمة بالعاطفة:
-بحب كل حاجة فيكي، بحبك بجنون يا كرملة.
أسبلت أهدابها بوهن هامسة وكأن الكلمات تنساب من لسانها دون ارادتها:
-وأنا بعشقك من زمان، مهما خوفي أجبرني أحاول ابعد عنك بس ماقدرتش ومش عارفة ولا قادرة أبعد.
لم يكن يملك القدرة على الانتظار اكثر دون أن يقتطف ذلك الاعتراف اللاهب من ثغرها الوردي، متلذذًا بمذاقه الذي يجعله تائه.. عطش يدور في مدارها المُهلك دون أن يجد ما يرويه.
وهي كانت متشبثة بملابسه وكأنها ستسقط إن تركته، تشعر بقدميها كالهلام، تستقبل عواطفه المكبوتة برحابة صدر، بل وتبادله إياها بأشد حرارة منها...
ابتعد عنها قليلًا ليلتقطا أنفاسهما، ثم همس:
-كارما.. أنا مش هقدر أبعد، أنا عايزك.
هزت رأسها دون وعي ولم تنبس ببنت شفه، وكأنها تخبره بصمت ألا يبتعد، فقد سئمت البُعد، ليلصقها به من جديد، وشفتاه تلاقي شفتاها، يغرق بها وفيها.. يمتلكها كما امتلكته دون عناء!
****
في الشركة...
كان "فارس" جالس على كرسيه أمام مكتبه، وذهنه مشغول كليًا بالعمل، حين انتبه لطرقات خفيفة على الباب، يتبعها دخول شخص لم يكن يتوقع مجيئه ألا وهي "نغم" طليقته.
نهض من مجلسه يسألها بنبرة أجشة:
-خير إيه اللي جابك هنا؟
أجابته بهدوء وبراءة خادعة قاطبة جبينها:
-جيت عشان أشوفك يا فارس.
-وتشوفيني ليه؟ بيني وبينك إيه عشان تشوفيني!
رددها باستنكار تجلى بين حروفه، فاقتربت منه اكثر، وصارت نغمة صوتها شبه متوسلة كالقطط تكاد تتمسح به:
-ما أنت مش بترد عليا خالص، مع إني أخر مرة أعتذرتلك على الموقف الغير مقصود اللي حصل مني، ومارضتش أجيلك في وقتها قولت أسيبلك وقت عشان زعلك يهدى.
ابتسامة ساخرة أعلنت وجودها على ثغره تضامنًا مع قوله الذي يتشعبه التهكم الصريح:
-أنتي مفكراني مضايق ومش عايز أشوفك عشان خلتيني أتجوز فيروز؟
اومأت مؤكدة برأسها دون تردد:
-أنا عارفة إنك آآ....
قاطعها فارس بصلابة كسيف قاطع لخيط أفكارها الرديئة:
-أنتي مش عارفة حاجة، جوازي من فيروز كان الحسنة الوحيدة اللي إتسببتي فيها في حياتي.
تجمدت مكانها اثر اعترافه غير المتوقع نهائيًا، وعيناها تقطر ذهولًا وخوف، فقوله كان كوحش لطالما خافت خروجه للعلن!
غمغمت بكلمات متقطعة، بعدما أجهض كل ما كانت تخطط لقوله:
-فارس أنت... آآ أنا عايزه أقولك إني آآ.... إني لسه بحبك، رغم كل حاجة ماقدرتش أنساك، لسه عايزه أكمل حياتي معاك.
لوى شفتاه متمتمًا بفظاظة ألبسته إياها مرارة الحقيقة:
-أنتي عمرك ما حبتيني، أنتي حبيتي فلوسي والعيشة المُرفهه اللي كنت معيشهالك.
هزت رأسها نافية بسرعة:
-لأ صدقني، أنا حبيتك أنت وحبيت شخصيتك ورجولتك وشهامتك، أنا يمكن ارتكبت غلطة لما عاقبتك على حاجة مش بإيدك، لكن صدقني آآ...
قاطعها بحدة بها لمحة ألم برزت حين ضغطت هي على جرحه الذي لن يلتئم:
-دي كانت نعمة من ربنا عليا مش عقاب ابدًا، ربنا بيحبني عشان كشفلي إن مش أنتي الشخصية اللي أكمل معاها حياتي وتبقى أم ولادي أصلًا.
ابتلعت ريقها محاولة تجاهل تلك الطعنة التي أصابت كبريائها في الصميم، ستُعيده لها وبعدها تتحاسب معه على ما تفوه به من حماقات!
-صدقني يا فارس أنا دلوقتي بعد ما البُعد عرفني قيمتك، اكتشفت إن أنت أهم عندي من الخلفة، وعادي هنروح لدكتور واتنين وعشرة تاني وأكيد ربنا هيكرمنا.
اقتربت منه اكثر حتى صارت أمامه مباشرةً لا يفصلهما سوى سنتيمتر واحد، وأحاطت وجهه بيديها معًا تهمس متوسلة:
-ماتعاقبنيش وتحرمني منك أكتر من كده.
لم تجد منه رد فعل بالرفض، فتشجعت أكثر لترفع نفسها بخفة، وتطبع قبلة على شفتيه، علها تلين حجر القسوة القابع على قلبه!
وبلحظة فُتح الباب، وإندفعت فيروز بعينين مهتاجتين ونبرة توازي اهتياجهما كانت تصيح فيها:
-أنتي إتجننتي؟ ازاي تعملي كده!!
رمقتها نغم بنظرات مزدردة وتمتمت بكِبر:
-أنتي مين أصلًا عشان تحاسبيني؟
تحركت فيروز بعقلٍ شبه ملغي، تقودها تلك الغيرة المجنونة التي إشتعلت بضراوة داخلها فجعلتها كنمرة شرسة يصعب ترويضها!
ووقفت جوار فارس تلصق نفسها به عمدًا، وكفها متشابك بكفه وهي تجيب بثبات وتحدٍ:
-أنا مراته، مراته والانسانة الوحيدة اللي يحق لها تقرب منه كده.
استهانت نغم بما تقول بضحكة ساخرة ملتوية:
-هو عشان اضطر يتجوزك فكرتي نفسك مراته بجد.
حينها تدخل فارس الذي كان صامت تمامًا، تاركًا الساحة لنمرته الشرسة لتنتصر هي في بداية تلك المعركة، شاكرًا نغم داخله لأنها أججت الغيرة التي كانت تواريها فيروز خلف ثباتها الظاهري وتنكرها.
وقال بنبرة صلدة بعدما أحاط فيروز بذراعه بتملك:
-متهيألي مفيش جواز بجد وجواز كده وكده، وأنا ماضطرتش اتجوزها، أنتي عارفة لو حاجة أنا مش عاوزها محدش يقدر يجبرني عليها.
تحرقت نغم وتغضنت ملامحها بفعل كلماته التي كانت كمياه نار سُكبت في جوفها دون رحمة، فتابع فارس ببرود:
-ووجودك مش مُرحب بيه خالص لا دلوقتي ولا بعدين، فياريت تتفضلي احسن ما كرامتك تتهان أكتر من كده.
زمجرت نغم بغضب وهي تقبض على حقيبتها استعدادًا للمغادرة:
-أنت مفكر إنها لما تعرف اللي أنت مخبيه عنها هتفضل مكملة معاك؟ تبقى بتحلم.
ثم غادرت صافعة الباب خلفها بعدما ألقت قنبلتها الموقوتة، تاركة فيروز تحاول تحليل كلماته المتفجرة دون فهم!
تنحنحت فيروز وهي تهم بالابتعاد عن فارس الذي كان يحكم قبضته حولها غير سامح لها بالابتعاد، فرفعت عيناها له متذمرة:
-إيه؟
هز رأسه بعدم فهم مصطنع:
-إيه أنتي؟ في حاجة؟
هتفت بحنق طفيف بزغ في حروفها:
-سيبني.
هز رأسه نافيًا، ثم اردف بعبث:
-لا أنا مرتاح كده، وبعدين دلوقتي سيبني! ما من دقيقتين بس لزقتي نفسك فيا بغرا، وكنتي بتتحرشي بيا علنًا.
إتسعت حدقتاها نافية بسرعة، بكبرياء وثبات ظاهري:
-أنا ! لا طبعًا، ده عشان كرامتي ماتسمحليش أشوف المهزلة اللي هي عملتها وأنت سبتها دي وأسكت!
هز رأسه يُسايرها كأنها مجرد طفلة تهذي:
-كرامتك.. طبعًا طبعًا، يعني مش عشان كنتي غيرانة مثلًا؟
هزت رأسها نافية بشدة وقد لها ذلك الغضب الأهوج من جديد:
-غيرانة! لا طبعًا أنا هغير من السحلية دي؟ أنت بس اللي مفكر كل البنات هتموت عليك، وسايب السحلية دي تقرب من كده عادي.
اقترب منها فبدأت هي تعود للخلف، بينما هو يستطرد متيقنًا:
-خالص، أنا سبتها عشان كنت شايفك وأنتي داخله، وكان لازم اطلع اللي أنتي بتحاولي تنكريه، ده أنتي تكة كمان وودانك كانت هتطلع نار.
نفت معترضة:
-محصلش.
فأكد بإصرار ولازال يقترب منها أكثر وهي تتراجع:
-حصل.
أصرت:
-محصلش.
وأصر هو الاخر وقد ضاق حصاره المُربك لها حين اصطدمت بالباب من خلفها:
-حصل.
-محصلش، وأبعد انت بتقرب كده ليه!
غمغمت بها وقد بدأ التوتر يتسلل لها ببطء، فيما تشدق فارس باستمتاع بارتباكها الذي بدأ يطفو على السطح:
-ولو مابعدتش؟
رددت مسرعة بتهور:
-لو مابعدتش صدقني هزعق وهيجوا يشوفونا وشكلك هيبقى وحش.
اقترب منها اكثر يتحداها، وقال بلهجة حملت قدرًا ملحوظًا من المكر والشقاوة الصبيانية:
-طب زعقي كده عشان أسكتك بطريقتي، ارجوكي زعقي.
زمت فيروز شفتاها بحنق صامتة وقد بدأت وجنتاها تتدرج لحمرة الخجل، فأضاف فارس:
-ما تزعقي سكتي ليه؟ زعقي يلا؟
هدرت بعصبية لم تستفز فارس بل استلذها:
-مش عايزه الله! حتى الزعيق هتخليني ازعق غصب عني.
ابتسم ابتسامة مستذئبة فضحت نواياه الماجنة، وبلحظة كانت شفتاه على عتبة شفتاها تهدد بغزوها:
-عمومًا دي كانت حجة عشان أبوسك، وكنت بخيرك عشان أنا ديموقراطي بس، لكن كده كده هبوسك سواء زعقتي او مازعقتيش.
ودون أن يمهلها فرصة الاعتراض، كانت شفتاه تفعل ما كانت تخشاه وتعتصر شفتاها المكتنزة يكاد يُذيبها من حرارة العاطفة التي غمرته وفاضت كالطوفان تغرقها معها...
وبعدها ابتعد، هامسًا بصوت متهدج يستغل حالة التيه التي تعتريها اثر قبلته:
-كنتي غيرانة صح؟
هزت راسها مؤيدة دون وعي فاتسعت ابتسامته بصمت لتتدراك نفسها وتدفعه بعيدًا عنها وهي تصيح:
-على فكرة دي قلة ادب.
اومأ مؤكدًا بجرأة لم تكن تظن أنه يمتلكها:
-اه منا عارف منا بموت في قلة الأدب.
إتسعت عيناها ذهولًا، تشعر بوجنتيها تكاد تحترق من فرط ما تشعر به من خجل ومشاعر لم تعد لها قدرة على كتمها أكثر، ثم فتحت الباب مسرعة لتغادر من أمامه، متخبطة في مشاعرها.. تخشى وبشدة القادم، فهو ما أن يعلم بالحقيقة التي تخفيها، سيبتعد عنها بالتأكيد !
*****
وجدت أمامها نغم التي تفاجأت بها أنها لم تغادر بعد، همت فيروز بمهاجمتها وكأن مجرد رؤيتها تجعل الشياطين تتقافز مغادرة قاعها، ولكن نغم أمسكت ذراعها وهي تقول بجمود:
-تعالي عاوزه أتكلم معاكي.
أبعدت فيروز ذراعها عنها نافرة وهي تجيب دون تردد:
-مفيش كلام ممكن يتقال بيني وبينك.
أخذت نغم نفسًا عميقًا قبل أن تهتف بنفس الجمود البارد:
-طب اسمعيني كويس، لو كنتي مفكرة فارس إتجوزك، وعمل الشويتين اللي جوا دول عشان سواد عيونك تبقي غلطانة.
رفعت فيروز حاجبها الأيسر ساخرة، ومستنكرة بشدة محاولاتها التي لم تنقطع رغم ما حدث..
ولكن نغم تابعت بما زلزلها فعليًا:
-فارس ما صدق اتجوزك وبيقرب منك وبيعمل كل ده عشان هو بيتعالج حاليًا عشان يقدر يخلف لأنه عنده مشاكل، وأنتي الوسيلة لده مش اكتر.
الفصل الثامن عشر18
عادت "فيروز" لمقر عملها من جديد، بذهنٍ مُشتت.. وقلبٍ مطعون بسكين مغموسة بعلقم الغدر، لا تدري ما سمعته حقيقةً ام لا، ولكنها تخشى أن يكون حقيقة.. رغم أنها تخفي عليه سرًا ولكنها تستشعر صعوبة تقبل ذلك!
هل هذا شعور أن يستغلك احدهم؟
تنهدت بصوت مسموع وهي تدلك جبهتها وكأنها تفتت كتلة أفكارها السوداء التي تحجب عنها التعقل، وبدأت تحاول العودة لعملها بتركيز فر منها..
بعد قليلٍ، توجهت صوب مكتب "فارس"، طرقت الباب ودخلت لتجده مُنهمك في عمله، ولكن ما أن رآها ارتسمت بسمة صغيرة على شفتيه وهو يردد بخفوت:
-تعالي يا برتقانة.
تقدمت منه بخطى جامدة، رغم تلك الاهتزازة العاطفية الصغيرة التي اختضت داخلها ما أن ردد ذلك اللقب المُحبب لهما..
ووضعت بعض الأوراق على المكتب أمامه وهي تقول بكلمات مقتضبة:
-محتاجة إنك تشوف ده يا باشمهندس.
رفع حاجبيه معًا وشاكسها بمرح:
-تاني، تاني يا زكي! لا ده أنتي شكلك حبيتي الموضوع أوي.
ابتلعت ريقها تنفي العبث الذي تسلل لبقاع إداركها، وغمغمت بنبرة بها لفحة من التوتر:
-موضوع إيه؟ ياريت حضرتك تشوف وتقولي تعديلاتك عشان ورايا شغل كتير.
عقد "فارس" ما بين حاجبيه بتعجب نابت، وردد:
-حضرتك وباشمهندس في وقت واحد، إيه يا برتقانة هتعلني عليا الحرب ولا إيه؟!
رفعت حاجبها الأيسر ساخرة بغضب مكتوم استشعره فارس بذكاء:
-أعلن عليك الحرب ليه، هو أنت عملت أو بتعمل حاجة؟
رفع كتفاه معًا متمتمًا ببراءة:
-أنا؟ ده أنا غلبان.
لم تعلق على جملته، بل ظلت ملامحها متغضنة بالضيق والغضب المكتوم، ثم أردفت:
-عمومًا أنا هروح لحد ما حضرتك تخلص وهاجي تاني، بعد اذنك.
وكادت تنصرف لولا يد "فارس" التي قبضت على معصمها لتوقفها، يليها سؤاله المُشبع بالاستنكار:
-مالك يا برتقانة؟ حصل إيه؟
نفضت يدها بعيدًا عنه وهي تجيب بجمود:
-محصلش، برجع بس الحدود بينا زي ما كانت عشان لا أنا ولا أنت نندم.
-نندم!
رددها مشددًا على حروفها بنبرة مثقولة بالضيق والتعجب والاستنكار!
ثم نهض من مكانه واقترب منها حتى أصبح أمامها، ومن ثم سألها مكررًا ذات السؤال:
-حصل إيه يا فيروز؟ مالك؟
هزت رأسها نافية:
-مليش عادي.
أمسك وجهها يُجبرها على النظر له، ثم تحسس بأطراف أصابعه وجهها المُخضب بإحمرار ناتج عن غضب ناري يجتاح صدرها، وهمس بخفوت:
-بس وشك اللي بقا شبه الطمطماية بيقول غير كده!
تراجعت خطوة على الفور مبتعدة عنها، فأخر شيء تريده حاليًا أن تتأثر به عاطفيًا..
نظرت له بصمتٍ، وكأنها تدرس إمكانية المخاطرة بقص ما حدث له، لأنها حينها ستكون مجبرة بطريقةٍ ما على إخباره بحقيقتها بالمقابل!
ثم قررت الإفراج عن السؤال المنقبض في جوفها، حين استطردت متساءلة:
-أنت اتجوزتني ليه؟
تفاجئ بالسؤال المباغت، ولكنه أجاب بثبات كالذي تخيل ذلك السؤال آلاف المرات ونسج اجابته مسبقًا:
-ممكن أأجل الإجابة؟
حسبة فارس كان ضمان إتمام علاجه، حتى لا يُضطر على الابتعاد عنها فيما بعد، فهو لن يظلمها معه ويحرمها من حق مشروع!
ولكن ما وصل لفيروز كان معاكس لذلك تمامًا، فإجابته بالنسبة لها كانت بصمة خافتة تأكيدية للظنون السوداء التي تتآكل بعقلها.
لذا هدرت فيه بغضب بدأ يتفجر:
-تأجل الإجابة ليه؟ عشان يكون اللي أنت عايزه حصل؟
صمت فارس لبرهه، قبل أن يسألها بهدوء:
-وهو إيه اللي أنا عايزه؟
أجابته بقوة بما همست "نغم" به بأذنها كالشيطان، غافلةً عن كونها تخدش جرحه:
-إنك تخلص علاجك وتخلف وترضي نفسك ومش مهم أي طرف تاني في الموضوع.
تجمد مكانه لثوانٍ كمن سُكب عليه دلو بارد، فهو لم يتوقع أن تتعرى ندوب روحه المعطوبة أمامها الان، كان يود أن يتخلص منها اولًا ثم يخبرها كيلا يشعر بمرارة النقص أمام شخص جديد، وخاصةً هي!
ثم أجاب بلسانٍ ثقيل منزوع الهدوء السابق الذي كان يعتريه:
-مين اللي قالك الكلام ده؟
هزت رأسها نافية كعلامة على رفضها إخباره، وتابعت:
-مش مهم مين اللي قالي، المهم إني عرفت.
-أنتي شايفاني واحد حقير كده عشان أستغل حد بالطريقة دي؟
سألها مترقبًا إجابتها التي ستشكل المعايير في علاقتهما، فتشدقت هي بنبرة يفوح منها الخذلان:
-بالعكس، أنا ماكنتش مصدقة، مستحيل يكون فارس اللي أنا أعرفه بيكدب وبيمثل بالبراعة دي، بس أنت دلوقتي أكدتلي ده!
هز رأسه نافيًا، وبدأ يقترب منها بخطوات بطيئة وهي تتراجع بمثلها، ثم أضاف بصوت خافت عادت له السَكينة رغم الألم الذي لازال ينبض بعينيه:
-مش معقول تكوني غبية ومش فاهمة ولا حاسه كل ده.
ازدردت ريقها متساءلة:
-مش فاهمة إيه؟
قال وهو يجذب كف يدها عنوة ليضعه على صدره تحديدًا موضع قلبه الذي تعلو دقاته وكأنها صدى تأكيدي لحديثه المفعم بالحب والشغف:
-مش حاسه بيا واللي بتعمليه فيا، والنار اللي بقت في قلبي من غير ما أحس.
ثم اقترب منها أكثر، وهبت أنفاسه على وجهها وكأنها لهيب تلك النيران العاطفية المشتعلة بصدره، وواصل ببحة خاصة:
-نار مابتنطفيش غير وأنتي جمبي.
كانت فيروز تنظر أرضًا، فهي في موقف لا تحسد عليه حقًا.. من جهة اعترافه المُذيب يُطرب قلبها، ومن جهة يزداد ذلك الرعب من معرفته للحقيقة وابتعاده عنها !
رفع فارس وجهها برقة، يتحسس وجنتها مستشعرًا نعومتها، وهمسه المخضب بالمشاعر يتسرب لأذنها:
-معقول كل ده مش حاسه إني بحبك وبموت فيكي يا برتقانة.
وناغش أنفها بأنفه ببطء، متابعًا بذات النبرة التي تداعب اذنها منه للمرة الاولى:
-وبحلم باليوم اللي تقوليلي فيه إنك بتحبيني زي ما بحبك، وتبقي كلك ليا.
غمغمت فيروز بكلماتٍ مشتتة كحالها المثير للشفقة:
-واللي نغم قالته؟
كز على أسنانه على ذكر سيرتها، تلك الثعبانة التي لا تكف عن ملاحقته وبث سمومها في حياته..
ثم أخبرها بتروٍ:
-نغم دي ولا حاجة، كل همها إنها تبعدنا عن بعض عشان ماينفعش أكمل حياتي عادي بعد ما الهانم خرجت منها وإتخلت عني في أكتر وقت كنت محتاجها فيه.
ثم ابتلع ريقه، وتشدق رغم شعوره بالحروف التي يجبرها على الخروج كالشوك الضاري:
-اه أنا حاليًا بتعالج، لكن ماتجوزتكيش عشان كده، أنا حبيتك فعلًا، ولو عايز أخلف منك فـ عشان مش عايز غيرك تكون أم ولادي ونجيب برتقانات صغيرة كده.
نجح في سلب الابتسامة من ثغرها العابس، فغمزها بطرف عينيه متابعًا:
-إيه بقا؟
-إيه؟
-مش عايزه تقوليلي حاجة؟
سألها بشقاوة صبيانية صارت تعرفها جيدًا، فهزت رأسها نافية بتوتر:
-لأ مش عايزه.
هز رأسه مؤكدًا بمكر ومرح في آنٍ واحد:
-لأ عايزه ايش عرفك أنتي، قولي يلا أنا سامعك.
تراجعت عدة خطوات وهي تعترض متذمرة:
-أقول إيه يا فارس، بطل بقا.
فجأة جذبها من خصرها حتى شهقت وهي تصطدم به، ثم رفعت رأسها له حين قال بعبث:
-هتقولي بمزاجك ولا أخليكي تقولي أنا بطريقتي؟ وأنتي عارفة مفيش حاجة أحب على قلبي من كده، أصل أنا تخصص صعوبات بس.
تمتم بأخر كلماته وهو يغمزها بتعبير ذو مغزى، فنال منها عبثه؛ مسببًا ذبذبات عاطفية لكيانها كله، جعلتها ترضخ في النهاية وهي تغمغم بصوت يكاد يسمع:
-فارس أنا بحبك، لكن آآ.....
وضع إصبعه على شفتيها يمنعها من المتابعة، وراح يضيف بابتسامة حلوة:
-مفيش لكن، على الأقل دلوقتي! سيبيني أعيش اللحظة شوية يا هادمة اللذات.
ضحكت فيروز وهي تبعد وجهها عنه في خجل، فأعاد فارس وضعية وجهها أمامه كما كان، وقبل برقة أرنبة أنفها وهو يهمس بحنان:
-ربنا يخليكي ليا يا أحلى وأطعم برتقانة شوفتها في حياتي.
****
بعد يومين...
كان "عيسى" يرتدي ملابسه، بينما "كارما" تقف خلفه تعض على أصابعها من فرط القلق الذي أصابها مؤرقًا إياها، ثم هتفت تقطع الصمت بتذمر طفولي لم تجد سواه حجة:
-بذمتك في واحد يسيب مراته في أيام شهر عسلهم المفروض! ده إيه جوازة الهنا دي؟
استدار لها عيسى مبتسمًا، ثم أمسك بكف يدها مقبلًا إياه برقة، وأردف بحنو مخلوط بالعبث:
-أنتي عارفة إنه غصب عني يا كرملة، لولا كده أصلًا ماكنتش سيبتك تفلتي من حضني.
رغم الخجل الذي اعتراها، إلا أن تفكيرها ومشاعرها كانت محصورة في الخوف الذي ترجمته حين ترجته بخفوت:
-عشان خاطري ماتروحش يا عيسى، أنا خايفة عليك والله.
حاول إقناعها مرددًا بجدية:
-خايفة عليا ليه بس يا كرملة منا فهمتك كل حاجة، إن شاء الله هروح أخد المطوة بتاعتي وهما مش موجودين والفيديو القديم اللي متصورلي وأنا بطلع اثار معاهم اللي كانوا بيهددوني بيه، وأمشي.
رفعت حاجبها الأيسر ساخرة في اعتراض جم:
-ياه بالبساطة دي؟ تضمن منين إن الراجل اللي إتفقت معاه مابيكذبش عليك ومش هيبيعك؟ وافرض الزفت ايهاب ده عرف انك بتكذب عليه لما قولتله إني هرفع عليك قضية اتهمك بالتزويير ؟
تنهد عيسى قبل أن يهز كتفاه معًا، وأقر بالحقيقة:
-مفيش حاجة مضمونة طبعًا يا كارما، لكن أنا مضطر.
ظلت كارما عابسة والدموع تهدد عينيها، قلبها يأن منقبضًا في خوف، فأحاط عيسى بوجهها بكفيه وضيق عينيه مستطردًا:
-خلاص بقا يا كرملة، ده أنتي عيوطة أوي.
أخبرته بصوت مختنق:
-أنا خايفة عليك أوي والله.
فضرب على صدره مرددًا بمرح ليخرجها من ذلك الجو المشحون:
-ماتخافيش معاكي أسد!
ابتسمت كارما بشحوب رغم مخاوفها التي لم تتبدد، واحتضنته بقوة تدفن نفسها بين ضلوعه متمنية لو لا تخرج من هناك ابدًا..
****
وصل عيسى لذلك المكان الذي تم إخباره به أن سيكون به كل ما يخصه، وكان ذلك المكان به اثار يحتفظون بها في مأمن بذلك المكان المهجور، الذي لولا المفتاح الذي معه لما استطاع الدخول له!
بعد فترة قليلة، سمع عيسى صوت احدهم يفتح الباب، فتحرك مسرعًا ينوي الاختباء ولكن الاخر كان أسرع منه وفُتح الباب بالفعل، وظهر أمامه إيهاب بابتسامة مستذئبة يهتف:
-يا اهلًا، أنا كنت هبعتلك بس الظاهر إني وحشتك فقررت تجيلي بنفسك.
****
في الشركة..
توجهت "فيروز" صوب مكتب فارس تنوي أن تستشيره بما يخص العمل في مشروعهما الجديد، لم تكن السكرتيرة موجودة ففتحت الباب ودخلت دون مقدمات وهي تقول:
-فارس بص آآ.....
ولكن الشخص الماثل أمامها لم تكن تتوقعه اطلاقًا، بل كادت تنسى وجوده المشؤوم!
فقد كان "خالها" يجلس أمام فارس، وما أن رآها حتى ضيق عينيه مرددًا بدهشة:
-فيروز!!
شعرت فيروز بانحسار أنفاسها وتجمدت أمامهما، بعد أن شعرت بالنهاية تقترب كثيرًا....
شعرت "فيروز" بالصدمة تطرق اقدامها بالأرض كمسمار غليظ فشلت في إعادة اخراجه، فيما نهض خالها "خالد" بحالة مماثلة من الصدمة، واقترب منها مرددًا دون استيعاب:
-أنتي بتعملي إيه هنا ؟!
ابتلعت ريقها الذي صار جاف كالصحراء، وردت:
-بشتغل.
انعقد ما بين حاجبيه وتابع باستنكار:
-بتشتغلي! من امتى وازاي أنا ماشوفتكيش ولا مرة؟!
شعرت بالحروف تختنق في حلقها، والثبات كان أصعب ما قد تفعله حاليًا.. فخرج صوتها مُذبذب نوعًا ما رغمًا عنها:
-بشتغل من بدري آآ......
قاطعها حين تابع مسرعًا كأنه تذكر للتو:
-أنتي قولتي إنك شغالة مع شركة **** المنافسة لينا؟؟
هزت كتفاها معًا، وأجابت بنبرة كاذبة مهتزة:
-ما أنا جيت بعدها اشتغلت هنا.
استدار نحو "فارس" الذي كان متابع لما يحدث بصمت، مضيقًا عينيه، يترصد نهاية ذلك الحوار ليفرغ كلاهما ما بجبعتهما..
ثم سأله بصوت يقطر شكًا:
-هي شغالة هنا من امتى يا فارس؟
استغرق فارس ثوانٍ معدودة قبل أن يجيبه بعملية:
-من شهور.
تشكلت حروف خالد التالية بهيئة سؤال ولكنها كانت استنكار بحت مخلوط بعدم التصديق:
-أنت عارف دي مين؟
هز فارس رأسه نافيًا بهدوء يُحسد عليه فعليًا في ظل التوتر الذي يخنق حلق كلاً من "فيروز" وخالد:
-لأ، مين؟
-دي بنت أختي، جايه هنا عشان تنتقم مني وتأذيني في شغلي.
تفجرت القنبلة التي لم تكن تخشَ سواها، حتى أنها تشعر بشظاياها التي غُرزت بمنتصف قلبها الذي توقف عن ضخ الدم وإنقبض في ألمٍ جلي..
نظرت صوب فارس الذي نهض مرددًا بحروف بطيئة:
-إيه! بنت أختك؟!
راحت تهز رأسها دون معنى، محاولة التشبث وألا تسقط من عينيه...بل من قلبه!
فوجدت عيناه جليدية مُغلفة بغطاء كثيف حجب عنها رؤية مشاعره!
حاولت صب جام تركيزها على خالها ومناطحته حتى تتجزء خسارتها، فلا تخسر فارس وحقها في آنٍ واحد..
ثم هتفت اخيرًا تسأله بلهجة متحدية:
-ويا ترى إيه السبب؟ قوله لو تقدر.
تدخل فارس متسائلًا بجدية:
-إيه السبب يا خالد؟
هز "خالد" رأسه متهربًا من اجابة كان متأكدًا أنها لن تعجب "فارس" على الإطلاق:
-السبب مشكلة عائلية حصلت من سنين.
بصلابة ردد فارس:
-أعتقد إنها مابقتش مجرد مشكلة عائلية، المشكلة دي طالتني وكنت ممكن اتأذي في شغلي بسببها.
لم تستطع فيروز منع حروف قلبها التي فرت محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا صورتها المشوهه في نظره:
-لأ، أنا عمري ما فكرت أأذي حد معمليش حاجة.
ومنعت بصعوبة بقية حروفها التي كادت تخصه بعدم إمكانية الأذى مطلقًا؛ مدركة أن الوقت ليس المناسب للإعلان عن مشاعرها المكبوتة تجاهه..
ثم نظرت نحو خالها وأكملت بابتسامة متحسرة متهكمة:
-ولا حتى اللي عملي، أنا كل اللي كنت عايزاه حقي.
أتاها صوته كسوطٍ قاسٍ تستشعر لسعاته الضارية وهو يقول:
-ومين اللي فهمك إن الحق بيتجاب بالكذب والملاوعة!
هتفت بصوت أجش وكلمات متحرقة تمامًا كقلبها:
-لما تكون بقالك سنين بحاول تاخد حقك بكل الطرق السلمية الهادية البريئة وتحس إنك بتجري ورا سراب، ساعتها هتكون مضطر تلجأ للكذب والطرق الملاوعة.
بدأ ينفي عنه التهمة بأشد الطرق بشاعة:
-اه اعملي فيها مظلومة بقا، هو مش أنا جيت لكم أكتر من مرة عشان أديلكم حقكم وأنتي وأمك رفضتوا؟!
لوت شفتاها بتهكم واستنكار صريح:
-قصدك تدينا لماليم قصاد اللي أخدته، عشان تسكت ضميرك ده إن كان موجود اصلًا.
-اهو الطمع ده هو اللي جابكم ورا.
إتسعت عيناها بذهول حقيقي، التبجح الذي يتحدث به وكأنه المجني عليه أذهلها، بل وجعل ضحكاتها تصدح عالية وهي تصفق متابعة بسخرية:
-أنت مش طبيعي، تستاهل اوسكار على قدرتك على قلب الترابيزة حقيقي شابووو !
ثم عادت ملامحها للصلادة من جديد، تعلن عصرًا مر، ولكن معالمه بقيت داخلها... ثم أردفت موجهه حديثها لفارس الذي كان صامت:
-أنا هقولك اللي حصل يا فارس.
أرهف السمع وهي تقص عليه كل ما حدث، تحت انظار "خالد" الذي حُشر في زاوية ضيقة يصعب عليه الإفلات منها، مجهزًا حجة يجب أن تكون قوية، فهو أخر شيء يفكر باحتمالية حدوثه هو خسارة أعماله مع فارس!
وبعد أن إنتهت راحت تتنهد وهي تشعر بحملٍ كالجبل يعفيها من ثقله المُهلك، فيما نظر فارس صوب خالد قائلًا بخشونة وحزم:
-الحق لازم يرجع لصحابه يا خالد.
تلعثم خالد قليلًا ولكنه راح يستطرد مسرعًا:
-أنا حاولت أرجعلهم لكن آآ.....
قاطعه فارس بنبرة ذات مغزى:
-حقهم اللي أخدته كله يرجعلهم، مش اللي أنت قررت تمِن عليهم بيه.
أنقذ "خالد" طرقات السكرتيرة ثم دخولها وهي تخبره بنبرة مهذبة:
-مستر مصطفى مستني حضرتك في مكتبك يا مستر خالد.
اومأ خالد مسرعًا ثم تحرك مغادرًا المكتب، شاكرًا للنجدة الالهية التي أتته على هيئة ذلك النداء، فهو لن يتنازل عن أمواله، ولن يخسر فارس ايضًا..!
****
نظر فارس تجاه فيروز بعد مغادرة خالد، ثم نهض مقتربًا منها ببطء، تراجعت هي عدة خطوات للخلف في توتر ملحوظ، ثم تمتمت:
-فارس بص أنا آآ....
هز رأسه مقتربًا منها أكثر وهو يسألها مترقبًا:
-ايوه، أنتي إيه بقا؟
غمغمت بحروف تكاد تكون متقطعة من فرط التوتر الذي انتابها:
-صدقني أنا كنت هقولك لكن آآ...
قاطعها يقر بصوت صلب:
-أنتي عارفة إن أنا بكره الكذب.
اومأت مؤكدة برأسها، والأسف يقطر من حروفها معترفة:
-عارفة، بس غصب عني أنت متعرفش أنا مريت بإيه.
-عارف.
حملقت به وهي تردد دون استيعاب:
-عارف !! عارف إيه؟
اجاب ببساطة مذهلة:
-عارف كل حاجة حصلت زمان.
سألته دون تردد؛ في محاولة منها لإستيعاب أن فقاعة القلق والخوف من معرفته، التي كانت تحيطها حتى كادت تخنقها.. كانت في عقلها هي فقط! :
-ازاي وامتى؟
أجاب ونبرته ترميها لرماد الكذب الذي اختلقت به كل أفعالها السابقة:
-عرفت بطريقتي، من يوم ما غلطتي ونسيتي إنك بتمثلي قدامي إنك عندك فوبيا.
استرسلت ذاهلة، وبقدر ما ارتاحت لعلمه، بقدر ما تفاجئت من قدرته على التظاهر باللاشيء أمامها:
-عارف وساكت كل ده، ياااه ده أنت يتخاف منك بقا.
فسر لها بهدوء وثبات:
-كنت مستني أشوف أخرك، وكان لازم اختبرك واشوف انتي مؤذية وعايزه تأذي ولا لا، اه حسيت بغضب وكنت مش طايقك بس بعدين عذرتك لما عرفت اللي حصل، أنا مستحيل أظلم واحدة الأيام ظلمتها.
عجزت عن اضافة اي شيء سوى اعتذار لم تستشعره ثقيل على لسانها كعادتها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه بس أنا أسفة فعلًا.
لوى فارس شفتاه قليلًا ثم أردف بنبرة درامية تخفت بثوب الجدية:
-للاسف أنا عارف نفسي قلبي أسود وما بسامحش بسهولة.
استنكرت بقلبٍ ينبض بلوع احتمالية الفقدان:
-ما بتسامحش! حتى بعد ما عرفت.
زيَّن المكر سواد عينيه وهو يستطرد:
-في طريقة ممكن أسامح بيها بس اظن مش هتعجبك.
-طريقة إيه؟
رد بنبرة بريئة في ظاهرها، مُخزنة بالعبث والمكر في باطنها:
-إنك تعتذري مثلًا.
لطالما كان الاعتذار شيء تجزع له روحها الأبية، ولكنها تنهدت وهي تأخذ نفس عميق مكررة:
-أنا أسفة.
هز رأسه نافيًا:
-لا الاعتذار مش كده.
عقدت ما بين حاجبيه وراحت تشاكسه:
-هما نزلوا اعتذار جديد في السوق وانا معرفش؟
رد يناكفها متعمدًا اثارة غيظها:
-أصلك مش ناضجة كفاية عشان تعرفي.
فأصرت بزهو تعمدت انبثاقه على خلفية ملامحها:
-لا أنا ناضجة اوي أنا ناضجة جدًا.
-ولما أنتي ناضجة كده ازاي متعرفيش إن اقرب طريق لقلب الراجل......
فقاطعته مسرعة بابتسامة خفيفة:
-معدته، معروفة يعني.
هز رأسه نافيًا وبجدية مُضحكة قال:
-لا طبعًا، خده!
استنكرت دون فهم:
-خده!!
اومأ مؤكدًا بنفس النبرة التي حملت قدرًا ملحوظًا من شقاوته الخفية معظم الاوقات:
-اه طبعًا، الخد الشمال بيوصل للقلب على طول، أنتي ماكنتيش بتاخدي علوم ولا ايه؟
اجابته بابتسامة سمجة متعمدة:
-لا كنت بنام في الحصة بتاعتها.
-ااه هنقضيها تريقة واحنا غلطانين!
فتحت فمها وكادت تعترض، ولكنه اشار لها بصرامة زائفة ممزوجة بالمكر نحو وجنته وهو يمنع ابتسامته من الظهور بصعوبة..
فاقتربت على مضض وبقليلٍ من التردد كانت تطبع قبلة صغيرة سريعة على وجنته، وما إن همت بالابتعاد حتى جذبها بقوة نحوه من جديد حتى إلتصقت به، محيطًا خصرها بذراعيه، فغمغمت والتوتر يضرب أقصاها:
-إيه في إيه!
أضاف بعبث لامع بعينيه:
-أنتي مش شايفه الطريق زحمة ولا إيه؟
سألته:
-طريق إيه؟
رد ببراءة:
-الطريق لقلبي.
ومالت نغمة صوته لمكر رجولي مداعب أوتار انوثتها:
-في طريق تاني سالك.
ثم ودون مقدمات كان ينحني ملتقطًا شفتاها في قبلة نارية توازي تلك النيران التي ألهبت قلبه، وانتفخ صدره بالرضا حين شعر بانتفاضتها بين أحضانه تأثرًا، مدركًا داخله أن مسألة امتلاكها لن تطول كثيرًا.... هو لن يسمح لها أن تطول أصلًا!
تركها اخيرًا، فكان وجهها مختنقًا بالعاطفة وقد تدرجت له حمرة الخجل، ومن ثم أردف بصوت مبحوح:
-دي قلة ادب على فكره.
ناغشها بحنق ظاهري يعكس ترنح قلبه ومشاعره في سُكر لذيذ:
-تصدقي أنا غلطان إني كنت بشوفلك طريقة عشان اعرف اسامحك بيها، وعلى فكره بقا أنا مسامحتكيش ولازم تبذلي مجهود اكتر من كده.
****
-وحشتك مش كده؟
هتف بها "إيهاب" بنبرة باردة متعمدًا استفزاز عيسى الذي كان وجهه مكفهر يحكي يأسًا أصاب عمق قلبه!
ثم عادت ملامح إيهاب للفظاظة المعتادة عليها وهو يسأله بحدة:
-بتعمل إيه هنا يا عيسى؟
رد عيسى بلا مبالاة؛ فهو فشل وانتهى الأمر:
-أنت عارف كويس أنا بعمل إيه هنا.
سأله من جديد رغم علمه مسبقًا أنه لن ينال اجابة لسؤاله:
-مين اللي عرفك إن حاجتك هنا؟
ابتسم عيسى ببرودة كانت بعيدة كل البُعد عما يعتمل داخله الان:
-العصفورة.
ثم استدار ليغادر ولكن ايهاب أوقفه بنبرة حادة مُحذرًا:
-دي اخر فرصة ليك يا عيسى، لو مانفذتش اللي إتفقنا عليه يبقى جهز العيش والحلاوة.
ضغط عيسى على أسنانه حتى أصدرت صكيكًا عاليًا، ثم غادر وداخله كالعاصفة حرفيًا التي على أتم الاستعداد للعبث بكل شيء حولها...
وبعد مغادرة عيسى كان إيهاب يهدر في رجاله:
-لازم أعرف مين اللي عرفه وعرفه كمان أحنا بنمشي امتى، ولولا الحظ وإني جيت كان زمانه خد كل حاجة ومشي لا من شاف ولا من دري، مين خاين بينا !
اومأ قائد رجاله برأسه مؤكدًا:
-امرك يا باشا.
أشار له إيهاب بنفاذ صبر:
-غوروا.
لم يمنع الاخر السؤال الذي إندفع من بين شفتيه:
-وعيسى، هنسيبه كده يا بوص؟
اومأ ايهاب برأسه يخبره بهسيس شابه فحيح افعى:
-مؤقتًا، لحد ما ينفذ اللي احنا عاوزينه، بعد كده هعاقبه بطريقتي عشان يكون عبرة لغيره هو واللي ساعده.....