رواية ثمن الصمت الفصل الثالث3 بقلم حنين عقيدات


رواية ثمن الصمت بقلم حنين عقيدات

الفصل الثالث



مرت الأيام وكأنها تحمل بداخلها ثقلًا كبيرًا، لكن مع مرور الوقت، بدأت الأمور تأخذ منحى آخر. التغير الذي بدأ في تلك اللحظة الفاصلة في المنزل لم يكن مجرد قرار عابر، بل كان بداية تحول حقيقي في حياة سلمى ويمنى. 

سلمى، التي كانت طوال الوقت تغرق في صمتها، بدأت تكتشف جانبًا جديدًا في نفسها، جانبًا كانت تخشى أن تراه. بعد أيام من الشد والجذب في العائلة، وبعد أن خرج والدها غاضبًا، شعرت أخيرًا وكأن قيدًا قد انكسر في قلبها. كانت تحاول أن تتقبل فكرة أنها لم تعد مضطرة للعيش في الظل، وأن بإمكانها الآن أن تكون صوتًا حقيقيًا لنفسها. 

يمنى لم تكن أقل قوة. بالرغم من أنها كانت تمثل الدرع الواقي لأختها طوال هذه الفترة، إلا أن وجودها في هذا الصراع جعلها تعيد النظر في الكثير من الأشياء التي كانت تعتبرها مسلمات. لم تعد مجرد الفتاة التي تتبع المسار المعتاد، بل أصبحت صاحبة القرار، وحامية أحلام أختها. 

مرت الأيام التالية بمشاعر مختلطة بين الخوف من المستقبل والتفاؤل بما هو قادم. لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لأي منهما. سلمى كانت تعيش في دوامة من الأسئلة عن كيفية بناء حياة جديدة بعيدًا عن الضغوط التي كانت تلاحقها، بينما كانت يمنى تسعى جاهدة لإصلاح العلاقات المتأزمة داخل العائلة، فالأمر لم يكن يتعلق فقط بحياتهما الشخصية، بل بمستقبل أسرتها. 

وفي أحد الأيام، كانت سلمى جالسة في غرفتها، تتأمل كتابًا قديمًا كان من والدتها، وهو كتاب كان يحوي كلماتها الأولى عن الحياة. قرأت كلماتها بحذر، كأنها تعيد اكتشاف جزء من ذاتها ضاع طوال الوقت في زحمة الأحداث. كانت تلك الكلمات بمثابة شعاع ضوء في عالمها الذي كان مليئًا بالظلال. 

في تلك اللحظة، دخلت يمنى عليها بابتسامة حنونة، ولكن كانت عيونها تلمع بشيء من الجدية. "أنتِ مستعدة لما هو قادم؟" سألَتْها، وهي تجلس بجانبها. 

سلمى نظرت إلى أختها، وأجابتها بثقة لم تكن تتوقعها من نفسها قبل هذه اللحظة. "مستعدة. مش هبقى ضحية تانية لحد. أنا هعيش بالطريقة اللي أختارها." 

ابتسمت يمنى بفخر. "ده بالضبط اللي كنت محتاجة تسمعيه." 

وبينما كانت الأيام تمضي، بدأت العائلة تتكيف مع الواقع الجديد. والدهما، الذي كان غاضبًا في البداية، بدأ يهدأ تدريجيًا. هو لم يقتنع بعد بكل شيء، لكنه كان يعلم أن الأمور لن تعود كما كانت. قد لا يستطيع أن يغير قرارات بناته، لكن في النهاية، كان عليه أن يعترف بشيء واحد: الحياة لا تدور حوله فقط. 

أما سلمى، فقد بدأت العمل في مجال كانت قد حلمت به لفترة طويلة، وهو مجال التصميم الداخلي. لم يكن الأمر سهلاً في البداية، فقد شعرت بالكثير من الخوف والتردد، لكنها كانت تشعر في أعماقها أنها تختار طريقًا جديدًا، ليس فقط من أجلها، بل من أجل يمنى أيضًا. 

في أحد المساءات، جلست الأختان معًا في غرفة المعيشة، بعد يوم طويل مليء بالتحديات. يمنى كانت تراقب أختها، ولاحظت تلك البسمة التي بدأت تظهر على وجهها بشكل متكرر، بسمتها التي كانت غائبة لفترة طويلة. 

-"إنتِ تغيرتي، سلمى." قالتها يمنى بهدوء، وهي تبتسم. 

-"وأنتِ كمان." ردت سلمى بابتسامة أوسع. "أنا بس كنت محتاجة وقت، وشوية شجاعة." 

في تلك اللحظة، علمت كل واحدة منهما أن الطريق لن يكون سهلاً دائمًا، لكن الأهم هو أنه كان طريقًا مملوءًا بالأمل. كما كانا دائمًا، معًا، كلما كانت الحياة تضع أمامهما تحديات جديدة. 

وها هما الآن، في تلك اللحظة الهادئة، كانتا تعرفان أن المستقبل ليس فقط في أيديهما، بل في قلوبهما أيضًا. 

في الأيام التي تلت تلك اللحظة، بدأ الهدوء يعم منزل سلمى ويمنى. كان هذا الهدوء ظاهريًا فقط، لأن داخلهما كان مليئًا بالأفكار والحسابات الجديدة. لكن رغم كل التحديات، شعرت كل واحدة منهما بأنهما قد أخذتا خطوة كبيرة نحو حياة أكثر حرية. 

سلمى، التي بدأ مشروعها في التصميم الداخلي يحقق نجاحًا تدريجيًا، كانت تجد نفسها أكثر ثقة في قدراتها. وفي العمل، كانت تتعلم أن الحياة لا تُقاس بما يراه الناس من الخارج، بل بما تفعله أنت من أجل نفسك. كانت تلاحق كل فرصة وتستغلها بحكمة، والعديد من زبائنها كانوا يلاحظون أن لديها ذوقًا فريدًا يجعل كل تصميم لها ينبض بالحياة. 

أما يمنى، فكانت مشغولة ليس فقط بإصلاح الأمور داخل العائلة، بل بترتيب حياة جديدة لنفسها أيضًا. كانت تتخذ من كل لحظة مع سلمى دافعًا لها. كان قلبها مليئًا بالأمل، لكنها كانت أيضًا على وعي كامل بأنهم ما زالوا في منتصف الطريق، وأن التحديات التي أمامهم لم تنته بعد. 

لكن في أحد الأيام، بينما كانتا تجلسان معًا في المنزل، يراجعان بعض المشاريع التي عملت عليها سلمى مؤخرًا، دخلت والدتهما إلى الغرفة، وهو ما جعل الجو يثقل بعض الشيء. كانت تبدو أكثر هدوءًا من المعتاد، وعينها مليئة بشيء من الأسئلة التي كانت تنتظر إجابة. 

جلست أم يمنى على المقعد أمامهما، وقالت بهدوء، ولكن بنبرة جادة: "أنا عايزة أكلمكم في موضوع مهم." 

نظرت يمنى وسلمى لبعضهما، ثم شجعت يمنى والدتها على الحديث: "إحنا جاهزين. قولي اللي في بالك." 

تنهدت الأم، وكأنها كانت تحمل عبئًا طويلًا، ثم قالت: "أنا عرفت أنكم أخيرًا اخترتم طريقكم، وأنا فخورة جدًا بيكم. بس في شيء لازم نتكلم فيه." 

سلمى شعرت بشيء من القلق في كلمات والدتها. "إيه هو، ماما؟" 

قالت الأم بنبرة حانية: "الحياة مش دايمًا هتكون سهلة. في مشاكل، في تحديات، وفي الناس اللي هتكون ضد قراراتكم. بس لازم تبقوا متأكدين من اختياراتكم، لازم تقفوا مع بعض وما تتركوش بعض." 

كان صوت الأم مليئًا بالحكمة، وكأنها تحاول أن تضمن لهما بأن الحياة لن تكون خالية من العقبات، وأن الثبات هو الحل الوحيد. 

لكن سلمى، التي بدأت تكتسب قوتها الداخلية يومًا بعد يوم، أجابت بكل ثقة: "إحنا متأكدين، ماما. واللي اخترناه، اخترناه بقلبنا." 

كانت لحظة حاسمة بالنسبة للأم، لأنها كانت ترى بناتها لا يخشين مواجهة المستقبل، بل يتحدين ما كان يبدو مستحيلاً. حتى في ظل الأزمة العائلية التي مروا بها، كانت تلمس فيهم شيئًا جديدًا، شيئًا قويًا لم تراه من قبل. 

في ذلك المساء، قررت الأم أن تذهب إلى زوجها، رغم تحفظاته، لتخبره بأنها لا تستطيع أن تظل في نفس المكان بعد الآن. لقد كانت تتوق إلى التغيير أيضًا، وكانت تشعر بأن تغيير العائلة يجب أن يبدأ من داخلها، من قلبها. 

أما يمنى وسلمى، فقد جلستا في تلك اللحظة، يتأملان الطريق الذي قدما عليه. كان كل شيء في حياتهما قد تغير، لكن التغيير الذي كان في داخلهما كان هو الأهم. لم يعدا ذلك الزوجان اللتان تعيشان في ظل والدين قاسيين، بل أصبحا تلك الفتاتين اللتين لا يقتصرن على الحلم، بل على صنع الواقع الذي يردنه. 

وفي تلك الليلة، بينما كانت السماء مغطاة بالنجوم، كان كل منهما متأكدًا من شيء واحد: حياتهما المقبلة ستكون أفضل مما كانتا تتوقعان. لأنهما لم يعدا يخشيان العواقب، بل أصبح لديهما الشجاعة للمضي قدمًا، مهما كانت العواصف. 

في اليوم التالي، بعد المحادثة العميقة مع والدتهما، كانت سلمى ويمنى تجلسان في غرفة المعيشة، تتناولان قهوتهما. كان الجو هادئًا بشكل غير مألوف، وكأن هناك شيئًا عميقًا في الهواء، شيء يلمس الأرواح. 

يمنى كانت تراقب أختها بصمت، ثم قالت فجأة، وكأنها قررت أن تفتح قلبها:
"سلمى، مش قادرة أنكر إني في بعض اللحظات كنت خايفة... خايفة من إننا نغلط تاني أو نرجع لنفس الدائرة." 

سلمى ابتسمت بحذر، ثم أجابت وهي تضع كوب القهوة على الطاولة:
"أنا عارفة، يا يمنى. أنا كمان كنت خايفة. لكن إحنا بنمشي بخطواتنا دي دلوقتي لأننا واثقين في نفسنا. الخوف ده... عاوزين نواجهه مع بعض." 

نظرت يمنى إلى أختها بعينيها المتسائلتين:
"إنتِ متأكدة إنك جاهزة؟ أنا حاسة إن كل حاجة هتتغير، بس مش عارفة إذا كنا مستعدين ولا لأ." 

سلمى أخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت بنبرة حاسمة:
"أنا مستعدة. خلصنا من الانتظار. حياتنا مش هتبدأ لو فضلنا نردد نفس الأسئلة." 

في تلك اللحظة، دخلت والدتهما إلى الغرفة، وتوجهت مباشرة إلى يمنى، وقالت لها بنبرة جادة:
"أنا عارفة إنك مش هتكوني مرتاحة للمشاكل العائلية. لكن لازم تكوني حريصة في اختياراتك. أنتِ مش لوحدك. لازم تفتكري إنك مش بس بتواجهين تحدياتك، لكن كمان بتواجهين تحديات مستقبلنا كلنا." 

يمنى هزت رأسها ببطء، وأجابتها بصوت هادئ:
"أمامي الطريق طويل، ومش هقدر أنكر إني خايفة. بس الحياة مش هتتوقف على الخوف. إحنا لازم نواجهه." 

سلمى أضافت، وهي تبتسم لأختها:
"وبنواجهه مع بعض، زي ما قلنا." 

والدة الفتاتين نظرت إليهما نظرة عميقة، ثم قالت أخيرًا:
"لازم تبقوا عارفين حاجة. إن كل قرار في حياتنا له عواقب، لكن لازم نكون مستعدين لمواجهة أي شيء مع بعض. أنا بفهم إنكم مش متأكدين، لكن لازم يكون عندكم القوة لمواصلة الطريق، مهما كانت التحديات." 

سلمى التفتت نحو أختها وقالت:
"ماما صح. إحنا في البداية، لكن لو فضلنا نرتب حياتنا بالبطء ده، هنفضل مكانا. لازم نكون شجعان، ودي البداية الحقيقية لينا." 

ثم نهضت يمنى من مكانها وقالت بعزم:
"أنا مش هخاف بعد دلوقتي. كلنا هنكون مع بعض، ومهما كان المستقبل قدامنا، أنا عارفة إني هقدر أواجهه." 

سلمى وضعت يدها على قلبها، وقالت بصوت مليء بالأمل:
"إحنا فريق واحد، مش لوحدنا. ومهما صار، هنكمل مع بعض." 

قبل أن تغادر الأم الغرفة، قالت بجدية:
"ما تتسرعوش في اتخاذ قرارات كبيرة. الحياة مش مجرد لحظات سريعة. هي رحلة طويلة لازم نكون مستعدين ليها." 

لكن يمنى أجابت، مفعمة بالأمل:
"ما فيش وقت ضاع تاني، ماما. ده وقتنا." 

ومع ذلك، كانت الحياة بدأت تسير في مسار مختلف. سلمى ويمنى قررتا أن تواجها ما هو قادم بكل قوتها، وأن تكونا أكثر حكمة في خطواتهن. ورغم أنهما لم يكن لديهما كل الإجابات بعد، إلا أنهما كانا على يقين أن بإمكانهما تجاوز أي شيء معًا. 

ثم بدأ كل شيء يتغير، خطوة تلو الأخرى. 

                الفصل الرابع من هنا


تعليقات



<>