
رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الخامس عشر15 والسادس عشر16 بقلم رحمه سيد
رمش "فارس" بعينيه عدة مرات، وكأنه يؤكد على صحة الصورة الواقعية التي برقت بعقله، محولة سابقتها المشوشة لرماد فر ادراج الرياح..
إذ أن "فيروز" وببساطة لم تخنه كما توقع، بل أصَّلت جذور نجاحه بتلك الصفقة!
عَلت صفارات البهجة داخله وقلبه يقيم الاحتفالات نصرًا على عقله الذي انزوى وسط شكوكه... فها هي رغم امكانياتها، لم تدمر الشركة وتدمره معها.
اعتدل في جلسته وثبت نظراته عليها أكثر، وكأنه يحاول سبر أغوارها، فمازال عقله يحذره من احتمالية تدبيرها لفخ أكبر من ذلك... فخ الثقة!
توترت قليلًا بسبب نظراته تلك التي لم تستطع تفسيرها، ولكنها استجمعت نفسها، وبالفعل انتهى الاجتماع بعد قليل..
بعدها بفترة غادروا مقر الاجتماع، ووصلوا لمنزل فارس الذي كان صامتًا طيلة الوقت تقريبًا، ونظراته هي مَن تصدر ضجيج لا تستطع فيروز تجاهله..
كادت "فيروز" تترجل من السيارة لولا أن أوقفها "فارس" مناديًا بأسمها:
-فيروز، استني.
إلتفتت نحوه تسأله بترقب:
-نعم يا باشمهندس؟
-باشمهندس؟
رددها مستنكرًا، فهزت رأسها بقليلٍ من الاستغراب:
-ايوه!
لوى شفتاه متصنعًا الحنق وأردف:
-في واحدة تقول لجوزها يا باشمهندس.
هزت كتفاها معًا مبررة بخفوت:
-بحكم العادة يعني.
داعبها بنبرة صبيانية تحل ضيفة على لهجته معها لأول مرة:
-أنتي عايزه الناس تاكل وشنا ولا إيه؟ تعالي نتفق اتفاق، أنتي تقوليلي فارس، وأنا أقولك يا برتقانة.. تمام؟
عقدت ما بين حاجبيها وملامحها قد انبطحت بالاستهجان:
-برتقانة؟!
اومأ مؤكدًا برأسه، ثم اقترب منها ببطء مثير، حتى تغلغلت رائحة عطره النفاذة أنفها، مداعبة دواخها بنعومة كفراشات خفيفة.
وهمس متابعًا بلهجة رجولية خشنة مثخنة بالمشاعر:
-عشان أنتي شبه البرتقانة، في شكلها ولونها وحلاوة طعمها اللي نفسي أدوقه.
تراجعت كثيرًا حتى إلتصقت بالكرسي من خلفها، وشعرت بأنفاسها تنحسر، وثقلت حتى أصبحت تلتقط أنفاسها بصعوبة بصوتٍ عالٍ وهي تشعر بحصاره المُهلك لها، ثم سألته عقب جملته الأخيرة بشيء من الفزع، مصدومة:
-هو إيه ده!
رفع حاجباه معًا والمكر ينضح من اجابته:
-البرتقانة طبعًا.
هزت رأسها ببطء، ثم استدارت وكادت تترجل من السيارة، فأمسكها فارس من ذراعها برفق يوقفها، ليجدها انتفضت وكأن ثعبان لدغها، رسم فارس ابتسامة خفيفة يهدئها مشاكسًا:
-اهدي مالك، أنا أليف والله!
بادلته ابتسامة انتزعتها بصعوبة من أسفل حجر التوتر القابع على قلبها، نظر فارس لكفيها المنغلقين على بعضهما بقوة، ومد يده ببطء وأمسك بهما يفرقهما، ثم وجدهما متعرقان، فبدأ يمسحهما مستشعرًا نعومتهما ضد خشونة أصابعه..
فيما تصبغت وجنتاها بحمرة الخجل التي نتجت من فوران دماءها بعاطفة جديدة عليها كليًا، ولازال الذهول يتخذ حيزًا ملحوظًا داخلها وهي تحاول الاعتياد على هذا الوجه الجديد منه.
تمتم فارس برقة ومازالت أصابعه تداعب كفها الأيسر الذي شعرته متصل بقلبها الذي أخذ يقرع كالطبول وكأن كل لمسة له هو مباشرةً وليس لكفها:
-ايدك عرقانة أوي من التوتر، ليه كل ده؟!
حاولت سحب كفها من بين قبضته وهي ترد بصوت مبحوح نوعًا ما :
-عادي، ده طبع.
ولكنه شدد الحصار على كفها، ومن ثم راح يسألها بهدوء تام:
-عملتي كده ليه؟
تغيير الموضوع فجأة زادها اضطراب فوق اضطرابها الداخلي، لذا غمغمت ببلاهه:
-عملت إيه؟
أوضح لها بنفس الهدوء الذي بدا لها مُريب تلك اللحظات:
-اللي عملتيه في الاجتماع.
استغرقت ثوانٍ معدودة وهي تعيد ترتيب أبجديات التفكير داخل عقلها، ثم نظمت أطراف اجابتها التي خرجت عملية:
-ده شغلي يا باشمهندس.
داعبت ابتسامة صغيرة شفتيه وهو يعاتبها برقة:
-تاني باشمهندس!
ابتسمت ببطء هذه المرة دون شوائب من التوتر او الاصطناع، ثم بررت بعفوية:
-معلش بقا ذلة لسان.
هز رأسه موافقًا يسايرها:
-ماشي ياستي.
ظنت أن هذا الحوار الذي طال كثيرًا -بالنسبة لها- انتهى، ولكنها كانت مخطئة إذ أن كفها لم ينل الافراج من سجن قبضته، وهالها ما شعرته من اقتراب سجن قلبها الذي عهدته خارج تلك الحسابات تمامًا !!
أمال فارس رأسه وهو يستطرد بلمحة من العبث:
-بس مش هسيبك برضو غير لما اتأكد إن لسانك اتعود عليا.. اقصد على أسمي.
ابتلعت ريقها وهي تسأله:
-هتتأكد ازاي.
لا تدري هل هُيئ لها ام أن ذلك حقيقة، ولكن تلك اللمعة الماجنة بعينيه بدت كأنها شعلة فريدة من نوعها أنارت عتمة عينيه، مناقضة تمامًا لاجابته البريئة ظاهريًا:
-هنبدأها من دلوقتي، يلا قولي فارس.. فـ ا ر س، أسم سهل أوي، وخفيف على اللسان.
أرغمت الحروف على الامتثال أمامه، فخرجت خافتة تكاد تسمع اثر التوتر:
-تمام يا فارس.
انبأت شفتاه عن ابتسامة سعيدة واسعة هذه المرة حين استشعر حلاوة اسمه من بين شفتيها، وواصل بخفة:
-أحلى فارس دي ولا إيه.
لم تنطق بحرف، وكأن القلق أعلن وَأد كل ما قد يُولد من كلمات على شفتيها..
فأعفاها أخيرًا من الامتثال لسطوه الرجولي حين أفرج عن كفها اخيرًا وهو يتشدق ضاحكًا:
-خلاص خلاص روحي احسن تسيحي خالص.
-ماشي، سلام.
غمغمت بها متحرجة، ثم فرت من أمامه دون أن تنتظر حتى إن كان سيدخل المنزل معها ام لا..
سارت نحو الداخل تتنفس بصوت مسموع، متسعة الحدقتين فعليًا، لا تصدق أنها هي تلك المُذبذبة الخجولة التي كانت منذ قليل، لون جديد فرضه عليها فارس بفرشاة مكره الرجولي الذي تستنبطه منه لأول مرة وتجهل سببه !
بينما فارس يداه تدور على المقود وهو ينظر في اثرها بشرود، بالرغم من الشك الذي لم يستأصله كليًا من داخله، إلا أن قلبه مرتاح وهو شخص اعتاد الانقياد خلف قلبه ما لم يتعارض مع عقله، وعقله هادئ يصدر تحذير شك خافت كان بمثابة أنين ما قبل وفاة ذاك الشك.
****
اليوم التالي...
نهضت فيروز بعدما أنهت مكالمتها مع صديقة عمرها "كارما" التي قصت على مسامعها الكارثة التي حلت على حياتهم، نعم حياتهم.. فببساطة كارما حياتها وقلبها مُسربلان بـ عيسى ومصيره، فحتى لو غضضنا البصر عن مشاعرها الجلية نحوه، يبقى عقلها الذي لا يتحمل ثبوت صدمة كتلك!
ارتدت ملابسها وتجهزت للذهاب لصديقتها، أوقفها فارس الذي كاد يغادر لعمله هو الاخر، متسائلًا باستغراب:
-رايحة فين يا برتقانة؟
نعم.. صار يردد "برتقانة" متعمدًا في كل الأوقات، وكأنه يُذكرها بمكر بتلك المشاعر المختزلة في هذا اللقب الخاص..
استدارت نحوه مجيبة بملامح مقتضبة نوعًا ما بسبب حال صديقتها:
-رايحة لواحدة صحبتي.
تابع اسئلته:
-صحبتك مين؟
-كارما، جارتي وصاحبة عمري.
هز رأسه موافقًا، ولم تنقطع استفساراته:
-رايحالها فين؟
تنهدت تنهيدة عميقة ثقيلة قبل أن تجيبه بوجوم:
-القسم.
تجمد فارس هو الاخر مأخوذًا بإجابتها، ثم استنكر:
-رايحالها القسم؟
هزت رأسها نافية ما وصل لإدراكه، ومن ثم استرسلت تخبره:
-مش رايحالها هي بالظبط، جوزها للأسف مُتهم في قضية، وأنا لازم أكون معاها.
سألها من جديدٍ بثباتٍ:
-قضية إيه؟
اختنقت الاجابة في جوفها بالرفض، قبل أن تخرج مجبرة:
-قتل.
إتسعت حدقتاه ذهولًا، ومن ثم انتفض معلنًا رفضه الحازم:
-مستحيل، واحدة جوزها متهم في قضية قتل وعايزه تروحيلها وتبقي قريبة منهم عادي كده.
تلقائيًا وجدت نفسها تتغنى بأسمه مخالفة عادتها، وتقنعه بتعقل:
-يا فارس! بص، اولًا هو لسه مافيش حاجة اتثبتت عليه ده مجرد اتهام عشان الجيران شهدوا إنه اخر واحد خرج من المحل بتاعه، وثانيًا ده كان جارنا قبل ما يكون جوزها، وعمرنا ما سمعنا عنه حاجة وحشة وعلى طول في حاله، ثالثًا أنا رايحة عشان صحبتي مش عشانه، هي لوحدها وأختها صغيرة ومامتها في دنيا تانية طبعًا، فـ زمان نفسيتها تعبانة.
زم فارس شفتاه بعد أن اجهضت اعتراضه برزانة، رغم أنها يمكن ببساطة أن تتحداه!
لذا وجد نفسه يعرض مساعدته غير المطلوبة:
-تمام، أنا هوفرله محامي شاطر شغال معايا، ولو هو فعلًا مظلوم ومحترم هيخرج منها ان شاء الله.
عضت فيروز على شفتيها بتردد تغمغم له:
-بلاش، خايفة مايرضوش ويحسوا بالإهانة.
هز رأسه نافيًا ببساطة:
-يحسوا بالإهانة ليه! هما هيدفعوله تكاليفه، أنا مجرد هقدملهم المحامي الشاطر بدل ما يلفوا كتير، وهروح معاكي.
وقبل أن تعترض، باغتها بنبرة تمليكة قوية تستشعرها منه للمرة الأولى:
-مرات فارس ابو الدهب مش هتدخل قسم شرطة لوحدها.
فلم تكن تملك سوى تلك الايماءة الموافقة على مضض، لا تريد أن تفكر بأي شيء على الأقل حاليًا، بعد أن اضحت كل الظروف من حولها.. ومشاعرها؛ في حالة رثة من عدم الاتزان !
****
بعد ما يقارب الخمس أيام...
أيام كانت من اسوء ما يكون بالنسبة لعيسى وكارما، فعيسى قضى تلك الأيام في قسم الشرطة على ذمة التحقيق؛ لأنه كان اخر شخص يرى المجني عليه بشهادة الشهود، وكارما كانت تتردد على القسم يوميًا لرؤيته واحضار ما يحتاجه، رغم أنها لا تتحدث معه -فعليًا- !!
واخيرًا خرج من ذلك القسم، بعد أن تم دفع الكفالة له، واثبات أنه كان في مكانٍ آخر وقت الواقعة، ولعدم كفاية الأدلة التي تدينه ايضًا، ولكنه يظل على ذمة القضية ولم تنتهي تمامًا.
سار عيسى بجوار كارما، ثم نظر تجاه فارس الذي كان يقف أمامه مع فيروز، وهتف بصوت أجش شاكرًا:
-شكرًا لوقفتك معانا يا باشمهندس، تعبتك معايا.
هز فارس رأسه نافيًا بلباقة:
-مفيش تعب ولا حاجة، أنت ابن حلال عشان كده ربنا بيبعتلك اللي يعينك على المحنة اللي حطك فيها، وأنا كنت مجرد وسيلة مش أكتر.
هز عيسى رأسه برضا حاول جعله يتفشى كليًا داخله، قبل أن يمسك فارس بيد فيروز مستأذنًا:
-طب نستأذنكم احنا بقا.
أشار له عيسى بإرهاق بينما يراقب سيارة الاجرة التي تنتظره هو وكارما وشقيقه حازم:
-اتفضل اذنكم معاكم.
مالت فيروز تجاه كارما تؤازرها بصمت، تُعلمها أنها ستظل جوارها مهما حدث وستحظى بدعمها دومًا، قابلتها كارما بابتسامة شاحبة ممتنة.
تحرك كلاً من عيسى وكارما بعدها لمنزلهما، أوصلهما حازم الذي وُضع لأول مرة موضع الراعي وليس الرعية!
وصلوا جميعهم أسفل البناية التي يقطن بها كارما وعيسى حاليًا، نظر حازم تجاه شقيقه يسأله بحرص وود:
-محتاج حاجة يا عيسى؟
هز عيسى رأسه نافيًا يجيبه بابتسامة صافية:
-لا إلحق روح أنت شغلك عشان متتأخرش اكتر.
-لو محتاج عادي أنا آآ....
قاطعه عيسى يشاكسه كعادته رغم صعوبة ذلك -حاليًا- :
-خلاص بقا ياض هو اللي كنت بعمله فيك هيطلع عليا ولا إيه؟
ضحك حازم قبل أن يرمي نفسه بأحضان عيسى، داعيًا الله ألا يجعله يتذوق مرارة الفقد ابدًا.
***
بعد قليل صعد كلاً من "عيسى" و "كارما" منزلهما في ظل الصمت الذي يخيم على الاجواء..
كانت تطالعه بنظرات صامتة في ظاهرها، ضاجة في باطنها، وهو كان يستطع ببساطة قراءة كل ما يدور بخلدها قبل أن ينطق به لسانها، فهو صار يعرفها كخطوط كف يده..
تنهد قبل أن يقول ببحة هادئة مُرهقة:
-قولي اللي عاوزه تقوليه يا كارما.
ترددت كثيرًا في بوح ما كان على أعتاب لسانها، ربما لأنها لا تملك جرأة انتظار جواب سؤالها!
ولكنها استسلمت لقبضته الغليظة على قلبها والتي لن تخف إلا بخروجه وسطوع نور الحقيقة في قلبها ليهنأ بالارتياح..
فسألته مباشرةً بصوتٍ حاولت جعله ثابت:
-أنت عملت كده فعلًا ؟
لم تستطع نطقها صراحةً وتقول "قتلته" تستثقل تلك الكلمة كثيرًا، ربما لأنها لم تكن تسمعها سوى في الأفلام، وربما لأنها لازالت مصدومة أنه متورط في أمرٍ كهذا.
انتبهت له حين تأخرت الاجابة الشاقة وجاء بدلها سؤال اشد مشقة لها:
-أنتي إيه رأيك؟ عملتها ولا معملتهاش؟
كانت تود الصراخ به ألا يلعب على أوتار مشاعرها الان، ولكنها ابتلعت ريقها مستسلمة وتشدقت بما يمليه عليها قلبها المنحور:
-لأ، مش قادرة أصدق إنك تعمل حاجة زي كده، بس... خايفة!
سألها عاقدًا ما بين حاجبيه ببطء:
-خايفة من إيه؟
ردت صراحةً بشفاه مرتعشة:
-خايفة أكون أنا اللي بقنع نفسي بكده، خايفة أتصدم، خايفة يكون الاحساس اللي جوايا صح.
اقترب منها خطوة مستفسرًا بخفوت وهو يستشعر ثقل ما تشعر على كاهليها:
-احساس إيه بالظبط؟
كادت تبكي حرفيًا وهي تخبره بنغمة صوت أنذرته أنها على وشك الانهيار:
-احساس إني خاينة وحقيرة، إني لحد دلوقتي ماعزتش أمي، بس هعزيها ازاي وأنا جوزي ممكن يكون هو اللي قتله، قتل الشخص اللي كبرت تحت رعايته حتى لو كان بيعاملني وحش، أنا وحشة أوي، أنا ازاي مش زعلانة على موته وكان كل همي إنك تطلع برئ وكل خوفي عليك أنت!
-كارما..
همهم بأسمها بلهفة وهو يحيط بوجهها بين كفيه يرفع وجهها الباكي نحوه، قبل أن يضيف بنبرة أكثر لهفة:
-أنا ماعملتهاش يا كارما، ماقتلتهوش والله العظيم.
تابعت من وسط دموعها، حتى لم يفطن أهي كارهه لذلك ام تقصه عليه فقط:
-ما أنا عارفة، رغم إنك ماقولتش حاجة.
ثم ضربت بيديها على فخذيها وغمغمت بما شابه الهذيان وكأنها تلوم نفسها:
-كل ما أقول خلاص عملت كنترول لنفسي، أكتشف إني كنت بضحك على نفسي مش أكتر.
لا يدري هل هذا اعتراف غير مباشر بالحب منها، ام هو مَن ظن ذلك، ولكنه لم يكن بحالة تسمح له بتفسير مشاعرها الان، فهو كان في حالة من التيه لا تقل عنها..
لذا وجد نفسه منقادًا خلف المشاعر التي تفجرت من كبوة الكتمان، وقرّب وجهها منه بقوة، أنفاسه تهدر بوجهها.. قبل أن يقول بخشونة وعاطفة منفلتة:
-اسف، بس أنا محتاج أعمل كده.
ودون أن ينتظر المزيد، كانت شفتاه الغليظة تغطي شفتيها المرتعشتين، ليتناغما سويًا بجنون ولهفة.. على لحن الألم الذي يتشاركاه، والخوف من فراق هدد أبوابهما، دون اعتراض منها هذه المرة..
كان يحتاج ذلك وبشدة، يحتاجها.. يحتاج الشعور بها وبدعمها وحبها الذي لم تفصح عنه، يحتاج أن يبثها بصمتٍ عجزه، روحه المُكبلة بسلاسل وجد نفسه مقيد بها فجأة ولا يدري كيف سيحرر نفسه !
تركها اخيرًا حين شعر بقرب انقطاع أنفاسهما، تشاركا لهاث أنفاسهما، وحين فرقت كارما شفتاها تنوي النطق، قاطعها واضعًا إصبعيه على شفتيها التي حملت اثار وصالهما اللاهب، ليمنعها بصوت متهدج:
-متقوليش حاجة دلوقتي.
كانت مرهقة بما يكفي لتستسلم وتصمت مبتلعة ما كادت تقوله، فتركها هو على مضض متجهًا نحو غرفته، تحديدً المرحاض ليغسل جسده مما علق به الأيام الماضية، ولا يدري هل سيستطع تنقية روحه كذلك ام لا...!!
****
بعد فترة...
وصلت "فيروز" مع "فارس" لاحد الأماكن العامة، والذي من المفترض أن يجتمعوا به بأحد رجال الأعمال المهمين؛ لأنها ستعمل على مشروعه الكبير كمكافأة لها كما أخبرها فارس الذي تحس بالتغيير الذي أصاب جذوره، تغيير تجهل ماهيته وهذا ما ينفث فيها نيران القلق !
رمقت فارس بنظرة منبوشة بأظافر التوتر الضارية، تخشى أن يكون متربض لها بفخ جديد..
فقابل فارس نظرتها بابتسامة صغيرة يفوح منها السكينة التي حاول بثها فيها وهو يهتف:
-أنا موديكي لمكافأة وشكر ليكي، مش خاطفك والله.
ابتسمت هي الاخرى وهي تزفر بصوتٍ عالٍ، تردد داخلها أن لا داعٍ لذلك الارتباك، ولكن ربما ارتباكها هذا بسبب دخول مشاعرها في هذه الحرب المميتة!
نظر فارس حوله يمينًا ويسارًا يبحث عن الشخص المنشود، وهو يردد متأففًا:
-اتأخر كده ليه ده.
وفي اللحظات التالية ظهر، كان رجل اعمال شاب يقارب فارس في عمره تقريبًا، شعره الكستنائي الناعم يلمع بسبب الشمس، وسيم نوعًا ما..
اقترب منها وشعرت بعينيه تمشطها سريعًا قبل أن يرسم ابتسامة بشوشة ويتشدق وهو يمد يده نحوها ليصافحها:
-مصطفى الحسيني، أنتي فيروز صح؟ وأسف على التأخير.
اومأت برأسها مؤكدة وابتسامة جزئية انتصبت على شفتيها:
-اهلًا وسهلًا بحضرتك، ايوه فيروز.
ثم استدار نحو فارس متابعًا بنفس الابتسامة وهو يصافحه:
-سوري يا فارس Ladies first بقا.
تصنع فارس الابتسام رغم الحنق الذي بدأ يعتريه بسبب اللزاجة المفاجأة التي يراها منه لأول مرة:
-ولا يهمك، إيه اخبارك يا درش؟
هز رأسه متمتمًا بسلاسة:
-أنا تمام جدًا.
ثم أشار لهما تجاه المقاعد واستطرد:
-اتفضلوا نقعد بقا عشان نبدأ شغل.
بدأ الحديث عن العمل وسط فارس الذي كانت سوداوتاه كحقلٍ اشتعلت فيها النيران ولا تخفت ابدًا بل تشتد ضراوة؛ لا يعجبه ابدًا ذلك التلطف بينهما، وفي نفس الوقت لا يملك أن يمنعها عن ذلك فهي لم تتعد حدودها.
نهض مصطفى بعد قليل بعد أن صدح هاتفه معلنًا وصوله اتصال، قائلًا بهدوء:
-هرد على المكالمة دي وجاي على طول.
اومأ له فارس موافقًا، وتنهدت فيروز بابتسامة تشعبت ثغرها كله، فهي رغم كل ما يشغل عقلها، يبقى حبها لعملها مسيطرًا على معاقل عقلها.
نظر لها بطرف عينيه وتمتم بصوت مكتوم من الغيظ الذي حرص ألا يتدفق منه:
-لذيذ مصطفى.
اومأت بعفوية مؤكدة:
-اه حد لطيف بصراحة ونورمال مش متكبر ولا رسمي اوڤر.
همهم مضيقًا عينيه وهو ينظر لها بنظرات عجزت عن تفسيرها، فاسترسلت بقليلٍ من التلعثم:
-زيك يعني.
عاد بجسده للخلف ببطء وابتسامة تقطر زهو كالطاووس كانت ترافق شفتاه وهو يواصل:
-أنا مفيش زيي.
التوت شفتاها بابتسامة لم تستأذنها لاعلان نفسها على ثغرها، فهي رغم كرهها للغرور إلا أنها تتقبله منه، بل تكاد تجزم أنها اصبحت تحب غروره الرجولي ذاك.
انتبهت له حين اقترب منها قليلًا ثم اشار لها نحو الجهاز اللوحي وسألها على نقطة متعلقة بالعمل، فوقعت هي في فخه واندمجت وبدأت تتحدث معه في تلك النقطة بطلاقة..
حينها وببطء مد ذراعه حولها ليحتوي جسدها برفق حتى صارت -تقريبًا- بين أحضانه، يقسم أنه لم يشعر يومًا أنه مالك جوهر الدنيا بيده كما شعر الان وهي بين أحضانه، رائحتها قريبة جدًا منه تهدد بانفراجة غير محسوبة لعاطفة يحجمها بشق الأنفس..
انتبهت لوضعهم الحالي فابتلعت ريقها وقد فرت كل الجدية التي كانت تنهتجها في حديثها منذ قليل، وثقلت أنفاسها قليلًا وهي تهمس بحروف متقطعة:
-فارس أنت.... آآ...
عقد ما بين حاجبيه يسألها ببراءة:
-أنا إيه؟
أشارت بعينيها لوضعهم ولم تجرؤ على النطق أمامه أنه يتلمسها متعمدًا، فاستغل هو ذلك وقال بنبرة ثعلبية متصنعًا الجدية:
-لا لا مش عاجبني ادائك مفيش تركيز في الشغل، لا فيروز كله إلا الإتقان في العمل.
كزت على أسنانها بغيظ ونطقت من بين أسنانها:
-ما أنت اللي ماسكني.
إتسعت عيناه في تعبير درامي وهو يصيح مستنكرًا:
-أنا يابنتي!
ثم أشار لذراعه وتشدق بمسكنة:
-ده أنا دراعي جاله شد عضل من الوضعية دي فقولت أغيرها، ما تصفوا النية شوية بقا.
همت بالاعتراض لولا مجيء مصطفى، الذي استحسنه فارس لأول مرة منذ حضورهم، ففيروز صمتت رغمًا عنها، ولم يبتعد فارس عنها بل شدد من احتضانها وكأنه يعلن ملكيته الحصرية لها، وإتسعت ابتسامته الراضية كصبي انتصر وملك لعبته المفضلة.
****
استيقظت "كارما" من نومها الذي سقطت به اخيرًا براحة بعد أرق دام لأيام سابقة، بدأت تبحث عن عيسى الذي من المفترض أنه نام هو الاخر..
ولكن لم تجده، عقدت ما بين حاجبيها وغادرها النعاس تمامًا، ثم انتبهت لورقة كانت موضوعة على المنضدة في الصالة، أمسكتها بعدم فهم وفتحتها لتقرأها، وجدت بها رسالة من "عيسى" ومحتواها كان معقل الصدمة النفسية لكارما
" أنا أسف يا كرملة، أنا مشيت.. وأسف على اللي أخدته، ورقة طلاقك هتوصلك قريب"
نظرت مسرعة بعدم تصديق لتجد حبر ازرق يزين اصبعها معلنًا وصمة سوداء قاسية تركها عيسى فيها، فقد ادركت من خلالها أن عيسى جعلها "تختم بإصبعها" وهي نائمة على تنازل للبناية التي ورثتها عن والدها وسيطلقها قريبًا.....
الفصل السادس عشر :-
بدأت "كارما" تهز رأسها نافية بهيستيرية، وقع الصدمة كان كمغناطيس سحبها لاتجاه معاكس فجأة حتى اصطدمت به بضراوة وتفتت كل خلية بها مسببة لها وجع لا يُحتمل.
لا يمكنها أن تتحمل هذا الغدر منه، لا تستطع.. بدأت تتنفس بصوتٍ عالٍ، أنفاسها ثقلت جدًا، وكأنه مفعول ذلك السكين البارد الذي غرزه ممزقًا احشائها ببطء مثير للشفقة!
ليته نحرها على الفور سالبًا منها الحياة، ولكنه لم يفعل.. هو وضعها في بقعة أطلاها باللون الوردي بأكاذيبه وتصرفاته، ثم دون مقدمات أكتشفت أنها في معقل ذبحها؛ ولكنه كان قد غرز سكينه بها وانتهى الأمر!
سقطت ارضًا وهي تشهق فجأة بعنف باكية كأنها تحاول إلتقاط أنفاسها، تبكي بانهيار خذلانها وصدمتها.. تبكي قلبها الذي لم يلتفت لصوت عقلها حين حذرها من وجع وبصمة مؤلمة اخرى ربما ستُصيبها بعد الانسياق خلف مشاعرها..
ثم بدأت تهذي بهسيس خافت:
-ليه؟ ليه عمل كده، ليه بيحصل معايا كده، ليه مكتوب عليا الوجع والقهرة!
ولا تجد اجابة يمكنها أن تهدئ لظى النيران الذي تشعر به..
فهزت رأسها مرددة بلسانٍ ثقيل مُخدر من فرط الألم:
-الحمدلله، أكيد خير.. الحمدلله يارب.
ثم تكورت في وضع مشابه لوضع الجنين، تضم قديها لصدرها بقوة، وفشلت في كبح سيلان دموعها ....
****
على الطرف الاخر...
كان "عيسى" جالسًا على كرسي جوار شقيقه "حازم"، السيجارة بين أصابعه يخنقها بفعل شياطين الغضب التي تتردد على صدره كـ كهف مهجور، ورغم أنه أقلع عن التدخين، إلا أنه لم يجد سواه منفث لغضبه وقهره الذي لم يسعه صدره المنقبض..!
شعور أنه مُرغم على شيء، وهذا الشيء ينسل أوردته نسلًا ببطء، قاسٍ.. قاسٍ جدًا وأكبر من قدرته على كتمه.
اقترب منه حازم الذي وضع أمامه كوب "الشاي" وهو يهتف بهدوء متسائلًا:
-مش هتقولي برضو إيه سبب المشكلة اللي بينك وبين كارما؟
أجاب "عيسى" بملامح مقتضبة وحروف ملكومة:
-مش عايز أتكلم في الموضوع ده يا حازم.
هز حازم رأسه مستنكرًا:
-بس أنا لازم أفهم في إيه مبقاش زي الأطرش في الزفة، فجأة تسيب مراتك اللي وقفت جمبك وكانت معاك يوميًا في القسم وتقول إنك هتطلقها وتيجي تقعد معايا.
ثم اكمل بتلقائية في استهجان ساخر دون أن يعي:
-ماطردتهاش من الشقة ليه بالمرة بما إنك قلبت عليها ؟!
رمقه عيسى بنظراتٍ مهتاجة عارمة بالغضب الذي جعله يستدرك ذلة لسانه ويتراجع مغمغمًا بخفوت:
-أنا أسف يا عيسى مش قصدي، أنا بس مستغرب أوي ومش لاقي تفسير.
هدر فيه عيسى ولأول مرة لا يكبح غضبه مراعاةً لعمر شقيقه الصغير الناتج عنه هذا التهور:
-مش لاقي تفسير لأيه! الشقة هي كده كده هتسيبها، وأحنا مش متفاهمين ومحصلش نصيب وهنتطلق، إيه اللي صعب الفهم في كده؟ هي عشان وقفت جمبي يبقى لازم نعيش مع بعض حتى لو محصلش تفاهم ولا إيه؟
هز حازم رأسه نافيًا وهو يخبره صراحةً:
-لا يا عيسى مش لازم، بس ماكنش باين كل ده، بالعكس كانت خايفة عليك، وباين عليها كويسة.
-الظاهر مش كل حاجة يا حازم.
تمتم بها بنبرة اكثر انخفاضًا وعاد لشروده من جديد، لا يدري حتى أيقصد بنفسه تلك الجملة ام هي..!
انتبه لحازم حين سأله من جديد، سؤال أكثر قسوة ومرارة عن سابقه:
-يعني خلاص هتطلقها؟
اومأ مؤكدًا برأسه، والاجابة شعر بمرارتها كالعلقم وهي تتحرر من فمه:
-ايوه، لازم.
-ربنا يعوضك خير.
قالها حازم وهو يتنهد بقلة حيلة وضيق حقيقي، فهو ظن أن عيسى اخيرًا وجد السعادة فاتحة له ذراعيها واعدة إياه بحياة وردية هنيئة جديدة مع كارما، ولكن يبدو أن الظاهر ليس كل شيء كما قال...
****
مرت أيام قليلة، كانت كارما تعزل نفسها بالشقة، لم تخرج تقريبًا سوى مرة او مرتين لزيارة والدتها، وكأن الدنيا صغرت بعينيها كثيرًا.. حتى لم تعد تراها، فقط ترى نقطة سوداء، ولم تعد تستيغ مذاقها الذي صار كالعلقم.
كانت تغط في نومٍ عميق تهرب به من واقع قسى عليها كثيرًا، حين دخل "عيسى" المنزل على أطراف أصابعه، بحث بعينيه عنها فلم يجدها كما توقع، فهو تعمد المجيء بوقت متأخر جدًا يضمن به أن تكن نائمة..
دلف للغرفة التي تنام بها، وجدها تفترش الفراش بعشوائية كما اعتادها، ابتسامة حنين صغيرة بلا روح كانت تحلق على ثغره، واقترب اكثر حتى جلس على ركبتيه أمام الفراش مباشرةً، وجهه يُقابل وجهها، مد يده بأصابع مترددة ليمسك بخصلاتها الناعمة وقرّبها من أنفه مغمضًا عينيه يتشمم رائحتها المُسكرة بلهفة عاشق مزقته لوعة الاشتياق..
ابتعد بعدها وبطرف إصبعه كان يتلمس قسمات وجهها البريئة التي يعشقها، اشتاقها واشتاق كل إنش بها حد الجنون، حتى فقد السيطرة على تلك اللوعة المُهلكة وخاطر بالمجيء لهنا كي يراها ويطفئ لهب الشوق الذي اشتعل داخله..
همس بصوت خافت يطن به الألم:
-أنا أسف يا كرملة، أسف يا حبيبتي.
ثارت بالشوق واللهفة دماؤه التي بردت كثيرًا مؤخرًا بصقيع البُعد، وإندفعت عواطفه التي عذبته في بُعدها، فاقترب بوجهه من وجهها ببطء، وعيناه مُسلطة على شفتيها التي كانت اكسير الحياة بالنسبة له.. فقط قبلة سيأخذها ويغادر لأنه يعلم أنه لن يستطع اخذها وهي مستيقظة مرة اخرى!
واخيرًا مست شفتيه شفتاها، بين شفتاها راحته.. جنته على الأرض، قبلها بنهم عطشان وجد بعد مُعاناة ما يروي ظمأه..
ثم اجبر نفسه على الابتعاد مسرعًا كيلا تستيقظ، ثملًا من فرط حلاوة مذاق تلك القبلة التي شابهت النبيذ..
وهمس بصوت متهدج:
-وحشتيني، وحشتيني أوي وحاسس إني هتجنن من غيرك.
غاصت عيناه من جديد في كل إنش من ملامحها، وخرت حروفه صارخة بالوجع والقهر وهو يقول:
-صعب أوي إني أحرم نفسي منك.
ثم نزع نفسه نزعًا من جوارها، شعوره شابه سلخ الجلد عن الجسد، وروحه فارقته متشبثة بها تأبى الفراق من جديد..
وغادر ثقيل القلب والروح كما أتى، لم تخفف رؤيتها ما على عاتقه، بل أشعرته بفجوة الاشتياق الكبيرة التي تركتها كارما في روحه.
استيقظت كارما بعد قليل، تأثبت وهي تمسك هاتفها متفحصة إياه بعشوائية، ثم توجهت صوب المرحاض، وفي طريقها رأت قطعة ملابس لها موضوعة على المنضدة، زاغت عيناها من حولها سريعًا في شك، وعقلها يسترجع اللحظات التي وضعت بها الملابس، ولكنها لا تستطع التأكد من ذلك.. ذاكرتها لا تسعفها.
دارت في الشقة مسرعة، لا تدري علام تبحث، ولكن الخوف داعب قلبها للحظات، أتت صورة عيسى عقلها فرددت داخلها نافرة
" لم يكفي أن سلبها الثقة، بل سلبها بغدره أمانها ايضًا" !!
****
بعد فترة...
جلست كارما جوار "فيروز" التي أتت لتزورها، فتفاجئت بصدمة جديدة على رأس كارما المسكينة التي كانت ملامحها خاوية الروح..
أنهت كارما حديثها وهي تتمتم بصوت شاحب كشحوب وجهها:
-وماقولتش لأي حد اللي حصل، ومش ناوية أقول ولا أسيب البيت، وهقول إنه مسافر في شغل، وكده كده أنا معايا فلوس جمعية وهنزل اشتغل، لحد ما تعدي فترة وهعلن الطلاق، اصل تفتكري الناس هتقول إيه لما أتطلق بعد أقل من شهرين جواز؟ مش بعيد يقولوا مش مستحمل العاهه المستديمة اللي عندها.
هزت فيروز كتفاها قليلًا وهي تردف بصلابة ظاهرية بينما عيناها ترصد الشرخ الواضح الذي أصاب كارما:
-عاهة إيه ! اتلهي، طب والله لو أشوفه بس أنا اللي هعمله عاهه مستديمة، ولا يهمك يا بت، إيه يعني.. يروح قرد يجي غزال.
إلتوت شفتاها بشبح ابتسامة غادرها سريعًا وهي تتشدق بشيء من الشرود:
-بس أنا مش عايزه غزال يا فيروز، أنا كنت عايزاه هو.
لوت فيروز شفتيها بتبرم معترضة:
-ما أنتي عشان طول عمرك بومه وبتحبي القرود.
ولكن نغمة الألم والانصهار التي صدحت من كارما، جعلت المرح يتحنى جانبًا على الفور:
-أنا تعبت يا فيروز، تعبت بجد، تعبت وأنا بقول لنفسي أكيد ربنا هيعوضني، صبرت لما حبيته وهو مش شايفني، وصبرت لما اتجوزته وهو متفق معايا عشان مصلحته، وصبرت وأنا حاسه إني أقل من إني أكون مراته، بس المرادي مش قادرة أسكت وأصبر، بحاول بس والله ما قادرة.
لم تنطق فيروز وتركتها تفرغ ما بجبعتها علها ترتاح ولو قليلًا، فراحت تواصل بنشيج بكاء خافت:
-حتى لما كنت بقاوم مشاعري، وبقول أنتي مش هينفع تأسسي بيت وأسرة زي أي حد، افرضي خلفتي وجيتي في مرة لاقيتي ولادك ماتوا من غير ما تحسي بيهم، وبرضو ماكنتش قادرة أسيطر على مشاعري وأنساه.
ثم نظرت لها نظرة مفعمة بالألم واستطردت:
-ليه أنا اديته كل الحب، وهو اداني كل الخذلان والوجع.
تنهدت "فيروز" قبل أن تضيف بلهجة حاولت أن تضفي عليها الفكاهه رغم افتقادها له حاليًا:
-في مقولة بتقولك، او لا مش مقولة هي هبدة قريتها على الفيسبوك بس عجبتني، المهم.. بتقولك إيه ياستي؟ إن أنتي بتشوفي الوحش وبتعاني، عشان لما يجي الشخص الصح تحسي بحلاوة الشعور والفرحة دي وبقيمته.
ضحكت "كارما" رغمًا عنها على طريقة فيروز، فصفقت فيروز بحماس قائلة:
-ايوه كده يا شيخه اضحكي اضحكي ربنا يولع فيهم بجاز، اللي مبناخدش منهم إلا النكد.
-اه والله.
تمتمت بها كارما وهي تهز رأسها مؤكدة، فاسترسلت فيروز بدهاء ويقين يصل أطراف حروفها:
-وبعدين يا هبلة تزعلي ليه، كل حاجة الانسان بيعملها في حياته بتتردله سواء حلوة او وحشة، بكره هيعرف قيمتك وهيرجعلك زي الكلب، بس ساعتها في مثل شهير عايزاكي تفتكريه كويس، ولا بلاش المثل عشان ما أخدش حياءك، المهم يا حبيبة قلبي تخليه يلف كده حوالين نفسه عشان ترجعيله وأنتي تقوليله لأ، ماذا وإلا... وديني يا كارما لو حصل غير كده لأفضحك.
اومأت كارما مؤكدة بسرعة وهي تحتضنها ضاحكة، دومًا هي الركن المُريح في حياتها وصندوق اسرارها، ومطلع حلول مشاكلها ايضًا..
.............................
قطع تلك اللحظات صوت هاتف فيروز الذي صدح معلنًا وصول اتصال، أمسكت به فيروز وأجابت بهدوء، وبعد دقيقة من الصمت هبت واقفة وهي تردد:
-أنا جايه على طول.
ثم أغلقت الخط وهي ترتدي ملابسها مسرعة، فأوقفتها كارما، تسألها متوجسة:
-في إيه يا فيروز؟
أجابتها فيروز متعجلة:
-زينة اختي وقعت ورجليها تقريبًا إتكسرت وودوها المستشفى.
هبت كارما كالملسوعة هي الاخرى وهي ترتدي ملابس الخروج على عجالة:
-يا خبر ابيض، خير ان شاء الله ماتكونش كسر.
وبالفعل توجهتا مسرعتان صوب المستشفى التي إلتحقت بها شقيقتها، وحين كانت فيروز في الطريق اتصل بها "فارس" فأخبرته مسرعة بما حدث..
وصلتا المستشفى، وخرج الطبيب لتسأله فيروز عن حالة شقيقتها:
-ها يا دكتور طمني؟ كسر ولا ؟
زم شفتيه في أسف معلنًا:
-للأسف كسر وهتحتاج شريحة ومسامير.
أغمضت فيروز عيناها وهي تتمتم بصوت مكتوم:
-لا حول ولا قوة الا بالله.
ثم فتحت عيناها متنهدة وهي تسأله بثبات:
-هتتكلف كام العملية يا دكتور؟
صمت لثوانٍ وكأنه يحسبها برأسه، ثم أجاب بنبرة دبلوماسية:
-تقريبًا كده 30 ألف.
صُمت اذان فيروز عن كل شيء حولها وتجمدت وهي تفكر متخبطة.. من أين ستحصل على هذا المال؟
هزت رأسها دون معنى، فاستطرد الطبيب بهدوء:
-ظبطي دنيتك وانزلي الاستقبال تحت لو هتعملها.
ثم استأذن وغادر تاركًا فيروز التي صارت في مأزق حقيقي تجهل كيفية الخروج منه، فيما اقتربت منها كارما متابعة بصوت حزين وملامح مكفهره:
-والله يا فيروز أنتي عارفة فلوس الجمعية اللي معايا ما هتكفي، بس متقلقيش أكيد هنتصرف ونحلها باذن الله.
ربتت فيروز على ذراعها بابتسامة خافتة:
-انتي فـ إيه ولا فـ إيه، إن شاء الله.
بعد قليل... أزهرت فيروزتاها برؤية "فارس" الذي لم تتوقع مجيئه، اقتربت منه وهي تغمغم بأسمه بتلقائية ودمعة فرت من عينيها بيأسٍ جلي، كطفلة وجدت من تقص عليه شكواها اخيرًا:
-فارس.
مستسلمًا لعفويته كان فارس يمسك ذراعيها متسائلًا بنوع من التوجس:
-إيه في إيه يا برتقانة بتعيطي ليه ؟
اجابته بصوت مختنق:
-زينة لازم تعمل عملية المسامير وأنا معيش فلوسها.
زفر متعمدًا بصوتٍ مسموع وهو يقول براحة:
-بس كده، يا شيخه خضتيني خير ربنا كتير.
دون انتباه لما قال، وكأنها في عالم آخر تجهل فيه المنقذ من براثن الفقر، أردفت بقلة حيلة:
-بقالي ساعة بفكر هتصرف ازاي بس مش عارفه مش عارفه حتى لو خدت سلفة من الشغل مش هتقضي.
عقد فارس ما بين حاجبيه منزعجًا من تجاهلها لدوره في حياتها، ولكنه بسط ما يدور بعقله بصورة مرحة حين تشدق:
-عيب والله عيب هذا الكلام، ده أنتي لو ماضية عقد جواز مع كيس شيبسي هيكون في عشم بينكم اكتر من كده.
ضحكت رغمًا عنها ولا تنكر انشراح صدرها التلقائي، وكأن وجود داعم لها يكفي لتطمئن وتهدئ قلة حيلتها، فمسح فارس دموعها المتسربة، بإصبعه برقة وهو يداعبها:
-ايوه كده يا شيخة بلاش كآبة اضحكي متبقيش عيوطة.
نهرته بحنق كطفلة في السابعة:
-أنا مش عيوطة أنا سترونج اندبندت وومان بس ضعفت شوية.
حرك حاجبيه معًا وواصل مشاكستها:
-استرونج اندبندت عيوطة.
-أنا مش عيوطة.
قالتها بعناد، فداعب انفها بأنفه وتابـع بعبث صبياني لذيذ:
-احلى برتقانة تعيط والله.
تبسمت فيروز على استحياء وعادت خطوتان للخلف وهي تتنحنح قبل أن تقول مغيرة مجرى الحديث الذي لم يعد يعجبها:
-بس ع فكره ده سلف وهرجعها من مرتبي.
اومأ مؤكدًا بجدية زائفة:
-طبعًا، ولو مادفعتيش هاخد كِليتك متقلقيش.
****
بعد مرور يومين...
تكفل "فارس" بدفع مصاريف العملية لزينة شقيقة فيروز، وسط امتنان فيروز الذي لم تستطع حرمانه من التلويح من جام ملامحها..
وبالفعل تمت العملية لزينة، ورافقتها فيروز لمنزلهم ترعاها باهتمام، ولم يبدِ فارس أي اعتراض، بل أحب ذلك الحنان الذي يتدفق منها وتمنى لو كان محل شقيقتها تغمره باهتمامها وحنانها هكذا !
جلست فيروز على الفراش في الغرفة التي خُصصت لها في منزل فارس، شردت فيما كادت تفعله منذ أيامٍ قليلة، حين أخذت ذاك الورق وقت سفر فارس..
تحمد الله أنها لم تفعل وتدمره مستغلة ذلك الورق وأعادته لمكانه كما أخذته، وإلا ما كانت ستسامح نفسها بعدما رأت هذا الوجه اللين العطوف الذي احتواها.
طُرق باب غرفتها فنهضت لتفتحه، ووجدت الطارق "فارس" الذي ابتسم لها برقة قائلًا:
-قولت أعدي عليكي بما إنك رجعتي وأشوفك عامله إيه، وزينة بقت تمام؟
هزت رأسها بابتسامة حلوة مشابهه لخاصته وردت:
-الحمدلله زي الفل بتتحسن واحدة واحدة.
هز فارس رأسه متمتمًا:
-طب الحمدلله.
وكاد يستدير ليغادر، لولا يد فيروز التي إندفعت ممسكة بذراعه لتوقفه هامسة:
-فارس استنى.
نظر نحوها من جديد، خاصةً لكفها الصغير الناعم الذي يمسك ذراعه، هذا أول تخطي للحاجز الذي تبنيه لنفسها دومًا نحوه!
داعبت شفتاه ابتسامة صغيرة ولم ينطق في انتظار ما ستقوله، فتنحنحت فيروز وببطء وحركة غير محسوبة كانت تمسك بكف يده بكفيها، فاستشعرت رجفة المفاجأة التي أصابته للحظة، قبل أن تسترسل بخفوت:
-شكرًا على وقفتك جمبي متحرمش منك يارب.
شعر وكأن دقات قلبه صارت كالمفرقعات ضجت معلنة احتفال ضخم بتطور ملحوظ في علاقتهما لم يحسب له حساب.
ولكنه احتوى فرحته داخله ولم يلقيها خارجًا، بل استطرد بذهول مصطنع يشوبه المرح:
-إيه ده إيه.. أنتي لمستي ايدي!
تمتم فيروز بعفوية قاتلة:
-إيه في إيه عندك جرب ولا إيه؟!
ضحك فارس بأريحية:
-جرب! لا يا هانم، أنتي لازم تصلحي غلطتك.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تسأله:
-اصلح غلطتي ازاي يعني؟
وبحركة مباغتة، كان يدفعها بجسده نحو الداخل، ويحيط بوجهها بين كفيه العريضين، وما أن همت بالاعتراض، حتى ابتلع اعتراضها بشفتيه التي غطت شفتاها الكرزية، لاثمًا إياها بشوق كان يوخزه وخزًا مطالبًا إياه بتذوق شهد شفتاها..
تصنمت هي مكانها للحظات تحاول الاستيعاب، ولكنها مشاعرها كانت الأسرع في الانسجام مع ذلك الاعصار العاطفي، ولم تنفر بل ذابت متلذذة وشفتاه تعبث بمشاعرها وتفعل بها الأفاعيل.
ابتعد فارس بعد ثوانٍ، وأحاط خصرها بتملك، هامسًا بصوت خشن مثخن بالعاطفة:
-اخيرًا دوقت البرتقانة.
لم تقل صدمة فيروز التي أخذت ترمش عدة مرات وكأنها تتأكد إن كانت بحلم ام لا، فقال فارس بعبث:
-ده عشان شفايفي ماتغيرش من ايدي بس، يرضيكي تغير؟
هدرت ببلاهه:
-أنت بتقول إيه؟!!
فتابع بنفس العبث الشقي وكأنه عاد صبي وهذا جديد على شخصيته الجادة الصارمة التي عرفتها دومًا:
-اه معلش كله إلا العدل والمساواة احنا بنتشعبط في رضا ربنا.
دون تفكير سوى في الهروب من ذلك الموقف الذي جعل وجنتاها تصبح كحبة طماطم، كانت تدفعه مسرعة وتغلق الباب مستندة عليه بظهرها، تسمع ضحكاته الرجولية المجلجلة لأول مرة، وتتلمس بإصبعها شفتاها دون وعي ولازالت في غمرة تلك المشاعر الهائلة..
****
كانت "كارما" على فراشها، ممسكة بهاتفها تقلب به بلا هدف، تتعمد السهر لوقتٍ متأخر بعد أن انتابها القلق حيال امكانية دخول أي شخص الشقة بما أنها صارت تعيش بمفردها..
تنهدت وهي تغمض عيناها مفكرة رغمًا عنها بمن حرمها الراحة والأمان!
ولم تنتبه للذي دخل المنزل على أطراف أصابعه، حريص ألا يصدر أي صوت، دخل لغرفتها، فشعرت هي بوجوده، اضطربت أنفاسها واشتدت جفونها التي تتظاهر بالنوم، حتى اقترب منها وصار قرب فراشها، فمدت يدها مسرعة تمسك بالسكين الذي وضعته اسفل وسادتها، وترفعه بوجهه مسرعة، ثم شهقت بفزع حين كتم فمها بيده و..........