هذا ما أردته أنت
التفت حول نفسه مرة أخرى عندما سمع اسمه، لا بل عندما سمع صوتها لا يمكن أن يخطأ صوتها الصوت الذي كان يملأ حياته كلها ويتملك كيانه خاصة عندما كانت تناديه وهي بين أحضانه
سقطت عيونه عليها وهي تقف أمام باب صيدلية، الذهول كان واضح على كل ملامحها، لم تصدق أبدا أن تراه هنا، عامر دويدار يسير هكذا بين عامة الشعب، هنا بهذا الزحام وبدون سيارته الحديثة وملابسه المبعثرة والعرق يتصبب منه؟ هل هو حقا زوجها؟
ظل كلاهم يحدق بالآخر والناس تصطدم به من هنا وهناك حتى ضربه صوت بوق سيارة مرتفع جعله يتحرك تجاهها ليقف ويضيق المسافة بينهم وهي ترفع وجهها له والحيرة والدهشة هما ما يملأ عيونها حتى نطق أخيرا
"ألم تفكري لحظة واحدة كيف ستكون حياتي بعد ذهابك؟"
صدمها السؤال، لم تكن تتوقعه بل لم تظن أنها ستجده أمامها هكذا وهنا بأي وقت، لقد ظنت أن هنا هو أفضل مكان للاختفاء ولكن ذلك كان خطأ، ابتلعت ريقها وقالت
"لقد ظننت أن حياتك ستكون أفضل وأنا خارجها، هذا ما أردته أنت"
انحنى ليصل لوجهها والغضب يسيطر عليه وهتف من بين أسنانه "ليس من حقك ولا من حق أي أحد أن يظن عني شيء، أي شيء"
كانت ترى الغضب بعيونه وتراجعت ربما مسها بعض الخوف من نظراته ولم ترد وهو ظل قريبا وأكمل "أين مازن؟"
لم تستطع الهروب وهي ترد "بالحضانة، كنت بطريقي له"
لا يصدق أنها تفعل ذلك به وبنفسها وابنهم، قال بنفس النبرة "سنذهب لإحضاره وإحضار كل ما يخصكم، هيا"
انتفضت من نبرته ولكنها ظلت مكانها وقالت بعناد "لن نذهب معك لأي مكان عامر أخبرتك برسالتي أن كل شيء انتهى بيننا، لا يمكننا أن نعيد ما كان، لن أعيش مع رجل لا يهتم سوى بالمظاهر ومكانته بالمجتمع ويخشى عليها من أن تدنس بزوجة فقيرة لا أصل لها ولا فصل، أنا تعبت من تلك الحياة التي كنت أعيشها بالظلام وعدم الاهتمام واللامبالاة ولن أقبل بها مرة أخرى، لن أقبل بالمكانة الأخيرة"
وتحركت من أمامه لتندس وسط المارة ولكن طوله الخارق وجسده الهائل جعل من السهل عليه رؤيتها بل واختراق الزحام وجذبها من ذراعها ليوقفها وهو يقول "انتظري هنا ليل، لن تذهبي لأي مكان سوى معي، أنتِ ما زلتِ زوجتي ومازن ابني ولن أتخلى عن ذلك وابعدي الجنون الذي بعقلك هذا وتحركي معي برضائك وإلا أقسم أن أحملك للسيارة وسط الجميع ولن أهتم بأحد"
كان شخص آخر لا تعرفه، الغضب سيطر على نظراته، قبضته كانت تعرفها ويدها ستصاب بالكدمات بحلول الغد، ذلك الإصرار بصوته جعلها تهتز وهي تقول "هل تظن أن قوتك ستخيفني؟ لا، لن أتبعك لأي مكان مرة أخرى أنا لم أعد.."
لم تكمل لأنه ترك ذراعها وانحنى ولف ذراعه حولها ورمى جسدها على كتفه وحملها بسهولة وهو يقول "تأكدي أني لا أسمع جيدا هذه الأيام، لقد حذرتك"
نظرات الناس كانت تلاحقهم وهي تهتف "عامر أنزلني، عامر اتركني هذا غير صواب"
الناس كانت تضحك وتظن أنه رجل يمزح مع زوجته التي تناديه، ثواني قليلة وكان يدفع بها داخل السيارة ويقف أمام بابها يسده وتبعثر شعره على جبينه والتصق بالعرق الذي تصبب على وجهه وزادت حالته فوضى مثل شعرها الذي التف حول وجنتيها وتساقط على أكتافها وملأ الغضب وجهها وهو يدفع شعره للخلف وهي تقول
"أنت بالتأكيد جننت، كيف تفعل ذلك؟ ماذا تريد مني؟ فقط اتركني لحياتي"
انحنى وأسند ذراعيه على السيارة واقترب منها وقال بجدية واضحة "ليس لكِ سوى حياة واحدة، حياتك معي ولن تكوني سوى معي برضائك أو.. أو برضائك أيضا ليل"
ودفع الباب بقوة ليغلقه عليها وهي لا تنطق، مكانها لم يعد بحياته فقد انتهى كل شيء، شعرت بحرارة جسده تنتقل لها عندما لمس كتفه كتفها، انكمشت بعيدا بالمقعد ولاحظ ذلك ولكنه تفادى الأمر وهو يمسح العرق بمنديل مدركا الغضب النابض بملامحها وقال
"أين الحضانة؟ ليل، أين الحضانة؟ أجيبي بهدوء بدلا من أن تخرجي المجنون من داخلي"
كانت تحاول أن تجمع شتات نفسها، لا للضعف، لا للألم، لا للاستسلام للقلب
صوته جذبها فقالت "هل تخبرني ماذا تريد مني عامر؟"
كان يناضل للخروج للكورنيش داخل الشوارع الضيقة وبدأ صبره ينفد ومع ذلك لم يكن غاضبا بل سعيدا لأنه وجدها، هكذا عادت الحياة
لم ينظر لها وهو يقول "تعلمين ماذا أريد، عنوان الحضانة قبل أن أخرج من هنا"
كان على حق هم بالقرب من الحضانة ولا معنى لأن تبعده عن طفله فقالت "ثالث شارع على اليمين"
أوقف السيارة دون اهتمام بالمكان ونزل ونزلت معه وهي تقول "يمكنك الانتظار"
كان قد وصل لها وأسقط نظراته عليها وقال بسخرية "حتى ترحلي به من أي جحر آخر؟ لا شكرا، تحركي"
نفخت بضيق أو غضب أو أيا كان ما تشعر به فوجوده لم يكن ما تريده، لقد كان بداية للمعاناة وهي لا تريد ذلك مرة أخرى ليس بعد أن تجاوزت الألم والحزن لذا قالت
"لا، لن أرحل لأي مكان آخر عامر، أنا سأظل هنا"
قال بجدية "دون اعتبار لمن هو زوجك؟"
تراجعت وقالت "دون اعتبار لمن لا يعتبرني زوجته"
ثبتت عيونه عليها لحظة ثم أبعد وجهه وهو يفهم كلماتها قبل أن يقول "حسنا فقط نجلب مازن ثم نتحدث"
قالت بجدية وعدم رغبة بالتراجع عن موقفها "نجلب مازن، تراه ثم يعود كلا منا لحاله، أنا لا أريد أي حديث ولا وعود كاذبة لا فائدة منها"
الغضب تسلل له وهو يقول "أنا لا أمنح وعود كاذبة ليل أنا فقط.."
قاطعته بقوة "بل فعلت، منذ أن عرفتك وأنت لا تمنحني إلا كلمات كاذبة توقف بها رغباتي بحياة طبيعية كأي زوجين، أنت لم تمنحني أي شيء عامر، كل ما منحته لي فيلا لم أريدها وملابس ليست لي وبعض ساعات من وقتك لم أعد بحاجة لهم، أنا لا أريد أي أحاديث أو وعود أنا أريدك أن تتركني لحياتي"
ثم تحركت لداخل الحضانة وظل يتابعها وقد صدمته كلماتها الحقيقية، هذا هو ما فعله معها، وعود بلا تنفيذ، ساعات من وقته لم تكن كافية ليجد فيها سعادته ويمنحها هي الأخرى السعادة
تحرك خلفها للداخل عندما رأى المكان المليء بالأطفال، بحث عنها بنظراته حتى وجدها تحمل مازن وعلى كتفها حقيبته فتحرك تجاهها
الطفل أعلن عن سعادته بوالده بالطبع بصياح فحمله عنها وهي لم تعترض، المكان لم يكن مناسب أبدا لابن دويدار لكن مناسب لها هي، كان سعيد برؤية مازن، ابنه الوحيد والذي تعلق به بفترة قصيرة والآن كبر قليلا وتبدل للأجمل، لم تنتظره وهي تتحرك للخارج وهو يتابعها بنظراته، ملامحها كانت واضحة وتعبر عما داخلها ولكنه لن يتركها، لن يترك أسرته ولن يعود للغباء
توقفت بالخارج حتى وصل لها فقالت بعصبية "هل انتهى اللقاء؟ أنا لابد أن أذهب"
كان يداعب مازن دون النظر لها وقال ببرود "ستذهبين ولكن معي، ادخلي السيارة ليل"
قالت بغضب "أخبرتك أني لن أفعل، لماذا لا تتركنا وشأننا؟"
انحنى برأسه تجاهها وقال "لأنك زوجتي وهو ابني، شأنكم هو شأني هل نذهب؟ أراه متعب كما تبدين بأسوأ حالاتك"
اتسعت عيونها من كلماته والغيظ ينهشها ولم يمنحها فرصة للرد وهو يتحرك للسيارة بمازن ولم ينتظرها وهو يركب مكانه فأسرعت بالطبع تركب خوفا على ابنها، هو كل ما لها وهي لا تفهم ماذا يفعل هنا؟ بل ماذا يريد منها؟ هي أخبرته بما لديها وعدم رغبتها بالعودة فلماذا لا يتركها لحالها؟
ما أن جلست بجواره حتى منحها مازن وانطلق بالسيارة وقال "عنوانك؟"
اعترض مازن على تركه لوالده ولكنها تعاملت مع الطفل وجعلته ينشغل بالمناظر من النافذة فعاد يقول "عنوانك ليل"
أدركت أنه لن يتركها لذا منحته العنوان بهدوء والصداع يضربها من المفاجأة والتفكير، هذه هي الحياة التي اختارتها ربما ليست سهلة ولكن ما السهل بالحياة؟
كان البيت الذي اختارته متوسط وبمنطقة شعبية، أوقف السيارة بعيدا لضيق الشارع وقال بغضب مكتوم "هنا!؟ تعيشين هنا ليل؟ تتركين بيتي وتأتين هنا؟"
نظرت له وقالت بهدوء "نار هنا ولا جنة بيتك"
ونزلت وما زالت تحمل مازن والحقيبة وتركته ودخلت الشارع وبالطبع أسرع خلفها كي لا يفقدها والجنون يصيبه من تصرفاتها ولا يصدق أنها فعلت ذلك بنفسها وابنهم
كانت الشقة بالدور الثالث، لم يهتم أحد به وهو يتبعها فلا أحد يعرفها جيدا بعد، البيت قديم بالطبع والشقة صغيرة بشكل لا يصدق ولكنها نظيفة حقا ومنظمة، مائدة مستديرة تنتصف المكان وباب واضح أنه لغرفة وآخر بدا حمام ومطبخ، مقاعد وثيرة وأريكة ولكن متهالكين بالمكان
ألقت الحقيبة على أحد المقاعد ولم تهتم به وهي تتحدث لمازن "ها نحن حبيبي بالبيت، حمام سريع والطعام ثم النوم"
صرخ الطفل بلا معنى لها وكأنه يفهمها وتحرك هو للأريكة وجلس وبالكاد اتسعت لجسده العملاق وهو يقول "لم نأتي كي تستمري هنا، احزمي أشيائك لنذهب"
كانت قد دخلت الغرفة الوحيدة وخلعت حذاءها وقالت من الداخل "أخبرتك أني لن أذهب لأي مكان"
كانت قد أحضرت ملابس لطفلها وما زالت تحمله وخرجت لتدخل الحمام ولكنها وجدته يقف أمامها والجدية على ملامحه وهو يقول "ليل لا أظن أنكِ فهمتِ ما قلت"
رفعت رأسها لتصل لوجهه وكم اشتاق لتلك العيون وهذه الرائحة للياسمين، كم اشتاق لكل شيء حولها، إلا الغضب المتوهج بعيونها وهي تقول "بلى فهمت ولكن أنت لم تسمعني عامر لأني أخبرتك أني باقية هنا"
بالطبع لم يتحرك من مكانه وقال "فقط تسمعيني أولا ثم اتخذي قرارك"
لم تتراجع وهي تقول "هل لديك جديد؟"
تذمر مازن بين ذراعيها فقال "هل تنهي كل ذلك ليل؟ أنا لن أسمح لكل هذا أن يصيبكم، لن تعيشي هنا ساعة أخرى لا أنتِ ولا هو، لن أقبل بأي نقاش هل تسمعيني؟ افعليها برضائك ليل لأني لا أحب كلمة لا"
كانت ترى الإصرار بعيونه، وشعرت برأس مازن تسقط على كتفها وثقل جسده يرهقها وهي بالأساس متعبة ولا تتحمل كل ذلك، لقد سمح لها صاحب العمل بالذهاب مبكرا بعد ما أصابها بالعمل والآن هو
يده تحركت لمازن وحمله برفق وكأنه أدرك حالتها وتحرك للأريكة وقال "اجمعي أشيائك وأنا سأتولى أمره"
دموع هاجمتها بلا سبب فالتفتت لتخفيها، لا رغبة لها بالضعف أمامه، توقفت أمام الدولاب القديم وأغمضت عيونها وقلبها يؤلمها، لا تريد العودة لتلك الحياة، لا تريد تلك النكرة التي لا معنى لها بحياته ولكنه لا يتركها ويضغط عليها، لقد تعبت من لعبة القط والفأر، لم يعد لديها رغبة بها وهي تدرك أن ابنها يستحق حياة أفضل مما منحتها له بالشهر الماضي ولكن..
العودة للبيت بالقاهرة لم تكن جيدة فالصمت حل عليهم بل ونامت معظم الوقت كما فعل مازن بينما كان هو يشعر بالراحة لأنه استعادهم، لم يكن ينام بالأيام السابقة، لم يكن يرى أي شيء سواهم الآن هم معه أخيرا وقد أخبر هدى بهم وهي واجهته بمخاوفه وجعلته يدرك أن ما يريده هو فوق ما يريده الآخرين وهم سيكونون معه
عندما أيقظها كان الظلام قد حل من حولها ولكنها لم تعرف أين هم؟ البيت كان غريب، فيلا كبيرة غارقة بالظلام، اعتدلت وشعرت بذراعها يؤلمها بسبب ثقل مازن، معدتها تلوت من عدم الطعام فهي رفضت طعامه ولكنها تموت من الجوع حقا ولكن الآن أين هي؟
لاحظ نظراتها فقال "هذا بيتي"
التفتت له بحدة وهي لا تفهم، بيته؟ أي بيت؟ لم يواجه عيونها وإنما نزل وتحرك تجاهها وفتح الباب وانحنى وأخذ مازن منها وهو يقول
"سندخل وأنا سأعود للحقائب، الخدم كانوا بإجازة ولم أعيدهم بعد"
لم تعارض، كانت متعبة ومازن بحاجة للكثير كما وأن صدمتها بوجودها هنا جعلها تشعر بأن ذهنها ليس صافي، الأسئلة كثيرة لكن لا مجال لها الآن
ما أن أضاء النور حتى رأت الفيلا الرائعة، كبيرة جدا هي قصر وليس فيلا وليس حديث الطراز بل كل شيء قديم ونادر وغاية بالجمال مما جعلها تقف وتتأمل التحف والتماثيل واللوحات الشهيرة والأضواء الصادرة من أماكن خفية
سمعته يقول "البيت كان معروض بأحد المزادات وكان من نصيبي، أصحابه كانوا من هواة جمع كل ما هو قيم وقد كان أول بيت لي بالفعل"
كان يتحرك تجاه السلم العريض المغطى بسجاد زيتي اللون بخطوط ذهبية رفيعة وأكمل "غرف النوم بالأعلى، لم أستغل سوى القليل واحدة لي وأخرى لو قضى أحد إخوتي ليلته معي، هل تأتي؟ تحتاجين للراحة"
كان يقف على أول درجة يحمل مازن بعناية كما اعتاد وعيونه عليها فلم ترد وهي تتحرك تجاهه، تقدمت للأعلى حتى وصلا لنهارية الدرج فقال "اليمين، ثاني باب يسار"
ما أن تبعت كلماته وفتحت الباب حتى رأت غرفة واسعة ورائعة تواجها، زرقاء اللون بكل ما فيها، فراش كبير بقوائم خشبية، نوافذ عالية بستائر فاخرة كل شيء رائع
تحرك للداخل وقال "هي غرفتي، مازن سيبقى معنا الليلة ومن الصباح سيأتي من يعد غرفته"
وضع الطفل على الفراش العريض وأحاطه بالوسائد بعناية والتفت ليواجه عيونها فقالت تحاول الخروج من الصدمة "لماذا هنا؟"
تحرك حتى وقف أمامها وقال "لأن هذا هو الصواب وما كان لابد أن يكون"
رفع يده لوجنتها ولمس نعومتها فتراجعت بعيدا فنفخ وقال "حسنا، هل ترتاحي الآن وغدا سيكون هناك وقت للجدال والغضب، سأجلب الحقائب"
وتحرك خارجا ولم تتبعه بعيونها ظلت جامدة بمكانها لا تفهم ماذا يحدث لها، هذا هو بيته؟ بيته الذي رفض وجودها به بالبداية الآن هو يعيدها له فماذا يعني ذلك؟
مازن أصدر صوتا فتحركت وحملته لتطعمه عندما عاد هو ووضع الحقائب، رؤيتها وهي تطعم ابنهم تجعله يشعر بأشياء كثيرة، رؤيتها هي هنا بغرفته وبيته الأصلي جعله يدرك أن ذلك هو الصواب وعليه أن يكمل ليصلح ما أفسده
تحرك لباب جانبي وفتحه ثم خرج بملابس خفيفة وتحرك خارجا دون أي كلمات وهي لم تنظر له كانت لا تريد أي حديث الآن وبدا أن هو الآخر يوافقها الرأي
حممت مازن ولعب كثيرا مما زاد من إرهاقها حتى تعب فانتهت وبدلت له ملابسه ثم أطعمته مرة ثانية حتى نام، تركته على الفراش وأخذت حمام وخرجت للفراش ونامت دون تفكير بما سيكون بعد ساعات قليلة عندما يتواجهان
الفصل السادس عشر
مواجهة
مازن اعتاد على الاستيقاظ مبكرا من أجل الحضانة لذا لم يمكنها النوم لوقت متأخر وهي تبدل حفاضه ثم وضعته بالأرض حتى تغتسل وتبدل ملابسها وما أن خرجت حتى رأته يجلس بالأرض بجوار مازن ويلعب معه بملابس البيت
توقفت لرؤيته فرفع رأسه لها وقال "الخدم وصلت والإفطار بعد ربع ساعة"
هزت رأسها ثم تحركت لمائدة الزينة وجذبت حقيبة يدها وأخرجت أدواتها وتركت شعرها المبلل عندما وجدته يقف خلفها فلم تنظر له وهو يقول "تبدين مرهقة"
كانت شاحبة وليست كما اعتاد عليها، لم تمنحه أي نظرات وهي تمشط شعرها فقال "هل نتحدث؟"
نظرت له بالمرآة وقالت "أنتظر الإذن منك بالحديث"
نفخ وقال "ليل لا تضعي الأشواك بطريقنا"
التفتت لتواجهه وقالت "لقد حاولت ألا أفعل عامر ولكنها كانت موجودة بالفعل وأنت لم تكن ترى سواها"
قال بجدية "لم أعد أراها ليل، لم أعد أرى سواكِ أنتِ ومازن وحياتنا معا"
ابتعدت وقالت "وآل دويدار؟ ومكانتك الرفيعة وملايينك وشركاتك وأنا؟"
والتفتت لتواجهه وأكملت "أنا فتاة الغرف، هل يمكنك تجاوز تلك الشوكة عامر؟ هل تقبلت أنك تزوجت امرأة ليست من مستواك ولا تليق بك وبعائلتك؟"
تحرك حتى قطع المسافة بينهما وقال بجدية "ألم تجدي الإجابة بعد ليل؟ ألم تدركي أن إصراري على عودتك ووجودك هنا يعني أني تجاوزت كل تلك الأشياء التي لم يكن لها أي معنى أو أهمية؟ ألم يجيبك أني كنت كالمجنون عندما رأيتك تعبرين الطريق أمامي ثم اختفيتِ فجأة وهرعت بلا وعي أبحث عنكِ بمكان لم أراه منذ خمسة عشر عاما وربما أكثر؟ ألم تفهمي بعد؟"
هتفت بقوة "أفهم ماذا عامر؟ الأمر لم يختلف كثيرا عن المرة السابقة، وجدتني صدفة وأعدتني لبيتك فما الجديد، الجدران واحدة وهي ما تريدني أن أعيش معها كما فعلت من قبل، لا معنى لي بحياتك، ليس مسموح لي حتى أن أعرف أين تذهب أو كيف تكون حياتك خارج تلك الجدران، أنت حتى لا تهتم بي ولا باتصالاتي عامر ولا تسال عني باليومين أو أكثر، لا عامر، أنا لا أريد تلك الحياة الباردة التي لا روح بها"
سقطت دمعة وحيدة من عيونها والصمت ضربهم كما ضربته الكلمات ثم حاول تنظيم أنفاسه وهو يبحث عن الهدوء بعيدا عن الشجار وقال "أنا.. أنا آسف"
رفعت وجهها له وعيونها تعني عدم التصديق بأنه يعتذر فأبعد وجهه لحظة ثم عاد لها وقال "نعم أنا أعتذر ليل، كنت أهمل وجودك بحياتي ولا أمنحك الاهتمام المناسب، كنت أتعمد أن أثبت لنفسي أن وجودك لا يسيطر على حياتي فتجاهلتك، كنت أفكر أنني لو ظللت أهتم وأمنحك الكثير فإني بذلك أفقد السيطرة على نفسي وحياتي وهذا ما لا أقبله ولم أدرك أن الاهتمام كان نابع من شيء آخر"
الدموع ظلت تسيل على وجنتيها فرفع يده ومسحها ورأت خاتم والدها بيده فدق قلبها أكثر، هي لم تنتبه لوجوده بيده بالأمس ولكنه الآن موجود
تبع نظراتها ثم عاد لها وقال "لم أنزعه من يدي ليل، فهمت رسالتك ولكن متأخر وعندما فهمت وقررت إصلاح الخطأ كنتِ قد رحلتِ"
ابتعدت ومنحته ظهرها وقالت "لم أكن لأنتظر لتعيد الأمر مرة أخرى وأخرى، تعبت من الإحساس بالإهانة وأنت تتجاهل وجودي بحياتك بكل شيء خاص بك وبعائلتك، أنا يوم رأيتك لم أكن أفكر بكل ذلك، لم أظن أنك ستعرض عليّ الزواج أو أن تكون لي حياة مع رجل مثلك"
التفتت له وأكملت "أنا أخبرتك أن فتاة مثلي لا تليق برجل مثلك ولكنك جعلتني أظن أن لا مكان لتلك الفوارق بحياتك لكنك كنت تكذب على نفسك وعليّ لأنك لم تستطع أن تفكر إلا بأنك عامر دويدار الملياردير والذي ستتشوه مكانته أمام أمه وإخوته بوجود زوجة مثلي بحياتك، أنا لا مشكلة معي عامر بكوني تلك الفتاة لذا أنا اخترت أن أعود لحياتي وتعود أنت لحياتك، ظننت أني بذلك أحررك من العقدة التي ربطها حول عنقك فلماذا تعيدني مرة أخرى؟"
كانت على حق ولكنه عاد واقترب وقال "لأني.."
كاد ينطق بالحب لكن دقات على الباب أوقفته وهو يقول "ادخل"
كانت فتاة بملابس الخدم قالت "سيد جاسم بالأسفل سيدي"
ارتفع قلبها بدقاته وعيونها ثابتة على الفتاة وهو يرد "دعيه ينتظرني أمل"
كانت نظرات الفتاة تمتلئ بالأسئلة لها ولكنه لم يهتم، الجميع بالتأكيد سمعوا عن زواجه بعد ما أخبر كبير الخدم بذلك، عاد لها بعد ذهاب الفتاة وقال "بالتأكيد هناك شيء هام ليجعله يمر عليّ، انتهي من نفسك وانزلي ومعك مازن"
وتحرك ولكنها قالت "أنزل بعد أن يرحل؟"
التفت لها وقال بجدية "انزلي بمجرد أن تنتهي ليل، جاسم سيتناول الإفطار معنا"
ظلت واجمة ولا تفهم وما أن وصل للباب حتى التفت وقال "على فكرة أنا أخبرت هدى بزواجنا وأن لديّ طفل"
وتركها وخرج وهي لا تصدق ما يقول، هل حقا فعل؟ هل انتهى الكابوس وستعيش حياة عادية كأي امرأة متزوجة؟ هل سينشأ ابنها بين أعمامه وجدته كما تمنت؟ تحركت للمقعد وجلست وهي لا تجد قوة تحملها..
ما أن انتهت من ملابسها العادية، لأنها لم تشأ أن تظهر بمظهر غير مظهرها الحقيقي، هي لم تدخل تلك الحياة لأنها أرادت المال بل من أجل الحب، مازن فقط من كان يرتدي ملابسه الجديدة لأنها هي التي ناسبته بعد أن زاد طوله بالفترة الأخيرة، نزلت السلم الضخم الذي رأته بالأمس وضوء النهار يضرب البيت من النوافذ الكبيرة فبدا رائع وضخم وفخم بشكل يذهب بالعقل
توقفت لا تعرف أين تذهب، أبواب كثيرة كانت أمامها ولكن سرعان ما رأت رجل بزي رسمي يخرج من الجانب الأيسر وعلى يده صينية ذهبية وعليها فناجين للقهوة من التي ليست موجودة حاليا، توقف أمامها وقال باحترام
"مدام"
ارتبكت من طريقته، أم حسن كانت بسيطة مثلها لم تشعر معها بتلك العلاقة بين الخادم وسيده، ابتلعت ريقها وقالت "أين زوجي؟ سيد عامر؟"
رفع رأسه ويده الفارغة خلف ظهره وقال "بالمكتب مدام، تفضلي من هنا"
حمدت أن الرجل تقدمها فهي لا تعرف شيء بذلك القصر، دق الرجل الباب وسمعت عامر يأذن ففتح الرجل لها الباب وقلبها كان يهرع بسرعة داخل صدرها بانتظار لقاءها بأول أخ لزوجها
تقدمت للداخل ولم تهتم بفخامة المكان وقدم أثاثه الرائع بقدر ما توقفت عيونها على جاسم، نفس عيون زوجها مع اختلاف اللون، نفس الجسد العملاق والوسامة الواضحة فقط لم يكن يرتدي زي رسمي كزوجها شعر أسود لم يكن غزير ولكنه ناعم ومصفف باهتمام، نفس لون البشرة
هو أيضا كان يفحصها بنظرة خبير جعلها تتورد عندما تحرك عامر الذي كان يقف أمام جاسم تجاهها ومازن يصيح لوالده الذي ابتسم وقال "وها هم هنا الآن"
حمل مازن عنها وطبع قبلة على وجنته المكتنزة وقال "أهلا بطلي الصغير"
ثم نظر لها كما فعلت هي وقال "حبيبتي هذا جاسم أخي الذي هو بعدي بالترتيب، جاسم هذه ليل زوجتي وهذا بطلي الصغير مازن"
كان قد أخبر جاسم بالأمر ولكنه لم يتناقش معه، لم يكن هناك وقت ليفعل، تحرك جاسم وعيونه تتحول من مازن لها وهي شعرت بخوف لا تعرف سببه حتى توقف جاسم أمامهم وقال
"لو لم تكوني هنا أمامي ما صدقت أنه فعلها، مبروك ولو أنها متأخرة جدا ولكن ليس ذنبي"
حاولت أن تبتسم وهي تتعثر بالكلمات "أعلم، سعيدة برؤيتك سيد.."
قاطعها بجديته المعهودة "جاسم، أنتِ زوجة أخي أي أختي ولا ألقاب بالعائلة"
تسربت دموع لعيونها وهي لا تصدق كلماته وقالت بصوت مبحوح "أنت، أنت لست معترض.."
لف عامر وجهه لها بينما هتف جاسم قبل أخيه "أخي يعرف جيدا الصواب من الخطأ وليس منا من يجرؤ على الاعتراض على قرارته ولو لم تكن سعادته معك ما كنتِ هنا، أهلا بكِ بالعائلة ليل، هل يمكن أن أحمله؟"
هز عامر رأسه وقال باهتمام "بالتأكيد، فقط احذر لظهره، هيا مازن تعرف على عمك"
لم تدع دمعتها تسقط وشعرت بيده خلف ظهرها ليدفعها وهو يقول "لقد طلبت تأخير الإفطار ليل، ساهر بالطريق هو الآخر، لدينا مشكلة مع حمزة وسنذهب ثلاثتنا بعد الإفطار"
لم تعد تتفاجأ بعد لقاء جاسم الذي اندمج مع مازن وبلحظات اندمج الثلاثة بالضحك على تصرفات مازن وشعرت بالراحة لجاسم
وقت مضى لم تشعر بطوله أو قصره عندما دق الباب ودخل رجل وهو النسخة الأصغر من زوجها، فقط بدا ببداية الثلاثينات، بشرة أفتح شعر بني خفيف بدلة صيفية فاخرة حذاء بدا أنه ماركة عالمية، عطره أكثر قوة من إخوته
ابتسامته كانت جذابة وروحه المرحة اختلفت عن إخوته وهو يقول "هل ما سمعته صحيح؟ الكبير دخل السجن بقدمه؟"
تحرك ساهر لعامر الذي رحب به وقال "سأنتظر حتى أراك تسقط ووقتها لن أرحمك"
ضحك ساهر وقال "لن يكون أنا تزوجت الهندسة والمعمار، لا مكان لامرأة تدفعني للجنون والهوس بزواج أبدي"
تحرك جاسم له وقال بجدية "احترس لكلماتك يا رجل"
تراجع ساهر وهتف "لا، لن أفعل ما هذا!؟ إنه نسخة منك عامر، امنحه لي جاسم"
ولكن جاسم قال "رحب بزوجة أخيك أولا، ليل، ليل هذا أخينا الأصغر ساهر، آخر الرجال واحذري منه يهوى النساء"
ضحكت برقة وهي تنهض واقفة وما زال قلبها يدق بقوة وهي تواجههم وعامر تراجع تاركا لها الساحة، نادما لأنه لم يفعل ذلك منذ أول يوم، إخوته يدعمونه بكل شيء وها هم معه حتى بالزواج
ساهر انتبه لها وسقطت عيونه عليها وقال "لست حزين من أجلك أخي بالتأكيد هو سجن لذيذ مع هذا الجمال"
احمر وجهها ولكزه جاسم فنظر لأخيه وقال "ماذا؟ هل تعترض على الحقيقة؟ الجمال يتحدث عن نفسه، أهنئك عامر، مبارك زوجة أخي، ولا تخشين شيء أنا لا أتلاعب مع نساء العائلة خاصة الجميلات مثلك فقط الاسم ليس مناسب لإشراقتك"
وغمز لها فزادت ابتسامتها ونظرت لعامر الذي فعل المثل وكلاهم يذكر كلماته لها منذ لقائهم الأول بينما عاد ساهر يجذبها بمرح "سعيد بانضمامك لآل دويدار ليل"
ابتسمت بصدق وقالت "وأنا أيضا ساهر"
التفت للطفل الذي كان يداعب عمه وقال "اتركه لي الآن"
ولكن مازن اعترض وبدأ بالبكاء فضحك الجميع عدا ساهر تذمر وقال "هذه بداية غير سعيدة ابن أخي ولن أستسلم"
أخذت مازن من عمه كي يتوقف عن البكاء عندما عاد الباب يدق ودخل الرجل يقول "الإفطار سيد عامر"
أجاب عامر بنبرة جادة "حسنا كامل، هيا للإفطار وبعدها نتحدث"
كانت مبهورة بإخوته وسلاسة تعاملهم مع بعض ومعها، بدقائق جذبوها بينهم وكأنها ولدت معهم وتحدثوا دون حواجز وهو كان يتابعها وهي تتحدث بلباقة وأدب ومرح بذات الوقت، كانت جميلة وفاتنة بعيونه، جعلته لا يبعد عيونه عنها وهي تحكي عن مغامرات الكلية، لأول مرة تنفتح بتلك الطريقة ووجد إخوته مندمجين معها بشكل رائع وحصل ساهر على جائزة عندما وافق مازن على الذهاب له والبقاء بين ذراعيه وأثبتت أنها تناسب أي مكان تكن به بصرف النظر عن من كانت فقط من هي الآن
بانتهاء الإفطار نهض الرجال وقال جاسم "ننتظرك بالمكتب، سعيد جدا بلقائك ليل"
ووضع قبلة على وجنة مازن، فقالت "وأنا أيضا جاسم"
منحها ساهر مازن وقال "أنا سعيد بابن أخي ستجديني هنا كثيرا ليل من أجله"
ضحكت بطريقة لم يعرفها من قبل جعلت قلبه ينبض بقوة، هل السعادة هي ما يسمعه بضحكتها؟ هل هي ما يراه بعينها ويجعلها تبرق هكذا؟
قالت "من الواضح أنك تريد الفوز باهتمامه الأول"
طبع قبلة على وجنة الطفل وقال "اهتمامه الأول والأخير ليل، سأجعله يرفضكم جميعا حتى أنتِ"
ضحكت مرة أخرى فابتسم ساهر وقال "من الرائع معرفتك ليل، سعيد من أجل أخي لقد نال ما يستحقه"
لم تذهب ابتسامتها وهي تقول "شكرا ساهر"
غمز لأخيه وتحرك خارج غرفة الطعام بينما التفتت هي له فاقترب منها وقال "سأرحل معهم ولا أعرف متى سأعود"
هزت رأسها دون أن تترك عيونه ثم قالت "شكرا"
ثم اقتربت منه وارتفعت على أطراف أصابعها وطبعت قبلة على وجنته فتناثر عطرها حوله فلم يتركها وهو يلف ذراعه حولها مع مراعاة مازن الذي كان ضرب بيده كتف والده الذي كان يحدق بعيونها ويقول
"للشكر موعده ليل وطرقه الخاصة"
وانحنى ليقبلها قبلتهم التي اشتاق لها والتمس الراحة بأنها عادت له أخيرا وقلبه فاز، قلب؟ نعم القلب يتحدث وهو لن يوقف حديثه
لم تبتعد بل كانت سعيدة، بكل ما حدث وبأنه بما فعل أكد أنه يريدها كزوجة حقيقية وليس كما كانت
صراخ مازن المعترض أبعدهم لكنه لم يفلتها وهو يقول "حمزة لديه مشكلة بالبلد ما أن ننتهي منها حتى أعود، خذي جولة بالبيت والخدم حتى أعود، هناك من سيأتي لإعداد غرفة مازن دعي كامل يتعامل معهم ونحن لدينا حديث طويل لم ينتهي سنكمله عندما أعود"
لم تذهب ابتسامتها وهي تهز رأسها بالموافقة فقبلها برقة ووضع قبلة على وجنة ابنه وتحرك خارجا من الغرفة ولحظات وسمعت صوت السيارات ترحل ولأول مرة منذ تزوجت عامر تشعر بالراحة والسعادة الحقيقية غير مخلوطة بالخوف والألم والحزن وربما هنا انتهت الأحزان