رواية وميض اللقاء بقلم ايه شاكر
الفصل الثاني
-أكيد صدفة... أكيد... لا يعلم الغيب إلا الله...
أطبقت يدها على فمها لبرهة ثم غمغمت:
-مش ممكن اللي بيحصل ده! إيه؟ لا بجد فيه ايه؟ مين الشاب ده!!!
تنفست الصعداء ثم انطلقت إلى منزلها بخطوات سريعة، وهي تتساءل كيف يمكن أن تتطابق التفاصيل بهذا الشكل؟ وهل يمكن حقًا لدفتر قديم أن يحكي مستقبلها؟
هزّت رأسها بقــوة، محاولة طرد الفكرة، وكررت أكثر من مرة:
-لا يعلم الغيب إلا الله... لا يعلم الغيب إلا الله.
توقفت أمام بوابة منزلها ذات الطلاء الأخضر المتقشّر من الجوانب، دفعتها برفق، فصدر منها صوت احتكاك خافت، يشبه الأنين.
دخلت إلى الفناء الداخلي الذي تظلله شجرة جوافة قديمة، تتناثر أوراقها اليابسة على الأرضية، وتحمل رائحتها الذكريات.
صعدت درجات السلم الحجري العريض، الذي تآكلت حوافه بفعل الزمن، حتى وصلت إلى شقة الجدة في الطابق الأول...
تسللت إلى الداخل بهدوء، هرولت نحو الدفتر والرسائل، ضمتهما إلى صدرها وكأنها تحمي سرًا خطيرًا، ثم خرجت بحذر، أغلقت الباب برفق، وواصلت صعودها إلى شقتها في الطابق الثاني.
وعند قمة الدرج، قابلتها والدتها، مرتدية جلبابًا بسيطًا، وشعرها مرفوع بإهمال، وعيناها تحملان لمحة من الفضول.
سألتها بنبرة عادية، لكن بنظرة فاحصة:
-كنتِ فين يا رهف؟
ارتبكت «رهف» للحظة، لكنها سرعان ما أخفت الدفتر خلف ظهرها وأجابت بسرعة:
-كـ... كنت في شقة تيته.
حاولت أن تبدو طبيعية وهي تكمل طريقها نحو غرفتها، بينما عينا والدتها تابعتاها بشك خفيف، قبل أن تهز رأسها وتدخل الشقة خلفها ثم تغلق الباب تزامنًا مع إغلاق «رهف» باب غرفتها...
ألقت بجسدها على الفراش، وقلبها لا يزال ينبض بقــوة.
دست الدفتر تحت الوسادة، وأغمضت عينيها للحظة، محاولة تهدئة خفقات قلبها.
لكن لم يمر سوى ثوانٍ قبل أن يُفتح الباب فجأة، مصحوبًا بصوت ارتطامه بالحائط، واندفعت منه أختها الأصغر منها بعامين «رنا»، يليها الأخرى الأصغر منها بخمس سنوات «ريماس»، تتسابق أقدامهما على البلاط البارد، وضحكاتهما تملأ الغرفة.
قالت «ريماس» بحماس، وهي تلوّح بلوحة ملونة:
-رهف! تعالي نلعب السلم والثعبان! لسه شارياها النهاردة وأنا راجعة من المدرسة.
ثم أضافت «رنا» بتوسّل وملامحها تفيض شوقًا:
-يلا يا رهف، ملعبناش سوا من زمان.
ارتسمت على شفتي «رهف» ابتسامة باهتة، لكنها سرعان ما تلاشت وهي تشعر بنبضات قلبها تتسارع مجددًا... حاولت إخفاء توترها وهي تقول:
-مش دلوقتي... سيبوني بس لوحدي شوية.
قطبت «ريماس» حاجبيها بإحباط، وتقدمت نحوها بخطوات بطيئة تسألها:
-مالك؟
كان سؤال لكن فتره عقلها بطريقة خاطئة فحين وقع اسم «مالك» على قلبها أثار داخلها شيئًا غريبًا، ربما خوف تلك المرة!
انتبهت «رهف» لتحديق أختيها بها فردت بنبرة حادة، لم تقصدها:
-قلت سيبوني لوحدي.
تبادلت الأختان نظرة سريعة، ثم ضيّقت «رنا» عينيها بمكر، واقتربت منها بحذر، ثم همست وهي تميل نحوها:
-مخبية إيه؟
ازدردت «رهف» ريقها واعتدلت في جلستها بسرعة، شعرت بحرارةٍ تتصاعد إلى وجهها وهي تتحسس الوسادة خلفها، حيث أخفت الدفتر بعناية.
لكنها ابتسمت ابتسامة مرتبكة وقالت محاولة تغيير الموضوع:
-هخبي إيه! بـ... بطلوا تطفل بقى، روحوا العبوا لوحدكم.
-براحتك... هنروح نلعب مع ماما وبابا، وخليكي إنتي متقوقعة على نفسك.
قالتها «رنا» بتهكم وخرجت، ثم تبعتها «ريماس» بعدما مطت لسانها لرهف، وأخيرًا أغلقتا الباب خلفهما بصوت مكتوم فزفرت «رهف» أنفاسها بارتياح، وكأن ثقلًا زال عن صدرها.
انتظرت لحظة للتأكد من رحيلهما، ثم مدت يدها ببطء تحت الوسادة وأخرجت الدفتر.
حدّقت فيه بشغف يتخلله الخوف؛ شغفٌ لاكتشاف الأسرار، وخوفٌ مما قد تُخبئه الصفحات.
مرّرت أصابعها بحذر على جلد الدفتر القديم، كان خشن الملمس، يحمل آثار الزمن بوضوح...
فتحت الغلاف بحركة بطيئة، فتسللت رائحة الورق العتيق إلى أنفها، رائحة اختلطت بذكريات لم تعشها لكنها تشعر بها بعمق غامض.
تخطت الصفحات الأولى بتردد، تجاوزت اللقاء الأول والثاني، حتى وصلت إلى الصفحة الثالثة...
بدأت الكلمات تتراقص أمام عينيها:
"إلى كل من يقرأ هذه السطور... قد تكون قصة حب، أو ربما مجرد حكاية عابرة، لكنها بالتأكيد درب من دروب القدر..."
تسارعت أنفاسها، وأكملت القراءة بفضول جامح:
"كنتُ شابة حينما رأيته للمرة الأولى، عيناه كانتا مليئتين بالوعود، لكنه... خذلني."
شعرت «رهف» بوخزة في قلبها، وكأن الكلمات اخترقت أعماقها، ورددت بتعجب:
-خذلني!! يعني هو مش جدو؟
رفعت عينيها عن الصفحة، وحدّقت في الفراغ أمامها...
هل يمكن أن يكون هذا مجرد حكاية قديمة؟ أم أنها بداية لشيء أكبر... شيء ينتظرها؟
تابعت القراءة بعيون متسعة، وأنفاس محبوسة:
"بعد أشهر من النظرات والابتسامات العابرة، تمت خطبتنا... مرّ عام كامل ونحن نتجهز للزواج، نجمع الأموال سويًا، وكنت أساعده دون علم والديَّ... أعطيته من ذهبي ومالي ما يكفيه... ليختفي هو وحبه بين يوم وليلة... بحثت عنه في كل زاوية، سألت كل من يعرفه، لكن لا أحد كان يملك إجابة... وكأن الأرض ابتلعته... لقد خذلني."
توقفت «رهف» عن القراءة، وشعرت بوخزة مؤلمة في قلبها، وكأن الجدة تصرخ بألمها عبر الزمن...
هل يعقل أن يكون ما حدث للجدة مجرد صدفة؟ أم أن القدر يعيد نفسه؟ لا تدري كم مر من الوقت وهي شاردة، تخشى أن تقرأ باقي الصفحات، والتساؤلات تدور في رأسها...
دوى طرق خفيف على الباب، فانتفضت وأغلقت الدفتر بسرعة، وهي تحاول السيطرة على ارتعاش يديها...
تردد صوت والدتها من خلف الباب، بنبرة دافئة لكنها متعبة:
-يلا يا رهف العشا جاهز... محدش بيساعدني في البيت ده خالص.
أخذت «رهف» نفسًا عميقًا لتعيد نفسها إلى الواقع، وردّت بصوت متماسك:
-حاضر يا ماما، جاية حالًا... وهغسلك المواعين بعد ما نتعشى يا ستي.
وضعت الدفتر في حقيبتها، ثم دفعتها بعناية إلى عمق مخدع ملابسها، وكأنها تخفي سرًا لا يجب لأحد معرفته.
ألقت نظرة أخيرة على المكان، لتتأكد من عدم ظهور أي أثر للدفتر، ثم فتحت الباب وخرجت.
********
جلست على المائدة بين أختيها، وصوت الملاعق والأطباق يملأ الصمت.
حاولت الاندماج في الحديث العابر، لكن عقلها ظل عالقًا بين السطور القديمة...
كانت ترى وجه الجدة في مخيلتها، وعينيها اللتين تملؤهما الدموع...
ابتلعت لقمة بصعوبة، وعاد صدى الكلمة يتردد في ذهنها:
"خذلني..."
انتشلها من شرودها صوت «ريماس» وهي تقلب قطع الطعام في طبقها:
-ليه دايمًا بتروحي شقة تيته؟ المكان ده بيخوف!
كادت «رهف» أن تختنق بلقمتها، لكنها سرعان ما تماسكت وابتسمت بحنين:
-عشان تيته وحشتني أوي.
رفعت والدتها عينيها إليها بحذر، وكأنها تزن الكلمات قبل أن تسأل:
-كنتي بتعملي إيه في الشقة تحت؟
شعرت «رهف» بحرارة وجهها، وارتبكت وهي تبحث عن إجابة سريعة:
-كنت قاعده شوية... مفيش حاجة مهمة.
لم تُعلِّق الأم، لكن نظرتها ظلت ثابتة على وجه ابنتها، وكأنها تحاول اختراق الحاجز الذي تخفي وراءه سرها.
بجانبها، تبادل الأب نظرة سريعة مع زوجته، ثم أشاح بنظره إلى طبقه وابتسم ابتسامة صغيرة.
شعرت «رهف» بتوتر يتسلل إلى صدرها، لكنها تظاهرت بالانشغال بالطعام.
انتهى العشاء سريعًا، وبعد أن جمعت «رهف» الأطباق وغسلتها بعناية، عادت إلى غرفتها، وقلبها ما زال يخفق بقوة وهي تفكر في سر ذلك الدفتر.
أغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها إليه للحظة قبل أن تتحرك نحو السرير.
أخرجت الدفتر من مخدع ملابسها، واحتضنته بقــوة وكأنها تحتضن جدتها ثم جلست على السرير، ومررت أصابعها على غلافه القديم، فشعرت بحرارته تتسلل إلى كفيها...
فتحت الصفحة التالية، وبدأت الكلمات تأخذها إلى عالم آخر:
"كنت أظن أن الحب يسبق الزواج، لكن في الحقيقة إن سبق فلن يكون إلا ابتلاءً واختبارًا... إن كنت تقرأ هذه السطور، فلا تتبع الهوى، احفظ قلبك جيدًا، ولا تدعه ينجرف وراء الهوى... وتذكر أن فترة الخطبة وُجدت ليُحكم فيها العقل، لا القلب؛ لتزن بها من سيكون شريك حياتك... أما أنا، فقد قيدت عقلي تمامًا وأطلقت العنان لمشاعري، فكان ذلك خطأي الأكبر."
شعرت «رهف» بقشعريرة تسري في جسدها، وكأن الجدة تحذرها شخصيًا، أغلقت الدفتر بسرعة حين سمعت صوت خطوات تقترب...
دفنته أسفل وسادتها، واعتدلت في جلستها قبل أن يقتحم أختيها الغرفة...
اندفعت «ريماس» أولًا وهي تهتف بحماس:
-أكيد مش هننام دلوقتي... لسه بدري!
ثم تبعتها «رنا» بابتسامة عابثة:
-كنا بنتكلم على المسلسل الجديد... انتي شفتيه يا رهف؟
حاولت «رهف» استعادة هدوئها وقالت بفتور:
-لا... مليش مزاج دلوقتي.
رفعت «رنا» حاجبيها بتعجب:
-مالك النهارده؟ سرحانة ومش مركزة خالص! مالك؟
مالك! اسم «مالك» مجددًا يثير داخلها شيء غريب، شعرت «رهف» بتوتر يتسلل إلى ملامحها، لكنها أجابت بسرعة وبثبات:
-مفيش... بس عايزة أنام... طفوا النور لو سمحتوا.
تأففت «ريماس» بضيق:
-لسه بدري أوي!
ردت «رهف» بنبرة حازمة:
-أنا هنام... لو عايزين تسهروا روحوا أوضه تانية.
تبادلت أختيها نظرة مستفهمة، ثم قالت «رنا» بنبرة تهكمية:
-براحتك... خليكي متقوقعة زي ما انتي.
ثم سحبت «ريماس» ذراع «رنا» وهما تغادران الغرفة، وغمغمت:
-أختك دي بقت غريبة أوي.
-طول عمرها متوحده... سيبك منها تعالي نجهز السهرة.
قالتها «رنا» وضحكتا، بينما ظلّت «رهف» تحدق في الباب إلى أن أُغلق، ثم أخذت نفسًا عميقًا لتستعيد هدوءها، وسحبت الغطاء على وجهها، لكن عقلها لم يتوقف عن التفكير.
كانت الكلمات التي قرأتها لا تزال تتردد في ذهنها:
"احفظ قلبك جيدًا... لا تتبع الهوى."
لم تستطع إيقاف التساؤلات التي اجتاحت عقلها؛ هل كانت الجدة تحذرها مما سيحدث؟
وماذا سيحمل اللقاء الثالث الذي لم تقرأه بعد؟
ورغم فضولها أغمضت عينيها، وسرعان ما غلبها النعاس، فقد قضت يومًا طويلًا في الجامعة...
***********
وفي اليوم التالي
استيقظت «رهف» متأخرة وخرجت للجامعة على عجل، لكنها لم تنسَ أن تدس الدفتر بحقيبتها...
وعندما وصلت الجامعة، كانت المحاضرات قد بدأت...
أخذت مكانها في مؤخرة القاعة، صامتة كالعادة...
حاولت التركيز على كلمات الدكتور، لكنها شعرت وكأنها تطفو خارج المشهد، كأنها مراقِبة وليست مشارِكة.
رأت زملاءها يرفعون أيديهم، يسألون بثقة، يضحكون على تعليقاتهم، شعرت بشيء ينعقد في صدرها، تمتمت:
-ليه مش عارفة أتكلم زيهم؟
كان لديها سؤال، بل عدة أسئلة، لكنها لم تجرؤ على رفع يدها...
الكلمات تدافعت في عقلها، تكوّنت الجملة بوضوح، لكنها انهارت قبل أن تصل إلى شفتيها.
انتهت المحاضرات قبل العصر بساعة...
خرجت مسرعة من القاعة، لتتجنب الزحام وكأنها تهرب من شيء غير مرئي.
وأمام الكلية انتظرت زميلتها التي ستشاركها في البحث الذي سيُسلم غدًا ولم تكتب به كلمة واحدة بعدُ!
وجلستا أمام جهاز اللابتوب في مطعم قريب من الجامعة...
ركزت «رهف» على شاشة اللابتوب، وعينيها تراقبان الكلمات وهي تتشكل على الشاشة...
مرّ الوقت بطيئًا، ومع ذلك، لم تشعر به وعندما رفعت رأسها أخيرًا، كان الليل قد عسعس...
نظرت «رهف» عبر زجاج المطعم، حيث الأضواء البعيدة تتلألأ في ظلمة السماء كنجوم سقطت على الأرض.
ودعت زميلتها بصوت خافت، ثم توجهت إلى الموقف.
ركبت الميكروباص، وجلست في المقعد الخلفي، ضمت حقيبتها إلى صدرها، كأنها تحتمي بها من شيء لا تراه.
أخرجت الدفتر بحذر، ترددت أصابعها وهي تتلمس الغلاف، كأنها تخشى ما سيخرج من بين الصفحات...
ترددت للحظة، ثم استسلمت لفضولها، فتحت الصفحة التالية، وعيناها تجوبان السطور بترقب:
"اللقاء الثالث... في المواصلات."
تسارعت دقات قلبها، كأنها تسمع صداها في أذنيها...
رفعت رأسها ببطء، نظرتها تتسلل بحذر بين وجوه الركاب أمامها.
شعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها، هل يمكن أن يتكرر الأمر مرة أخرى؟
عادت بعينيها إلى الدفتر، وتابعت القراءة:
"وقعت نظراتي عليه... كان يجلس إلى جواري بهدوء، فأشحت وجههي لأنظر من النافذة باضطراب."
تجمدت «رهف» في مكانها، وكأن الكلمات التصقت بعينيها.
انتفضت حين أدركت ما تقرأ، وشعرت ببرودة تسري في أطرافها، التفتت جوارها ببطء، خفق قلبها بجنون، ثم وقعت عيناها عليه.
كان يجلس بجوارها، تمامًا كما وصفت المذكرة؛ وهو ينظر أمامه بهدوء.
تسمرت في مكانها، وعيناها لا تفارقانه، وكأن الزمن توقف للحظة ولا صوت سوى نبضات قلبها التي تصم أذنيها...
وكأنه شعر بنظراتها، التفت فجأة، فالتقت عيناه بعينيها...
كانت نظرته طويلة، حائرة، وكأنه يحاول أن يسترجع ذكرى عابرة، أم تُراه يتساءل لماذا تحدق فيه بهذه الطريقة؟
شعرت «رهف» بحرارة تخترق وجهها، وتحجرت الكلمات في حلقها.
حاولت أن تتظاهر باللامبالاة، أن تسيطر على ارتباكها، فاندفعت تفتش في حقيبتها بلا هدف، وأطراف أصابعها ترتجف، قررت وضع الدفتر داخل الحقيبة، وكأنها تخشى أن يقرأ ما فيه، بينما أدار «مالك» وجهه للجهة الأخرى سريعًا، جلس صامتًا للحظات، وظهره متصلب، ثم حرك يده بتردد، وقال:
-على جنب يا سطى لو سمحت!
توقف الميكروباص على جانب الطريق فجأة، وقفز «مالك» من مقعده بحركة سريعة أربكت «رهف»، فانكمشت على النافذة بجوارها وكأنها تُفسح له الطريق.
تسارعت أنفاسها، وعيناها تتابعانه وهو يبتعد بخطواتٍ سريعة، كأن الأرض تحت قدميه لا تلمسها الجاذبية.
تسائلت؛ لماذا هرب هكذا؟ هل يعرف شيئًا؟ أم أنها مجرد صدفة أخرى؟
تردد صدى صوته في أذنيها وهو يقول:
-على جنب يا سطى لو سمحت!
كان هناك شيء في نبرته... توتر أم قلق؟ لم تكن متأكدة، لكن ما عرفته جيدًا أنها لن تتركه يهرب بهذه السهولة.
تحرك الميكروباص، فشعرت بأن اللحظة تهرب من بين يديها، لذا نطقت قبل أن تدرك ما تفعل:
-لو سمحت، استنى... هنزل هنا.
نزلت بسرعة ووقفت للحظة تلتقط أنفاسها، وعيناها تبحثان عنه بين الزحام.
رأته على بُعد خطوات، يتسلل بين المارة بخفة، ويمضي دون أن يلتفت.
تبعته بحذر، كانت خطواتها حذرة كأنها تمشي على حافة هاوية، وكانت تحافظ على مسافة آمنة بينهما، فلا هي تقترب أكثر من اللازم فتلفت انتباهه، ولا تبتعد فتفقده.
لم تكن تخطط لمواجهته... لا تعرف حتى ماذا ستقول... فقط أرادت أن تعرف إلى أين يذهب؟ ومن يكون؟ وما الذي يحدث؟
عبر «مالك» زقاقًا ضيقًا بسرعة، وخطواته تلامس الأرض بخفة، كأنه يعرف كل حجر على هذا الطريق.
انعطف فجأة ناحية اليمين، فأسرعت «رهف» للحاق به، وقلبها يدق بعــنف حتى شعرت به في حلقها.
لكنها عندما وصلت إلى المنعطف... تجمدت في مكانها.
كان الشارع خاليًا تمامًا، وكأن أحدًا لم يعبره منذ زمن.
حدقت في الطريق الضيق الذي يمتد أمامها مظلمًا وموحشًا، شعرت بأنفاسها تتردد في صدى الصمت الثقيل.
تسائلت؛ أين ذهب؟ كيف اختفى بهذه السرعة؟
نظرت حولها بذهول، الأزقة تتفرع كمتاهة، وكل زاوية تغرق في ظلال داكنة كأنها تبتلع من يقترب.
كانت وحدها تمامًا، والصمت يحيط بها من كل جانب، شعرت بقشعريرة تزحف على جسدها، وانكمشت على نفسها وهي تحاول أن تتذكر الطريق الذي جاءت منه.
تتساءل كيف ستعود أدراجها الآن؟ وكم ابتعدت عن الطريق الرئيسي؟
خطت خطوة للوراء، ثم أخرى، تنظر خلفها بحذر كأنها تتوقع أن يظهر «مالك» من أحد الأزقة المظلمة.
لكن لا شيء سوى الظلام...
أحست بأن شيئًا ما يراقبها، ربما خيالها الذي بدأ يلعب بعقلها.
حاولت السيطرة على نفسها، أخذت نفسًا عميقًا لتوقف ارتعاش يديها، فعليها أن تعود قبل أن يبتلعها هذا المكان.
استدارت بسرعة، كانت تسابق الوقت، والمكان من حولها يزداد برودة، كأن الليل قد أسدل ستاره فجأة.
شعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها، تشبثت بحقيبتها بحذر، وأصابعها ترتعش من القلق.
كانت خطواتها تتسارع، وصدى أنفاسها يتردد في الأزقة الخاوية.
وفجأة، باغتتها يد قوية أمسكت بذراعها من الخلف، وذراع أخرى حاوطتها وسدت فمها بإحكام.
تجمدت في مكانها، اتسعت عيناها بالرعب، حاولت الصراخ، لكن صوتها اختنق خلف الكف الخشن.
كانت القبضة كالفولاذ، قاسية وباردة، تشعر بقوة أصابعها تغرز في جلدها.
جاهدت بعنــف، وهي تتحرك في كل اتجاه، وقدماها تخبطان الأرض بعشوائية، وحقيبتها تتأرجح على كتفها.
لكن القبضة لم تضعف، بل زادت إحكامًا، وسُحبت «رهف» إلى الزقاق المظلم بجانبها، وقلبها يكاد يتوقف من الخوف، ملأ أنفها رائحة عفنة، وشعرت وكأن جدران الزقاق تقترب منها كأنها تتآمر عليها.
-هوووش... مش عايز نفس وأنا مش هأذيكي...
همس صوت رجولي خشن في أذنها، كان صوته باردًا وقاسيًا، كأنه يتغذى على خوفها.
ارتجفت بشدة، وحاولت المقاومة مجددًا، لكن جسدها كان محاصرًا بين ذراعيه، يداه كالأغلال، وصوته المنخفض يحمل تهديدًا خفيًا.
بدأ يسحبها إلى داخل الزقاق المظلم، والأرضية غير المستوية تتعثر بها خطواتها...
لم يكن أمامها سوى الظلام... وظلها الملتوي على الجدار البارد.
سالت دموعها بقلة حيلة، وفي لحظة اليأس، ارتفع صوت أقدام تركض بسرعة نحوهم.
خفق قلبها بعنــف، وارتخت قبضة الرجل قليلًا وهو يلتفت بحذر خلفه.
توقف للحظة، وكأن فكرة الهرب تومض في ذهنه.
ثم، من بين الظلال، ظهر «مالك» فجأة، تشتعل عيناه بالغضب، وملامحه متحفزة كأنه أسد يستعد للانقضاض...
لم يتردد لحظة، قفز على الرجل بقوة لا تصدق، ولكمه بقسوة جعلت صدى الضربة يتردد في الزقاق.
تراجع الرجل متعثرًا، واصطدم بالجدار بقوة، تراجعت «رهف» إلى الوراء، وهي تتنفس بصعوبة، وركبتاها ترتعشان بشدة، كانت أنفاسها متقطعة، وعيناها لا تصدقان ما يحدث أمامها.
-إنت كويسة؟
سألها «مالك» بنبرة قلقة دون أن ينظر إليها، وعيناه لا تفارقان المعتدي الذي كان يحاول النهوض، لكنها لم تستطع الرد كانت تتابع بتوجس الرجل الذي تراجع خطوة، ثم أخرى، قبل أن يستدير ويهرب بسرعة، وخطواته تتلاشى في الظلام.
ظل «مالك» واقفًا للحظة، وعيناه تراقبان الزقاق الفارغ.
ثم استدار ببطء نحو «رهف»، ووجهه لم يزل متجهمًا، سأل بحدة:
-بتعملي ايه هنا؟!
اندفعت قائلة وبنبرة مرتعشة:
-كنت ماشية وراك.
-كنتي ماشيه ورايا!؟
قالها عاقدًا حاجبيه باستغراب، وكانت لا تزال ترتعش، أطبقت يدها على فمها ولم تجد كلمات ترد بها عليه وكل ما فعلته هو النظر إليه، وعيناها ممتلئتان بالامتنان له والخوف منه في آنٍ واحد.