روايةهيبة الفصل السادس6بقلم مريم محمد غريب


روايةهيبة الفصل السادس6بقلم مريم محمد غريب





_ بأيّ ثمن _ :

في الصالون المترف. ساد صمت ثقيل بين الحضور القليل، الأوراق مبسوطة على الطاولة الخشبية أمامهم، ونسختان من عقد الزواج تنتظران توقيعات أصحابها ..

يجلس المحامي قبالتهم، عيناه تنتقلان بين الوجوه بترقُّب معتاد، رجلان من رجال "نديم الراعي" المقرّبين كانا يجلسان في الخلف، يتبادلان النظرات دون كلام ..

حين وقعت عينا "ليلى" على الأوراق مرةً أخرى، ارتجف جفنها، وحدّقت في "نديم" بتوترٍ قائلة:

ـ-هو الجواز العرفي ده رسمي يا نديم؟

ابتسم بهدوء بثقة، ومدّ يده ليمسك يدها وقال بثقة:

ـ-طبعًا رسمي. وهانوثّقه في المحكمة كمان.. ماتقلقيش.

صوته كان هادئًا، مطمئنًا، وفيه نبرة حنان زائدة لم تعتدها. ارتاحت نظرتها تدريجيًا، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها ..

أمسك "نديم" بالقلم، وقام بالتوقيع على النسختين. ثم نظر المحامي إلى "ليلى" وقال:

ـ-اتفضلي يا عروسة.. امضي في خانة الطرف التاني الاسم رباعي.

ترددت لحظة، ثم تناولت القلم ووقّعت. بعدها رفعت وجهها ونظرت لـ"نديم" قائلة ببلاهة الطفلة:

-طيب.. احنا مش هانبصم بالحبر الأزرق؟ زي العريس والعروسة ما بيعملوا في الفرح؟

ضحك "نديم" وقد ارتد صوته في أركان الحجرة، ثم قال بفكاهة:

-مشكلتك في البصمة يعني؟

ثم التفت إلى المحامي قائلًا:

-معاك بصّامة يا متر؟

ابتسم المحامي وأخرج بصّامة صغيرة من حقيبته الجلد وقال مبتسمًا بدوره:

-معايا كل حاجة يا باشا.. أوامر ..

ومدها ناحية "ليلى" قائلاً:

-اتفضلي يا عروسة.. ابصمي.

وضعت ليلى إصبع إبهامها على البصّامة وهي تبتسم بفرحة طفولية، ثم طبعت بصمتها على النسختين. فعل "نديم" المثل ليس إلا إرضاءًا لها، ثم نظر لها قائلًا وعيناه لا تفارقان وجهها:

-قوليلي نفسك في إيه تاني؟ طلباتك أوامر.

نظرت إلى الأرض دون أن ترد، وراح ظل ابتسامتها يختبئ وراء وجنتيها، سحب منديلًا ورقيًا ليزيل آثار الحبر عن إبهامها أولًا، بينما نهض المحامي من مكانه ملتقطًا العقدين، واتجه ناحية الشاهدين، وقّع الرجلان كلٌ في دوره، دون كلمة، فقط نظرات صامتة متبادلة بين بعضهما البعض .. 

كانت "ليلى" ما تزال مطأطأة الرأس، وجنتاها مشرّبتان بحمرة الخجل، وعيناها تتجنبان العيون من حولها ..

عاد المحامي إلى الطاولة، جمع أوراقه بعناية في حقيبته الجلدية، ثم نهض وهو يقول باحترام:

-عن إذنك يا باشا. لو تسمح لي ألحق أمشي عشان أوصل الأوراق دي مكتبي وإن شاء الله الصبح هاكلمك.

صافحه "نديم" بحرارة، ثم قام ليصافح الرجلين اللذين باركا له ولعروسه بابتسامةٍ واسعة:

-ألف مبروك يا نديم باشا.. مبروك يا عروسة.. تتهنوا يارب.

شكرهم "نديم" بابتسامته الفاترة:

-شكرًا يا رجالة.. ألف شكر.. نورتوا.

أوصلهم جميعًا حتى باب الشقة، ثم عاد إلى "ليلى" بخطوات هادئة ..

مدّ يده إليها، فنظرت إليه بخجل قبل أن تضع كفّها الصغيرة في يده الكبيرة الدافئة. شدّها برفقٍ، لتقف أمامه ..

أمسك يدها الأخرى، ثم رفع رأسه لتتلاقى أعينهما في صمتٍ مشحونٌ بالمشاعر، ثم وقال بصوتٍ خفيض:

-مبروك يا حياتي… بقيتي مراتي خلاص يا ليلى.

ازداد خجلها أكثر، وابتسامة متوترة ارتسمت على محيّاها، لكنها ما لبثت أن تلاشت حين همست له بارتباكٍ:

-أنا خايفة يا نديم!

تبدّلت ملامحه، وسألها عابسًا:

-خايفة؟ وإنتي معايا؟ خايفة من إيه؟

-خايفة من إللي عملناه… بابا لو عرف… كنا ممكن نقوله على الأقل ..

تنهد "نديم" ثم قال بهدوء:

-ليلى… حبيبتي… قلت لك إن الظروف دلوقتي ماتسمحش إن أي حد يعرف. حتى عمي. وبعدين لما هاجي أقوله مش هاقوله إننا اتجوزنا من وراه… أنا هاطلبك منه رسمي. وهانتجوز تاني قدام الناس وعلى إيد مأذون.

نظرت له بعينين قلقتين وسألت:

-نتجوز تاني؟ هو ده ينفع؟

جاوبها باسلوبه المقنع الشهير:

-أيوه طبعًا ينفع. إحنا إنهاردة كتبنا عقد مدني رسمي. ده بيكون موثق ومعترف بيه في الدولة. أما الجواز الشرعي إللي على إيد مأذون ده للشكليات. وأنا فهّمتك وشرحت لك… أول ما أخلص من جوازي من راندا. هانكون مع بعض قدام الدنيا كلها.. أنا اتجوزتها وكنت فاكر إني بهرب من مشاعري ناحيتك أتاريني أتوّرطت بقلبي معاكي أكتر.. لكن خلاص مابقتش قادر.. وعيشتي معاها تقريبًا انتهت.. كل إللي طالبه منك إنك تثقي فيا أكتر.. وتعرفي إني إستحالة أضرك.

كلامه دخل قلبها بسلاسة، وكدأبها صدقته، فتراجع التوتر من عينيها، وابتسمت له من جديد متمتمة:

-أنا بثق فيك أكتر من نفسي.. طول عمري بثق فيك.. وانت عارف.

بادَلها الابتسامة واقترب منها أكثر، وهمس:

-عارف.. أنا بحبك!

لم تجد "ليلى" ما تقوله. وقفت متسمّرة، مستسلمة بين يديه، حتى دنى بوجهه معانقًا وجهها بكفّيه، لامس شفتيها بشفتيه في قبلة هادئة، رقيقة في البادئ، ثم اشتدّت شيئًا فشيئًا دافعة إيّاها إلى الذهول ..

هذا شيء تختبره للمرة الأولى، فضلًا عن أنها محظوظة للغاية، فهذا الرجل الذي تحب، لم ولن تعشق غيره وهي واثقة تمام الثقة من ذلك ..

تثاقلا جفناها لا شعوريًا، بينما تقودها خبرة "نديم" وتتيه هي في دفئها. شفاهه تلامسها، وتتعرّف على فمها برفقٍ ثم بجُرأة، كما يداه حين أحسّت بلمساته تستكشف معالم جسدها لأول مرة بطريقة مختلفة لم يسبق لأحد أن فعلها ..

ولولا إنه قد شعر بحاجتها للتنفس لما قطع القبلة الآن. أنفاسه حارة ولاهثة حين همس لها مسبلًا عيناه:

-تعالي أوريكي أوضة النوم.

لكن "ليلى" رفعت يدها وأمسكت بكفه وهو يتحسس خصرها ويشدّها بنفس الوقت، ثم قالت بسرعة:

-نديم. من فضلك… مش هاينفع.

نظر لها بدهشة:

-ليه؟

عضّت شفتها وقالت بترددٍ:

-معلش… أنا مش جاهزة.. مش المرة دي.. لو سمحت!

صمت للحظة، ثم سحب نفسًا عميقًا، تراجع بهدوء، قبضته ترتخي عن خصرها. ثم قال بلهجته الباردة:

-ماشي يا ليلى… بس ياريت تجهّزي في أسرع وقت. عشان أنا… مش هقدر على كده كتير.. معاكي كام يوم مش اكتر.. فاهمة؟

أومأت برأسها. فمدّ يده، ولمس شفتها السفلى بإبهامه، ثم انحنى عليها وقبّلها من جديد على فمها، قبلة أطول، أعمق، داخت بها كأنها تُسحب من العالم ..

ثم ابتعد، التقط سترته من على الكرسي، وارتداها بسرعة. نظر لها وقال بنبرة آمرة ناعمة:

-يلا بينا… هانرجع البيت.

استوقفته "ليلى" عند الباب قبل أن يفتحه، وقالت بخفوتٍ:

ـ-استنى.. دقيقة بس!

اتجهت نحو مرآة معلّقة في جانب المدخل. عدّلت بلوزتها سريعًا، فتحت حقيبتها الصغيرة، وأعادت وضع لمسة خفيفة من الحمرة على شفتيها وخدّيها. مرّرت يدها على شعرها لتعيد ترتيب خصلاته بعناية ..

ثم استدارت نحوه ثانيةً، وجدته واقفًا كما هو يراقبها بصمت، يبتسم لها بنظرة مفعمة بالحب ..

مدّ يده إليها مجددًا، فابتسمت وأمسكتها. هذه المرة تشابكت أصابعهما كأنهما يحتضنان بعضهما بأياديهما ..

خرجا من الشقة، ونزلا إلى الشارع. فتح لها باب السيارة، ثم دار إلى جهة السائق وركب. شغّل المحرك، لكن قبل أن ينطلق، سمع ضحكة خافتة بجواره ..

نظر إليها مستغربًا وسألها:

-بتضحكي على إيه؟

حدقت فيه بقوة وقالت بعدم تصديق:

-مش مصدقة إللي حصل… لحد امبارح كنا بنتعامل على إننا ولاد عم وأخوات. دلوقتي إحنا متجوزين فعلًا؟

ابتسم، أمسك يدها وقال بهدوء:

-لا صدقي… عشان دي الحقيقة الوحيدة في حياتي.. صدقي عشان انتي حب عمري.. أنا ماحبتش غيرك يا ليلى.. وكنت بتعذّب وأنا مش قادر أصارحك ولا عندي أمل نكون سوا.

نظرت له بجديّة وسألته:

-من إمتى اكتشفت إنك بتحبني يا نديم؟ وإزاي؟ إزاي حبّتني؟

ابتسم من جديد وهو يقرص وجنتها برفقٍ قائلًا:
-إنتي بتسألي كتير… ماتخافيش. هاجاوبك على كل الأسئلة دي وأكتر. قدامنا الوقت… العمر كله.أنا مش هاسيبك أبدًا يا ليلى. هاتفضّلي جنبي وتحت جناحي.. لحد ما أموت.

ردّت بسرعة، بعاطفة فائرة:

-بعد الشر عليك!

ثم أمسكت بيده وقبّلت باطن كفّه برقة ..

نظر لها بحنانٍ، ومسح على خدّها بالكف نفسه، قبل أن يبتعد قليلًا وينطلق بالسيارة نحو البيت ..

حين وصلا، أوقف السيارة أمام البوابة. ترجلا منها، وأمسك بذراعها برفقٍ وهو يوقفها في الباحة، ثم قال بلهجة تحذيرية:

-ليلى… مش محتاج أكرر وآكد عليكي… إللي حصل إنهاردة سر بيني وبينك. ماينفعش أي حد يعرف. حتى نوران… سامعاني؟

أومأت له بطاعة، فابتسم برضا ودلف أمامها إلى الداخل ..

في غرفة الطعام، كانت العائلة مجتمعة. حيّاهم كلٌ من "ليلى" و"نديم" فردّ الجميع التحيّة. وخاصة "لُقى" عروس العائلة المنتظرة:

-نديم باشا. ابن عمي المهم إللي فاضيلي خالص ولا كأني عروسة!

تصنّعت "لُقى" الحزن، فقال "نديم" بلطفٍ زائد:

-أنا أفضي نفسي مخصوص عشانك يا لمضة.. وبعدين أنا قلت لك جهزي كل طلباتك وأحلامك كمان وليكي عليا أنفذ كل إللي انتي عايزاه أحسن من خيالاتك كمان.. إيه رأيك؟

نظرت له قائلة بامتنانٍ:

-يخليك ليا يارب.. أخويا الكبير بصحيح.

تدخل شقيقها "ليث" مشاكسًا:

-أيوة هي دي لُقى.. مصطلح المصلحة.. انتي مصلحجية أوي يا حبيبتي.

وكزته "لُقى" بقبضتها في كتفه، بينما تبادلت العائلة الضحكات، لكن "مهران" حدّق في "نديم" بنظرة حذرة فيها من التساؤل الدفين. أدرك "نديم" رسالته الصامتة، فرد عليه بنظرة مطمئنة، قبل أن يسأل بعشوائية:

-راندا مش موجودة؟

ردّت "مشيرة" زوجة عمه، وهي تشير بيدها للأعلى:

-طلعت أوضتها من شوية يا حبيبي… قالت هاتستناك لما ترجع عشان تتغدوا سوا.

تنهد "نديم" وحانت منه نظرة خاطفة إلى "ليلى". فوجدها تنظر إليه بوجوم، وكأن الغيرة قد لسعت قلبها بسؤاله عن زوجته ..

ابتسم لها بلطفٍ، ثم اتجه إلى رأس الطاولة وجلس قائلاً:

-بصراحة أنا جعان جدًا ومش هقدر أستنى دقيقة كمان.. حد من الخدم يطلع يقول لها إني وصلت وبتغدى معاكوا. عاوزة تنزل أهلاً وسهلاً. مش عاوزة… براحتها.

جلست "ليلى" بدورها في مكانها المعتاد، تحاول أن تمنع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى وجهها، فخاطبت أبيها وهي تتلقّى بعض الحساء من يد إحدى المسخدمات:

-بابا لو سمحت.. أنا هاخرج كمان شوية وهاخد فضل السواق معايا.

لم يكد "مهران" يرد، إلا وقاطعه صوت "نديم" متحدثًا إليها مباشرةً:

-رايحة فين يا ليلى؟

نظرت له بشيء من الارتباك مدركة سلطته الجديدة عليها، كانت لتضايقه بتمرّدها لولا الحقيقة التي حفرت بعقلها بطريقة لا يمكن نسيانها ولو لوهلةٍ. جاوبته بلهجة غير واثقة:

-كنت محتاجة أروح البيوتي سنتر.. ده معادي بتاع كل شهر!

وزجرته بنظرة ذات مغزى، لم يبدو عليه أيّ تأثر، لكنه قال بنبرة حيادية واسلوبٍ حازم:

-الوقت متأخر يا ليلى. ولما تخلصي وترجعي هايتأخر أكتر.. كلّمي البيوتي سنتر يبعتوا لك الارتست إللي بتتعاملي معاها وأنا هحاسبها كويس.

ارتجف قلبها لأسبابٍ عدة، لم تستطع ردًا، فأومأت له وعادت لتنكب فوق صحنها، بقيت هكذا طوال الوقت على المائدة، حيث خشيت لو نظر أحدهم بوجهها فسيعرف حتمًا ما جرى ...

_________

تسللت نسمات المساء عبر أشجار الحديقة الغنّاء لقصر آل"نصر الدين".. حيث كان "سليمان" يسير في الهواء الطلق إلى جوار ابن عمه "طاهر" ..

خطواتهما هادئة، لكن التوتر يسكن بينهما في صمتٍ ثقيل يسبق الكلام. ليقول "سليمان" بنبرة حازمة وهو ينظر للأمام دون أن يلتفت:

-أبوك كنّه كبر وخرف يا طاهر.. أنا دمي فاير.. كيف العيّل الصغير إللي شبطان بلعبة.. هو نسي البت إللي عايز يئويها دي جت إزاي؟ نسي إنها بت حرام؟

ردّ "طاهر" بنبرة هادئة وممتعضة في آنٍ:

-أني كمان مش اموافج على إللي بيعمله… بس في لاخر ده رياض نصر الدين.. عمر ما حد كسّر له كلمة وإللي في راسه هايعمله.. أيوة عارف إنها بت حرام. بس زي ما جولت يا سليمان شبطان.. وماعرفش ليه؟ عنده بدل الحفيد 10.. رجالة وبنات!!

توقف "سليمان" بغتةً، استدار ليواجه ابن عمه، وضع يده فوق كتف الأخير وقال بنبرة أبطأ:

-إللي عمله أبوك إنهاردة غلط كبير. البت دي مالهاش مكان وسطينا… ولا ينفع تاخد اسمنا.. تبجى فضيحة بجلاجل يا واد عمي.. ترضاها لي؟ ده أنا عمدة البلد. وبكرة هانبجى نسايب أنا وانت بتّي شهد وولدك زين!

تنهد "طاهر" ثم قال بصوتٍ خافت فيه شيء من الانكسار:

-وأنا يدّي إيه بس يا سليمان.. أنا أقدر أمنعه؟ من ساعة ما دهب ماتت وهو ماشلش البت من راسه أصلًا… دلوجتي مش هايهدا إلا لما ترجع.

رمقه "سليمان" بنظرة طويلة، ثم استأنف السير وقال:

-بس المرة دي… إللي عاوزه عمّي مش هايحصل بالطريقة اللي هو متصوّرها.

رفع "طاهر" حاجبه متسائلًا:

-كيف يعني؟

-يعني إللي ناوي عليه… هايتعمل بس بطريقة مختلفة. وبترتيبات تانية خالص.. وأني إللي هكون مسؤول عن ده.

صمت "طاهر" وعيناه تراقبان ملامح "سليمان" التي أصبحت أكثر صلابة، كأن القرار اتخذ… ولا رجعة فيه ...
_________________

دخلت خبيرة التجميل إلى غرفة "ليلى" التي استقبلتها بابتسامةٍ خفيفة. كانت الغرفة مرتبة بعناية، أجواؤها تعبق بعطر زهري ناعم ..

أغلقت "ليلى" الباب خلفها، وأشارت إلى الطاولة المجهزة بكل ما يلزم وقالت:

-بصي بقى يا دودي.. أنا عايزاكي تخلّيني زي البيبي.. عايزة أبص في المرايا ماعرفش نفسي.

ابتسمت الأخيرة قائلة بمجاملة صادقة:

-انتي الله أكبر مش محتاجة أصلًا.. بس يلا بينا!

وضعت حقيبتها وأمرت مساعدتها ببدء التحضيرات ..

أخذت "ليلى" إلى حمامها المستقلّ، كان هناك ما يلزم لصنع حمّام بخار للجسم أراح عضلاتها المتوترة، تبعته جلسة ماسكات بروائح اللافندر والعسل، ثم عناية دقيقة بيديها وقدميها، وباديكير ناعم أنهى لمسة العناية ..

ثم خرجتا وتسلّمت شعرها، صُفف بخصلات متموّجة، تنسدل على كتفيها بنعومةٍ متقنة ..

رفعت الخبيرة حاجبيها وقالت ناظرة إلى "ليلى" بدهشة:

-إنتي عروسة ولا إيه لولو؟

ارتبكت "ليلى" ونظرت نحو الأرض لثانية، ثم رفعت رأسها سريعًا وهي ترد بصوت خافت مرتبك:

-لأ.. عروسة إزاي؟ وبعدين ده سكين كير يعني وعملتيلي شعري.. مافيش بنات عادية بتعمل كده؟

ابتسمت الخبيرة وردت بهدوء فيه شيء من المكر:

-لأ طبعًا في بنات كتير بيعملوا كده.. بس أول مرة ألاقي واحدة بالحماس ده… كأنك عروسة ورايحة لحبيبك!

لم ترد "ليلى". فقط رمشت بعينيها في صمت. من داخلها كانت تعلم أن المرأة على حق.
هي فعلاً عروس… فعلاً تحضّر نفسها لأجل "نديم". ولابد أن يراها بأحلى شكل، أجمل من كل الفتيات اللاتي مررن بحياته ..

أنهت الخبيرة عملها، رتّبت أدواتها، ثم قالت وهي تهمّ بالمغادرة:

-يلا يا لولو باي باي.. وبالمناسبة… الحساب واصل من زمان. نديم باشا دفع وزيادة.

ابتسمت "ليلى" لها.. وتابعتها حتى خرجت ومعها مساعدتها ..

وأخيرًا. بقيت "ليلى" وحدها. وقفت أمام المرآة وهي ترتدي بيجامة قصيرة من الساتان عاجيّ اللون، جسدها يلمع بنعومة، بشرتها صارت أكثر إشراقًا، وشعرها يسقط بانسيابية حول وجهها الذي تزيّنه ابتسامتها العريضة ..

أخذت تدور حول نفسها في المرآة، تستعرض جسدها كأنها ترى نفسها لأول مرة. أجواء الغرفة كانت مشبّعة بعطرها، أنوثة كاملة تملأ المكان ..

وفجأة… انفتح باب الغرفة ...

استدارت بسرعة، ووجنتاها تشتعلان. لتتفاجأ بـ"نديم" واقفًا عند الباب، ينظر إليها نظرة مبهورة، صامتة ..

وفجأة رأته يلج مغلقًا الباب خلفه، أنفاسه ثقيلة، عيناه تتفحصانها بجرأة صامتة ..

ثم قال أخيرًا بصوتٍ خفيض، مشحون:

-أنا غيّرت رأيي… مش هاسيبك كام يوم. انتي بتاعتي الليلة دي!

وأدار المفتاح في القفل ..

خطا نحوها بسرعة، بينما هي واقفة في مكانها، لم تستوعب بعد ما يحدث. قبّلها مباشرةً، بلا مقدمات ..

لم تنطق، لم تستطع… فقط تقهقرت إلى الخلف تحت ضغط حضنه، حتى اصطدمت قدماها بحافة السرير ..

همست بصوتٍ لا يكاد يُسمع:

-نديم… ماينفعش… أرجوك.. احنا مش لوحدنا!!

لكنه لم يتوقف، كان مصرًا، صلبًا، عنيدًا .. 

يلتهمها بنظراته، بقبلاته، بصوته الذي تسلل إلى أعماقها:

-كل ده عشاني.. صح؟ انتي عملتي كل ده عشاني… قوليها!

بدأت تنهار، أنفاسها تتسارع، لم تحتمل مقاومته ولا صدقه ولا احتياجه ..

نطقت بشفافية خجولة، بصوتٍ مبحوح:

-أيوة… عملت كل ده عشانك!

الكلمة كانت كافية لتشعل داخله نارًا عالية. بدفعة واحدة استلقت فوق سريرها، وبلحظة كان كان يعتليها ..

هذا جنون محض ..

أحداث سريعة مذهلة.. مدهشة.. لا يصدقها عقل!!!

اقترب منها أكثر، أصابعه تمر فوق قماش بيجامتها الناعم بلمسات مشتعلة.. ارتعش صوتها من جديد، تتوسل بحياء لا يمنع اشتياقها:

-نديم… عشان خاطري كفاية… إللي بنعمله غلط… ماينفعش… أي حد ممكن يدخل!

ضمّها إلى صدره ومسح على شعرها بحنو وهو يهمس في أذنها:

-ماتخافيش… طول ما أنا هنا.. محدش يقدر يدخل… ولا يقرب.

ارتجف قلبها تحت صدره… وكانت تعرف بأنها لن تقاوم أكثر ...

استسلمت "ليلى" لزوجها.. لـ"نديم". جسدها بين ذراعيه صار هشًّا، كأن كل مقاومة سابقة تلاشت في الهواء. كانت عيناه تمطرانها بنظرات رغبة لا لبس فيها، وملامحه مشتعلة، تنطق بكل ما أخفاه عنها لسنوات ..

نهض عنها للحظة، خلع كنزته السوداء بحركة واحدة، جزعه العاري في ضوء الغرفة الكتيم بدا أكثر قربًا ممّا توقّعت حتى بأحلامها به… أكثر جاذبية ...

راقبت حركاته وهي تشهق دون وعي، ولم تملك إلا أن تتبعه بعينيها، بجسدها، وحتى بأنفاسها المتقطعة ..

عاد إليها بثقة رجل يملكها… لمسة، قبلة، ثم أخرى، يزيح الحواجز التي تفصل بينهما كما لو كان يزيل ما تبقّى من حذرها ..

كانت بين يديه كمن ينصهر، كمن يُعاد تشكيله على مهل ..

فمه اقترب من أذنها، صوته. مغمغمًا بدفء واهتمام نادرين:

-هدّي خالص… لحظة وهاتعدي. الألم مش هايستمر. أوعدك!

كانت كلماته مطمئنة، لكنها أربكتها، فتحت فمها لتسأله، لتفهم… عن أي ألم يتحدّث؟

لكنها لم تكد تنطق، حتى اجتاحها شعور خاطف، غريب، مباغت ..

شهقة مترددة ارتجفت على شفتيها… وجسدها انتفض للحظة، كأن شيئًا غير مألوف بدأ يحدث، ضغط مؤلم ومصمم ..

لكنه لم يكتمل ..

إذ دق الباب ..

دقّة واحدة.. لا ثلاث دقات متتابعات ..

كأن الزمن تجمّد، وكأن البرودة اجتاحت الغرفة من لا مكان ..

انتفضت "ليلى". قلبها خفق بقوة، وكأنها سُمعت… كأن سرها انكشف ..

توسعت عيناها، وتعلّقت بـ"نديم"! .
تعليقات