رواية ذاكرة مستاجرة الفصل الثالث3 بقلم فهد محمود

رواية ذاكرة مستاجرة الفصل الثالث3 بقلم فهد محمود

لم تستطع ريم النوم تلك الليلة. كانت عيناها معلقتين بالسقف، وعقلها يدور في متاهة لا تنتهي من الأسئلة. لماذا عاد فارس؟ وماذا يريد منها؟ هل يظن أن شراء ذكرى يمكن أن يعيدها إليه؟ 

عند الفجر، نهضت من سريرها ووقفت أمام المرآة. نظرت إلى انعكاسها طويلًا… لم تكن تلك الفتاة التي أحبها فارس يومًا، ولم تكن الفتاة التي كسرها لاحقًا. لقد أصبحت امرأة أخرى، أقوى، أشدّ حذرًا، وأقلّ إيمانًا بالحب. 

لكن رغم ذلك، كانت أنفاسها تتسارع كلما تذكرت لقاء الغد. 

عند المساء، ارتدت فستانًا بسيطًا بلون السماء قبل العاصفة، وخرجت إلى المكان المحدد… الحديقة التي شهدت تلك الليلة التي أصبحت مجرد ذكرى مستأجرة. 

وقفت تحت المصباح العتيق، المكان نفسه… لكن المشاعر مختلفة تمامًا. هذه المرة، لم تكن تنتظر اعترافًا، بل مواجهة. 

دقائق، ثم سمعت خطوات خلفها. كان فارس. 

تغير قليلًا… ملامحه صارت أكثر نضجًا، لكن عينيه ظلتا تحملان ذلك العمق الذي كان يومًا نقطة ضعفها. وقف أمامها، يضع يديه في جيبيه، ينظر إليها وكأنها لوحة ظلّ يبحث عنها لسنوات. 

فارس (بهدوء غامض): "لم تتغيري كثيرًا." 

رفعت حاجبها بسخرية خفيفة. 

ريم: "لكنني تغيرت بما يكفي." 

ابتسم بخفة، ثم أشار إلى المصباح فوقهما. 

فارس: "هل تتذكرينه؟" 

شعرت بقلبها يخفق للحظة، لكنها تماسكت. 

ريم (ببرود): "ذكرى مباعة، أليس كذلك؟ لا داعي للسؤال." 

تقدّم خطوة، كانت نظرته أكثر جدية. 

فارس: "هل تعلمين ما شعرت به عندما عشتُ الذكرى؟" 

لم ترد، لكنه أكمل بصوت منخفض: 

فارس: "شعرت وكأنني في حلم… لكنني لم أرَ نهايته." 

ريم (بثبات): "لأن النهاية لم تكن جميلة، فارس. لذلك حذفتُها من حياتي." 

نظر إليها طويلًا، ثم تنهد وهو يمرر أصابعه في شعره، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره. 

فارس: "أتعلمين لماذا اشتريتها؟ ليس لاستعادتها… بل لأفهم شيئًا واحدًا." 

ريم (باستفزاز خفيف): "وما هو؟" 

أمال رأسه قليلًا، ثم قال بهدوء مخيف: 

فارس: "إذا كنتِ لا تزالين تشعرين بشيء… أم أن الذكرى لم تعد تعني لكِ شيئًا حقًا؟" 

كان سؤاله كفخّ، وريم كانت تدرك ذلك جيدًا. لكنها لم تكن الفتاة التي تقع في أفخاخه القديمة. 

اقتربت منه قليلًا، نظرت في عينيه مباشرة، ثم همست بثقة قاتلة: 

ريم: "إذا كنت تريد إجابة، كان عليك شراء النهاية أيضًا." 

ثم استدارت ومشت مبتعدة، تاركة إياه خلفها، بينما يداه ما زالتا في جيبيه، وعيناه تتبعانها بصمت… كأنه أدرك لتوّه أن ريم التي عرفها لم تعد موجودة. 

خطوات ريم كانت ثابتة وهي تبتعد، لكن داخلها كان عاصفة مشتعلة. لم تلتفت وراءها، لم تمنح فارس فرصة أخرى ليستدرجها إلى دوامة الماضي. 

لكنها لم تكن تعلم أن فارس لم يكن ينوي الاكتفاء بهذه الليلة. 

قبل أن تصل إلى سيارتها، دقّ هاتفها بإشعار جديد. رسالة أخرى… منه. 

"لعبة جميلة، ريم… لكنكِ نسيتِ شيئًا مهمًا. أنا لا أؤمن بالنهايات." 

شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها، لكنها تجاهلتها وركبت سيارتها، تنوي نسيان كل شيء والعودة إلى حياتها التي رسمتها بعيدًا عنه. 

لكن حينما وصلت إلى منزلها، كانت المفاجأة في انتظارها. 

عندما فتحت باب شقتها، وجدت ظرفًا أسود اللون ملقى على الأرض، وكأنه دُسّ تحت الباب أثناء غيابها. انحنت والتقطته بحذر، قلبها ينبض بقوة. 

فتحته بأصابع مترددة، وعيناها توسعتا في صدمة عندما سحبت الصورة الموجودة داخله. 

كانت صورة قديمة… لكنها ليست أي صورة. 

كانت صورة من تلك الليلة الماطرة، حيث كان فارس يمسك يدها، وعيناه تنطقان بحب لا يقال. صورة من ماضٍ لم يكن يجب أن يكون له أثر بعد الآن. 

لكن هذا لم يكن الجزء الأسوأ. 

على ظهر الصورة، كانت هناك جملة مكتوبة بخط يده: 

"الذكرى قد تُباع… لكن الماضي لا يُمحى." 

أفلتت ريم الصورة من يدها، وكأنها تحرقها، وأخذت خطوة للخلف وهي تلتقط أنفاسها. 

كيف حصل على هذه الصورة؟ 

لقد محتها من هاتفها منذ سنوات، لم تعد موجودة في أي مكان… على الأقل، هذا ما كانت تظنه. 

رنّ هاتفها مجددًا، وهذه المرة، لم تكن رسالة. كان اتصالًا. 

نظرت إلى الاسم الذي ظهر على الشاشة، وشعرت بقلبها يسقط في قاع معدتها. 

فارس الجارحي يتصل بها. 

ترددت للحظة، لكنها ضغطت على زر الإجابة، ووضعت الهاتف على أذنها بصوت ثابت، رغم ارتعاش أناملها. 

ريم (بهدوء مصطنع): "كيف حصلت على الصورة؟" 

ضحكة خافتة صدرت من الجهة الأخرى، لكنها لم تكن ساخرة… كانت واثقة. 

فارس: "هل ظننتِ أن بيع الذكرى كان كافيًا لمحوها؟ ريم… أنا لا أشتري الذكريات فقط، بل أبحث عن ما وراءها." 

ضغطت على أسنانها وهي تشعر بدمائها تغلي. 

ريم (بحزم): "ما الذي تريده مني؟" 

فارس (بهدوء خطير): "شيئًا واحدًا فقط… الحقيقة. لماذا تركتني تلك الليلة؟" 

شهقت ريم دون أن تشعر. كانت تتوقع كل شيء… إلا هذا السؤال. 

ريم (بصوت مرتجف قليلاً): "أنت تعرف السبب." 

فارس (بثقة): "أعرف ما حدث، لكنني لا أعرف الحقيقة… الحقيقة التي أخفيتها عني طوال هذه السنوات." 

ارتجفت يدها وهي تمسك الهاتف. كان فارس ذكيًا… لكنه لم يكن يعلم أن هناك سرًا لم يكن يجب أن يعرفه أبدًا. 

لكن الآن… يبدو أن الماضي لم ينتهِ كما ظنت.

تعليقات



<>