رواية لعنة الخطيئة الفصل الخامس والخمسون55 بقلم فاطمة أحمد


رواية لعنة الخطيئة
 الفصل الخامس والخمسون55
 بقلم فاطمة أحمد
  خسارة الروح

دقّ جرس الباب فتوجهت أم زينب مسرعة نحو بعدما عدَّلت غطاء رأسها سريعا ثم فتحته، وعندما رأت الضيوف أشرقت ابتسامتها مرحِّبة بهم بحرارة :
- أهلا وسهلا نورتوا بيتنا.

كان مراد أول الداخلين ملامحه متماسكة لكنها تحمل في عمقها توترا خفيا ومن خلفه ولج آدم بثقته ووقاره المعتادين بجانبه نيجار التي انسدلت على شفتيها ابتسامة خفيفة بينما تقدم لهم الهدايا الرمزية هي وليلى وأخيرا حليمة الملقية عليهم السلام بهدوء.

جلس الجميع في غرفة الجلوس وانشغلت النساء بالترحيبات الأحاديث العابرة وعمّ المكان صمت خفيف للحظات، أما مراد فرغم ثباته الظاهري لكنه كان غارقا في أفكاره.
 لم ينسَ كيف بدت زينب عندما صارحها بنيته في خطبتها عند باب منزلهم وكيف ارتسمت الصدمة على ملامحها لدرجة اعتقد لوهلة أنها سترفض وأحس بندم طفيف لأنه تسرَّع لكن حينها تكلمت أم زينب وقد استطاعت تفسير تعبيرات ابنتها المتوترة، والراضية :
- انت سيد الرجالة يا بني وهننبسط بيك.

استفاق من ذكرياته على صوت هذه السيدة الطيبة مجددا فرفع رأسه إليها ليسمعها تستطرد بنبرة ودودة فيها مسحة استغراب بينما تطالع أفراد عائلته الذين يبدو عليهم الوقار :
- ماشاء الله يا مراد أنا كنت فاكرة انك وحداني.

تدخل آدم باِحترام مغمغما بصوته المتهدج وهو يربت على كتف أخيه :
- مراد عنده عيلة كبيرة يا خالة ... وعنده أخ بيقف جنبه في أهم يوم في حياته.

كان وقع كلماته عميقا فحدجه مراد وداخل قلبه امتنان لا يحتاج إلى ترجمة بالكلام أبدا، فها هو جالس مع من يحبهم ويحبونه بعد سنوات قضاها في الوحدة لكن شيئا واحدا يحرق قلبه ويُدميه بهذه اللحظة وهو أن والدته ليست موجودة معه.

تكلمت الخالة مرة ثانية تقطع الصمت السائد :
- ما شاء الله العيلة الطيبة بتظهر في المواقف الكبيرة، ومراد نِعم الولد والجار وقف معانا في المرة قبل الحلوة ربنا يحفظه.

طُرق الباب ثانية وهذه المرة كان الزائر هو "العم فاضل" رفقة زوجته وابنته، ابتسمت لهم أم زينب بحبور وهي تتذكر أنه منذ يومين جاءوا لبيتهم وأخبرها فاضل أنه سئم من تحكم عثمان وغطرسته وفي النهاية تشاجر معه وقرر مغادرة بيت العائلة والاستقرار في الشقة الفردية مع أسرته الصغيرة وطلب منهما السماح ووعد زينب أن يكون سندها في المستقبل ويعوضها عن ظلم عمها الأكبر.

- طمنيني ان شاء الله متأخرناش اوي.
تساءلت زوجة العم بقلق معتذرة لأنهم تأخروا فهدأتها مطمئنة إياها :
- لا الجماعة لسه واصلين اتفضلوا.

بعد قليل كانت تدخل زينب وهي تمسك الصينية وتتهدل بفستان أنيق ذو لون بنفسجي فاتح مع حجاب بيج ومكياج خفيف يكاد يُلاحظ، وزعت الضيافة وجلست بتوتر وخجل نادرا ما يظهر عليها فهتفت حليمة :
- بسم الله ماشاء الله زي القمر عرفت تختار يا مراد يابني. 

تمالكت نفسها ونظرت للمرأة الغريبة فتنحنح مراد وعرَّفها هي وعمها على أفراد عائلته بلباقة :
- ديه عمتي حليمة وأختي الصغيرة ليلى، وده أخويا الكبير آدم و...

- نيجار مراته.
قاطعته نيجار برفعة حاجب مطالعة بحدة الفتاة التي لم تخفض عينيها عن زوجها منذ رأته فاِرتبكت الأخرى من نظرتها وأشاحت وجهها سريعا، ثم لفَّت وجهها لآدم وتأملت هيأته الخاطفة للأنفاس بقميصه الأبيض وبنطاله الأسود وتسريحة شعره الأنيقة، وآه من لحيته المنمقة وعينيه العسلتين فإذا كان في العادة يشع رجولة وهيبة دون أي شيء فكيف الآن وهو يتألق.

- مالك في حاجة ؟
سألها المعني بالأمر بعدما لاحظ امتعاضها فنظرت هي لذراعيه الخشنتين وهمست :
- شغل المزرعة والبستان ده مبقاش ينفع أنا لازم أقعده في البيت وأفضل أكله رز ومكرونة لحد ما يبقى بكرش ماهو لو فضل بالحلاوة ديه هيتسرق مني. 

ضيق آدم حاجباه بعدم فهم بينما تحدث نفسها فتأفف وضرب قدمها بحنق هادرا بصوت خافت :
- يابنتي انتي سامعاني ما تركزي معايا في ايه. 

- ها ايوة ايوة أنا هنا.

رددت ببلاهة مستفيقة من شرودها ورشقت ابنة عم زينب بنظرة حادة مهددة ومن حسن حظ الفتاة أنها نقلت اهتمامها لوالدتها وإلا كانت نيجار ستقوم وتخلع عينيها من محجريهما.
عادت للتركيز مع ما يحدث وقام آدم بطلب يد زينب لأخيه ثم بعد دقائق فرغت الغرفة الجلوس سوى من العروس الصامتة والعريس الذي لم يغفل عيناه عنها حتى قال :
- وأنا كمان بقول نفس الشي.

أجفلت زينب ورفعت رأسها مهمهمة بتساؤل ليبتسم مراد مضيفا :
- يعني بقول أن الصمت في حرم الجمال جمالٌ ... بس بردو الكلام بيبقى أحلى خاصة لما اسمع صوتك.

تعثر قلبها بنبضة دخيلة جعلت وجنتها تنضب بالدماء حتى استحال لونها للأحمر فتململت مكانها باِرتباك منفعل وقالت :
- في ايه يا أستاذ مراد مالك ده مكنش يبان عليك خالص انك كده.

ابتسم بظفر عندما رآها تتخلى عن خجلها وتعود لحالتها الطبيعية ثم غامت ملامح وجهه بجدية وهتف :
- بصي أنا جاي النهارده اطلب ايدك على سنة الله ورسوله وبتمنى الموضوع يخلص ع خير، انتي ووالدتك بتعرفو كل حاجة عني شخصيتي وطبيعة شغلي بس لو عندك سؤال بتقدري تسأليني.

- هو بصراحة اه عندي بس أنا خايفة تضايق.

- سؤالك بخصوص عيلتي ؟

أومأت بإيجاب وترقبت نشوب أي ضيق أو امتعاض على وجهه، ولكن عكس ما توقعت قابلها مراد بسماحة وردَّ :
- أنا وأمي عشنا بعاد عن عيلة الصاوي كانت عيلتي الوحيدة واكتفيت بيها بس بعد وفاتها الدنيا اتقفلت في وشي ومبقاليش حد، بس لما عيلتي ظهرت ووقفت جنبي اكتشفت اني مش وحيد زي ما كنت فاكر واهو الحمد لله علاقتنا بقت أحسن وأقوى.

رغم أنه لم يتحدث عن سبب بُعده هو وأمه عن العائلة لكنها استشفت جرحه ووحدته فهزت رأسها ببسمة بسيطة هاتفة :
- وأنا كمان علاقتي بعمي فاضل اتحسنت وهو وعدني يقف جنبي.

- طيب ... بما أننا عارفين قد ايه العيلة مهمة تقبلي تكوني فرد من عيلتي وتبقي مراتي وأم عيالي بإذن الله يا زينب؟

تنفست بعمق كي تسيطر على نبضات قلبها المتسارعة ووُدت لو تصرخ معلنة بموافقتها، بيد أنها لم تستطع سوى أن تراوغه بعناد :
- اديني سبب يخليني أوافق عليك.

ارتفع طرف شفته للأعلى وهو يكتم ضحكته ثم أجابها بنفس المراوغة :
- لأني ... هقولك السبب بعد جوازنا عشان يبقى أجمل في الحلال.
_________________
بعد مرور أيام.
خيَّم الصمت بثقله على قاعة الاِستقبال ووقف العمدة عند النافذة بوجوم ونظرات قوية حتى استدار أخيرا نحو آدم وردد ببرود كمن يرمي بجملة اختبارية ليرى ردّ الفعل :
- صفوان قاعد يحرض رجال المجلس والأهالي ضدك علشان ينفوك من البلد وهو فاكر اني مش عارف باللي بيعمله.

لم تتغير ملامح آدم بل اكتفى بهز كتفيه بلا اكتراث كأن الكلام لا يعنيه، ثم علّق بنبرة جليدية :
- يعمل اللي عايزه مش فارقة معايا.

ضيّق عينيه قليلا وسار بضع خطوات إلى الأمام حتى وصل إليه وبرطم بحسابية :
- كل الناس لسه رايداك تكون خليفتي والعمدة من بعدي رغم اللي عرفوه عنك، فلو توافق وترجع لـ...

قطع آدم الحديث فورا وبحسم لا يقبل بأي نقاش :
- لو سمحت أنا اتخليت عن العمودية ومش هرجع نهائيا ولا عايز لعيلتي أي علاقة بيها تاني.

- خلاص ده قرارك الأخير ؟

حرك رأسه بثقة وبلا تردد :
- أيوه، حضرتك تقدر تعين أي حد غيري سواء صفوان أو غيره أنا مش ههتم.

كان في صوته شيء جعل العمدة يستسلم أخيرًا، آدم لم يكن يوما مما يغيرون رأيهم وطالما أقدم على خطوة كبيرة مثل هذه فبالتأكيد لن ينفع معه أي تأثير.
تنفس برتابة ثم غير دفة الحوار قائلا :
- سمعت ان أخوك مراد اتخطب، مبروك.

ارتخت ملامح آدم نسبيا وظهر شيء من الارتياح في نبرته وهو يردّ ببسمة خفيفة:
- ايوة احنا روحنا خطبناله من فترة.

- والست حكمت روحت معاكو ؟

- لأ مرضتش قالت أنها تعبانة بس أنا عارف ان ستي رافضة تطلع من السرايا بعد ما قصة الوصية اتكشفت من جهة بحسها محروجة ومن جهة تانية هي مش عايزة تقابل حد بعد ما مستوانا قلّ حسب ظنها.
المهم العروسة اللي خطبناها لأخويا بنت ناس طيبين وإن شاء الله يعيشوا في سعادة.

- مبروك ربنا يتمملهم على خير. 

- الله بلارك فيك وكمان فرح اختي ليلى بعد أسبوعين بتمنى تشرفنا بحضورك.

رفع العمدة حاجبيه وهو كان كحال الجميع مستغربا من موافقة السيدة حكمت على مصاهرة شاب أقل منهم ماديا لكنه لم يُظهر اِنفعالاته بل تبسم بسماحة :
- ربنا يتمملها على خير هي كمان انتو بتستاهلو السعادة خاصة انت يا آدم، ياما ضحيت عشان عيلتك وتعبت ع القرية بتاعتنا.

قابله بهزة رأس خفيفة تظهر اِحترامه له ثم اِستأذن منه وغادر القاعة بخطوات ثابتة كعادته، لكن في داخله كان يشعر أنه ألقى عن كاهله حملا كبيرا.
_________________
في بستان الصاوي.

كانت الأشجار تتمايل ببطء مع نسيم المساء وأوراق الزيتون تتراقص تحت ضوء الشمس الذي بدأ يخفّ تدريجيا.
وقف فاروق بجوار شجرة ضخمة يمسك بسيجارته بين أصابعه بينما يتأمل الأفق بشرود وما إن سمع وقع خطوات آدم حتى التفت نحوه وابتسم تلقائيا :
- شكلك كنت مع العمدة.

وقف الآخر ملقيا زفرة خرجت من أعماق قلبه قبل أن يعقب بإيجاز :
- أيوه كلمني عن عمايل صفوان وعرض عليا ارجع اخد العمودية بس أنا رفضت.

أماء فاروق برأسه كمن كان يتوقع هذا الجواب، ثم أطفأ السيجارة وتشدق مستحسنا فعلته :
- أحسن حاجة عملتها يا آدم ده كان لازم يتعمل عشان تخرج من اللعبة ديه بضمير مرتاح وأنت من غيرها ماشاء الله عليك تاجر كبير ليه قدره وقيمته مش محتاج لأي مناصب عشان تكسب احترامك.

تأمله آدم للحظة شعر بدفء في صدره ثم ربت على كتف فاروق بقوة وقال :
- تسلم يا فاروق انت دايما بتفهمني.

رفع هذا الأخير عينيه نحوه وتمتم بنبرة لم يستطع إخفاء اِنزعاجه بها :
- طبعا هفهمك مش أنا صاحبك ولا حضرتك غيرت رأيك يا آدم بيه بعد ما لقيت أخوك الحقيقي.

رفع حاجباه بدهشة من غيرته البادية على وجهه ثم رأسه هاتفا بثقة عمياء :
- انت مش صاحبي بس انت أخويا وبير أسراري كمان وقُريب جدا هنبقى قرايب ومن عيلة واحدة ولا أقولك انت من يوم يومك فرد من عيلتي.

لمعت عينا فاروق بتأثر حقيقي لكنه أخفى ذلك تحت مزحة سريعة قبل أن يفتح ذراعيه فجأة ليحتضنه بقوة ويهمهم بسعادة :
- تعال هنا يا سي السيد مش كل يوم الواحد يسمع منك كلام حلو كده.

ضحك آدم مُربتا على ظهره بمودة بينما شعر أن تلك اللحظة بكل بساطتها أثمن من أي منصب أو نفوذ كان يمكن أن يحصل عليه.
وبعد فترة كان يخبره بنبرة جادة :
- احنا لازم نلاقيلك بنت الحلال انت كمان مش معقوله الكل اتجوز ومحدش فاضل غيرك.

دارت عيناه في المكان ثم حك ذقنه بحرج طفيف وهو يجيبه :
- بصراحة أنا شفت واحدة عجبتني وقلت للحجة عليها وهي وعدتني تروح تخطبهالي بعد ما نخلص فرح محمد. 

اندهش آدم وتهللت أساريره فضرب كتف فاروق بقوة وتشدق برضا :
- ألف مبروك ربنا يتمم على خير مع أنك زي التور بضخامتك ديه وعمرك ما اتعاملت مع واحدة ست غير والدتك بس عادي ابقى قول لمحمد يعلمك كلمتين تلاتة.

أطلق ضحكة خفيفة في نهاية جملته فاِمتعض فاروق من سخريته وعقب :
- وليه متعلمنيش انت ماهو حضرتك خبير في العلاقات الزوجية والكل شايف ازاي بتعامل مراتك من حبك ليها.

تنحنح آدم وتظاهر بالجدية وهو ينظر حوله وكأنه يخشى أن يسمعه أحد، ثم مال نحو رفيقه وهمس :
- بصراحة كده ومتقولش لحد أنا بعمل كل حاجة لنيجار لأني بخاف منها ديه مجنونة وممكن تغزني بسكين لو كلامي مجاش على هواها عشان كده بعاملها كويس.

كان آدم يبدو أنه في مزاج جيد طالما أنه يمزح ويمرح فضحك وهمهم مرددا بلهجة متواطئة :
- اه ماشي سرك في بير يا بيه أنا هروح اخلص شغلي من بعد اذنك.

- اتفضل وأنا هرجع للبيت لأني تعبت اوي النهارده ومحتاج أريح.

غادر آدم سيرًا على الأقدام مستمتعا بتأمل المناظر الطبيعية ليصادف مراد في وجهه ويقول :
- شكله الطريق ده هيخلينا كل مرة نشوف بعض.

ابتسم الآخر وأومأ موافقا إياه وسار بجانبه وهما يتحدثان عن تفاصيل خطوبته وزواج ليلى حتى تلفظ آدم بصلابة :
- طب وبالنسبة للبيت أنت لسه مش موافق بردو ع انك تجي تعيش معانا، السرايا كبيرة وبتوسعنا كلنا أصلا العيلة كلها عاوزاك معانا ... حتى ستي حكمت.

حكَّ مراد مؤخرة رأسه ثم أجلى صوته وهو يؤكد قراره بشكل قاطع :
- مش عاوز أضايقك بكلامي أو تفكر اني لسه شايل الحقد في قلبي بس معلش أنا مش هقدر أعيش في البيت اللي اتمنعت أمي ربنا يرحمها من انها تدوسه ياريت تفهمني.

ثم اِستطرد مضيفا بعدما لاحظ اِنزعاج أخيه :
- وكمان أنا مرتاح في بيتي ووعدت زينب نفضل عايشين جنب مامتها لأنها وحدانية وملهاش حد غيرها.

فتح آدم فمه ليعترض ولكنه تراجع ورفع يده في الهواء مستسلما :
- أنت عنيد جدا ومع الأسف مش هقدر ألومك لان ديه صفة متوارثة في عيلة الصاوي.

- طيب بمناسبة الصاوي انت هتعمل ايه مع البني آدم اللي مصمم يشوه سمعتك ويطلعكم من البلد انت محكيتليش عنه.

- مش عاوز اشغل بالك وانت على وش جواز.

- مش عاوز تشغلي بالي ولا مش واثق فيا طبعا ماهو أنا مش صاحبك فاروق اللي بيعرف عنك كل صغيرة وكبيرة.
غمغم مراد بغيرة وجدت لنفسها طريقا إلى قلبه فاِنفلتت ضحكة صغيرة من فم آدم وكاد يتكلم إلا أن الصوت البغيض الذي صدع في المكان فجأة جعل ملامح وجهه تنكمش وعيناه تغيمان بجمود وهو يستمع لنبرته المتهكمة :
- الله ايه ده يا ابن سلطان انت حسنت علاقاتك مع أعدائك عشان تتحامى فيهم مني.

تأفف باِزدراء وطفق يطالعه دون أن ينطق كلمة فرفع صفوان حاجته بشماتة وتساءل :
- خير كلامي صدمك اوي كده.

- لا أنا بسأل نفسي انت منين جايب الثقة اللي تخليك فاكر ان آدم سلطان الصاوي بيخاف منك مين اللي عماله يقنعك بالأفكار ديه مش فاهم.

- معقوله لسه بتفتخر باِسم عيلتك بعد ما حقيقتكم اتكشفت أنا لو مكانك هموت نفسي من العار.

- وانت مموتش نفسك ليه ساعة ما حاولت مرتين انك تقتلني غدر يا استاذ.

- أنا كنت بحاول اخد حقي.

- واهو انت خدته مبروك عليك عيلة الصاوي مبقاش ليها علاقة بالعمودية.

- لسه مش هرتاح غير لما أشوفك مطرود ... أو ميت.

هنا تدخل مراد الذي كان يقف بصمت، واشتعل الغضب في عينه وهو يهدر بخشونة :
- انت بس فكر تأذيه وأنا هخليك تتمنى الموت ومتطولوش !

تفاجأ صفوان ونقل بصره بينهما بتعجب حتى قهقه معلقا باِستهزاء :
- ايه الحب اللي نزل عليكو مرة واحدة اشحال لو مفضلتش تخطط معاي ازاي ندمره ونشوه سمعته وكنت فكل مرة تساعدني عشان اعمل كده.

تلبَّد من ذكر أفعاله في الماضي وارتجف قلبه بذنب عظيم فكاد يُطأطئ رأسه بخزي متجرعا مرارة العبء الثقيل على كاهله، بيد أن آدم لم يسمح باِنحناء أخيه بل قبض على ذراعه وهبَّ يقف قبالة صفوان مغمغما بحدة :
- مفيش حد مغلطش بس الفرق ان في ناس بتفضل غارقة في وحل أخطائها وناس بتقوم منه وأنا عارف إنك من النوع اللي بيفضل يغرق نفسه بالدناءة، وطالما هتفضل ع الوضع ده فعمرك ما هتقدر توصل للي عاوزه.
 
- متحاولش تتجاهل الحقيقة يا آدم أنا كل يوم بقرب خطوة من هدّك ومبقاش عندك حد تستند عليه والشاب اللي موقفه وراك زي العيل الصغير مش هينفعك.

- ده بُعدك يابن الشرقاوي ! وياريت تبعد قرفك عن اللي بيخصني خاصة لما يكون أخويا.

صُعق صفوات وتوقفت أنفاسه لوهلة وتجمد وجهه تماما، قبل أن يرمش ببلاهة متهدجا :
- أخوك ؟ مين أخوك ؟!

ضحك آدم بخفوت مستمتعا بالذهول المرتسم على وجه غريمه ثم أمال رأسه وقال بذهول مصطنع :
- معقولة الراجل اللي بقاله شهور بيحاول يطيرني من البلد مكنش يعرف التفصيلة الصغيرة ديه ! آه نسيت انت عمرك ما كنت بتعرف حاجة إلا لو أنا بنفسي قررت اظهرها لك واهو النهارده كمان رجعت كشفتلك بنفسي حقيقة جديدة، مراد أخويا، روح بقى انشر الخبر في القرية يمكن تحس انك أخيرا وقعت على كنز.

لم يستطع صفوان الرد، فقط ظلّ يحدق فيهما بدهشة كأن الزمن توقف للحظة بينما آدم يرمقه بنظرة ازدراء، ثم التفت إلى مراد قائلاً بنبرة حازمة :
- يلا، كفاية وقت ضايع مع ناس مبتتعلمش.

سار الاثنان مبتعدين،أما صفوان ظل متسمِّرا في مكانه يحدّق في الفراغ ويحدث نفسه بعدم تصديق :
- مستحيل ازاي ده يحصل ... يعني أنا كنت بتعاون مع أخو عدوي هما كانو متفقين عليا من الأول ولا ايه ؟ أنا مش قادر افهم حاجة.

اشتدت أصابعه وهو يعتصر قبضته واشتعل الحقد داخله بأضعاف مغطيا بصيرته ليتلفظ في النهاية بتوعد :
- مش هكون صفوان الشرقاوي لو مقلبتش سعادتك كلها لغم وقهر.
_________________
داخل غرفة حكمت حيث يعمّ الصمت، جلست على مقعدها أمام طاولة خشبية لم تعبأ بترتيبها وعليها بعض الكتب القديمة التي لم تعد تقرأها، وكوب شاي بارد لم تلمسه منذ الصباح.
ارتفع صوت طَرق خفيف على الباب تلاه صوت نيجار وهي تدخل بخكوات رصينة تحمل صينية طعام بين يديها، أغلقت الباب بكوعها ثم تقدمت بثبات ووضعت الصينية على الطاولة أمام حكمت قائلة بتصلب :
- عارفة انك مبتحبيش حد ياكل في اوضته بس حضرتك مكلتيش حاجة من الصبح وبقالك فترة مش مهتمة بصحتك.

ضحكت السيدة باِستهزاء وابتسامة لم تصل لعينيها، ثم رفعت رأسها ونظرت إلى نيجار نظرة ساخرة قبل أن تردّ بصوت مزدان بالتهكم :
- اللي يسمعك بيقول انك خايفة عليا بجد.

زفرت بضيق منها ولكنها تماسكت وحدقت فيها بثبات تُخرج كلماتها بوضوح كأنها رسالة يجب أن تصل كاملة :
- يمكن متصدقيش كلامي يا حكمت هانم أنا صحيح كرهتك في يوم من الأيام وجدا كمان بس مش لدرجة اني أتمنالك السوء انتي مهما كنتي هتفضلي جدة آدم اللي أكتر واحدة بيحبها هي انتي، ومع الأسف احنا مجبرين نتعايش مع بعض عشان هو يكون مرتاح.

قابلت حديثها بالصمت والتجاهل فاِرتسمت على ملامح نيجار أمارات الامتعاض واتجهت نحو الباب فأوقفها صوت حكمت الجاف، والذي حمل في طيّاته نبرة غامضة :
- تعرفي اني أول واحدة عرفت انك حبيتي حفيدي حتى قبل ما انتي بنفسك تكتشفي مشاعرك ليه ؟

تجمدت أصابعها على مقبض الباب والتفتت إليها بحذر تحدجها بعينين مترقبتين. أما الجدة تابعت ببرود يتقاطر من كلماتها  
- وقتها فرحت لأني عرفت هضربك منين وخططت اخلي آدم يتجوز عليكي.

شهقت بذهول عجزت عن السيطرة عليه، كلمات حكمت كانت كفيلة بإشعال الغضب بداخلها لكن الأخرى لم تكن تنوي السكوت فهزت رأسها مضيفة :
- وعلى فكرة أنا عرضت الفكرة دي على آدم عشان يكسرك قدام نفسك ... بس هو رفض.

ابتلعت نيجار جفاف حلقها، جسدها ظل مشدودا في مكانه وعقلها لم يتوقف عن التساؤل. فنطقت بصوت مهتز قليلا :
- ازاي وامتى ده حصل ؟

استندت حكمت برأسها إلى الخلف، وكأنها تسترجع تفاصيل المشهد الذي لا تزال تتذكره جيدا حينما جلبت حفيدها للغرفة وأخبرته بأنها دبرت له عروسا جميلة ومؤدبة لا تخرج عن طوعه وسيرتاح برفقتها من ناحية ويكسر تلك المرأة المخادعة من ناحية أخرى، ظنت حينها أنه سيوافق حالما تضغط عليه بيد أن رد فعل آدم كان غير متوقع.

- قبل ما تتصابي وانتي بتدافعي عنه يعني لما كان بيكرهك، بس آدم اتعصب ورفض الفكرة نهائيً وقال انه مش عاوز يعيش تجربة الجواز من تاني، سواء معاكي ولا مع غيرك.
ساعتها عملت نفسي مصدقاه، ويمكن هو بجد كان صادق بس في سبب تاني خلاه يرفض واللي هو رغم انه كان مجروح ومتعصب منك ومبيثقش فيكي بس في حاجة جوا قلبه منعته يعمل فيكي كده... الحاجة دي هي الحب.

- مش فاهمة انتي ليه بتحكيلي الكلام ده كله دلوقتي.

- عشان تعرفي ان حفيدي راجل مفيش زيه ... ولأن تمسكك بيه رغم كل المشاكل اللي عديتو عليها بتخليني للأسف اعترف لنفسي انه مكنش هيحب واحدة غيرك مهما عملت.

لم تردّ نيجار، فقط ظلت تنظر إليها بصمت وروحها تختلط بمزيج غريب من المشاعر، صدمة، غضب، وحيرة.
حيرة تضاعفت حين عادت حكمت لجمودها ونظرة ذاك الذي يعرف كل شيء، ثم أشاحت بوجهها للنافذة وبرطمت بجمود :
- فياريت تقدري مشاعره ... وتاخدي بالك منه ومتسبيهوش لوحده.

لحظات سكون مرت حتى سمعت صوت غلق الباب فأُزيلت القشرة الصلبة التي كانت تغطي ملامح حكمت وانكمشت تعابيرها تحت وطأة الألم.
وضعت يدها على صدرها حيث كان قلبها ينقبض ويوجعها منذ فترة طويلة ذاك الوجع الذي اعتادت على إخفائه عن الجميع، فأغمضت عينيها المرتعشتين محاولة تجاهل الوهن الذي يتسلل إلى جسدها رويدا رويدا.

أما في الخارج بمجرد اصطدامها بزوجها يقف على مقربة منها لمعت عيناها بوميض خاص به هو فقط وهرعت تلقي رأسها على صدره وتحيطه بذراعيها، فتفاجأ آدم من فعلتها لكنه تمالك نفسه وبادلها العناق هامسا :
- انتي كويسة يا حبيبتي.

تنفست نيجار بحسرة وأجابت عليه بشيء من الدلال :
- هفضل كويسة طول ما انت جنبي.

غلغل أصابعه داخل شعرها وطبع قبلة عليها هادرا :
- متقلقيش ... مفيش حاجة هتفرق مابيننا إلا الموت.
_________________
وجاء اليوم الذي تمنته طويلا...

وقفت ليلى أمام المرآة بفستان زفافها الأبيض كأنها أميرة خرجت من إحدى القصص الخيالية، عيناها تلمعان بفرحة غامرة وقلبها يخفق بعنف بينما يدها تتوتر حين تلامس الفستان غير مصدقة بأن الحلم أصبح حقيقة.

جلست على الكرسي أمام التسريحة، بينما كانت نيجار تعدل طرحتها بعناية وعمتها تقف بجانبها وتبتسم لها برفق.
أما حكمت فتطالعها بتأثر نادرا ما يظهر عليها لأن صغيرتها الجميلة ستذهب لبيت آخر بعيدا عن جناحها ... 

فجأة طُرق الباب ودخل آدم ومراد فهتفت الجدة برصانة :
- تعالو نشوف التجهيزات اللي برا.

خرجت النساء من الغرفة تاركات ليلى بمفردها مع أخويهما تحدجهما بعينين لامعتين لكن أكثر ما أثر فيها هو نظرة آدم لها ... تلك النظرة الممتلئة بالعاطفة والفخر، والممزوجة بشيء من الحنين.

تقدم نحوها ببطء وعيناه تمسحان ملامحها كأنه يستوعب للتو أنها لم تعد طفلته المدللة بل أصبحت عروسا ستنتقل إلى حياة جديدة، وحين وصل أمامها طبع قبلة دافئة على جبينها قبل أن يهمس بصوت مبحوح :
- مبروك ياحبيبتي أجمل عروسة شافتها عينيا.

ابتسمت ليلى ولم تستطع منع دموعها من التلألؤ في عينيها عندما أضاف آدم بصوت خشن يحمل غصة خفية :
- بس كنت بتمنى لو أمي وأبويا حاضرين معانا النهارده عشان فرحتك تكمل.

تعثر خافقها بنبضة مؤلمة وشعرت بأن كلمات أخيها ضربت أعمق وتر في روحها فرفعت يدها ممسكة يده بقوة وهمست بصدق :
- فرحتي كاملة وده لأنك موجود معايا يا ابيه أنا دايما كنت بحسك بابا قبل ما تكون أخويا، كنت دايما حضني وسندي ولما كان تحصلي حاجة كنت حضرتك أول حد يجي في بالي.

شعرت بأصابعه تضغط على كفها قبل أن يرفعها إلى شفتيه ويطبع قبلة خفيفة تحمل وعدا غير منطوق بأنه سيظل دائما موجودا من أجلها، ثم تراجع قليلا وردد بلهجة جادة :
- اسمعيني كويس يا ليلى انتي دلوقتي هتبقي في ذمة راجل غيري أنا وأبوكي صونيه وعامليه بما يرضي الله زي ما بتتمنيه يعاملك، ومتنسيش انك اخترتي محمد بنفسك ووافقتي عليه وانتي عارفة إنه أقل مننا ماديا علشان كده متحاوليش تكلفيه فوق طاقته. اصبري معاه على الحلوة والمرة واعملي بيتك بإيدك، بس...

توقفت كلماته للحظة، قبل أن يتابع بصوت أكثر حزما وعيناه تلمعان بحماية واضحة :
- بس اوعي تيجي على نفسك ولو في يوم محمد زعلك وجه عليكي ولو حسيتي ان الدنيا ضاقت ومبقتش سايعاكي يكفي تقولي اسمي مرة واحدة بس وهتلاقيني قدامك.

ثم تدارك نفسه واستدار نحو مراد الواقف خلفه ليستطرد :
- بقصد ... هتلاقينا قدامك.

ضحكت ليلى رغم دموعها أما مراد فتقدم وقال بصوت خافت مليء بالمشاعر :
- أنا مكنتش معاكي في السنين اللي فاتت ومشوفتكيش وانتي طفلة ولا وانتي بتكبري بس كنت دايما بتمنى لو عندي أخت صغيرة والحمد لله أمنيتي اتحققت.
والنهارده الفرحة مش سايعاني لأن ربنا اداني فرصة أحضر فرحتك وأكون جزء منها.

مدت يدها له كما فعلت مع آدم وابتسمت لهما بعذوبة وصوت متحشرج :
- وأنا فرحتي كملت بوجودكم ربنا يخليكو ليا.

لم تحتج إلى قول المزيد فما إن خطت خطوة للأمام حتى جذبها آدم إلى صدره بحنان ووضع يده على رأسها بينما اقترب مراد أيضا ليطوقهما بذراعيه، احتضناها بينهما كأنهما يحاولان حماية فرحتها من أي شيء قد يعكرها في لحظة صافية وحقيقية، لحظة جمعتهم كعائلة واحدة رغم كل شيء.

***** تم عقد القران وبدأت الاحتفالات وانطلقت الزغاريد معلنة عن هذا الحدث المفرح وجلست النسوة في قاعة منفردة ذات سقف مفتوح ملتهيات بالرقص، أما الرجال فكانوا في الخارج وقد أركبوا العريس على ظهر الحصان وصدعت التهليلات في جو تملؤه السعادة.
وقف فاروق بجوار آدم وهتف بفرحة :
- شوف محمد مبسوط ازاي ياما حلم باليوم ده وأخيرا ربنا استجاب لدعواته.

وافقه الرأي ببسمة واسعة تلاشت تدريجيا حينما لاحظ لجلجة تدور بين رجال العمدة الذي هرع إليه بعد ثوانٍ بملامح مقتضبة لا تبشر بالخير قبل أن يزعزعهم بقوله :
- سليمان هرب في حد ساعده وطلعه من المكان اللي كان محبوس فيه. 
________________
جلس في السيارة يطالع جو الإحتفال من بعيد بعينين تشتعلان حقدا وكُرها، ثم نظر لسليمان الجالس بجواره وقال :
- زي ما اتفقنا عايز الفرح يتقلب غم بس مش عاوزك تموت حد.

استهزأ سليمان منه وقال :
- شكله قلبك حن 

- لا بس بيكفي واحد ولا اتنين يتجرحو أهم حاجة عندي الكل يعرف أن الراجل اللي اتفق مع حكمت وآدم هو اللي خرب الليلة ديه كلها وعرض حياتهم للخطر ... رجالتك فين اتأخروا اوي.

- اهم وصلوا.
توقف سيارات رباعية الدفع وخرج منها رجال ملثمون بأسلحة رشاشة فترجل صفوان ومن خلفه سليمان ثم هتف آمرا إياه :
- زي ما وعدتك اول ما تخلص شغلك هبعتك للمدينة بعيد عن هنا بس لو حصل واتقبض عليك اوعى تجيب سيرتي لأني هخلص عليك بنفسي فاهم ... متنساش أنا ساعدتك ليه.

طالعه سليمان بنظرة غامضة تبعها كلامه :
- مش هنسى ... ومش هخليك تنسى. 

نطق الجملة الأخيرة عندما أولاه صفوان ظهره كي يركب سيارته ويغادر، لكنه توقف على حين غرة عندما شعر برصاصة نارية تخترق ظهره من الخلف فاِتسعت عيناه واحتشدت أنفاسه بألم قاتل ليسقط على ركبتيه وتخرج الكلمات الخافتة بصعوبة من فمه :
- انت ... يا واطي.

- انحنى سليمان عليه وراقب ألمه بغبطة قبل أن يهمس بسخرية :
- انت عارف مشكلتك ايه يا ابن الشرقاوي ؟ انك غبي... الحقد عماك وخلاك مش شايف الحقيقة ... حقيقة ان الراجل اللي رجع بعد سنين عشان ياخد انتقامه من عيلة الشرقاوي والصاوي مش هيرتاح غير لما يحقق الانتقام ويخلص على ولاد العيلتين دول.

فاكرني هصدق وعدك ليا انك توديني المدينة وتحميني .. أنا عارف انك كنت مخطط تقتلني وتاخدني للعمدة على طبق من دهب وتقوله اهو جبتلك جثة الراجل اللي عمل البلاوي ديه ... بس لا يا حبيبي  اللعب ديه أنا لعبتها قبل ما انت تتولد !

- انت كنت ناوي تقتلني من الأول؟

ضحك سليمان ثم وقف ناظرا إليه باِزدراء :
- أنا ناوي أقتل الكل ... النهارده فرح عيلة الصاوي بس هخليها جنازة جماعية، واخلص عليهم كلهم ... وانت موت بكرامتك هنا.

ثم استدار مشيرا لرجاله بالتحرك نحو القاعة بينما ترك صفوان ملقى على الأرض، يتلوى في دمائه ويحتضر.

*** في بضع ثوانٍ انقلب كل شيء وأصبحت الفوضى تعمّ الأرجاء، أصوات الرصاص تتعالى والصراخ يملأ المكان.
آدم يقف في المنتصف عيناه تتسعان بصدمة وهو يرى الهجوم الوحشي، رائحة البارود تختلط بصرخات النساء والأجساد تتساقط واحدة تلو الأخرى والدماء تغطي الأرض...
والقاعة التي كانت قبل دقائق مليئة بالفرح تحولت إلى ساحة حرب !

تسارعت أنفاسه وهو يراقب المشهد أمامه كأنه كابوس خرج من أعماق الجحيم ثم التفت بسرعة يبحث عن مراد بفزع وعندما رآه قبض على ذراعه بقوة هادرا :
- روح جوه شوف الحريم القاعة مفتوحة والرصاص داخل في كل حته.

- وانت هتعمل ايه أنا مش هسيبك لوحدك.

- بقولك روح يلا متقلقش عليا يلا امـشـي !!

اندفع الآخر إلى الداخل بينما رفع آدم مسدسه وأطلق النار بجنون يصيب بعض رجال سليمان لكنهم كانوا أكثر عددا وأكثر شراسة...
دقائق القتال تمر كأنها ساعات الدماء تسيل، والأنفاس تتقطع، ومن سوء حظ آدم أن خزان الرصاص انتهى ولم يكن فصاح بسخط ليصله الصوت الذي جمد كل شيء.

من خلف العمود، حيث صرخ سليمان بصوت مشحون بالحقد :
- اطلع وواجهني يا ابن سلطان ! لو مش عايز الكل يموت.

زمجر آدم بغضب، قلبه يخفق بجنون وقبضته على السلاح ترتجف من شدة الغضب ثم خرج من مخبئه ليقف وجها لوجه مع عدوه اللدود ويصيح بجنون :
- ايه المجزرة اللي عملتها ديه أقسم بربي هموتك بإيديا يا ندل ... ليه عملت كده لـيـه !

رفع سليمان مسدسه بابتسامة متوحشة:
- كنت هقولك موت صفوان الأول لأنه هو اللي طلعني بس خلاص أنا عملتله الازم وهيجي دورك انت .. أخيرا جت اللحظة اللي مستنيها من سنين، هموتك النهارده واخلي ستك تتحسر عليك.

ثم ضغط على الزناد لكن قبل أن تنطلق الرصاصة دوّى صوت طلقة أخرى في المكان !

صرخة ألم مفاجئة خرجت من فم سليمان حين ارتد جسده للوراء وهو يمسك بكتفه الدامي، فتجمد آدم في مكانه ثم التفت بسرعة... ليجد فاروق واقفًا، المسدس لا يزال مرفوعًا بين يديه وأنفاسه متقطعة لكن قبل أن يتنفس آدم الصعداء، تحركت يد سليمان وانطلقت رصاصة أخرى...

رصاصة اخترقت صدر فاروق مباشرة.

توقف الزمن عند آدم وكل شيء تلاشى، لم يعد يسمع شيئًا سوى صوت الرصاصة القاتلة وهي تخترق جسد أعز أصدقائه...
رأى فاروق يترنح فاِندفع نحوه وأمسك به برعب قبل أن يسقط :
- فاروق ! فاروق رد عليا !

لكن فاروق الذي سحبت الحياة من وجهه كان ينزف بغزارة والدماء تتدفق من صدره، يده المرتعشة أمسكت بقميص آدم بقوة قبل أن تضعف فصرخ الآخر بجنون والتقط مسدس رفيقه وبدون تفكير أطلق رصاصة مباشرة في منتصف رأس سليمان ليسقط جثة هامدة،  لكن لم يكن هناك انتصار ... فقط ألم لا يوصف.

عاد بنظره إلى الجسد الراقد بين يديه فقبض على جرحه يحاول إيقاف النزيف وانسابت دموعه رغما :
- متخفش أنا معاك ومش هسيبك استنى اهو مراد جاي دلوقتي ... مراد اطلب الإسعاف بسرعة.

لكن فاروق ابتسم بألم وخرج صوته متحشرجا مختلطا بلوعة الموت  
- اطلب الاسعاف لغيري يا آدم أما أنا ... فخلاص ...

- اوعى اسمعك بتقول الكلام ده انت أخويا، متسيبنيش... متسيبنيش أعيش الوجع ده بالله عليك استحمل الإسعاف جاي وكلكم هتبقو كويسين صدقني بس بالله عليك استحمل شويا بس.

في هذه اللحظة اندفع محمد وتوسعت عيناه برعب وهو يرى أخاه الأكبر ممددا في بركة من الدماء، صرخ باسمه وركع بجانبه ممسكا يده بقوة ويطلب منه التحمل ... لكن الروح التي تنازع لم يعد لها قدرة على ذلك.

نظر فاروق لشقيقه بوجع ثم نقل عيناه الشاحبتين لرفيق عمره وتقطع صوته الذي بالكاد يُسمع :
- انت بتستاهل كل خير ... يا آدم ... عمري ما ندمت لأني ... لأني عرفتك ... خلي بالك من نفسك ... ومن محمد وأمي ... متسيبهمش لوحدهم ...

ثم، ابتسم ابتسامة واهنة، نطق بالشهادتين، وأغمض عيناه للأبد بين يدي آدم...

آدم الذي شعر أن العالم كله انهار فوق رأسه بهذه اللحظة، حدقتاه ظلتا معلقتين بوجه فاروق كأنه ينتظر منه أن يفتح عينيه من جديد، أن يعود للحياة ... لكن من يذهب لا يعود ... ولن يعود ...

ضم رأسه لصدره يحتضنه بقوة كأنه يريد تخبئته داخل ضلوعه بأنين موجوع ... ثم تحولت أناته إلى صرخة ألم مدوية .. صرخة رجل فقد جزءا من روحه

             الفصل السادس والخمسون من هنا

 لقراءة باقي الفصول من هنا


تعليقات