رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الاول1والثاني2 بقلم رحمه سيد

رواية لخبايا القلوب حكايا الفصل الاول1والثاني2 بقلم رحمه سيد

ليلًا.. في احدى المناطق الراقية، تحديدًا بجوار احد اكبر شركات "المقاولات" في القاهرة، كان " فارس ابو الدهب " يغادر شركته بعد انتهاء فترة عمله، ركب سيارته وسار بها مسافة قليلة جدًا في اتجاهه لمنزله، ولكن صوت صراخ قريب أوقفه، ترجل من سيارته وهو يرهف السمع، ثم سار بخفة صوب الاتجاه الذي يأتي منه الصراخ، اصبح في الحديقة القريبة من الشركة، فرأى فتاة ذات خصلات برتقالية قصيرة، تقاوم بينما احدهم يبدو من مظهرهما أنه يحاول التعدي عليها.  
دون أن يفكر مرتان كان ينقض على ذلك الرجل ساحبًا إياه بعيدًا عنها ثم لكمه بقوة وهو يصيح:
-سيبها يا زبالة. 
تأوه الاخر متألمًا ثم حرر نفسه بسرعة وصعوبة من بين يدي "فارس" وفر راكضًا من المكان، فيما كانت الاخرى تذرف الدموع وهي تضم جسدها الرفيع لها بقوة، فاقترب منها فارس قائلًا بخفوت بعد أن تنحنح:
-اهدي يا أنسة. 
رفعت وجهها له فتراءت له عيناها الفيروزية اللامعة كنجمة بهية في جوف السماء ليلًا، وملامح وجهها التي تحمل "نمش" بدا له مميزًا، ثم همست بصوت رقيق مبحوح بعض الشيء:
-شكرًا يا باشمهندس.  
لم يستطع كبت الدهشة التي لاحت من ملامحه وهو يسألها:
-أنتي تعرفيني؟ 
اومأت مؤكدة برأسها:
-أيوه طبعًا، أنا موظفة في شركة حضرتك. 
هز "فارس" رأسه وتابع متسائلًا:
-وإيه اللي أخرك كل دا في الشركة؟
ردت:
-كان في شغل متراكم عليا بخلصه. 
توالت استفساراته:
-أنتي شغالة إيه؟ 
وظلت تجيبه رغم التوتر الذي يلفح كلماتها:
-مهندسة برمجيات. 
هز رأسه وهو يضم شفتاه بأسف مما حدث، ثم أردف بهدوء:
-طب تعالي أوصلك. 
هزت رأسها نافية بشبح ابتسامة ممتنة وهي تمسح دموعها:
-لأ شكرًا لحضرتك مفيش داعي أنا هركب أي تاكسي، أنا مش ساكنة بعيد أوي. 
فخالط الإصرار حروفه وهو يكمل:
-لأ طبعًا، تعالي أنا هوصلك في طريقي يلا. 
نظرت حولها والتردد ينضح من نظراتها، ثم تمتمت في استسلام:
-تمام. 
وبالفعل ركبا معًا السيارة، نظر فارس نحوها وهي تضع حزام الأمان، فوقعت عيناه على جرح صغير بجانب شفتيها يقطر دمًا، مد يده وتناول "محرمة ورقية" ثم مدها نحوها بهدوء بالقرب من وجهها وهو يقول ببحة رجولية هادئة :
-امسحي في دم هنا. 
قالها وهو يشير لها عند طرف شفتاها، فالتقطت منه المحرمة وبدأت تمسحها بالفعل وقد بدأ التوتر يبلغ أقصاها حين شعرت بنظراته المتفحصة مُسلطة عليها، بينما هو يشعر وكأن ذلك النمش في وجهها الأبيض يجبره جبرًا على التحديق به، كم هو مميز وكم لاق بفيروزتيها وخصلاتها البرتقالية... وكأنها لوحة بريشة فنان مبدع! 
تنحنح متدراكًا لمنحنى افكاره، ونظر للجهة الاخرى، هو ليس بغر او مراهق حتى يحدق بها وكأنه يرى امرأة للمرة الأولى، لقد رأى فاتنات بعدد لا يُحصى، ولكن هذه مختلفة.. مميزة! 
أغمض عيناه بقوة متنهدًا، فهاهو يتطرق لمدحها من جديد، فتح عيناه وقرر خلق أي حديث لقطع ذلك الصمت الذي يوحي بأفكار غريبة:
-أسمك إيه؟ 
أجابته بنبرة ناعمة بالفطرة:
-فيروز. 
ربااه لمَ كل شيء متعلق بها مميز ! حتى أسمها وكأنه خُلق ليليق بفيروزتيها اللامعتين.
-ساكنة فين يا فيروز ؟ 
سألها بجدية، فأجابته هي بعنوانها، ثم عقبت:
-بس مايصحش حضرتك توصلني لحد البيت، لحد *** كفاية وأنا هكمل. 
اومأ برأسه موافقًا دون رد، ثم مد يده وشغل الراديو ونظر لطريقه مرة اخرى، فيما كانت هي تسحب شهيقًا عميقًا وتزفره على مهل في محاولة منها لطرد التوتر عن رحابها، فها هي على مشارف انتهاء ما أرادت! 

وصلا للمنطقة التي تقطن بها فيروز، كانت منطقة عشوائية بعض الشيء، فأوقف فارس السيارة، نظرت فيروز نحوه وهي تتمتم شاكرة بابتسامة حلوة تليق بتميز ملامحها رغم الإنهاك النفسي الذي استقر فوقها:
-شكرًا جدًا يا باشمهندس. 
بادلها ابتسامة خفيفة:
-العفوا يا باشمهندسة. 
ثم تشدق بجدية:
-بس ابقي خدي بالك متطوليش في الشركة لوقت متأخر بعد كدا عشان اللي حصلك دا ميتكررش تاني. 
أطرقت رأسها أرضًا في إنكسار لاق بروحها المهشمة في تلك اللحظات وهي تضم ملابسها لها بقوة. 

ثم ترجلت من السيارة تحت انظاره، وتوجهت نحو احد الشوارع لتغيب عن انظاره فهمس فارس ضاحكًا دون وعي لما تسرب من لسانه:
-برتقانة. 
ثم انتبه لنفسه فعادت قسمات وجهه للجدية، لا يجب أن يعطي الموضوع أكبر من حجمه، مجرد صدفة وانتهت! 
** 

بينما بالنسبة "فيروز" لم تكن كذلك اطلاقًا، فقد كانت تنظر نحو سيارته التي غادرت وابتسامة تفوح بالنصر والمكر تزين ملامحها، لقد تخطت عتبة البداية في طريقها، 
استدارت لـ " زياد " الذي ربت على كتفها والذي أنقذها منه "فارس" وما أن رأته حتى بدأت الابتسامة تتشعب في ثغرها، ثم لكزته في كتفه وهي تهتف بينما تتحسس الجرح الصغير عند طرف شفتيها:
-يخربيتك إيدك تقلت بجد يا زياد ولا كأنك كنت بتضربني بجد. 
ضحك "زياد" قائلًا:
-معلش أصلي اندمجت شوية. 
ثم اُزيحت الضحكة عن فمه حين سألها بجدية متوجسًا:
-المهم طمنيني عملتي إيه؟ 
هزت رأسها وهي تتابع بزهو لاوية شفتاها:
-أنت تتوقع عملت إيه؟ 
زجرها بخشونة مصطنعة:
-ما تنجزي يا فيروز، إنطقي عملتي إيه؟ صدق الحوار اللي حصل؟ 
اومأت برأسها مؤكدة:
-أيوه طبعًا يابني، دا أنت عورتني بجد، وإيه أصلًا اللي هيخليه يشك؟! 
أجاب وهو يتنهد بشيء من القلق:
-مش عارف، بس ربنا يستر أنا مقلق من الموضوع كله يا فيروز وخايف عليكي لو اتكشفتي. 
هزت رأسها نافية وراحت تطمئنه بابتسامة هادئة:
-متخافش عليا يا زيزو أنا ادخل في الحديد، وبعدين دا لسة بدري على الخوف دا هو أنا لحقت أعمل حاجة، دي البداية بس. 
-ماشي ياستي، تعالي بقا نجيب فول ونتعشا سوا. 
أضاف بابتسامة صغيرة مشابهه لخاصتها، وما أن كادت تجيب لمحت صديقتهما الثالثة "كارما" وهي تتقدم نحوهما مسرعة، ثم هدرت بوجه فيروز موبخة:
-مابترديش على تليفونك ليه يا مهزقة؟ طمنيني بسرعة عملتوا إيه؟ 
فهزت فيروز رأسها نافية وهي تخبرها:
-لأ زياد يحكيلك بقا، أنا اتأخرت والست الوالدة هتعمل حفلة على شرفي النهارده يسمعها الجيران كلهم لو اتأخرت اكتر، يلا هبقى اكلمكوا.  
-ماشي يلا سلام. 
صعدت "فيروز" البناية التي يسكنوا بها هي ووالدتها وشقيقتها حيث توفي والدها منذ كانت في عمر الأربع سنوات، طرقت باب المنزل وهي تتنظر، ففتحت لها شقيقتها الصغرى الباب بوجهٍ عابس، ثم دلفت لغرفتهما مرة اخرى دون كلام على غير عادتها، عقدت "فيروز" ما بين حاجبيها وهي تسير خلفها متساءلة :
-مالك يا زينة؟ 
ردت بملامح متكدرة:
-مفيش. 
جلست جوارها على الفراش وهي تعاود سؤالها بإلحاح:
-عليا برضو ؟! لا مالك بجد؟ 
غمغمت زينة بتبرم :
-اتخانقت مع ماما، قولتلها نجيب كفته ومرضتش أتعشا جبنة زهقت منها، عملتهالي عريضة وفضلت تزعق وطلعتني معنديش قناعة ورضا وكلام من اللي قلبك يحبه. 
ربتت فيروز على كتفها وهي تواسيها مختلقة العذر لوالدتها:
-معلش يا زينة غصب عنها اكيد الفلوس مقصرة معاها الفترة دي، وأنتي عرفاها بتتضايق وتتخنق لما واحدة مننا تطلب منها فلوس وميبقاش معاها. 
اومأت "زينة" برأسها في صمتٍ ولم تعلق، فيما نهضت فيروز من مكانها وهي تخلع ملابسها بملامح مشدودة اشتدت وطأة القهر عليها وطاف التوعد عينيها وهي تقسم... لن تتراجع عما بدأته. 

                                    ****

على الجهة الاخرى، صعدت "كارما" بعد قليل لمنزلهم، فتحت الباب بالمفتاح بحرص شديد وبطء، ثم دلفت على أطراف أصابعها وهي تتفحص الشقة بعينيها البُنية بحثًا عن "زوج والدتها" ولكن لم تجده، زفرت بصوت مسموع وهي تتمتم:
-الحمدلله إنه لسه مجاش. 
فهي لم تكن ترغب إطلاقًا بوصلة توبيخ لن تنتهي سريعًا، بل لن تنتهي قبل أن يتأكد أنها خرت باكية من فرط التعنيف وكأنه يتلذذ بذلك! 
توجهت لغرفتها مسرعة وهي تلقي نظرة سريعة على والدتها التي كانت بالمطبخ، فقالت برجاء شابه التحذير:
-اوعي تقوليله إني نزلت يا ماما، أنا يادوب كنت بشوف فيروز وطلعت. 
ضيقت والدتها عيناها معلقة:
-فيروز بس؟ 
نفخت كارما بصوت مسموع في الهواء وهي تستطرد:
-فيروز وزياد يا ماما، أنتي عارفة إنهم صحابي من الطفولة ومش هقطع علاقتي بيهم عشان أي حد، وخصوصًا زياد. 
اقتربت والدتها منها، واسترسلت محاولة اقناعها:
-أنتي عارفة إنه خايف عليكي يا كارما من كلام الناس وأنتي كبرتي مبقتيش صغيرة، حتى لو جارك ومن الطفولة زي ما بتقولي.
رفعت كارما حاجبيها معًا وصفحة وجهها تصرخ بعدم الاقتناع والتهكم مصحوب بالاستنكار لما تقوله خاصةً وهي تعلم أن والدتها شخصيًا غير مقتنعة بما تردده نوعًا ما ! 
اومأت والدتها بعدها موافقة على مضض رغم عدم الرضا الذي بدد ثنايا وجهها:
-حاضر يا كارما مش هقوله. 

دلفت كارما لغرفتها، ومدت يدها ببطء وإنهاك وخلعت "سماعة اذنها" التي تضعها معظم الوقت، فهي تعاني من ضعف في السمع تضطر بسببه لاستخدام تلك السماعة. 
جلست على فراشها تقرأ احد الكتب وهي ممدة على بطنها، فالقراءة هي المأوى الوحيد الذي تجد نفسها به، بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي. 
ثم نهضت بعد فترة ووضعت سماعتها، ثم توجهت لخارج الغرفة، فتفاجئت بجرس الباب الذي يرن، ركضت وفتحت الباب فوجدت زوج والدتها الذي سرعان ما زمجر في وجهها بغضبٍ دون داعٍ:
-إيييه كل دا عشان تفتحي، أنتي طرشة ولا إيه!؟ 
ثم إلتوت شفتاه بابتسامة ساخرة قاسية وهو يلفظ جملته التالية الأشد قسوة:
-اااه، ما أنتي طرشة فعلًا، ولا صحيح اللي يخليكي أختك تولع وتموت جمبك وماتحسيش بيها ولا تسمعيها، يخليكي ماتفتحيليش الباب. 
استشعرت "كارما" مرارة الكلمات التي كانت كالعلقم مرر جوفها وسَمَّ باطنها بضراوة ودون شفقة. 
في نفس اللحظة التي ظهرت فيها والدتها ترتدي اسدال الصلاة ويبدو أنها أنهت صلاتها للتو، وكل ما فعلته أنها رمقته بنظرة معاتبة متألمة للذكرى.. فقط! 
ولكن هذه النظرة المعاتبة لم تكن مشبعة ابدًا لجوع كارما للاحتواء واليُتم الذي يلتهم فتات روحها ! 
كادت تركض محتمية بغرفتها، ولكن أوقفها صوته الغليظ :
-استني هنا أنا لسه مخلصتش كلامي. 
استدارت له مرددة بحدة:
-نعم؟ 
-عيسى خطيبك هيطلع يقعد معاكي علشان تحددوا ميعاد كتب الكتاب قريب، اعملي حسابك وافردي وشك قدامه. 
صاحت مستنكرة بشدة:
-إيه! خطيبي!! خطيب مين أنا مش مخطوبة وقولتلكم إني مش عايزه أتجوز. 
واصل نثر غلاظة حروفه وصرامته المعهودة:
-لأ ماهو مش بمزاجك يا حيلة ماما، اللي أقوله يتنفذ، الواد مايترفضش ومتعيبهوش حاجة.
-خلاص روح اتجوزه أنت. 
هدرت كارما في غل من تحكمه المقيت في حياتها، فإتسعت عينا الاخر ونهض ينوي الانقضاض عليها لولا والدتها التي سارعت بالوقوف امامه فتابع صياحه وقد تلبسه الغضب:
-أنتي مش سامعة بتقول إيه. 
-ماتقصدش ياخويا والله هدي نفسك بس. 
غمغمت مبررة بسرعة، ثم نظرت تجاه كارما وتشدقت بحزم:
-ادخلي جوه يا كارما. 
دخلت كارما غرفتها بالفعل لاعنة زوج والدتها وحياتها والأيام التي فرضته عليها حاكم. 
ثم فاضت عيناها دمعًا وتلك الجمرة في قلبها قد ازداد اتقادها بسبب كلماته الضارية، فهي لم تنطفئ ابدًا بل كانت دومًا تحرقها معذبة اياها وكأنها ذكرى ملعونة ستصاحبها حتى الممات! 
فبدأت تتذكر رغمًا عنها ذلك اليوم الذي توفت فيه شقيقتها الصغرى... 
** 
منذ ثلاث سنوات.. 

كانت مازالت طالبة تدرس في كلية الهندسة، خلعت سماعتها التي تؤلم اذنها احيانًا، وبدأت تستذكر دروسها بانسجام، بينما شقيقتها كانت في المرحاض تستحم، مر الوقت وفجأة في ظل اندماجها وجدت باب الغرفة يُفتح عليها واحد الجيران يسحبها من ذراعها بعنف غير مقصود للخارج وهو يردد:
-قومي بسرعة.
فالتقطت معها سماعتها بسرعة وهي تغمغم بخوف:
-في إيه! 
وما أن خرجت معه من الغرفة حتى شهقت بسبب المظهر المريع حيث النيران تلتهم المطبخ والمرحاض، وبدأت في التهام ما تبقى من الشقة، بينما والدتها تصرخ وتنوح بأسم شقيقتها والناس يحاولون اخراجها من الشقة بسرعة، فأدركت حينها أن شقيقتها في الداخل وقد ماتت بين ألسنة النيران! 
ماتت وهي تستنجد بالطبع، ولكنها لم تسمعها.. كانت تلك المرة الأولى التي تعلن فيها كافة مقتها وعدم رضاها لابتلاء ضعف السمع لديها، ربما لو كانت سليمة لكانت استطاعت انقاذ شقيقتها..
ولكن ذبحها صراخ والدتها فتمنت في نفس اللحظة لو كانت فقدته تمامًا فلا تسمع ذلك الصراخ الذي أحسته وكأنه يخبرها أنها السبب جالدًا إياها بأسواط تأنيب الضمير !! 
لم تكن تلك النيران تشتعل في الشقة، بل في منتصف قلبها تمامًا، ظلت ذكرى تغلي وتغلي كالمرجل على مدار الثلاث سنوات السابقة، ولم تستطع اطفاءها اطلاقًا، فأصبح ذلك الحريق جزءًا لا يتجزء منها. 
**

عادت من براثن ذكرياتها وهي تمسح دموعها التي فرت من بين جفنيها، وتنهدت مغمضة العينين تحاول تهدئة نفسها.. 
ثم انتبهت لصوت حركة في "البلكون" خلفها، ابتلعت ريقها بشيء من القلق وبدأت تقترب منها رويدًا رويدًا، وفجأة وجدت باب "البلكون" يُفتح و"عيسى" جارها الذي يود زوج والدتها تزويجها به يدخل، وبسرعة البرق كان يكمم فاهها بيده بقوة.. 
وقف أمامها مباشرةً لا يفصلهما سوى إنش واحد، وأنفاسه الساخنة القريبة تهب على ملامحها مبعثرة ثباتها، مد يده برقة مزيحًا خصلات شعرها الشاردة عند اذنيها، متلمسًا اذنها بإصبعه ببطء يتأكد من وجود سماعتها، اقشعر جسدها من لمسته وثقلت أنفاسها والتوتر يجتاح خلاياها، وفي نفس الوقت أحست بفعلته كقبضة مميتة تعتصر قلبها الملكوم بجرحه النازف فتزيده نزيفًا، والخوف بدأ يحتل قمم عينيها وهي تحاول تحرير فمها من قبضته، همس بصوت يكاد يُسمع:
-هشيل ايدي وماتطلعيش صوت. 
وبالفعل ازاح كف يده ببطء، فهدرت فيه بحدة منخفضة النبرة:
-أنت عايز مني إيه؟! 
هز كتفاه ببساطة استفزتها:
-مش عايز منك حاجة. 
رمقته بنظراتٍ متعجبة، ثم استدارت مسرعة تركض نحو الباب، لحق بها "عيسى" مسرعًا فحُشرت تلقائيًا بين جسده من خلفها والباب أمامها، عَلى صوت تنفسها وهي تشعر بانهيار ثباتها الوشيك، ولكن ليس خوف.. لا بل ذلك الاعجاب الذي اقتنصه "عيسى" دون شعور منها، ثم أتى الان وبدأ يُداعب باقترابه نبتة الاعجاب التي حاولت كارما اقتلاعها، مثيرًا فيها مشاعر لحظية غير مرحب بها اطلاقًا. 

راح يُكمل جوار اذنها بنبرة خشنة لها رنين مثير لقلبها:
-متخافيش مني يا كارما. 
استدارت ببطء بعد أن ابتلعت ريقها تحاول بث الشجاعة في نفسها، فتشدق بـ:
-وأسمعي اللي هقوله كويس.  
أنصتت له في ترقب وقلبها ينبئها أن القادم لن يعجبها على الاطلاق... 
** 

صباح اليوم التالي.. 

كان "عيسى" يقف في المتجر الخاص به صباحًا، ظهر أمامه "جاد" زوج والدة كارما الذي اقترب منه حتى صغرت المسافة بينهما، وهتف بصوت خفيض:
-ها إيه الأخبار طمني؟ 
هز عيسى رأسه بثقة وعينين لامعتين بالمكر والدهاء:
-كله تمام متقلقش، عملت اللي أتفقنا عليه، وهنكتب الكتاب قريب. 
برقت عينا الاخر دهشة وفرح في آنٍ واحد وهو يسأله مستنكرًا:
-بجد؟ أنت متأكد يا عيسى؟ 
-هو أنا ههزر في حاجة زي دي برضو يا حاج جاد. 
واصل عيسى معاتبًا والزهو يرج أركان ملامحه ونظراته، فحذره "جاد" :
-الموضوع ميتحملش أي احتمالات غير تنفيذ اللي أحنا عايزينه يا عيسى، الشيلة المرادي تقيلة وغير أي مرة. 
ربت عيسى على كتفه وأضاف بجدية يطمئنه:
-عارف، بس أنت عارف برضو إن مفيش عملية بدخل فيها وبتفشل، أنا عيسى الشاذلي! 
انطلقت الابتسامة من بواطن قلب "جاد" التي كانت مُلبدة بالقلق والتوجس، وراح يردد:
-عفارم عليك يا عيسى، كنت عارف إن مفيش حد هيخلص الموضوع دا غيرك. 
الفصل الثاني : 

صباحًا، كان فارس يتناول افطاره كعادته في احدى الكافيهات القريبة من النيل، والتي تطل على مظهر يجعل قلبه ينشرح وتغدقه شمس الأمل والتفاؤل والراحة النفسية.

انتهى ونهض يضع بعض الاموال على الطاولة، وكاد يتحرك ولكن أوقفه لوهله ظهور اخر شخص تمنى رؤيته، حيث " نغم" طليقته السابقة، كانت بالقرب منه ويبدو أنها رأته قبل أن يراها، أحس أن كل الراحة النفسية التي كان يلتمسها فرت ادراج الرياح لمجرد رؤية تلك النغم! 
تحرك بعد أن رمقها بنظرات تصرخ بمقته واشمئزازه، ولكنها سارعت بالاقتراب منه وهي تناديه:
-فارس استنى. 
إلتفت لها ولم تتبدل نظراته بل ازداد اتساع قاعها المليء بالنفور، فوقفت هي امامه وهتفت بنبرة بدت له لزجة:
-إيه مالك مشيت بسرعة أول ما شوفتني وكأنك شوفت عفريت ليه؟ 
-دا العفريت أرحم. 
بصق الرد التلقائي بوجهها فاتسعت عيناها ذهولًا من اعلانه لنفوره وحقده بهذه الطريقة، فقد عرفته دومًا على أنه شخص لبق لطيف وهذا ما جذبها له في البداية. 
عقدت ما بين حاجبيها وهي تعاتبه ببجاحة لم يفطن مصدرها:
-مش فاهمة أنت بقيت بتحقد عليا ومش طايقني كدا ليه، مع إن اللي عملته عادي، وطبيعي أي واحدة مكاني تقرر هتقدر تتنازل عن الأمومة او لأ، وأنا دي بالذات مش هقدر عليها سوري يا فارس. 
ضغطت وبقسوة على جرح قلبه ورجولته النازف، فـ خر ذلك النزف على حروفه الهوجاء وهو يزمجر فيها:
-مش طايقك علشان واحدة قليلة الأصل ومادية وحقيرة، كنت بتجاهل كل عيوبك وجشعك ولو كان العيب عندك كمان كنت هستحمل ونحاول عشان أنا أصيل. 
رفعت كتفاها معًا ببرود تحاول به مداواة كبريائها الذي جُرح للتو:
-بس الحمدلله العيب مش عندي، أنا من حقي أبقى أم وأعيش حياة طبيعية من غير نقص. 
أردف فارس من بين أسنانه بلهجة غليظة:
-عمرك ما هتعيشي من غير نقص، لأن النقص أصلًا جواكي. 
ثم غادر المكان تاركًا إياها خلفه تكز على أسنانها بحقدٍ دفين، وكأن عاصفة هوجاء مرت مبعثرة خلفها ذرات الهواء حتى. 
ركب سيارته وهو يتنفس بصوت مسموع، بدا وكأنه يحاول نفث نيران الغضب التي إلتهمت دواخله، فبعدما جاهد ليلملم رماد كرامته وكبريائه جاءت هي برياحها العاتية وهبت ناثرة كل ما لملمه لتتركه يشعر بالخواء فقط...! 
ضرب على المقود عدة مرات وهو يصرخ بجنون طالقًا تلك الآهه المتحشرجة التي علقت بجوفه ممزقة إياه. 

                                  **** 

بعد قليل.. 

استطاع فارس استعادة ولو قليل من ثباته الذي أفقدته إياه، وتوجه نحو شركته كالمعتاد، اتجه للمصعد مباشرةً، وقبل أن يُغلق باب المصعد كان احد الرجال الاداريين في الشركة، يقف بسرعة على أعتابه حتى لا يُغلق، وينظر لـ "فيروز" هاتفًا يحثها على القدوم:
-يلا يا فيروز أطلعي طلعي الورق زي ما قولتلك. 
هزت فيروز رأسها نافية وهي تنظر للمصعد بخوف وكأنه وحش كاسر سينقض عليها في التو ! 
وتمتمت بحروف زهقها الارتياع:
-لا بخاف والله يا استاذ دياب.  
زجرها الاخر مشددًا على حروفه في صرامة:
-مينفعش الورق يتأخر دقيقة كمان يا فيروز، وأكيد مش لسه هتطلعي 10 ادوار بالسلم، يلا اتحركي بسرعة بلاش دلع بقا. 
حينها تدخل فارس الذي كانت الشياطين تتقافز أمام عينيه، وكأن الدنيا من أمامه أصبحت باللون الأحمر، هادرًا فيها بحدة:
-هنقعد نتحايل على حضرتك اليوم كله ولا إيه يا أنسة! دا مش أسانسير للموظفين أصلًا دا للإداريين بس، وأنا ساكت احترامًا لوجود استاذ دياب، فياريت بلاش عطلة. 
انتفخت اوداج فيروز بالغيظ وتلبسها مارد العناد فتحركت بلحظة لتصبح داخل المصعد، فلوى فارس شفتاه متمتمًا دون صوت:
-دلع ماسخ! 
اُغلق الباب وبدأ المصعد يتحرك بالفعل، ثقلت أنفاس فيروز وبدأت تشعر أن جدران صدرها تضييق حتى لم يعد هناك مجال للتنفس، دون وعي وضعت يدها على ساعد "فارس" الذي انتبه لتوه لحالتها متفاجئًا من الاعياء الذي فرش بساطه محتلًا ساحة وجهها، وانطفاء الحياة في عينيها الفيروزية وتصاعد بدلًا منها دخان الهلع. 
أمسك ذراعها وكأنه يثبتها حتى لا تخر ساقطة ارضًا، وسألها بصوت بدأ الندم يلفحه:
-أنتي كويسة؟ أنا فكرت إنه خوف عادي ودلع. 
-فوبيا، عندي فوبيا، خرجني. 
غمغمت بها بحروف متقطعة وكأنها تجاهد لإخراجهم، فأحاط فارس ذراعيها معًا بحركة مباغتة لم تمر على عقله الصلد، وبدأ يمسد على ذراعيها برفق وبشيء من الحنو يهدهدها وكأنها طفلته الصغيرة:
-اهدي واتنفسي، أحنا خلاص وصلنا دي دقيقة وأقل من الدقيقة كمان. 
وبالفعل فُتح باب المصعد، فبدأت تتنفس الصعداء مغمضة عيناها، تشدق فارس يناكفها:
-أنتي إيه حكايتك كل شوية ألحقك من حاجة، حد قالك إني السوبر هيرو بتاع الشركة دي؟ 
ضيقت عيناها وهي ترمقه باستنكار مُبطن، ثم تابعت في حنق:
-وهو مين السبب؟ لو ماكنتش..... 
وبقيت جملتها معلقة كالتي استوعبت للتو أنه "مديرها" في العمل وليس صديق طفولتها زياد! 
عضت على شفتيها في غيظ ونظرت للاتجاه الاخر، فتدلت الابتسامة على ثغر فارس الذي استطرد مشاكسًا:
-وإيه كمان ؟ كملي كملي ماتكتميش في قلبك ليجرالك حاجة. 
نظرت فيروز ارضًا، ثم رفعت رأسها ببطء بعد ثوانٍ وقد تخضبت قسماتها بالمسكنة وهي تتشدق:
-أنا أسفة يا باشمهندس دا بس من ضغط الموقف اللي اتعرضتله دلوقتي. 
أوشكت الاجابة على تخطي شفتاه، ولكن نظرة احد الموظفين له وهو يقف ليدردش مع مجرد موظفة عادية في الشركة، وعلى غير طبعه!
جعلت الاجابة تتراجع لمسكنها من جديد، وتنحنح قائلًا بصوت أجش آمر:
-اتفضلي روحي على شغلك. 
ثم تحرك مغادرًا المكان تاركًا إياها رافعة حاجبيها بغيظٍ ملحوظ من التحول الذي أصابه، فقد كانت تحاول شغل تفكيره بردود أفعالها المباغتة باختلافها، ولكن اتضح أنه هو الذي فعل وباغتها.
**
توجهت بعدها لاحد المكاتب حيث يعمل "دياب" الذي ساعدها منذ قليل، وما أن دخلت وأغلقت الباب خلفها، أردفت متأففة:
-هو مفيش أي حل اتنقل اشتغل فوق معاه؟ كدا مش هينفع. 
هز رأسه نافيًا وهو يرسخ اقدام العقبة التي تمنت فيروز ازالتها:
-منا قولتلك يا فيروز من الأول إن الموضوع صعب وإن فارس ابو الدهب مش شخص عادي. 
بلحن صوت قانط أكملت:
-بس أنا كدا محتاجالي سنتين تلاتة عشان أعمل اللي أنا عايزاه. 
رفع الاخر كتفاه معًا وهو يؤكد:
-أنتي مضطرة تستحملي للأسف، قوانين الشركة هنا صعبة ومفيهاش وسطات. 
بدأت تبوح بمخاوفها، متذكرة اصطناعها الرعب والتظاهر أنها لديها فوبيا ! 
وكيف كانت كانت دقات قلبها مهتاجة وفي حالة رثة من الهلع، ولكن ليس بسبب المصعد، بل خشية ازاحة ستار الخداع عن عيني "فارس" واكتشافه لكذبها.. 
-أنا خايفة يبتدي يشك إن أنا بعمل المواقف دي عن قصد، دا لاحظ إنه أنقذني كذا مرة! 
صمت "دياب" ولم ينطق، وارتسم الخوف على بقاع معالمه، فأدركت هي مغزى ذلك الخوف، ربتت على يده متمتمة:
-متقلقش كل حاجة هتكون كويسة. 
-فيروز أنتي لازم بعد كدا تظهري قدام فارس بطريقة غير مباشرة ومش مقصودة ولازم تاخدي بالك إن فارس ذكي جدًا. 
حذرها بشيء من الحزم، فهزت رأسها موافقة وهي تسير مغادرة، تحاول تبديد ذلك الشعور بأن الطريق طويل وصعب امامها، بل ومليء بالأشواك. 

                                     ****

في المنطقة التي تقطن بها "كارما" ، تحديدًا أسفل البناية التي يسكنوا بها، كانت كارما ووالدتها تنتظرا قدوم "عيسى" حتى يذهبوا لشراء الذهب ويقوموا بتأيجر الفستان الذي ترتديه كارما في حفل عقد القران الصغير، ولكن لم يطول تأخره حيث أتى معتذرًا بلباقة:
-معلش غصب عني التأخير. 
هزت حماته رأسها نافية بابتسامة:
-ولا يهمك يا حبيبي عادي بتحصل. 
فيما ألقى "عيسى" نظرة تجاه كارما التي تنظر في الجهة المقابلة بعيدًا عنه، وكأنها ترفض حتى مجرد النظر، ولكن ليس نفور كما فسره عيسى، بل توجس.. وكأن بمجرد أن تداعب صورته عدستيها ستخونها مشاعر الاعجاب داخلها وتثمر عن اخرى اشد لوعة وتطلب! 
اوقف سيارة اجرة وهو يشير لكارما بالدخول، فركبت دون كلام، ثم اشار نحو حماته متابعًا:
-اتفضلي يا حماتي. 
هزت رأسها نافية بإصرار قائلة:
-لا لا أنا هركب قدام مبحبش أركب ورا أصلًا، أركب أنت جمب كارما. 
هز عيسى رأسه نافيًا وكاد يعترض، ولكنها مزقت اعتراضه بحدة حروفها الظاهرية:
-خلاص بقا يا عيسى الراجل مش هيفضل مستنينا كتير، اركب جمب كارما يلا الله يرضى عنك. 
هز عيسى رأسه موافقًا على مضض، وبالفعل ركب جوار "كارما" التي إنكمشت على نفسها، تلعن إصرار والدتها التي تعتقد أنها هكذا تضمن لها بناء عشًا من السعادة، ولا تدري أنها تدفعها نحو هاوية اللاعودة... هاوية العشق! 
سيطر الصمت على الدقائق التالية، حتى بدأ النوم يشن حصاره على جفون "كارما" فأغلقت عيناها ببطء رغمًا عنها، ومالت رقبتها بتلقائية مستندة على كتف "عيسى" الذي كانت الذبذبة العاطفية من نصيبه هذه المرة، ذبذبة قوية لمكنونات أحاسيسه تسببت بإزالة قشرة اللامبالاة والثبات الاولى، ونقلته إلى مرحلة اخرى.. ونظرة جديدة.. وشعور مختلف! 

لم يشأ أن ييقظها، وفضل استكشاف تلك المرحلة الشعورية الجديدة التي زجه بها القدر، كطفل يخطو خطواته الاولى عابثًا بكل ما حوله ليستكشفه، فرفع إصبعه ببطء يزيح تلك الخصلة عن وجهها... متأملًا ملامحها الصغيرة التي تحمل قدرًا ملحوظًا من الطيبة والبراءة معًا. 

لم تتركه كثيرًا في غمرة احساسه الجديد الذي يعيشه، وفتحت عيناها حين اهتزت السيارة، لتجد نفسها وقد مالت رأسها على كتفه، تجمدت للحظات ببلاهه تسأل نفسها تراه ماذا يكون رد فعلها ؟! 
ثم غمغمت بلهجة أشد بلاهه:
-إيه اللي أنت عملته دا ؟ 
رفع حاجبه الأيسر متمتمًا والتهكم يسطو على حروفه:
-والله؟ 
ثم قرر العبث معها قليلًا، فمال نحوها بالقرب من اذنها، مستمتعًا برؤية تلك الانتفاضة العاطفية في عينيها، وخرج همسه التالي برنين رجولي مميز يخصه وحده:
-فعلًا تقتلي القتيل وتمشي في جنازته، تتحرشي بيا وتحضنيني وتمسكي فيا وبعدين تقوليلي إيه اللي أنت عملته دا ! 
إتسعت عيناها حرجًا وتدرجت الحمرة لوجنتيها ببطء:
-يا راجل، أنا عملت كدا؟ مستحيل.
اومأ مؤكدًا برأسه، مضيقًا بين حاجبيه ببراءة لم تتناسب كليًا مع العبث والمشاكسة التي سادت كلماته:
-أيوه أنتي، خدشتي حيائي وأنا اللي عمر ما واحدة استجرأت تمسك فيا المسكة دي وتنام على كتفي. 
جزت على أسنانها في حنق وهي تستدير بوجهها للجهة الاخرى وقد استفزها أن تكون تسليته، بينما هو ابتسامة توسطتها أنياب المكر اعتلت ثغره وقد راقه العبث معها ومشاكستها كثيرًا. 

بعد أن انتهوا من شراء الذهب الذي يتم شراءه لكل عروس كهدية من عريسها، توجهوا نحو احدى المتاجر لشراء او تأجير فستان عقد القران.. 

وصلا بعد فترة ليست بكبيرة للمتجر، وبدأت كارما بالفعل ترتدي وتجرب بعض الفساتين تحت إصرار من والدتها التي أرادتها أن تعيش كل شيء كأي عروس رغم أنها لن تقيم زفاف. 

وبينما كانت "كارما" تقوم بقياس احد الفساتين، وينتظرها في الخارج عيسى ووالدتها، سمعوا صوت مشاجرة نسائية عنيفة بالخارج وتقريبًا أمام المتجر، استعرت انتباه كافة الموجودين ومن بينهم العاملات بالمتجر فخرجوا جميعهم ووالدتها ايضًا ليروا ما سر تلك المشاجرة.. 
بينما عيسى لم يتقدم كثيرًا كونها مشاجرة نسائية واكتفى بالوقوف على عتبة المتجر، وفجأة سمع صرخة قصيرة انطلقت من جوف "كارما" والتي لم ينتبه لها سواه تقريبًا لأنه كان الوحيد الذي لم يخرج من المتجر فعليًا، فركض دون تفكير تجاه المكان الذي تقيس به كارما، فوجدها تتشبث بفستانها بقوة وكأنه سيحميها، وتردد بذعر:
-بورص، في بورص بص فوق اهوه. 
رفع موسى عيناه له ثم أنزلها ببرود وكأن الصدمة أثلجت القلق الطبيعي الذي استدرجه لهنا راكضًا، وعلق ساخرًا:
-أنتي صرختي عشان شوفتي بورص؟ 
-على أساس إنه ابن خالتي يعني! دا أول مرة أشوفه وبعدين أفرض وقع عليا؟ 
صاحت به في تذمر بينما عيناها تتكلف بمهمة مراقبة ذلك البرص الذي كان بالنسبة لها وحش دموي! 
تجاهل عيسى ما تقول، وسألها:
-أنتي قيستيه خلاص؟ 
اومأت برأسها وهي تعود للنظر للفستان مؤكدة:
-ايوه قيسته، جميل. 
بدا عيسى وكأنه انتبه للفستان في تلك اللحظات، فتأمله وتأمل رقته التي لاقت كثيرًا بها، وهمس مبديًا إعجابه بالفستان صراحةً بينما يقترب ببطء تلقائيًا:
-جميل فعلًا. 
بمجرد أن اقترب منها انتفضت دقات قلبها العذري من جديد في ثورة عاطفية صارت تتردد بين أنحاء صدرها مؤخرًا بعد أن قمعتها طويلًا ! 
وما أن أصبح أمامها حتى صرحت مزمجرة:
-لأ، أنا مش هكمل مش هتجوز. 
لا يمكنها.. ظنت أنه مجرد اعجاب ستجيد التحكم بخيوطه، ولكن مع الوقت وكلما كانت بالقرب من عيسى تكتشف أنها هشة اكثر من أن تفعل ذلك، ولن تستطع المغامرة بهكذا شيء والعدو فيما يحدث وكأنها لا تنتبه لتطور تلك اللعنة المسماه بإعجاب! 

بينما عيسى قست معالمه وهو يواصل مستنكرًا وقد لامست الحدة أطراف حروفه:
-يعني إيه، هو لعب عيال ولا إيه؟ أنتي ناسية اللي قولناه ولا إيه؟! 
هزت رأسها نافية وهي تعترف بصدق:
-لأ مش ناسية، بس مش هقدر، مش هقدر فعلًا. 
جذبها عيسى فجأة من خصرها بقوة نحوه حتى اصطدم جسدها الغض به، ضغط على خصرها برفق وراح يسترسل فيما كانت عيناه تبرق بصلابة وإصرار أخافها بعض الشيء:
-إنسي، مش بمزاجك، أحنا مش بنلعب! الجوازة دي هتتم. 
حاولت كارما تحرير نفسها من بين ذراعيه، ولكنه شدد على خصرها مرة اخرى مستعيرًا نظراتها من جديد وأضاف بنبرة قاسية تطوف على السطح لأول مرة:
-أنتي مفكره إنك لو روحتي قولتي لجوز أمك أنا خلاص غيرت رأيي ومش هتجوز هيقولك طبعًا حاضر يا حبيبتي! 
صمت برهه يهز رأسه نافيًا وواصل:
-تبقي ساذجة لو فكرتي كدا، وأنا مكنتش مفكرك ساذجة يا كارما. 
أحست كارما أن كلماته الصلدة ما هي إلا صفعات الحقيقة التي تجاهلتها معلنة تراجعها في بداية ذلك الطريق المُعتم. 
دفعته بعنف بعيدًا عنها وهي تهدر فيه:
-أطلع برا. 
لم يضغط عليها عيسى أكثر وإنسحب وهو يزفر بصوتٍ عالٍ، لم يكن يرغب أن يصل معها لهذه النقطة، ولكنها مَن أرغمته على ذلك، فهو لن يسمح لها بالتراجع، سيكتمل ما يريد حدوثه! 

                                     ****

اليوم التالي صباحًا في شركة المقاولات.. 

كان "فارس" في الأسفل حيث البهو الواسع للشركة في وجهة باب الدخول، ينتظر وصول شريكه الذي يأتي من سفر دام شهران تقريبًا، فهذه طبيعته يسافر لدبي متابعًا فرع الشركة الاخر هناك ويظل شهران او اكثر، ثم يعود مصر شهر وهكذا.. 

وبالفعل وصل شريكه بعد قليل، فرحب به فارس متلقفًا اياه بين أحضانه وبعد ترحاب ومودة خلقتها العشرة بين الطرفين، بدآ يسيرا معًا لداخل الشركة، بينما فارس يسأله:
-إيه اخبار فرع دبي؟ ماشي الدنيا تمام؟ 
فأكد الاخر بثقة:
-زي الفل يا ابو الفوارس، متقلقش. 

في نفس الوقت وعلى بُعد خطوات ليست بعيدة كثيرًا، كانت فيروز تسير حاملة بين يديها كوب القهوة الذي أعدته لنفسها لتعالج الصداع النصفي الذي يكاد يفتك برأسها، ولكن فجأة تصنمت مكانها لثوانٍ معدودة ما أن رأت شريك فارس، والذي كان أخر شخص تمنت رؤيته على الأقل حاليًا. 

ركضت دون انتظار لحظة اخرى مسرعة تختفي عن عينيهم، ولكنها لم تنتبه لتلك النظرات الصقرية التي كانت تتابع هروبها........
يتبع 
                    الفصل الثالث من هنا

تعليقات