رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل التاسع9 والعاشر10 بقلم رحمه سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل التاسع9 والعاشر10 بقلم رحمه سيد


أحاطت صورتها في عقل فارس دائرة نارية من الشك، ولكنه استطاع شد لجامها حتى لا تشعل ثباته الذي يحافظ عليه بصعوبة، ونظر أمامه في صمت تام وكأن شيء لم يحدث، هنالك ثغرة لا يعلمها فيما يخص تلك الفيروز، ولكنه سيحبسها في نفس البئر المظلم المجهول ويتسلل لها في الخفاء كما تفعل هي، ليعلم عنها كل شيء.. 
فالمواجهة الصريحة الان لن تجدي نفعًا، وربما تفر هاربة ولا يستطع الوصول لها مرة اخرى او معرفة ما تريد..

حين استظل الادراك بعقل فيروز، شهقت داخلها في اللحظات التالية ولكنها استطاعت حبسها في باطن جوفها، وقد تذكرت فخ الكذب الذي وقعت فيه بغباءها دون أي تدبير ! 
نظرت نحو فارس بنظرات تشبعت ذعرًا خشية شكه بها او معرفته لأي شي، ولكن وجدته ثابت ينظر أمامه متظاهرًا بالشرود... 
بدأت تحاول تنظيم أنفاسها، تخبر نفسها أن ربما هو الاخر لم ينتبه، وأنه ليس بتلك الدقة فيما يخص الموظفين لديه، وعليها ألا تتوتر فتثير شكه! 

توقف المصعد، فنظر لها فارس بشيء من الغموض المستفز، نظرة أحستها ليست عادية، ولكنها أصرت ألا تتوقع السيء فقررت تجاهلها، ثم تخطاها وتوجه نحو استقبال الفندق..
تتبعه فيروز مسلوبة الأنفاس وقد اتضح أنها ليست بارعة بالكذب والتمثيل كما ظن!.. 

                                   ***

بعد فترة... 

كان الجميع يتأهبون متجهزين للمؤتمر الكبير الذي كان على وشك البدء، توجهت فيروز لتعد لنفسها كوبًا من القهوة، وقررت أن تفعل لفارس بالمثل وتقدمها له، لتجس نبضه تجاهه، إن كان قد شك بها سيظهر عليه بالتأكيد..! 
وحين كانت قد إنتهت، عَلى رنين هاتفها بإتصال من احدى زميلاتها في الفريق، فأجابت بهدوء:
-ايوه يا هند. 
سألتها الاخرى:
-أنتي فين يا فيروز؟ 
ردت فيروز وهي تسند الهاتف بكتفها وتحمل أكواب القهوة بيديها:
-أنا جايه كنت بعملي قهوة وبعمل لمستر فارس عشان واضح إنه مش في المود وأنتي عارفة المؤتمر مهم للشركة قد إيه. 
-طب تمام متتأخريش يلا عشان بيسألوا عليكي. 
-حاضر جايه. 
أغلقت الهاتف، دون أن تنتبه للتي خلفها والتي استمعت لتلك المحادثة القصيرة، وإرتفعت أبواق المكر داخلها معلنة حرب انثوية على وشك البدء.. 
وبدأت تلك الحرب فعليًا، حين تقدمت "نغم" طليقة فارس، وبحركة متعمدة كانت تسكب أكواب القهوة التي كانت بيد فيروز وسُكبت أرضًا بعد أن اصابت جلدها بحرق، تأوهت فيروز صارخة بانفعال:
-مش تبصي قدامك. 
وضعت نغم يدها على فاهها متظاهرة بالصدمة وهي تهتف ببرود:
-سوري بقا يا فيروز حظك، دلق القهوة خير! 
شعرت فيروز بالغيظ يتسلط عليها كجنود خفية من شيطانها الذي بث فيها رغبة بقتلها، ولا تدري حقًا أي لعنة حلت عليها حتى تأتي تلك المقيتة خلفهم هنا.. لم تكن تعلم أن نغم تدير شركة هي الاخرى وجاءت لتحضر المؤتمر مثلهم..
فصاحت فيها باهتياج:
-لأ مش خير، المؤتمر خلاص هيبدأ ومفيش وقت أقعد أعمل قهوة تاني. 
لوت نغم شفتاها في استهانة مرددة:
-وهو حد طلب منك اصلًا تعملي قهوة لفارس، ولا أنتي بتتلككي عشان تقربي منه. 
إندفعت فيروز ترد لها الصاع صاعين بقولها:
-ليه أنتي مفكره كل الناس زيك ولا إيه؟! 
اهتاجت فرائص نغم التي زمجرت بها غير سامحة لها بالمساس بكبريائها الرهيب:
-أنتي تطولي أصلًا تبقي زيي يا بتاعة أنتي! فوقي ده أنتي حتة موظفة في شركة. 
ردت فيروز مشمئزة:
-مش عايزه أطول أصلًا، يوم ما أعوز أطول هعوز أطولك أنتي! 
ظهر فارس في تلك اللحظة، ولم يتفاجئ من رؤية نغم، يبدو أنه قد قابلها بالفعل وعلم بوجودها، اقترب منها وهو يسأل مقتطب الجبين:
-في إيه صوتكم عالي ليه؟ 
سارعت نغم بالرد وهي تلبس حروفها ثوب المسكنة:
-كل ده عشان كانت بتعملك قهوة وخبطت فيها غصب عني وإتدلقت يا فارس، بدأت تغلط وتقل أدبها. 
كادت فيروز تعترض مغتاظة، ولكن فارس أوقفها بإشارة من يده، وقال بحزم حاد بعض الشيء:
-في إيه يا فيروز احنا مش جايين نعمل مشاكل هنا، ومش في حضانة. 
ثم هز رأسه مضيفًا باستنكار:
-وأصلًا تعملي أنتي القهوة ليه هي دي شغلانتك؟ أنتي جايه معانا بصفتك مهندسة معانا مش بتاعت الاوفيس! 
تصنمت أمام سيل هجومه المفاجئ الذي اكتسحها مبددًا حروفها الحادة الهوجاء، وشعرت بالغيظ والحقد داخلها يتغذى على ذلك الهجوم، فيما أشار فارس لنغم التي كانت رافعة أنفها بنشوة الانتصار، قائلًا:
-يلا يا نغم عشان هنتأخر. 
ابتسمت نغم وهي تخبره برقة لا تناسب وحشة باطنها:
-هعملك أنا قهوة يا فارس هتعجبك وهتظبط مودك قبل المؤتمر. 
بادلها ابتسامة أعلنت نفسها على ثغره عنوة، وهو يجيبها بهدوء:
-ياريت، وشكرًا لذوقك يا نغم. 
إتسعت عينا فيروز، منذ ثانية كان يوبخها لأنها تفعل شيء لا يخصها، والان يتقبل من الاخرى بصدر رحب! 
انتفض داخلها بالاستحقار وهي تدرك أنه يسير وفق اهواءه، فما الذي تتوقعه منه وهي قد رأته مسبقًا يقف أمام تلك المقيتة مسلوب الأنفاس.. 

ولم تتحمل الصمت فهدرت بحنق جلي:
-على فكرة مينفعش حضرتك تحكم وأنت ماسمعتنيش برضو. 
استطرد فارس بسماجة وعقل وصوت منغلق:
-من غير ما أسمع أنا عارفك وعارف طريقتك، ودي مش اول مرة تعملي مشكلة مع حد. 
ثم استدار وغادر دون أن ينتظر ردها، مدركًا داخله أنه ربما ينتقم منها لأنها استغفلته ببساطة وتحيك شيء من خلفه، هو الذي لم يستطع احدهم يومًا أن يضعه في موضع الغافل! 

                                      ****

حين كان عيسى في متجره، دخل عليه "جاد" ، فتكهن عيسى بسبب مجيئه والذي لم يصعب تخمينه، وقبل أن ينطق عيسى بأي شيء، كان جاد يفصح عن السبب الذي توقعه عيسى، حين سأله مباشرةً دون مقدمات:
-عملت إيه يا عيسى؟ 
سأله عيسى وكأنه لم يدرك سؤاله كليًا:
-عملت إيه فـ إيه؟ 
اغتاظ جاد من ملاوعته، واخشوشنت نبرته قليلًا حين أردف:
-في اللي مفروض تعمله وأحنا متفقين عليه! 
تأفف عيسى معترضًا على إلحاحه:
-منا قولتلك إنه مش هيحصل بسرعة، وإني محتاج وقتي. 
-الوقت عمال يعدي وأنت مش بتعمل أي حاجة، ده معناه إيه؟ 
تشدق جاد بصوت أجش غير راضٍ، فرد عيسى بفتور:
-ده معناه إن الموضوع مش سهل. 
حينها لجأ جاد لاخر ما جال برأسه، وبحروف ذات مغزى:
-طب بص بقا، معاك اسبوعين، اسبوعين بس، والتأخير ده مش هيضرنا لوحدنا.
ثم غادر تحت أنظار عيسى القاتمة، الذي إنتفخ صدره بالغضب.. 

                                      ****

بعد قليل في منزل عيسى... 

كانت كارما في المطبخ تقوم بإعداد الطعام وتقضي يومها الروتيني جدًا في المنزل، حتى سمعت طرقات على الباب، خرجت وفتحته لتتفاجئ بالطارق، إذ أنه كان جاد زوج والدتها، تغضنت ملامحها بالرفض تلقائيًا وهي تخبره دون سؤال منه:
-عيسى مش هنا. 
رد بهدوء وبرود لم تستغربه منه:
-عارف، أنا مش جاي لعيسى أصلًا.
سألته وهي تعقد ما بين حاجبيها متعجبة:
-امال إيه؟ 
كلماته الثانية بقدر ما كانت بسيطة في ظاهرها، إلا أنها سببت فجوة من الدهشة والتساؤل داخل كارما:
-أنا جاي أشوفك وأشوف أخبارك، بما إني تقريبًا مشوفتكيش بعد الجواز إلا كام مرة تتعد على الصوابع. 
-وده من امتى يعني؟! 
لم تستطع منع سطو حروفها المستنكرة، والتي تجاهلها جاد حين دخل وهو يتابع متسائلًا:
-عامله إيه؟ 
اجابته باقتضاب:
-الحمدلله كويسة. 
أكمل:
-وعيسى عامل إيه معاكي؟ كويس معاكي؟ 
ارتبكت من سؤاله، وشعرت أن ذلك السؤال متعلق بسبب حضوره المفاجئ غير المرغوب، وتسببت ربكتها في أن واصلت مجودة اجابتها:
-كويس جدًا معايا، وأنا مبسوطة اوي هو انسان كويس جدًا. 
اجابتها المثالية لم تكن وطيدة العلاقة بشخصها الذي كان يرفض الزواج من عيسى رفضًا باتًا.. 
لذا أعرب جاد عن شكوكه حين أضاف:
-غريبة مع إنك كنتي هتموتي نفسك وماتتجوزيهوش!
عبث التوتر بأرجاء ملامحها مسببًا مرج لم يخفى عن جاد وهي تسترسل:
-اديك قولت، كنت! لكن بعد ما عاشرته وعرفته غيرت رأيي. 
نهض جاد وهو يهز رأسه، ثم اقترب منها قليلًا رابتًا على كتفها وهو يقول بكلمات اشتمت كارما رائحة الخبث فيها:
-طيبة أوي أنتي يا كارما، بس أبقي حذري من الناس متبقيش طيبة أوي كده عشان مترجعيش تعيطي في الاخر. 
ثم غادر بعد أن وضع بكلماته قنبلة موقوتة داخل قلب كارما، تاركًا إياها تفتش عن تلك القنبلة التي ستنفجر قريبًا بالتأكيد... 

سارت للمطبخ بخطى شاردة، لا تستطع ادراك مغزى كلماته، ولكنه أعادها لمعقل عقدتها وغابة أفكارها الممتلئة بالأشواك الضارية، فهي قد تناست تقريبًا ما انتوته حين قبلت زواجها بعيسى، تناست أنها لا يجب أن تتمادى معه، لأنها ببساطة لن تستطع عيش حياة طبيعية مثل أي شخص، هذا إن بادلها عيسى شعورها بالطبع!! 

                                  ****

بعد فترة... 

وصل عيسى المنزل بعد انتهاء عمله، بدأت كارما تجهز الطعام، ولم توجه له أي كلمة بل حتى كانت تتحاشى النظر له، مقررة في داخلها أنها يجب أن تعيد بناء الجسر الذي سيحميها بينهما، فبالنهاية لن يغرق في طوفانه سواها ! 

وعيسى كان يظن أنها تخاصمه بسبب اخر شجار بينهما، وبعد أن وضعت الطعام وكادت تغادر أوقفها متسائلًا باستنكار:
-أنتي رايحة فين؟ 
-داخلة جوه، في حاجة؟ 
ردت بشيء من الجمود، فتابع عيسى مشيرًا لها:
-ما تقعدي تاكلي معايا. 
-لا مليش نفس. 
تأفف عيسى في قنوط:
-ااه رجعنا بقا للقمص وشغل الاطفال الصغيرة. 
هدرت غاضبة بانفعال: 
-شغل الاطفال عشان مش جعانة! 
تمتم عيسى بخشونة:
-شغل اطفال عشان مش عارفة واجبك ودورك كزوجة المفروض عايشة معايا في البيت، ناكل مع بعض زي الناس الطبيعية. 
لوت كارما شفتاها بابتسامة ساخرة من تدرج كلماته الاعتيادي للزواج، ثم قالت بسخرية:
-رجعنا تاني لنغمة الجواز السخيفة، أظن أنت فاكر كويس أوي إني متجوزاك غصب عني، وبناءًا على اتفاقنا، فياريت ماتتقمصش الدور أوي. 
نهض من مجلسه وبدأ يقترب منها ببطء مستطردًا وهو يرفع حاجبيه بسخرية مماثلة:
-متجوزاني غصب عنك أوي لدرجة إنك في كل مرة بتدوبي في إيدي زي البسكوته. 
تكرار كلماته المستفزة الواثقة، واقترابه الوشيك وكأنه سيثبت لها فعليًا حين يهدد ثباتها بقربه الرجولي المثير منها، استفزها كثيرًا، فهدرت فيه غاضبة:
-أنا بنت، طبيعي لما راجل غريب يقرب مني اتأثر واتوتر، منا مش انسان آلي، لكن الموضوع مش حاجة خاصة بيك. 
كز عيسى على أسنانه يشعر بالانهزام امام كلماتها المقنعة، واهتزت ثقته في تأثيره عليها ! 
فيما تحركت هي للغرفة، شاعرة بانتعاش صدرها بالنصر في جولة من جولات معركتهما غير المنتهية.. 

بعد أن أنهى عيسى طعامه، وكان يقف في البلكون يتحدث مع شقيقه "حازم" ، رآها بطرف عينه وهي قريبة منه، فأراد رد صفعة كلماتها لغروره، لذا قرر التلاعب لها ليثبت لها ولنفسه أن لازالت قابعة اسفل سطوة تأثيره.. 
فارتفع صوته وهو يكمل مغيرًا مجرى حواره مع شقيقه فجأة:
-وانتي عامله إيه، حقك عليا إني كنت مشغول عنك شوية. 
أتاه صوت حازم المدهوش:
-انتي! انتي مين يا عيسى؟
فاستأنف عيسى متقمصًا الدور الذي قرر تأديته على أكمل وجه:
-عارف إنك دايمًا مقدرة انشغالي، بس صدقيني أنتي على طول وحشاني. 
ازدادت جرعة الصدمة والدهشة في صوت حازم، الذي أردف متهكمًا:
-وحشاك ! إيه يا عيسى في إيه ابتديت أقلق وأشك في ميولك على فكرة. 
-لا لا متقلقيش عليا خالص أنا كويس يا حبيبتي. 
أكمل عيسى وهو يلمحها وقد إنتبهت لحديثه، ويقسم أنه يشعر بألسنة النيران تتقافز نحوه من عينيها الان.. 
فيما استطرد حازم بمرح شابه الصدمة:
-هي وصلت لحبيبتي، لا كله إلا رجولتي! 
منع عيسى ضحكته بصعوبة من التحليق في ثغره، ثم أضاف قبل أن يغلق الخط:
-طب هكلمك تاني يا حبيبتي، يلا سلام أنتي دلوقتي. 
ثم استدار نحو كارما التي كانت قريبة منه، يسألها ببراءة:
-في حاجة يا كارما؟ 
رغم الغيظ الذي أعلن نفسه راعيًا رسميًا لنظراتها وشعورها في تلك اللحظات، إلا أنها ردت ببرود ظاهري:
-لا ابدًا، أنا جايه ألم الغسيل. 
-اه طبعًا طبعًا، لميه وماله. 
غمغم عيسى بسخرية منخفضة تجاهلتها كارما وهي تقترب منه واقفة جواره وبدأت تلملم الملابس بالفعل، نظر عيسى للساتر في البلكون " التاندا" ، ثم اقترب منها ببطء ماكر، حتى أصبح على بُعد إنشات قليلة جدًا منها، حاشرها بين جسده العريض وبين الحائط جوارها، اضطربت أنفاسها على الفور وهي تنهره:
-أنت بتعمل إيه! أبعد. 
رد ببرود ماكر حمل في طياته عبث غير صريح:
-مالك يا كارما اتوترتي كده ليه! أنا باخد مشابك من وراكي بس. 
وأطال وهو يتناول ما يريد، ولكن احتكاكة جسده البسيطة بجسدها، لم تصيبها وحدها بالاضطراب، بل كانت وكأنها احتكاكة نارية أنبأت عن شعلة عاطفية تأججت بين ضلوعه، نزل بنظراته ببطء نحو شفتاها المكتنزة التي كانت قريبة جدًا منه، يشعر للمرة الاولى بانحسار أنفاسه في قربها، و الرجل البدائي داخله يحثه على اقتطاف ثغرها في قبلة تنسيها تراهة كلامها وتثبت لها أنه يملك زمامها في قبضته! 

هز رأسه وكأنه ينفض عنه تلك الافكار الغريبة..الحارة! وقد إنقلب السحر على الساحر.. 
بعد دقائق من الصمت كانت كارما قد إستعادت ثباتها، وحين رأت احد المارين، بحركة مفاجئة بثقت من البلكون، فصُدم عيسى:
-أنتي بتعملي إيه! 
أجابته بانفعال مكبوت:
-راجل قليل الذوق والاحترام تصور يا عيسى، بيخون مراته في البيت ومش عاملها أي اعتبار ولا احترام. 
تظاهر عيسى بالمفاجأة بينما هو متيقن أنها تقصده هو بكلامها:
-لا والله. 
أكدت والغل ينضح من نبرتها:
-اه والله، ده أنا لو منها أخليه نايم كده وأدب سكينة في قلبه. 
رجع عيسى خطوتان للخلف مرتابًا وهو يضع يده على قلبه، وبنبرة درامية استرسل:
-راجل بجح اوي، اهو واحد زي ده محدش ياخده قدوة ابدًا. 
-ابدًا، خاف على نفسك بقا. 
هز عيسى رأسه مؤكدًا بسخرية قبل أن يغادر البلكونة، بينما هي لازالت تحاول اطفاء لهب الغيرة الذي نشب بقلبها. 

                                     ****

بعد أن إنتهى المؤتمر، وحين كان الجميع يبدأون بالتجمع لمناقشة ما سيصير، كانت فيروز تحيط كف يدها بيدها الاخرى، ومعالمها تتشنج معلنة ألم يلح عليها، انتبه لها احد زملائها، فاقترب منها قليلًا يسألها متفحصًا:
-مالك يا فيروز؟ 
اجابته بصوت متحشرج:
-ايدي اتحرقت بس من القهوة اتدلقت عليها. 
-طب محطتيش عليها مرهم للحروق ولا أي حاجة ليه؟ 
هزت رأسها نافية تخبره:
-منا ملحقتش للأسف. 
هز رأسه وهو يقول بحزم:
-لا مينفعش لازم تحطيلها حاجة كده غلط، إطلعي إغسليها بشوية مايه وأنا هجيبلك مرهم حروق وجايلك. 
اومأت موافقة برأسها وهي تنهض بالفعل، فالألم في يدها لا يسمح لها اصلًا بأي اجابة سوى الموافقة.. 
كانت عينـا فارس مترصدة ما يحدث، وقبضة يده مشتدة على المكتب، وكأنه يصارع نفسه التي تود التدخل والانقضاض عليهما، اقتربت منه "نغم" التي لاحظت انتباهه لما يحدث، وقررت وضع الزيت على النار حين همست بالقرب منه:
-أبقى اختار موظفينك كويس يا فارس. 
ثم غادرت القاعة بهدوء واثقة أنها أشعلت ما يكفي لإحراق تلك الفتاة.. 
بعد قليل من المجاهدة نهض فارس هو الاخر وقد إنتصرت نفسه على سيطرته التي كان يحاول فرضها وترويض غضبه، فرآى "أحمد" وهو يضع لفيروز علاج الحروق، اقترب منهما متسائلًا بحروف مشدودة:
-في إيه؟ سبتوا الاجتماع اللي هيبدأ دلوقتي ليه؟!
اجاب أحمد بقليل من التوتر:
-فيروز إيديها إتحرقت فكنت بحطلها مرهم حروق وكنا جايين على طول. 
اقترب فارس منه، رابتًا على كتفه برفق، وبنغمة مالت نحو السخرية الصريحة لأول مرة تصدر منه تجاه احد موظفيه:
-بعد ما شوفت رقة قلبك دي، أنت لازم تسيب الهندسة وتشتغل دكتور احسن. 
ثم احتدت حروفه نوعًا ما وهو يكمل بغضب طفيف:
-إتفضل على شغلك يا باشمهندس، أحنا جايين رحلة شغل وشغل مهم جدًا مش رحلة شهر عسل! 
تمتم أحمد بصوت أجش قبل أن يتراجع أحمد عائدًا لمكانه:
-مفيش حاجة حصلت لكل ده يا مستر فارس، ومفيش تقصير حصل او هيحصل مننا. 
غادر المكان تاركًا فيروز التي كانت على وشك الإنفجار بوجه ذلك المتعجرف، فازداد غيظها أضعاف مضاعفة حين أشار لها دون اهتمام وببرود قاسٍ:
-يلا بقا مش هنقعد اليوم بطوله نشوف حرق الأميرة ديانا. 
ثم تحرك مغادرًا، بعد أن تركها في حالة صدمة حقيقية، وما الذي كانت تتوقعه منه؟! أن يهتم ولو قليلًا؟! 
كيف سمحت لخيالها أن يرسم لها خيلات من مجرد اقتراب عادي ونظرة منه اخطأت تفسيرها، بل وبكل سذاجتها ظنت أن هذا سيزيد من سرعة تحقيق ما تريد والتقرب منه!! 

في خضم أفكارها ومشاعرها، لم تنتبه للذي كان يقترب منها مدققًا النظر لها، وما إن صار أمامها حتى ردد متفاجئًا من تواجدها بشيء من الشك:
-فيروز! 
فزعت مصدومة هي الاخرى ما أن رأت أمامها "خالها" وأيقنت أنها في ورطة حقيقية هذه المرة....... 

الفصل العاشر :- 

حاولت استجماع نفسها التي أبت ألا تبعثر، كأن رؤيته كفيلة بإحراق قشرة الثبات الظاهرية، وتأجج ما أسفلها من جراح غائرة..! 
ثم رفعت رأسها، وهتفت بثبات تُحسد عليه رغم التبعثر الداخلي:
-خير؟! حتى هنا مش سايبني في حالي. 
أفصح عن السؤال المتوقع مذ وقعت عيناها عليه:
-أنتي بتعملي إيه هنا؟ 
هزت كتفاها متظاهرة باللامبالاة التي كانت مفتقرة لها في تلك اللحظات حرفيًا:
-هكون بعمل إيه! بشتغل. 
ضيق عينيه ورأت الشك يحوم فيهما بوضوح:
-بتشتغلي إيه هنا؟ 
زفرت أنفاسها بصوت مسموع، والضيق والنفور يفسحان مجالهما في باطن روحها وكلماتها، ثم تابعت:
-هيفرق معاك فـ إيه؟ 
شدد على حروفه وهو يقول:
-ردي على سؤالي يا فيروز، بتشتغلي إيه هنا؟ 
أرادت أن تركض بحروفها لنهاية ذلك الحوار المقيت، وبعد أن أسعفها عقلها بالمخرج:
-بشتغل مهندسة مع شركة **** وجايين هنا عشان المؤتمر، خلاص إرتحت؟
إنكمشت ملامحه بغضبٍ لحظي، فهذه الشركة معروفة بمعاداتها لشركتهم، تراها فعلت ذلك خصيصًا لتنتقم منه؟!
وقبل أن ينطق بالمزيد، كانت فيروز تغادر وهي تتمتم بكره:
-ياريت تكون أخر مرة أشوفك. 
ثم تخطته كما تمنت دومًا أن تتخطى ذكراه الشنيعة وأثرها، ولكن لم تفلح! 
وهو الاخر تغضنت ملامحه بالضيق، ولا يدري ماذا عساه يفعل! 
فمن جهة موعد طائرته قد اقترب جدًا فلا يسمح له وقته للبحث خلفها، ومن جهة اخرى لا يمكنه توكيل شخص بذلك البحث، فلن يقبل أن يعرف احدهم بشاعة ما فعل بالماضي..

في نفس الوقت توجهت فيروز صوت المرحاض، بللت وجهها وهي تتنهد بصوت مسموع، تمنع دموعها بصعوبة من التقافز لعينيها، ورغمًا عنها بدأ الماضي ينسج ذكرى ذلك اليوم بعقلها، اليوم الذي بدأ عنده كل شيء..... 

كانت لازالت طالبة في كلية هندسة، دخلت غرفة والدتها لتجدها جالسة ارضًا تبكي بانهيار، ركضت نحوها تسألها بارتياع:
-مالك يا ماما في إيه؟! 
ازداد نواح والدتها وهي تخبرها من بين دموعها:
-لازم نسيب البيت. 
عقدت فيروز ما بين حاجبيها بعدم فهم، فهذا البيت ملكًا لهم من والدهم:
-نسيب البيت ليه؟! 
غمغمت بحروفٍ متقطعة كروحها التي تناجي السكينة:
-خالك، خالك آآ.... أخد كل حاجة. 
للحظات فشل عقلها في تحديد مقصدها وسألتها دون استيعاب:
-أخد إيه؟!! 
-أخد البيت والمحل وكل حاجة، كل حاجة أبوكي كان سايبها لينا. 
جاءت اجابتها مبحوحة، لتزيد من تجمد عقل فيروز الذي شلته الصدمة... صدمة القريب التي جاءت كالطعنة في الصميم، في صميم معتقداتها وانتماءها... وقلبها! 
ثم تابعت اسئلتها:
-أخدهم ازاي؟
-بالتوكيل اللي كنت عملاه له عشان يشغل المحل ويتابع كل حاجة.
ردت، ثم بدأت تضرب على فخذيها وهي تستطرد بحسرة والسؤال يدور كالحلزون دون اجابة:
-عمل كده ليه! عمل كده ليه حرام عليه، حرام عليه.
ثم هزت رأسها نافية، وقالت من وسط دموعها:
-أنا والله ما زعلانة على الفلوس قد زعلي إن اخويا اللي اديته ثقتي واعتبرته مسؤول عنكم بعد وفاة ابوكم يعمل كده، عمل فيا كده ليه! ده أنا شقيقته، ده أنا أشيل اللُقمه من قدام بوقي واديهاله! 
لم تملك فيروز سوى أن تربت على كتفها برفق، وتضمها لأحضانها محتوية إياها بكل الدفء، علها تدفئ روحها التي أثلجها الجشع والصدمة.. 
ولكن والدتها مازالت تغمغم محدثة نفسها بقلة حيلة وقهر:
-طب هنعمل إيه! هنروح فين، وهندفع مصاريف جامعتكم منييين؟!
أرادت فيروز وبشدة أن تخفف عنها ما يثقل كاهلها، أن تأخذ قسطًا من الوجع الذي تراه يُعشعش في عينيها، ولكن لم تستطع... تشعر بكُليتها مُلَّجمة أمام سطوة الموقف.
ابتعدت عنها ببطء وبعينين متورمتين أخبرتها بنبرة متحشرجة:
-اطلعي وسيبيني لوحدي يا فيروز. 
-يا ماما آآ.... 
كادت فيروز تعترض، ولكنها أصرت:
-عايزه أقعد لوحدي إطلعي. 
لم يكن امامها سوى الامتثال لطلبها، فخرجت بخطى بطيئة تجر اذيال الخيبة.. 

تَذكُر جيدًا بعدها كيف استيقظت والدتها في صباح اليوم التالي وقد إلتوى جانب وجهها، ولولا رحمة الخالق ربما كانت اُصيبت بذبحة صدرية! 
تَذكُر كيف بدأت تبحث وتبحث عن عمل في كل مكان، تَذكُر كيف عاشوا لفترة في غرفة صغيرة تكاد تكون معدومة الاثاث.. 
تَذكُر الشفقة التي رأتها تظلل عيون مَن حولهم، وكيف عملت والدتها كعاملة تنظيف في المنازل لتحضر لهم الاحتياجات الأساسية.. 
لم يعيشوا يومًا مرهفين بعد ذلك اليوم، وهم الذين كانوا لا يغيب الترفيه عن حياتهم. 

تذكر وتذكر وتذكر، لم تغفل الذكريات عن جلدها ليوم واحد، بل و رؤية ذبول والدتها امامها يومًا بعد يوم تكفل بالأمر! 
ثم تذكرت كيف علمت بالشركة التي أسسها خالها بالشراكة، والنعيم الذي يعيش به، بعد أن تفضل عليهم بعد فترة كبيرة بزيارة يلقي لهم بضعة اموال لا تثمن ولا تغني من جوع.. 
وأصرَّت من بعدها أن تسلبه كل حقوقهم، ولكن للأسف علمت بعدها أنه يسافر خارج البلد معظم الوقت، فسلطت تركيزها على فارس... الذي يجب أن تكسب ثقته وبالتالي ثقة خالها دون أن يعلم مَن هي، حتى تستطع استرجاع حقوقهم وكل ما يملكه. 

عادت من بحر ذكرياتها الأسود، تتنفس بصوت مسموع وكأنها تحاول النجاة من الغرق الداخلي، ثم بدأت تمسح دموعها بثبات، ولم تزدها رؤيته سوى حقدًا وإصرارًا على تحقيق ما أرادت... 

                                 ****

حين كان "فارس" يأخذ قهوته، أوقفه عامل هناك في الخمسين من عمره، ذو وجه مُجعد أنارته طيبة استشفها فيه، اقترب منه ثم هتف بهدوء:
-ثواني يا فارس بيه. 
هز فارس رأسه بسماحة:
-أيوه؟ 
خرجت حروفه منمقة وهو يمهد لما سيقول:
-أنا كنت عايز أقول لحضرتك حاجة، عشان الساكت عن الحق شيطان أخرس. 
اومأ فارس مؤكدًا على قناعته بكلامه:
-طبعًا، اتفضل حضرتك أنا سامعك. 
راح يخبره بجدية، حريص ألا يظلم الاخرى بظنونه في نفس الوقت:
-البنت الموظفة اللي حضرتك شديت معاها وتقريبًا كنت بتطردها، دي ماعملتش حاجة، أنا شوفت اللي حصل، فعلًا الاستاذة التانية هي اللي وقعت القهوة وبدأت الشد بينهم. 
ثم صمت برهه، وواصل مفسرًا لفارس الذي لم يصدر عنه رد فعل، وكأنه يفكر:
-أنا مش عايز أكون شاهد على قطع عيش حد وأسكت، عشان ربنا مايحاسبنيش، وحقك عليا لو تدخلي ضايقك. 
اعتلت ابتسامة بشوشة ثغر فارس وهو يربت على كتفه يطمئنه:
-لا ضايقني ولا حاجة يا راجل يا طيب، ربنا يباركلك ويديك الصحة، وعمومًا متقلقش مفيش قطع عيش ولا حاجة. 
بادله الاخر ابتسامته بأحلى منها وهو يقول مرتاحًا:
-طيب الحمدلله، هستأذنك أنا بقا أروح أكمل شغلي. 
اومأ فارس في احترام لفارق العمر بينهما:
-اذنك معاك طبعًا، اتفضل. 

أحس أن هذه اشارة ليضع حدًا لنغم، فهو يدرك أن رغبته بالثأر من فيروز وخداهها، جعلته يلطف من حدة التعامل بينه وبين نغم، وهذا ما لن يحدث مرة اخرى، فالفجوة التي تركتها في نفسه وكرامته ورجولته لم تُغلق بعد! 

لذا توجه صوب المكان الذي كان تقطن به، فنهضت هي له مسرعة تردد بابتسامة متلهفة:
-فارس، تعالى اقعد، عامل إيه؟ 
اجاب بوجه مقتضب:
-أنا مش جاي أقعد.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-امال إيه؟ في حاجة أقدر أساعدك فيها؟! 
لوى شفتاه ساخرًا:
-اما تعرفي تساعدي نفسك الأول. 
تناثر ثبات قسماتها ولاح فيهما التوتر، فهي ظنت أنه لا يدري بالأمة التي تمر بها شركتهم، ولكنها أضافت تسأله بجمود:
-في إيه يا فارس؟! 
اقترب منها خطوة اخرى، وخَفَّض من حدة صوته لأنهم في مكان، وراح يحذرها:
-في إنك بتتدخلي في اللي ملكيش فيه، وحاطه المهندسين بتوعي في دماغك، خليكي في حالك يمكن يتعدل، وملكيش دعوة بفيروز بالذات، أنا سكت ساعتها عشان أنا حقاني وكنت مفكر إن معاكي حق، لكن أي غلط في حق حد يخصني مش هسكت! 
أحست أن كلمة "يخصني" واسعة الشمول، وحدسها ينبئها أنها لا تخصه على المستوى العملي فقط!! 
ولكنها أبعدت أفكارها الانثوية النارية جانبًا، وهي تردف محاولة إمالته لكفتها من جديد:
-أنت فاهم غلط يا فارس، أنا فعلًا معملتهاش حاجة وآآ.... 
أوقفها بكفه الذي ارتفع في وجهها، ثم استطرد بخشونة:
-مش عايز أسمع حاجة تاني، هما كلمتين تحطيهم حلقة في ودنك وخلاص. 
ثم استدار ليغادر، كالعاصفة التي هبت وعادت ادراجها، بعد أن نثرت هبوبها الضاري في وجهها..

جلست نغم مرة اخرى وهي تهز أقدامها بعصبية ملحوظة، ثم تمتمت لنفسها بغل:
-مبقاش أنا نغم لو ما عرفت كل اللي يخص البت دي، وبيعمل عشانها كده ليه! 

                                  ****

في منزل عيسى... 

طال تجاهل "كارما" له، وهو الذي لم يعتد على مقابلة التجاهل خاصةً منها، ولا يدري لما أغاظه ذلك التجاهل، وأصر أن يفتته مذيبًا ما تحاول بناءه بينهما.. 
كانت جالسة أمام التلفاز، تأكل "الفشار" الذي صنعته لنفسها، لم تعرض عليه حتى أن يشاركها رغم تواجده! 
لذا قرر التلاعب بها قليلًا.. 
نظر "للفأر البلاستيكي" الذي أحضره، ثم وضعه في جيب بنطاله، وتوجه بخفة نحو مفاتيح الكهرباء، ثم فصل الكهرباء في المنزل، ليعلن الظلام نفسه سيدًا للموقف، ويبدأ العبث.... 

-إيه ده النور قطع ليه. 
رددتها كارما بصوت أحس فيه التوتر، فهو يعلم كرهها للظلام، منذ أن كانت تنام والنور مفتوح في الغرفة.. 
اقترب منها ببطء وهو يقول بضيق مصطنع:
-مش عارف، بس شكل الحوار هيطول عشان تقريبًا في حاجة في الكابل عندنا، ولسه بقا هيجيبوا حد يصلحه. 
تأففت بحنق حقيقي وهي تضع "الفشار" جانبًا:
-اوووف بجد، الفيلم كان جميل أوي. 
قال عيسى متشفيًا فيها:
-أحسن عشان تبقي تتفرجي لوحدك كويس. 
قلبت عيناها متوجسة:
-طب إيه هنفضل في جو الخفافيش ده كتير؟! 
هز كتفاه وهو يشير بيده للظلام من حوله، قائلًا بمكر:
-ماله جو الخفافيش؟ ممتاز. 
تجاهلته كارما والحنق يسع جوفها كله، ثم أمسكت بهاتفها تنظر به وتنوي فتح "الكشاف"، فتفاجئت لاعنة حظها داخلها:
-يا نهار أسود، اهي كملت، تليفوني فصل شحن! 
تمتم عيسى يشاكسها:
-المنحوس منحوس لو ركبوا فوق راسه فانوس. 
وجهت بصرها نحوه رغم أنها لا تراه، وسألته بغيظ من بين أسنانها:
-بتقول إيه يا عيسى؟ 
سارع بالرد ببراءة: 
-بقول كفاية نورك طاغي على المكان يا غالية. 
ابتسامة خفيفة نشبت في ثغرها، ثم ادارت وجهها لجهة مقابلة يأتي منها بصيص نور، لتنتبه لعيسى الذي نهض بعدما فتح كشاف هاتفه وكاد يتحرك نحو باب المنزل، فسألته مسرعة:
-أنت رايح فين؟! 
أشار بيده بلامبالاة ظاهرية وهو يجيبها:
-هنزل بقا أقعد مع أي حد تحت. 
فكشرت عن انيابها حين نهرته بعصبية خفيفة:
-تقعد مع أي حد ليه وأنا كلبة قدامك مثلًا، منا حد! ما تقعد معايا. 
اقترب منها مرة اخرى، وواصل متلاعبًا بحروفه الماكرة مثله:
-أنا حسيت كده، احساس إنك قال إيه، مش عايزاني أقعد معاكي. 
ردت بعفوية:
-لا عايزاك. 
ضيق عيسى ما بين عيناه، حتى لمع العبث فيهما وهو يردف بتوجس مرح رسمه بمهارة:
-إيه الكلمة الثعلبية دي يا كارما، أنا كده هبتدي أقلق على نفسي منك على فكرة، هو عشان النور قاطع هتستغلي الموقف وتغرغري بيا! 
إتسعت عيناها وهي تصيح فيه:
-أغرغر بيك إيه أنت مجنون. 
-أنا برضو يا خلبوصة. 
غمغم بها بابتسامة تقطر عبثًا مشابه لسابقه، وبعد قليل من الصمت وحين كان عيسى يتظاهر بالانشغال بهاتفه، هتفت كارما بشيء من التردد:
-عيسى ما تقرب هنا شوية. 
بالطبع لم يخلو رده من المرح المخلوط بعبث صبياني يستحضر ضحكتها رغمًا عنها:
-لا بقولك إيه! والله أنزل وأسيبلك البيت، كله إلا الشرف، أحنا ما حيلتناش غيره.  
نهرته بجدية مصطنعة رغم الابتسامة التي تتهافت على شفتيها:
-بطل قلة أدب، قرب هنا عشان الكشاف بعيد عني وتقريبًا لمحت حاجة ويارب ما يكون اللي في بالي صح. 
بحركة دهاء قرَّب عيسى "الفأر البلاستيكي" من قدميها دون أن تلحظ، وسألها:
-حاجة إيه؟ 
حين نظرت باحثة عند أقدامهم، ورأت ذلك الفأر الذي لم تترك لنفسها الفرصة لتتفحصه، صرخت بفزت:
-يالهوي فار فار، فار في الضلمة، يا ليلة مش فايتة. 
تظاهر عيسى هو الاخر بالنظر وهو يؤيدها متعمدًا بث التوتر فيها بنقطة الضعف المعروفة لدى جنس حواء بأكمله:
-ده فار فعلًا أنا كمان لمحته، ارفعي رجلك بس احسن يعضك وقربي كده عشان الكشاف. 
ودون وعي كان تطيعه غافلة عن المكر الذي كان يحتل قمم عينيه، حتى صارت شبه ملتصقة به يفصل بينهما إنشات قليلة، رفع عيسى ذراعه وأحاط بها برفق مستغلًا إنشغالها بالبحث عن الفأر، وراح يتشدق بمكر خفي:
-اما فار قليل الأدب بصحيح بيستغل الموقف عشان النور قاطع الصايع. 
عبست ملامح كارما وهي تدعو:
-يارب النور يجي بقا. 
قرَّب عيسى وجهه ببطء ماكر نحوها، وكانت هي تدير وجهها للناحية الاخرى، فداعبت أنفه رائحتها المُسكرة، التي صارت كبنزين يوضع جوار الكبريت، فالاقتراب منها هكذا يشبه التلاعب بشعلات نارية... تحرقه احيانًا بالعاطفة المنبثقة منها، والتي لم يعترف بماهيتها بعد! 
أغمض عيناه متلذذًا باستنشاق عبيرها، ولكنه خشى حضور شيطانه الذي يهمس بأذنه بأشياء لو عرفتها تلك البلهاء جواره لطلبت له الشرطة متهمة إياه بالتحرش..
فقرر مشاكستها هامسًا بلهجة صبيانية:
-كارما هو أنتي بتحطي إيه لشعرك؟ 
قالت بغرور وهي تمسك خصلاتها وتتشممها:
-ريحته حلوه صح؟ 
نفى كاذبًا:
-لا طبعًا، قولي بصراحة أنتي بتحطي جاز صح؟! 
إتسعت عيناها ذهولًا وراحت تزمجر فيه غاضبة:
-نعم !! ده زيت ب120 جنية يا عديم الفهم والشم.
فبادلها الصياح هو الاخر بنبرة درامية:
-120 عفريت اما ينططوكي، ماله كيس الچيل ابو 3 جنية. 
-عيسى، اسكت.. بالله عليك اسكت عشان هقتلك. 
وبعد قليل من المشاكسات والدردشة التي فرضها عيسى بذكاؤه ومرحه على كارما، متيقنًا أنه بذلك قد دك حصونها بلا عودة! 
كاد ينهض من جوارها ببطء متابعًا:
-طب هقوم اشوف حوار الكابل ده. 
تمسكت بأحضانه مسرعة دون وعي وهي تنفي بشدة برأسها:
-لا طبعًا تروح فين بالكشاف خليك. 
ولم تنجو من الخبث الذي أخذ يقطر من عينيه وهو يهمس بخشونة مقتربًا منها مرة اخرى:
-طب مش تقولي من بدري. 
سألته متوجسة:
-أقول إيه؟! 
-تقولي إنك هتموتي وتحضنيني. 
ابتعدت عنه وأنزلت قدميها ارضًا وهي تقول مسرعة تنفي عنها التهمة:
-لا طبعًا، اموت واحضنك إيه بطل جنان!
صرخ عيسى كاذبًا فجأة عمدًا ليفزعها:
-اوعي الفار. 
فصرخت وهي ترفع قدميها بسرعة مرة اخرى في مظهر جعل عيسى يضحك وهو يتابع كصبي في العاشرة من وسط ضحكاته:
-عليكي واحد قرعتك ساحت. 
اخذت كارما تضربه وهي تضحك رغمًا عنها، وتهدر فيه رغم تكذيب دواخلها لما ينطقه لسانها:
-على فكرة أنت سخيف ودمك سم. 
أمسك عيسى ملابسه يهندمها وهو يردد بزهو:
-كدابة، أنا جميل ودمي خفيف وخليتك تفرفشي وتضحكي يا كئيبة ياللي كنتي بتتفرجي على فيلم يخلي الواحد يقطع شرايينه! 

                                 ****

بعد مرور فترة... 

عاد كل شيء لنصابه الطبيعية في الشركة بعد العودة من رحلة العمل التي كانت في أسوان، واستمر الشد والجذب الخفي بين فارس وفيروز.. 
ولكن فيروز رغم كرامتها التي كانت تنهرها محذرة إياها من اتخاذ أي خطوة نحوه، إلا أن عقلها كان يحذرها من نسيان السبب الرئيسي لتواجدها في تلك الشركة؛ ألا وهو التقرب من فارس وكسب ثقته. 

انتفضت في جلستها حين جاءت السكرتيرة الخاصة بفارس وهي تخبرها بلهجة متعجلة بها لمحة من التوتر:
-فيروز قومي بسرعة روحي لمستر فارس عشان طالبك. 
سألتها فيروز وقد بدأ القلق يدب أظافره في قلبها:
-طالبني ليه؟؟ 
هزت رأسها نافية بجهل:
-مش عارفة والله، بس خدي بالك هو متعصب جدًا. 
هزت فيروز رأسها وهي تفكر هامسة:
-ربنا يسترها. 
ثم توجهت نحو مكتبه بأقدام مترددة، تتساءل في داخلها... تراه علم عنها شيء مجهول؟! 

تعليقات